صفحة 5-38   

الفصل الحادي عشر: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة..

 

أسئلة تحتاج إلى جواب:

وحيث إن هذا الشاب هو الذي اختار أن يأخذ المصحف إلى الناكثين مع علمه بأنه سيقتل، فإن السؤال الذي يحتاج إلى الإجابة عنه هو:

ألا يعد ما أقدم عليه هذا الشاب إلقاءً بالنفس في التهلكة، وقد نهى الله تعالى عن ذلك؟!

وإذا كان كذلك، كيف يطلب منه علي «عليه السلام» أن يلقي بنفسه إلى التهلكة؟!

وكيف لم يعترض المسلمون عليه في ذلك؟!

وهل يصح اعتبار هذا دليلاً على مشروعية العمليات الإستشهادية؟!

وهل هناك فرق بين العمليات الإنتحارية والإستشهادية؟! وهل؟! وهل؟!

ونقول في الجواب ما يلي:

قتال العدو في التشريع الإسلامي:

إن الله تعالى قد خلق هذا الإنسان في أحسن تقويم، وسخَّر له ما في السماوات والأرض، وعززه وكرمه، فقال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾([1])، ثم هو قد شرَّع له الكثير الكثير من الأحكام التي تدخل في نطاق حفظ كيانه ووجوده، جسداً، وعقلاً، وروحاً, ومشاعرَ, وأحاسيسَ, وبيّن له كل ما يفيد في حفظ كرامته, وتأكيد قيمته ومكانته, وحرّم العدوان عليه أيّما تحريم, حتى لقد ورد في الأحاديث: لزوال الدنيا أهون على الله من دم سفك بغير حق([2]), بل هو منع حتى من التقطيب في وجهه, وحذّر حتى من مقاطعته في كلامه, فضلاً عمّا هو أشد وأبعد من ذلك..

ثم إنه تعالى قد رسم له: أن أيّ تجاوز للحدود على الناس منوط بإجازته سبحانه ورضاه.. مبيّناً له مواضع هذا الرضا, وأنها هي الدفاع عن النفس, ودفع العدو المهاجم, ولكن بمقدار ما تفرضه ضرورات هذا الدفاع, فإذا كان هذا العدوان يندفع بالصيحة في وجه المتعدي, لم يجز التعدي عن ذلك إلى ضربه مثلاً..

ثم جوّز له محاربة من يسعون في الأرض فساداً, ويهلكون الحرث والنسل, ولكن بالمقدار الذي يمنعهم ويردعهم عن ذلك, ويحفظ للحياة رونقها، وبهجتها، وسلامتها.

ثم جوّز القتال لدفع الظلم والإستضعاف عن الناس، وتخليص المظلومين من أيدي جلاديهم وظالميهم, صوناً لكرامة الإنسان وحفظاً للحياة الإنسانية.

ثم إن الجهاد دفاعاً عن النفس لا يحتاج إلى استصدار إذن من الإمام «عليه السلام»، بل الإذن فيه حاصل تلقائيّاً، لأنه مقتضى الفطرة، ولأن فيه صيانة للنوع الإنساني, وحفظ لحياة الناس، وإشاعة للأمن والسلام فيهم..

القتال لأجل الدنيا:

وأمّا قتال الناس لأجل التسلّط عليهم, ولأجل الحصول على بعض المنافع الدنيوية، فهو من أعظم الجرائم وأبشعها، وأفظع الموبقات وأقبحها عند الله تعالى, وعند العقلاء.

وهو عمل أنانيّ ـ سواء أصدر من فرد أو من جماعة ـ يعبّر عن العجز, وعن ضيق الأفق, ويظهر سطحية النظرة, وخطل التفكير, واختلال التوازن, ويعبر عن نفس مريضة, يهيمن عليها الشعور بالخزي, والخيبة، والإندحار القاتل واللئيم, وهو بتر وفناء، وإعدام، وشقاء لا سعادة معه, وفساد لا صلاح فيه..

الإستشهاد في سبيل الله:

أما الإستشهاد في سبيل الله دفاعاً عن النفس، والدين، وعن المستضعفين, فما أجلّ فوائده, وأكثر بركاته وعوائده، لأنها فوائد وعوائد تكون بحجم هذا السبيل الواسع والرحب, الذي هو بحجم الكون كله, والشامل للحياة كلها، في الدنيا والآخرة على حد سواء.

نعم, إن شهادة الفرد في ساحات الدفاع عن النفس والشرف، وعن الإنسان، والمال، والأرض، والعرض و.. و.. فهو بقاء وخلود, وكشف وشهود, وهو أيضاً نماء وازدياد, وهبات وبركات للبشر كلهم, فإن بقية السيف أنمى عدداً، من حيث إن هذه البقية تحفظ نفوس النوع البشري كله، وتصونها من الهلاك, والبوار, وهي نتيجة سمو روحي، ورؤية مستوعبة وشاملة, وانسجام حقيقي مع فلسفة الحياة, وانصهار تام مع أهدافها ومعانيها الكبرى, حيث يخلع الإنسان عن نفسه لباس الفردية، والشخصانية، والأنا، ليصبح تعبيراً عن الحقيقة الإنسانية كلها, فيكون ضميرها الحي، ووجدانها الرضي, الذي يعطيها معناها الأصيل, ليعمرها بإشراقته, ويثير فيها نبضات الحياة, في ظل رضا خالق الوجود وواهب البقاء والخلود..

الإنتحار لماذا؟!:

قد يبادر الإنسان إلى قتل نفسه ليأسه من روح الله، والفراغ الذي يعاني منه، وحين تواجهه مشكلة لا يجد لها حلاً، أو لأجل خيبة أصيب بها، أو صدمة بعزيز على قلبه، أو لخسارة مني بها، أو نحو ذلك، وليس هذا ما نبحث عنه، بل نبحث عمن يفجر نفسه في عدوه، طمعاً بأن يعده الناس بطلاً، أو خوفاً من أن يقع في يد العدو، فيتعرض للتعذيب والأذى الشديد. أو لتوهمه أن قتله نفسه سوف يحرج العدو، كالذين يحرقون أنفسهم احتجاجاً على ممارسات دولهم، حيث لا يجد ـ بزعمه ـ وسيلة للتعبير عن رفضه أفضل من هذه الوسيلة..

أو لأنه يجد أن قتل نفسه يكون وسيلته لقتل عدوه، كالذي يتشبث بعدوه ويلقي به وبنفسه من شاهق، أو كالذي يفجر نفسه بنفسه وبعدوه.. فمن فعل ذلك يُنظر إلى هدفه، فإن كان هو الدفاع عن الدين وأهله، وعن المستضعفين، فهو طلب للشهادة.. وإن كان لغير ذلك، فهو انتحار.

وكلامنا هنا: في مشروعية هذا الشق الأخير.. والسؤال: هو عن أدلة هذه المشروعية.

وفي جميع الأحوال نقول:

لا مجال بعد هذا للمقايسة بين الإنتحار والإستشهاد في سبيل الله, فأين الثّرى من الثّريّا, وأين البقاء من الفناء, وأين الحياة من الموت.

النصوص الشرعية: اتجاهات ودلالات..

وإذا أردنا أن نعود إلى النصوص الشرعية ودلالاتها, فسوف نجد أن نفس تشريع الجهاد, والقبول بمبدأ الإستشهاد، يدل على أن الشارع قد قبل بمبدأ التضحية بالفرد في سبيل حفظ النوع, ولكنه عوّض هذا الفرد عن خسارته الدنيوية, بما هو أعظم وأهم, وأصلح, وأتم, حين منحه مقامات القرب, والرضا الإلهي، وغمره بالهبات والعطايا في الحياة الآخرة، حيث هيأ لحياته قوة ورسوخاً، وتألقاً وشموخاً سواء من حيث شدّة الحضور فيها, أو من حيث امتداداتها في العالم الآخر, الذي هو الحياة الحقيقية ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾([3]).

العمليات الإستشهادية في الدليل الشرعي:

وإذا ألقينا نظرة على الناحية الفقهية في هذا الاتجاه، فسنجد: النصوص الشرعية وفتاوى الفقهاء تؤكد على حرمة الإنتحار، وتتوعد فاعله بالعقوبة في الآخرة..

وأما بالنسبة للعمليات الإستشهادية، فإن الحديث فيها تارة يكون عن تعريض الإنسان نفسه للقتل في سبيل الله، فهذا جائز بلا إشكال.. وقد حكي عن الشهيد «رحمه الله» في بعض تصانيفه قوله: «إن من الإلقاءات الجائزة المستحسنة للأنفس إلى الهلكة فعل من يعرض نفسه للقتل في سبيل الله، إذا رأى أن في قتله بسبب ذلك عزة الإسلام»([4]).

وأما أن يتولى الإنسان قتل نفسه بنفسه في جهاده ضد الأعداء، فهذا هو محل البحث بين الفقهاء. فقد يقال بجواز ذلك، إذا كان فيه نكاية في العدو، وكان موجباً لكسر شوكته، وإلحاق الأذى الكبير به، وذلك استناداً إلى قواعد التزاحم، حين تكون هذه النكاية أهم بنظر الشارع من قتل المؤمن. بلحاظ ما يترتب عليها، من آثار عظيمة في حفظ النوع الإنساني، أو حفظ الدين، أو نحو ذلك.

ولعل هناك من يستشهد لصحة هذه المقولة بما لو تترس العدو بأسرى المسلمين، وتوقف ردع العدو، وتحقيق النصر على قتلهم، فقد أجاز الفقهاء الرمي باتجاههم حتى مع العلم بإصابة من تترس بهم، إذا كان ما يترتب على ذلك من نصر أهم بنظر الشارع من حياة هؤلاء. ولكنهم يقولون: إن على الرامي، أن لا يقصد الأسرى بالرمي، وإن علم أنه يصيبهم..

فإذا أجاز الشارع ذلك لأجل ردع العدو، وتسجيل النصر العظيم عليه، جاز للمجاهد إذا تحققت النكاية بالعدو، وتوقف عليه النصر، أن يتولى قتل نفسه، لينتج عنه قتل عدد كبير من الأعداء. وهذا ليس القياس الباطل، بل هو من قبيل قياس الأولوية، والإشتراك في المبرر والسبب..

أدلة لا تخلو من مناقشة:

وهناك آيات وروايات وحوادث جرت قد يستدل بها على جواز إلقاء النفس إلى التهلكة، ولو بأن يتولى الإنسان قتل نفسه.. ولكنها لا تخلو عن نظر ونقاش، ونذكر من ذلك ما يلي:

1 ـ فاقتلوا أنفسكم:

وقد يستأنس لذلك أيضاً: بما قررته بعض الآيات القرآنية، وهي التالية:

ألف: تلك الآيات القرآنية التي تضمنت إيجاب قتل النفس ليس بواسطة الإلقاء بها في مواقع الخطر، وإنما بواسطة الإنسان نفسه، وهو ما أوجبه الله على بني إسرائيل لاتخاذهم العجل، حيث أمرهم بقتل أنفسهم عقوبة لهم.

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾([5]).

إلا أن يقال:

أولاً: إن هذه قضية في واقعة، ولا يمكن تسريتها إلى سائر الوقائع، إلا بضرب من التمحل غير المقبول. إذ لعل توبة من يتخذ العجل تحتاج إلى ذلك..

ثانياً: إن الآية لم تحدد كيفية قتل النفس المطلوب منهم، وقد ذكرت الروايات: أن المراد: هو أن يقتل بعضهم بعضاً.. وهذا نظير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ..﴾([6]).

إلا أن يقال: إن ذلك لا يتلاءم مع سياق الآية، حيث قالت: ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ ولم تقل: فليقتل بعضكم بعضاً.

ب: هناك آية أخرى تقول: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً، وَإِذاً لاتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾([7]).

ونقول:

أولاً: إن هذه الآية، وإن كانت تتحدث عن أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» ولكن لا مجال للإستدلال بها أيضاً على جواز أن يتولى الإنسان قتل نفسه فعلاً، لأنها لم تطلب منهم أن يفعلوا ذلك، بل هي قد ذكرت قضية تقديرية تعليقية، تفيد أنهم يعصون الأوامر التي توجه إليهم، حتى لو كان الآمر هو الله المالك لأنفسهم، حين يأمرهم بقتل أنفسهم.

نعم.. هي تشعر بإمكانية تشريع كهذا، وأنه ليس من الممتنعات في مرحلة التصور العقلي، وإن كان ممتنعاً في مرحلة الوقوع. إما لعدم المقتضي، أو لوجود المانع.

ثانياً: لعل المراد: هو أن يتولى بعضهم قتل البعض الآخر أيضاً.. ولكن ذلك غير ظاهر من طريقة التعبير كما قلنا في الآية التي سبقتها.

3 ـ وتبقى هنا آية تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً﴾([8]).

فإن هذه الآية قد دلت على أن المنهي عنه هو قتل النفس عدواناً وظلماً، لا مطلقاً، فإذا ارتفع العدوان، وكان المطلوب للشارع هو النكاية في العدو، فإن قتل النفس لا يكون مورداً للنهي.

إلا أن يقال: إن الآية لم تحدد الفرق بين ما هو عدواني، وبين غيره، فلعل تولي الإنسان قتل نفسه داخل في العدوان والظلم الممنوع عنه، وأن الذي لا يعد عدواناً وظلماً هو خصوص ما كان بيد العدو في ساحات الجهاد فيما لو علم أن عدوه سوف يقتله.

2 ـ ذبح إسماعيل:

وهناك مورد آخر فريد وهام جداً، سجله القرآن الكريم لنا، وهو قضية ذبح إبراهيم لولده إسماعيل «عليهما السلام»..

حيث إن إسماعيل ليس فقط لم يمانع في إجراء هذا الأمر، بل هو قد سلَّم نفسه مختاراً لذابحه..

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾([9]).

وهو قتل بيد الوالد الحبيب، وليس بيد العدو المحارب، وهو وإن كان بيد الغير، لا بيد نفس المقتول، ولكن المقتول نفسه هو الذي طلبه بقوله: «إفعل». إلا أنه لم يطلبه ابتداءً، وإنما انصياعاً لأمر المولى عز وجل.

وهناك تفاصيل وخصوصيات أخرى في هذه القضية ألمحنا إليها في كتابنا: «مقالات ودراسات»، فيمكن الرجوع إليه للإطلاع عليها..

ولكن هذه القضية تبقى قضية في واقعة لا مجال للقياس عليها، لأنها تدبير إلهي، يراد منه الإمتحان للأنبياء «عليهم السلام».

ويحتمل أن يكون للمورد هنا خصوصية تمنع من تسرية حكمه إلى غيره.

3 ـ قصة هارون المكي:

وروي: أن الإمام الصادق «عليه السلام» أمر هارون المكي بالدخول في التنور المسجور بالنار، حتى صار كالجمرة. فدخل إليه، وجلس فيه، دون تردد، ودون سؤال عن السبب.. فكان أن جعل الله النار عليه برداً وسلاماً([10]).

ولعل هذه القضية أقرب النصوص ـ التي عثرنا عليها ـ دلالة على ما نحن بصدده، فالإمام «عليه السلام» يأمر هارون المكي بفعلٍٍ من شأنه أن يؤدي به إلى القتل، وهارون يطيع أمره، وليس في البين عدو مهاجم، ولا فاعل مختار آخر..

ولكن قد يقال: إن هذه القضية قد جاءت لتظهر معجزة للإمام «عليه السلام»، ولم تأت في سياق جهاد العدو، وهي امتثال لأمر الإمام الذي تجب عليه طاعته، فليس فيها مبادرة إلى القتل.. فالإستناد إليها يبقى بحاجة إلى محفزات، ومؤيدات..

4 ـ ما جرى لآل ياسر:

قد يستشهد لهذا الأمر بما جرى لآل ياسر، حيث كان المشركون يعذبونهم، وكان النبي «صلى الله عليه وآله» يقول لهم: «صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة»([11]).

فصبروا رضوان الله تعالى عليهم، حتى نالوا درجة الشهادة، ولعلهم كانوا على يقين بأن صبرهم هذا سوف يؤدي بهم إلى هذه النتيجة. والنبي «عليه السلام» قد أمرهم بالتحمل إلى أن ينالوا هذه الدرجة الرفيعة.

إلا أن يقال: إن المقصود هو الصبر بمعنى عدم التخلي عن دينهم إذا لم يكن هناك طريق إلى منع تعذيبهم إلا ذلك.

5 ـ يحيى بن زيد:

إن الإمام الصادق «عليه السلام» قد أخبر يحيى بن زيد: بأنه يقتل، ويصلب، وهكذا كان([12]).

إلا أن يقال: إن يحيى لم يكن من المعصومين ليكون فعله حجة، ولعل الإمام «عليه السلام» أراد بإخباره إياه بما يجري عليه أن يردعه عن الخروج.

6 ـ المعلى بن خنيس:

قال الإمام الصادق «عليه السلام» أيضاً للمعلى بن خنيس: إنك مقتول، فاستعد([13]).

وهنا أيضاً قد يقال: إن المعلى سوف يقتل بيد غيره عدواناً، ولم يكن له سبيل إلى دفع ذلك عن نفسه.. فليس هو من الموارد التي تفيد فيما نحن فيه..

7 ـ صاحب فخ:

وقد أخبر الإمام الصادق «عليه السلام» أيضاً الحسين بن علي، صاحب فخ بأنه مقتول([14])، وقد روي ذلك عن النبي «صلى الله عليه وآله»([15]).

وقد أقدم الحسين على هذا الأمر، طائعاً مختاراً، كما أقدم عليه يحيى وزيد وغيرهما، مع علمهم بذلك.

ويمكن أن يجاب:

بأن هذا القول منه «عليه السلام» لصاحب فخ، قد كان بعد أن دخل الحسين بن علي «عليهما السلام» في المشكلة، حين أمر المؤذن أن يؤذن بحي على خير العمل، وهرب والي المدينة عنها، فلم يكن هناك مجال لدفع السلطة عن قتله..

8 ـ جعفر يعقر فرسه:

وهناك أيضاً قصة جعفر بن أبي طالب «عليه السلام» في حرب مؤتة، فإنه حين استقتل، هاجم أعداءه الذين يصل عددهم إلى مائة ألف مقاتل وهو يعلم: أنه مقتول. فقطعت يداه، ولم يحاول التخلص ولا التملص، بل واجه المصير الذي اختاره بكل رضىً، وكذلك فعل زيد بن حارثة، ثم عبدالله بن رواحة، وكان «صلى الله عليه وآله» يخبر الناس بما يجري، وهو بالمدينة، ولم تظهر منه «صلى الله عليه وآله» أية بادرة تشير إلى لومه لهم على إقدامهم على ذلك الخطر المحقق([16]).

إلا أن يقال: إن قتل القادة الثلاثة بيد أعدائهم كان أمراً محتماً، فالموت واقع عليهم لا محالة.. فإذا استقتل المحارب، فإنه قد يرعب أعداءه، ويتمكن بذلك من الإمعان في قتلهم، والنكاية فيهم.

أدلة ربما تكون أقرب وأصوب:

إن التهلكة المقصودة بالآية: هي التهلكة الأخروية الناشئة عن الإمتناع عن الإنفاق في سبيل الله. أي بمعنى: أن يقوم الإنسان بفعل يسبب له سوء العاقبة، والخروج من الدنيا والله ساخط عليه..

وقد يراد بالتهلكة: التعرض لنزول العذاب الإلهي، كما في إهلاك القرى والأقوام بالعذاب النازل عليهم.

وقد يراد بالتهلكة: الإفساد، كما في قوله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾([17]).

وقد يقصد بالتهلكة: الموت.. والكلام في جواز إلقاء النفس في التهلكة ناظر إلى هذا المعنى.. وقد قلنا: إن آية: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾([18]) ليست ناظرة إلى هذا المعنى.

ولعلنا نستطيع أن نجد هنا العديد من الدلائل والشواهد التي ربما تكون أوضح في الدلالة على جواز إلقاء النفس في التهلكة، بمعنى تقديم النفس للموت إذا كان هناك ما هو أعظم وأهم بنظر الشارع، وحيث تكون التهلكة بيد العدو، نذكر منها ما يلي:

ألف: قتل النفس في الحديث والتاريخ:

هذا.. ونجد في التاريخ الإسلامي موارد كثيرة أقدم فيها أناس على خوض اللجج، وبذل المهج، وهم يعلمون علم اليقين بأن مصيرهم هو القتل والموت المحتم. ولو لأجل أن المعصوم «عليه السلام» أخبرهم بذلك. مع استمرار رضا المعصوم بمواقفهم، واعتبارهم شهداء عظاماً، ومؤمنين كراماً.

ونذكر من هذه الموارد ما يلي:

1 ـ قصة زيد بن علي «رحمه الله»، الذي ضاق صدره ولم يعد يستطيع تحمل ما يراه من موبقات وجرائم يرتكبها الحكم الأموي بحق الإسلام، ورموزه، وشعائره، وبحق المسلمين. فأخبره الإمام الصادق «عليه السلام»: بأنه إن خرج عليهم ـ أي على بني أمية ـ فسوف يقتل ويصلب، فرضي «رحمه الله» بذلك، وأطلق حركته الجهادية. وكان الشهيد المصلوب في كناسة الكوفة «رحمه الله»..([19]).

وهي تدل على جواز إلقاء النفس إلى التهلكة، وحيث يقتل بيد الأعداء.

2 ـ ما جرى في حرب الجمل حيث أخذ أمير المؤمنين «عليه السلام» مصحفاً وطاف في أصحابه، وقال: من يأخذ هذا المصحف، يدعوهم إلى ما فيه، وهو مقتول.

فطلبه فتى من أهل الكوفة، فأعرض «عليه السلام» عنه.

ثم قال: من يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه، وهو مقتول.

فقال الفتى: أنا.

فدفعه إليه، فدعاهم، فقطعوا يده اليمنى، فأخذه باليسرى، فقطعوا يده اليسرى، فأخذه بصدره، والدماء تسيل على قبائه، فقتل رضي الله تعالى عنه، فقال علي «عليه السلام»: الآن حلَّ قتالهم..([20]).

فهذا المورد يدل أيضاً على جواز الإقدام على ما يؤدي إلى الهلاك بيد العدو، فيما لو كان هناك ما هو أهم بنظر الشارع.

إلا أن هذا يبقى من مصاديق تعريض النفس للقتل على أيدي الأعداء، وليس من مصاديق قتل النفس. والفارق أن هناك من يؤخذ بجرم قتله، أما في قتل النفس، فلا يوجد شخص آخر يؤخذ بجرم القتل، لأن المقتول هو الذي قتل نفسه.

ب: كربلاء:

أخبر الإمام الحسين «عليه السلام» أصحابه يوم أصيبوا، فقال: أشهد أنه قد أذن في قتلكم، فاتقوا الله، واصبروا([21]).

وذكر لهم: أن جده «صلى الله عليه وآله» قد أخبره: أنه سيقتل بالمكان الفلاني مع أصحابه.. وأن أصحابه «عليه السلام» لا يجدون ألم مس الحديد، وتلا: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾([22])»([23]).

ولما كانت الليلة التي قتل الإمام الحسين «عليه السلام» في صبيحتها قال لأصحابه: «أنتم في حلٍّ، فإنكم إن أصبحتم معي قتلتم كلكم».

فقالوا: لا نخذلك، ولا نختار العيش بعدك.

فقال صلوات الله عليه: إنكم تقتلون كلكم، حتى لا يفلت منكم أحد. فكان كما قال([24]).

وثمة نصوص عديدة تشير إلى ذلك، فراجعها في مصادرها([25]).

ج: حبيب وبرير:

قال حبيب بن مظاهر لبرير بن خضير حينما اعترض عليه برير؛ لكونه رآه فرحاً: فأي موضع أحق من هذا بالسرور، والله، ما هو إلا أن تميل علينا هذه الطغام بسيوفهم، فنعانق الحور العين([26]).

وخلاصة الأمر: أن أصحاب الإمام الحسين «عليه السلام» كانوا يعلمون بأن مصيرهم هو الموت المحتم، وكان يمكنهم التخلص منه بالهرب تحت جنح الظلام، ومع ذلك هم يصرون على موقفهم، ولا يحاولون التخلص من مصيرهم هذا.

د: سعيد الحنفي:

وحينما أراد الإمام الحسين «عليه السلام» أن يصلي يوم عاشوراء، تقدم سعيد بن عبد الله الحنفي أمام الحسين «عليه السلام»، فاستهدف لهم، يرمونه بالنبل. فما أخذ الحسين «عليه السلام» يميناً وشمالاً إلا قام بين يديه، فما زال يُرْمى حتى سقط إلى الأرض، وهو يقول: «اللهم العنهم لعن عادٍ وثمودٍ الخ..»([27]).

هـ: مبيت علي يوم الهجرة:

ومن الأحداث الهامة في هذا المجال قضية مبيت علي «عليه السلام» على فراش النبي «صلى الله عليه وآله» ليلة الهجرة، وقوله للنبي «صلى الله عليه وآله»: أوَتسلم بمبيتي هناك يا رسول الله؟!

قال: نعم، فسجد لله شكراً..

وقد أنزل الله سبحانه في هذه المناسبة قرآناً يتلى إلى يوم القيامة وهو قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾([28])»([29]).

أي إن حفظ رسول الله «صلى الله عليه وآله» واجب، فلو لم يبت علي «عليه السلام» لتوجه الخطر إلى النبي «صلى الله عليه وآله».. فكان لا بد من مواجهة الخطر لدفع ما هو أخطر منه.

و: مَنْ لم يبرأ مِنْ علي :

سئل الإمام الباقر «عليه السلام» عن رجلين أُخذا، فقيل لهما: ابرءا من أمير المؤمنين، فبرىء واحد منهما فخلي سبيله، وأبى الآخر، فقتل.

فقال الإمام «عليه السلام»: أمّا الذي برىء، فرجل فقيه في دينه, وأما الذي لم يبرأ، فرجل تعجل إلى الجنة([30]).

ز: ميثم التمار:

وروى الكشي بسنده إلى يوسف بن عمران الميثمي, قال: سمعت ميثم الهرواني يقول: قال علي بن أبي طالب «عليه السلام»: يا ميثم، كيف أنت إذا دعاك دعيّ بني أميّة عبيد الله بن زياد إلى البراءة منيّ؟!

فقلت: يا أمير المؤمنين, أنا والله لا أبرأ منك.

قال: إذن ـ والله ـ يقتلك ويصلبك.

قال: قلت: أصبر, فإن ذلك في الله قليل.

قال «عليه السلام»: يا ميثم, فإذن تكون معي في درجتي([31]).

ح: الذي قتله مسيلمة:

بعث النبي «صلى الله عليه وآله» إلى مسيلمة الكذّاب برسولين، فدعاهما إلى الإعتراف بنبوته لعنه الله، فأبى أحدهما، فقتله.

وقال الآخر: أنت ومحمد رسول الله (على سبيل التورية حيث أثبت الرسولية لمحمد «صلى الله عليه وآله» فقط. أي أنت أنت.. ومحمد رسول الله) فأطلق سبيله.

فبلغ ذلك النبي «صلى الله عليه وآله», فقال: أما أحدهما فمضى على يقينه, وأما الآخر فأخذ بالرخصة الخ.. أو نحو ذلك([32]).

ط: الزيارة رغم مخاطر الغرق:

ألف: روى عنهم «عليهم السلام»: أنهم قد حثّوا على زيارة الإمام الحسين «عليه السلام» حتى مع احتمال الموت غرقاً، فقد ذكر بعضهم: أنه قيل للإمام الصادق «عليه السلام»: يا ابن رسول الله، إن بيننا وبين قبر جدك الحسين لبحراً, وربما انكفأت بنا السفينة في البحر.

فقال: لا بأس، فإنها إن انكفأت، انكفأت في الجنة([33]).

ب: عن محمد بن جعفر القرشي، عن خاله محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أحمد بن بشير السراج، عن أبي سعيد القاضي، عن أبي عبد الله «عليه السلام» يقول فيها: «ومن أتاه بسفينة فكفت بهم سفينتهم نادى مناد من السماء: طبتم وطابت لكم الجنة»([34]).

ج: قال ابن قولويه: حدثني أبي «رحمه الله»، وعلي بن الحسين، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن أحمد بن حمدان العلاني، عن محمد بن الحسين المحاربي، عن أحمد بن ميثم، عن محمد بن عاصم، عن عبدالله بن النجار قال: «قال لي أبو عبدالله «عليه السلام»: تزورون الحسين «عليه السلام»، وتركبون السفن؟!

قلت: نعم.

قال: أما تعلم أنها إذا انكفت بكم نوديتم، ألا طبتم وطابت لكم الجنة»([35]).

ي: الفرار من الوباء:

عن علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله «عليه السلام» عن الوباء يكون في ناحية المصر، فيتحول الرجل إلى ناحية أخرى، أو يكون في مصر فيخرج منه إلى غيره؟!

فقال: لا بأس، إنما نهى رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن ذلك لمكان ربيّة([36]) كانت بحيال العدو، فوقع فيهم الوباء، فهربوا منه، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: الفارّ منه كالفارّ من الزحف، كراهية أن تخلو مراكزهم([37]).

وقريب من ذلك: ما رواه الصدوق عن محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن فضالة، عن أبان الأحمر، عن أبي عبد الله «عليه السلام». وثمة روايات أخرى بهذا المضمون فراجع([38]).

ففي هذه الرواية:

أولاً: إنه «عليه السلام» لم يحتم على ذلك السائل التحول والإبتعاد عن موضع الخطر، بل قال له: لا بأس..

إلا أن يقال: إن كلمة «لا بأس» قد وردت في مورد توهم الخطر، فهي تدل على عدم العقاب على الفعل الذي ارتكبه السائل متوهماً حرمته.

ثانياً: إنه «عليه السلام» قد أوضح: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد حتم على الربيئة (أي العين على العدو) أن لا يهرب من الطاعون، لكي لا تخلو تلك المراكز منهم. واعتبر ذلك كالفرار من الزحف.

وذلك معناه: أن الضرر النوعي مقدم على الضرر الشخصي. فلا بد من دفع الأول ولو بقيمة تعريض النفس للثاني، فكيف يقال: إن فعل ما فيه ضرر قبيح ذاتاً بحكم العقل؟! أليس هذا يدل على أن عروض عنوان ثانوي يوجب جعل هذا الأمر حسناً ومطلوباً؟!

وقد ذكر المؤرخون: أن الرباب بنت امرئ القيس بن عدي، زوجة الإمام الحسين «عليه السلام» قد بقيت سنة بعد الحسين «عليه السلام»، «لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً»([39]).

وإنما نورد هذا شاهداً على ما نقول، على أساس أن الظاهر يقتضي أن يعلم الإمام السجاد «عليه السلام» بحالها، لا سيما بعد أن طال عليها الأمر، ومضت الأشهر الكثيرة حتى بليت وهلكت..

فكيف لم ينهها عن هذا؟! ولو أنه نهاها، فلا نظن أنها كانت تعصي له أمراً ما دامت محبة لأهل البيت «عليهم السلام» إلى حد التفاني فيهم، فهل هي تحب الوالد ولا تطيع لولده الوحيد أمراً، وهو إمامها؟!

الكلمة الأخيرة:

وبعد.. فإننا نعود فنذكّر بما يلي:

1 ـ إن عدداً من الموارد المتقدمة تفيد جواز الإقدام على ما يترتب عليه القتل المعلوم والمؤكد, إذا كان بيد العدو, ومشروعية أن يجعل الإنسان نفسه في معرض القتل, ويمكّن العدو من نفسه، إذا كان هناك هدف أهم بنظر الشارع، وبذلك يكون تكليف الإنسان المؤمن هو الإقدام, ويكون تكليف العدو هوالإحجام, والإنصياع لحكم الإسلام. فالأول مطيع, والثاني عاص..

وليس فيها دلالة على مشروعية أن يتولّى الإنسان قتل نفسه لأجل النكاية بالعدو. إلا أن يستفاد من اتحاد الملاك, وتوفر المقتضي الملزم المستنبط من تلك الموارد على سبيل القطع واليقين..

2 ـ قد يقال: إن الموارد التي تقدمت تصرح: بأن الإمام أو النبي كان حاضراً, وناظراً, وموافقاً على ما كان يجري، وليس الأمر في مثل هذه الأعصار كذلك, فإن الإمام ليس هو الذي يدير معركة الدفاع ضد العدو المهاجم, أو يريد منع الإفساد, فإذا كان ذلك جائزاً لأولئك, فليس بالضرورة أن يكون جائزاً لهؤلاء..

ونجيب:

بأن الجهاد الدفاعي قد شرّعه الله تعالى أيضاً, وقد يحتاج دفع العدو وتحقيق النكاية فيه إلى مواقف من هذا القبيل, فإذا أثبتنا مشروعيَّتها في زمن المعصوم استناداً إلى الملاك والمقتضي الملزم المستنبط على نحو القطع واليقين, ثبتت مشروعيّتها في كل زمان, وفي كل جهاد أذن به الشارع.

نماذج تاريخية:

ونشير ـ على سبيل الإستطراد ـ إلى أن مما يدخل في سياق الحديث عن إقدام الإنسان على الموت المحتم، وإن كان لا يصلح للإستدلال به.

1 ـ ما يذكرونه: من أن عبد الله بن حذافة شهد ملك الروم, وهو يعرض النصرانية على بعض الأسرى, فيأبون, فيأمر بإلقائهم في إناء فيه زيت مغلي. وأن ابن حذافة هو الآخر قد أبى ذلك, مع علمه بأن الموت المحتم سيكون مصيره([40]).

2 ـ ما يذكرونه من موقف نضالي ورسالي لابن السكِّيت من المتوكل وابنيه, فإنه قال له: من أحب إليك, أنا وولداي المؤيّد والمعتز, أم علي والحسن والحسين؟!

فقال: والله، إن شعرة من قنبر خادم علي خير منك ومن ولديك([41]).

فكان مصيره القتل بصورة بشعة، وفظيعة.

وخلاصة ما تقدم: أننا لم نجد في النصوص ما يدل دلالة صريحة على جواز أن يتولى الإنسان قتل نفسه في جهاد عدوه إلا إذا أخذنا بقواعد التزاحم، واستفدنا من هذه الموارد والأحداث والأحاديث ملاك الحكم على نحو القطع واليقين. فيمكن حينئذٍ لنا أن نستفيد جواز أن يتولى الإنسان قتل نفسه، ليقتل معه أعداداً كبيرة من الأعداء، إذا أوجب ذلك النكاية فيهم، وكسر شوكتهم، أو توقف دفع العدو المهاجم وتحقيق النصر العظيم عليه.


([1]) الآية 70 من سورة الإسراء.

([2]) ميزان الحكمة ج3 ص2496 والكامل لابن عدي ج3 ص145 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج15 ص32 وتهذيب الكمال ج9 ص237.

([3]) الآية 64 من سورة العنكبوت.

([4]) روضات الجنات ج3 ص382 والكنى والألقاب ج1 ص315 عنه.

([5]) الآية 54 من سورة البقرة.

([6]) الآيتان 84 و 85 من سورة البقرة.

([7]) الآيات 66 ـ 68 من سورة النساء.

([8]) الآيتان 29 و 30 من سورة النساء.

([9]) الآية 102 من سورة الصافات.

([10]) بحار الأنوار ج47 ص123 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص543 و 176 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص363 و 534 ومدينة المعاجز ج6 ص115.

([11]) الكامل في التاريخ ج1 ص490 و 497 و (ط دار صادر) ج2 ص67 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص255 واختيار معرفة الرجال (نشر مؤسسة آل البيت «عليه السلام») ج1 ص127 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص6 وج12 ص281 وأسد الغابة ج4 ص44 وج5 ص98 و 481 وتهذيب الكمال ج21 ص215 وسير أعلام النبلاء ج1 ص409 والإصابة ج4 ص226 و 473 والعثمانية للجاحظ ص29 و 312 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج3 ص76 وسيرة ابن إسحاق (ط معهد الدراسات والأبحاث للتعريف) ج4 ص172 والسيرة النبوية لابن هشام ج1 ص211 والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص494 وسبل الهدى والرشاد ج2 ص360 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج1 ص483 والكنى والألقاب ج1 ص187 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج31 ص362.

([12]) إثبات الهداة ج3 ص88 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص51 و 52 ومدينة المعاجز ج6 ص133 ـ 142 ورياض السالكين ج1 ص69.

([13]) بصائر الدرجات ص423 ومستدرك الوسائل ج12 ص297 و 298 وبحار الأنوار ج2 ص71 وج25 ص381 وج47 ص87 وخاتمة المستدرك ج5 ص305 و 308 ودلائل الإمامة ص285 والاختصاص للمفيد ص321 ومدينة المعاجز ج5 ص230 و 231 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص545 وإختيار معرفة الرجال (نشر مؤسسة آل البيت «عليه السلام») ج2 ص676 ومستدركات علم رجال الحديث ج3 ص222 وقاموس الرجال للتستري ج10 ص161.

([14]) بحار الأنوار ج48 ص161 و 169 والكافي ج1 ص366 ومقاتل الطالبيين ص447 و 436 و 437 و (ط مؤسسة دار الكتاب ـ قم) ص298 وحياة الإمام موسى بن جعفر للقرشي ج1 ص468 ومدينة المعاجز ج6 ص293 وشجرة طوبى ج1 ص166.

([15]) مقاتل الطالبيين (ط مؤسسة دار الكتاب ـ قم) ص289 وشجرة طوبى ج1 ص166 ومستدركات علم رجال الحديث ج3 ص160 وتهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي ج2 ص419.

([16]) راجع: البداية والنهاية ج4 ص278 و 279 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص321 والإصابة ج1 ص487 والكامل في التاريخ ج2 ص236 وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص401 وراجع: سبل الهدى والرشاد ج6 ص148 والمغازي للواقدي ج2 ص761 والسيرة الحلبية ج3 ص67 وتاريخ الخميس ج2 ص71 وبحار الأنوار ج21 ص50 و 51 و 54 و 61 و 62 وأمالي الطوسي ص87 و 88 وعيون الأثر ج2 ص167 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج15 ص69 ومقاتل الطالبيين ص7 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص833. ومصادر ذلك لا تكاد تحصى لكثرتها..

([17]) الآية 205 من سورة البقرة.

([18]) الآية 202 من سورة البقرة.

([19]) راجع: عيون أخبار الرضا «عليه السلام» ج1 ص248 وبحار الأنوار ج47 ص128 ومناقب آل أبي طالب ج4 ص225 و (ط مطبعة الحيدرية ـ النجف) ج3 ص352 ومدينة المعاجز ج6 ص104.

([20]) تاريخ الأمم والملوك (ط الإستقامة ـ والأعلمي) ج3 ص522 ومناقب الخوارزمي ص186 والجمل للمفيد ص339 و 340 وتذكرة الخواص ص71 و 72 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص112 وبحار الأنوار ج32 ص174 والكامل في التاريخ ج2 ص261 و 262 و 529 وشرح الأخبار ج1 ص394 وأنساب الأشراف ج1 ص241 ومروج الذهب ج2 ص370 والمصنف لابن أبي شيبة ج7 ص537 ووقعة الجمل للغلابي البصري ص37 و 38.

([21]) كامل الزيارات ص73 و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص152 وبحار الأنوار ج45 ص86 وعوالم العلوم (الجزء الخاص بالإمام الحسين «عليه السلام») ص156 و 319.

([22]) الآية 69 من سورة الأنبياء.

([23]) راجع: مقاتل الطالبيين ص62 والخرايج والجرايح ج4 ص848 وعوالم العلوم (الجزء الخاص بالإمام الحسين «عليه السلام») ص344 وبحار الأنوار ج45 ص63 و 80 وج53 ص61 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص196 و 237 والمزار لابن المشهدي ص473 ومختصر بصائر الدرجات ص37 وشجرة طوبى ج2 ص420 والإيقاظ من الهجعة ص324 ومختصر البصائر ص155 ومدينة المعاجز ج3 ص504 .

([24]) بحار الأنوار ج45 ص89 وعوالم العلوم (الجزء الخاص بالإمام الحسين «عليه السلام») ص344 والخرايج والجرايح ج1 ص254.

([25]) راجع على سبيل المثال: معاني الأخبار ص288 وبحار الأنوار ج44 ص297.

([26]) عوالم العلوم (الجزء الخاص بالإمام الحسين «عليه السلام») ص334 وبحار الأنوار ج45 ص92 وتفسير جوامع الجامع ج1 ص130 وإختيار معرفة الرجال (نشر مؤسسة آل البيت «عليه السلام») ج1 ص293 وجامع الرواة للأردبيلي ج1 ص178 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص98.

([27]) راجع: مقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص17 وراجع: مقتل الحسين للمقرم ص245 و 246 ومقتل الحسين لابن نما ص66 وتاريخ الأمم والملوك ج5 ص441 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج4 ص336 والكامل في التاريخ ج4 ص71 ومثير الأحزان ص74 وبحار الأنوار ج45 ص21 عوالم العلوم (الجزء الخاص بالإمام الحسين «عليه السلام») ص265 ولواعج الأشجان ص156 واللهوف في قتلى الطفوف ص66 والمجالس الفاخرة للسيد شرف الدين ص238 و 341 .

([28]) الآية 207 من سورة البقرة.

([29]) راجع هذه القضية مع مصادرها في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ج4 ص33 وفي كتابنا هذا ج2 ص136.

([30]) الكافي ج2 ص221 والمكاسب للشيخ الأنصاري آخر رسالة التقية ص325. ووسائل الشيعة (آل البيت) ج16 ص226 و (الإسلامية) ج11 ص476 وبحار الأنوار ج72 ص436 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص577.

([31]) رجال الكشي ص83 والمكاسب للشيخ الأنصاري، آخر رسالته في التقية ص325. ووسائل الشيعة (آل البيت) ج16 ص227 و (الإسلامية) ج11 ص477 والخرائج والجرائح ج1 ص229 وبحار الأنوار ج42 ص130 وج72 ص433 وشجرة طوبى ج1 ص79 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص577 وإختيار معرفة الرجال (نشر مؤسسة آل البيت «عليه السلام») ج1 ص295 ورجال ابن داود ص194 وقاموس الرجال للتستري ج10 ص312.

([32]) راجع: بحار الأنوار ج29 ص405 والتبيان للطوسي ج2 ص435 ومجمع البيان للطبرسي ج2 ص274 والمصنف لابن أبي شيبة ج7 ص642 وتفسير القرآن للصنعاني ج2 ص363 والنصائح الكافية ص226.

([33]) نظرتنا الفقهية في الشعائر الحسينية ص11.

([34]) كامل الزيارات ص134 و 135 و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص257 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج14 ص458 و (الإسلامية) ج10 ص358 وبحار الأنوار ج98 ص36 وجامع أحاديث الشيعة ج12 ص433.

([35]) كامل الزيارات ص135 و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص257 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج14 ص458 و (الإسلامية) ج10 ص358 وبحار الأنوار ج98 ص25 وجامع أحاديث الشيعة ج12 ص433 وفضل زيارة الحسين تأليف محمد بن علي بن الحسين العلوي الشجري ص57 و 58.

([36]) الربيئة: العين على العدو، ولا يكون إلا على جبل، أو شرف.

([37]) الكافي (ط مطبعة النجف ـ النجف الأشرف ـ العراق) ج8 ص93 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج2 ص429 و 430 و (الإسلامية) ج2 ص645 والتحفة السنية (مخطوط) للجزائري ص339 .

([38]) معاني الأخبار ص254 ووسائل الشيعة ( آل البيت) ج2 ص430 و 431 و (الإسلامية) ج2 ص645 و 464 وعلل الشرائع ج2 ص520 و 521 ومسائل علي بن جعفر ص117 وبحار الأنوار ج6 ص121 و 122 وج108 ص82 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص171 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج6 ص274 و 342 وقصص الأنبياء للجزائري ص357.

([39]) الكامل في التاريخ (مطبوع مع تاريخ القرماني) ج4 ص39 و (ط دار صادر) ص88 وقاموس الرجال للتستري ج12 ص255 وتاريخ مدينة دمشق ج69 ص120 ومستدركات علم رجال الحديث ج8 ص574 والأعلام للزركلي ج3 ص13 وسكينة بنت الحسين «عليه السلام» تأليف الدكتورة عائشة بنت الشاطئ ص68 ومصادر ذلك كثيرة، تجدها في ترجمة الرباب في مختلف كتب التراجم التي تعرضت لحالها.

([40]) قاموس الرجال ج5 ص426 والإصابة ج2 ص296 و (ط دار الكتب العلمية) ج4 ص52 وسير أعلام النبلاء ج2 ص14 وأسد الغابة ج3 ص212 و (ط دار الكتاب العربي ـ بيروت) ج3 ص143 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج13 ص491 وتفسير القرآن العظيم ج2 ص609 وتاريخ مدينة دمشق ج27 ص358 و 359 وسبل الهدى والرشاد ج11 ص361.

([41]) النجوم الزاهرة ج2 ص318 وراجع: وفيات الأعيان ج6 ص397 و 398 وسير أعلام النبلاء ج12 ص18 وقاموس الرجال ج9 ص460 وج11 ص128 عن السيوطي في الطبقات، والكنى والألقاب ج1 ص314 و 315 ومستدرك سفينة البحار ج5 ص83 وعن بهج الصباغة ج3 ص338 وج9 ص383 عن المعجم، وتاريخ الخلفاء ص348 وراجع: تاريخ الإسلام للذهبي ج18 ص552 وفلك النجاة للحنفي ص100.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان