صفحة :39-77   

الفصل الأول: إحتجاجات ونصائح..

جارية بن قدامة ينصح عائشة:

وعن القاسم بن محمد، قال: أقبل جارية بن قدامة السعدي، فقال: يا أم المؤمنين، والله، لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون، عرضة للسلاح. إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة. فهتكت سترك، وأبحت حرمتك، إنه من رأى قتالك، فإنه يرى قتلك.

وإن كنت أتيتنا طائعة، فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالناس([1]).

ونقول:

1 ـ إن قتل عثمان يبقى أمراً مرتبطاً بشخصٍ استأثر فأساء الأثرة، وبأناس جزعوا فأساؤا الجزع.

أما خروج عائشة على الجمل، فإنه يمثل انتهاكاً لحرمة القرآن، وجرأةً على شرائع الله وأحكامه، وفتح بابٍ عظيم الخطر على الأمة بما يعطيه للمرأة من دور سلبها الله إياه في قرآنه، وعلى لسان رسوله.. من حيث تأسيسه لسابقةٍ في الترؤس على الأمة، وقيادتها لها إلى حيث الفشل والخيبة، والسقوط، فإنه لم يفلح قوم تملكهم امرأة..

2 ـ وهو أيضاً يمثل انتهاكاً لحرمة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»، وتصغيراً لمقامه، من حيث تصبح زوجته سبباً في قتل الألوف، ويُتم عشرات الألوف من الأطفال. وتمزيق ألوف العائلات. بلا سبب سوى أنها أرادت أن تنفس عن حقدها على إمام المسلمين علي «عليه السلام».

كما أنها تريد العبث بنظام الأمة، وإثارة القلاقل فيها، تحت غطاء زوجيتها لرسول الله «صلى الله عليه وآله».. وبالاستفادة من محبة الناس وتقديسهم له..

ثم إن نفس أن يرى الناس وجوب قتالها، يستبطن تجويزهم لقتلها، ودخولهم في ذلك بصورة عملية.. وهذا وإن كان له مبرر شرعي من حيث لزوم درء الفتنة، وحفظ نظام الأمة، والدفاع عن إمامها، إلا أن وصول الأمور إلى هذا الحد يعد مصيبة معنوية في حد نفسه، ولو لم تقتل بالفعل..

3 ـ ثم إن جارية بن قدامة قد أفسح المجال لعائشة للخروج من المأزق الذي وضعت فيه نفسها، حين طرح أمامها معادلة تقول: إنها قادرة على هذا الخروج، لأنها إن كانت قد خرجت طائعة، فقرار الاستمرار والانكفاء يعود إليها.. وإذا وجب عليها أن تختار الإنكفاء، امتثالاً لأمر الله ورسوله.. فلا شيء يمنعها من ذلك.

وإن كانت مستكرهة على الخروج فيمكنها الخروج من المأزق أيضاً: بأن تستعين بالناس على كف من يظلمها ويقهرها على أمر لا تريده.. وبذلك يكون قد أحرجها، ولم يترك لها للتعلل سبيلاً، ولا عن الرجوع ودرء الفتنة بديلاً.

عمار يسكت أصحاب الجمل:

قال ابن الزبير: سمعت عماراً يقول لأصحابنا: ما تريدون وما تطلبون؟!

فناديناه: نطلب بدم عثمان، فإن خليتم بيننا وبين قتلته رجعنا عنكم.

فقال عمار: لو سألتمونا أن ترجعوا عنا، بئس الفحل، فإنه ألأم الغنم فحلاً، وشرها لجماً، ما أعطيناكموه.

ثم التحم القتال وناديناهم مكِّنونا من قتلة عثمان، ونرجع عنكم.

فنادانا عمار: قد فعلنا، هذه عائشة وطلحة والزبير قتلوه عطشاً، فابدؤوا بهم، فإذا فرغتم منهم تعالوا إلينا نبذل لكم الحق.

فأسكت ـ والله ـ أصحاب الجمل كلهم([2]).

ونقول:

إن هذا النص يشير إلى الحقائق التالية:

1 ـ إن الناكثين هم الذين جاؤوا للحرب، فهم المهاجمون. وأصحاب علي «عليه السلام» إنما يدافعون عن أنفسهم..

2 ـ إن الناس إنما يرفعون شكاواهم إلى علي «عليه السلام»، وهو الذي ينصف المظلوم من ظالمه، فما بال أصحاب الجمل يعكسون الأمر؟!

3 ـ إن ابن الزبير وأصحابه ليسوا هم أولياء دم عثمان.. ليصح منهم أن يطالبوا بدمه!!

4 ـ إن عماراً «رحمه الله» أرشدهم إلى أنه قد كان الأحرى بهم أن يعلنوا رجوعهم عن الحرب، وأن يطلبوا من علي وأصحابه أن يعفو عن جرمهم المتمثل بخروجهم على إمامهم، وإخلالهم بنظام الأمة..

5 ـ إن عماراً «رحمه الله قد اعتبر جماعة الناكثين بمثابة قطيع غنم، وقادتهم هم فحول ذلك القطيع، والعادة تعطي: أن الفحل هو ألأم الغنم، وشرها لجماً، وأن السيطرة عليه، ولجم تحركاته صعبة. وهذا هو حال قادة ذلك الجمع..

وبذلك يكون قد أفسح المجال لعامة المقاتلين للإنسحاب من المعركة، والإعتذار عن المشاركة، وتحميل المسؤولية للقادة. وبيَّن أن لؤمهم يدعوهم إلى الإصرار، وأن من الصعب عليهم التراجع عن مواقفهم.

6 ـ إن الخضوع لمطالب الناكثين يشكل سابقة خطيرة، من حيث أنها تؤسس لفهم خاطئ لأحكام الشرع والدين، فيما يرتبط بأحكام القضاء، والقصاص، والحقوق وطاعة الأئمة، وغير ذلك..

7 ـ وكلمة عمار التي أسكتت أصحاب الجمل كلهم تعطي: أن جميع أصحاب الجمل كانوا على علم بما فعله طلحة والزبير وعائشة بعثمان.. وأن إنكار ذلك يدخلهم في فضيحة ظاهرة، ويوقعهم في مأزق صعب، لا خلاص لهم منه.. كما أنه يفقدهم الثقة ببعضهم، بشكل كبير وخطير..

غيرة الزبير:

لقد وجه عمار بن ياسر «رحمه الله» خطابه للزبير بن العوام، ليفهمه أنه لم يكافئ رسول الله «صلى الله عليه وآله» على جميل خاص أسداه «صلى الله عليه وآله»، حيث حفظ له زوجته حين كان «صلى الله عليه وآله» في جماعة، ومرت أسماء زوجة الزبير، فأعرض عنها هو وأصحابه، أو مد عليها سجافاً حتى مضت..

بل كافأه بالسوء وفعل مع زوجة الرسول «صلى الله عليه وآله» ضد ذلك، حيث أظهرها على جمل في ساحة الحرب، وجعلها هي وجملها راية لعسكره، حتى قتل المئات والألوف حول ذلك الجمل الذي يحملها..

وإذا كان الزبير يغار على زوجته إلى حد أنه يتأذى من رؤيتها تمر في الطريق، وهي في غاية الستر والإحتشام.

فهل يمكن أن لا يتأذى رسول الله «صلى الله عليه وآله» إذا علم أن زوجته تتنقل في البلاد، وتلقي الخطب في مجاميع الرجال، وتقف وسط معركة طاحنة على جمل، وتكون هي وجملها راية العسكر، وتقطع حولها الأيدي، وتزهق الأرواح؟! بل تكون هي المحرك والقائد، والمتسبب بكل هذه المصائب والبلايا للناس؟!

إلى ماذا تدعين؟!:

وقد سأل عمار عائشة: إلى ماذا تدعين؟!

ونقول:

1 ـ ألم يكن عمار يعلم إلى ماذا تدعو عائشة؟!

ونجيب:

لا شك في أنه كان يعرف ذلك.. ولم يزل منذ عدة أشهر، وإلى تلك اللحظة يرى ويسمع، ويحاور ويناقش ويستدل على مبعوثي عائشة.. ويرد على كلمات أنصارها. ولكنه أراد أن يعرِّف الناس بالسماع المباشر منها، وذلك في اللحظات الأخيرة: أن الدعوة دعوتها، وأنها لم تأت للصلح، بل جاءت للحرب..

فما كانت تقوله لبعض الناس من أنها جاءت تريد الصلح، كان لأجل أغراض لها أخرى، كما أنه «رحمه الله» يريد أيضاً أن يدفع الشائعات والأعذار الواهية التي لا زلنا نسمعها من محبيها وأنصارها، الساعين للتخفيف من وطأة الكارثة التي حلت بالمسلمين بسبب سياساتها هذه.

وقد أوضح «رحمه الله» ذلك حين توجه للناس، وقال مؤكداً بأكثر من وسيلة: أنهم يعلمون من هو الممالئ في قتل عثمان، فلم يجدوا جواباً له إلا الرشق بالنبل..

2 ـ يضاف إلى ذلك: أن كلامه «رحمه الله» يعطي أن الناس كلهم حتى الذين جاؤوا مع الناكثين كانوا يعلمون أن الناكثين كانوا يطالبون بغير الحق، وأنهم بغاة على إمامهم..

وقد يقال: إن كلامه الواضح بالنسبة لذلك الجمع، لا يخلو من غموض بالنسبة إلينا، لأنه «رحمه الله» تعالى أشار إلى أن الخارجين كانوا بغاةً. فهل أراد به بغيهم على إمامهم الذي له في عنقهم بيعة صحيحة، ومجمع عليها وعلى صحتها، فيكون عطف كلمة «والطالب بغير الحق» من عطف المغاير؟! أو أراد: أنهم باغون ـ بالمعنى العام، أي أنهم يتعمدون الباطل، من حيث إنهم يطلبون ما لا يحق لهم طلبه، ويتهمون الأبرياء، ويمارسون الظلم والإعتداء.. ويكون قوله: والطالب بغير الحق، عطف تفسير وإيضاح.

ونجيب:

إن ظاهر العطف هو التأسيس والمغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، لا التأكيد، والتفسير والتوضيح.. ولكن النتيجة واحدة على أي حال، لأن المقصود هو إقامة الحجة على الناكثين، وإظهار أنهم مبطلون. فعليهم أن يبحثوا عن مخرج مما هم فيه، وجميع المخارج لا بد أن تؤدي إلى الرجوع عن الظلم والتعدي.. أو القبول بالخزي في الدنيا، وعقاب الله في الآخرة..

نصائح عمار، وعلي × للناكثين:

ويقولون: إن عمار بن ياسر قام بين الصفين، فقال: أيها الناس! ما أنصفتم نبيكم حين كففتم عقائلكم في الخدور، وأبرزتم عقيلته للسيوف، وعائشة على جمل في هودج من دفوف الخشب قد ألبسوه المسوح وجلود البقر، وجعلوا دونه اللبود، وقد غشي على ذلك بالدروع، فدنا عمار بن ياسر من موضعها، فنادى: إلى ماذا تدعين؟!

قالت: إلى الطلب بدم عثمان.

فقال: قاتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق، ثم قال: أيها الناس! إنكم لتعلمون أينا الممالئ في قتل عثمان([3]).

نصائح عمار بن ياسر:

ويقولون: إن عمار بن ياسر قام بين الصفين، فقال: أيها الناس! ما أنصفتم نبيكم حين كففتم عقائلكم في الخدور، وأبرزتم عقيلته للسيوف([4]).

وفي نص آخر: أنه خاطب بذلك الزبير بن العوام ـ وكان «صلى الله عليه وآله» قد لقي أسماء في بعض أزقة المدينة، ومعه جماعة من أصحابه، فأعرض عنها، وأعرضوا أيضاً حتى ذهبت.

وقيل: مد عليها سجافاً خوفاً من غيرة الزبير([5]).

وجاءت عائشة على جمل في هودج من دفوف الخشب، قد ألبسوه المسوح وجلود البقر، وجعلوا دونه اللبود، وقد غشي على ذلك بالدروع.

فدنا عمار من موضعها، فنادى: إلى ماذا تدعين؟!

قالت: إلى الطلب بدم بعثمان.

فقال: قاتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق.

ثم قال: أيها الناس! إنكم لتعلمون أينا الممالئ في قتل عثمان([6]).

ثم أنشأ يقول، وقد رشقوه بالنبل:

فمنك البكاء ومنك العويل                        ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام                          وقاتله عندنا من أمر

وتواتر عليه الرمي، واتصل. فحرك فرسه، وزال عن موضعه، وأتى علياً، فقال: ماذا تنتظر يا أمير المؤمنين، وليس عند القوم إلا الحرب؟!

وفي نص آخر: وصاح علي «عليه السلام» كفوا حتى يبتدئوا بالقتال إلخ..([7]).

وقد ذكرت الأبيات الآنفة الذكر بنحو آخر، وبزيادة أبيات، وقد ذكرناها في موضع آخر من هذا الكتاب..

ونقول:

علينا أن نلاحظ ما يلي:

خطاب عمار للناس:

تعودنا أن نرى الإدانة، تنصب على قادة التحرك، الذين يمسكون بالقرار، ويديرون دفة الأمور..

ولكن عماراً قد وجه اللوم إلى الناس أنفسهم هنا، لا لأن قرار الحرب والسلم بيدهم، بل لأنهم قادرون على تعطيل هذا القرار لدى من يسعى للإستئثار به، ويستفيد منه في إسقاط الخليفة الذي نصبه الله ورسوله لهم، وانعقد إجماع الأمة على البيعة له بعد قتل عثمان، مع العلم: بأن ذلك لا يعفي الناكثين من مسؤوليتهم عن قرارهم، بمحاربة علي «عليه السلام» والتسليم بالحق لصاحبه الشرعي، وتمكينه من ممارسة واجبه الإلهي في حفظ الأمة وهدايتها ورعايتها، وحفظها من الفتن ومن عدوان الظالمين والطامعين.

وقد أراد عمار بن ياسر أن يمد للناكثين يد المساعدة من خلال بيان خطأهم في المعادلة التي كرست قرار الحرب لديهم، ليمكِّنهم من إنتاج المعادلة الصحيحة.. على أساس أن الذي دعاهم إلى الحرب هو الإستجابة لرغبات عائشة، لأنها زوجة نبيهم، وأم المؤمنين، ويريدون بنصرتهم لها حفظ مقام رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

فبين لهم عمار: أن حفظ كرامة رسول الله «صلى الله عليه وآله» واجب شرعي لا ريب فيه، ولكنهم أخطأوا في التطبيق، فقد أهانوه بنصرتهم لزوجته، بدلاً من أن يحفظوه وهتكوا حرمته بدلاً من صونها.. ودليل ذلك أنهم صانوا حلائلهم في الخدور، وأبرزوا زوجة نبيهم للسيوف، وهل هناك هتك للحرمات أعظم من إسقاط حرمة الدم؟! ألم يكن الأجدر بهم أن يجعلوا زوجة نبيهم بعيدة عن أن يفكر أي كان من الناس بجرحها أو بقتلها لكي يكف شرها عن نفسه؟!

تحصينات لجمل عائشة:

وقد لاحظنا: أن ثمة اهتماماً خاصاً بتحصين الهودج بأنواع مختلفة من الوسائل التي يصعب أن تخترقها السهام والرماح والسيوف.. مما يعني: أن وجود عائشة وسط تلك الحشود، وفي قلب المعركة لم يكن صدفة، ولم تأت للصلح أو للموعظة، ثم اشتعلت نار الحرب، فحوصرت بالمتقاتلين.. بل كانت هناك خطة مرسومة مسبقاً، تحدد موقع عائشة ومكانها في المعركة، مع معرفة تامة بما يحتاجه ذلك الموقع من وسائل حماية لمن يكون فيه..

الوصي في الناس، وعلى الناس:

عن سعيد بن كرز، كنت مع مولاي يوم الجمل، فأقبل فارس فقال: يا أم المؤمنين!!

فقالت عائشة: سلوه من هو؟!

قيل: من أنت؟!

قال: أنا عمار بن ياسر.

قالت: قولوا له ما تريد؟!

قال: أنشدك بالله الذي أنزل الكتاب على رسول الله «صلى الله عليه وآله» في بيتك، أتعلمين أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» جعل علياً «عليه السلام» وصياً على أهله، وفي أهله؟!

قالت: اللهم نعم.

قال: فما لك؟!

قالت: أطلب بدم عثمان أمير المؤمنين.

قال: فتكلم.

ثم جاء فوارس أربعة فهتف بهم رجل منهم.

ثم قال: تقول عائشة: ابن أبي طالب ورب الكعبة، سلوه من هو؟ ما يريد؟!

قالوا: من أنت؟!

قال: أنا علي بن أبي طالب.

قالت: سلوه ما يريد؟!

قالوا: ما تريد؟!

قال: أنشدك بالله الذي أنزل الكتاب على رسول الله «صلى الله عليه وآله» في بيتك، أتعلمين أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» جعلني وصياً على أهله، وفي أهله؟!

قالت: اللهم نعم.

قال: فما لك؟!

قالت: أطلب بدم أمير المؤمنين عثمان؟!

قال: أريني قتلة عثمان؟!

ثم انصرف، والتحم القتال([8]).

ونقول:

إن هذا النص يتضمن الإشارة إلى العديد من الأمور، نذكر منها ما يلي:

علي الوصي:

ذكرنا في فصل سابق من هذا الكتاب نصوصاً كثيرة تدل على أن كون علي «عليه السلام» هو وصي رسول الله «صلى الله عليه وآله».. كان أمراً شائعاً ومعروفاً في الأمة، وقد ذكر الناس ذلك كثيراً في الأشعار وفي الأرجاز في حروب الجمل، وصفين.. وذكر أيضاً في الإحتجاجات وفي المناشدات.. مع اعترافنا: بأن استقصاء ذلك في النصوص وفي المصادر متعسر جداً، بل متعذر.

وهذه المناشدة من عمار لعائشة هي أحد هذه الموارد، وقد قصد عمار منها:

أولاً: الإحتجاج على عائشة، وإلزامها بإقرارها..

ثانياً: لقد قصد بها أيضاً: إفهام الناس أن عائشة تقوم بعملها هذا وهي متذكرة لهذه الوصية، متعمدة للخلاف على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، متمردة على وصيه.. ولم تكن غافلة، ولا ناسية..

ثالثاً: لعله قصد أيضاً: أن يجعل أتباعها في تلك الحرب على بصيرة من أمرهم، ويزيل الغشاوة عن أعينهم، إن كانت!! ويضعهم أمام مسؤولياتهم الشرعية، ومسؤولياتهم الأخلاقية أيضاً تجاه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فمن جاء إلى هذه الحرب، رغبة في الذب عن حرمته «صلى الله عليه وآله»، ولأجل حفظه في زوجته، فإنه بنفس عمله هذا يخالف وصية رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويعمل أو فقل: يساعد على نقضها..

رابعاً: ربما يكون المقصود بهذه المناشدة: الجمع بين الإحتجاج على الناكثين بالنكث تارة، وبالإمامة الثابتة بالنص عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أخرى، وبالبغي والتجني على الأبرياء ثالثة، وبالوصاية الخاصة رابعة.

وصي النبي في أهله، وعلى أهله:

وقد لاحظنا: أن عماراً تعمد النص على أمرين، وذلك في قوله: «جعل علياً وصياً على أهله وفي أهله».. وقد أقرت عائشة بالأمرين معاً..

وهذا الأمران هما:

الأول: أنه «صلى الله عليه وآله» قد جعل علياً «عليه السلام» وصياً على أهله، فيقع عليه هو واجب المبادرة إلى حفظ شؤونهم، وتدبير أمور الكبار والصغار من القاصرين وغيرهم.. وإذا كانت عائشة من أهله، فليس لها أن تقوم بأي عمل إلا بموافقته، ومن خلاله. ولا سيما في التصرفات العامة التي تخص أمته «صلى الله عليه وآله»، وهي من أوضح وأجلى موارد تصرفات الوصي في أهل الموصي..

أي أنه «صلى الله عليه وآله» جعل لعلي «عليه السلام» الولاية على أهله بعد وفاته بنفس المستوى من الولاية التي كانت لرسول الله «صلى الله عليه وآله» على أهله في حياته..

الأمر الثاني:

إنه «صلى الله عليه وآله» جعل له الوصاية في أهله. وهذا التعبير يستبطن معنى الإستخلاف له فيهم، أي أنه «صلى الله عليه وآله» جعل لعلي «عليه السلام» مقام الخلافة والمرجعية فيهم. فعليهم هم أن يبادروا إلى مراجعته في كل الأمور التي لا تتم بدونه.. ويجب مراجعة الخليفة في شأنها.

أي أنهم في كل أمر يرتبط برسول الله «صلى الله عليه وآله» وشؤونه، عليهم أن يرجعوا لعلي «عليه السلام»، سواء أكان من الأحكام أو من التصرفات، أو من الولايات، أو غير ذلك..

فهو كقوله «صلى الله عليه وآله»: «إني تارك فيكم الثقلين».. وكقوله: «خليفتي فيكم..».

فإذا كان له «عليه السلام» مقام الخلافة والولاية على أقرب الناس لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، فخلافته على غيرهم تكون بطريق أولى..

ولو كان هناك خليفة آخر للزم أن تتضارب الولايات في مورد الأهل. إذا فرض شمول ولاية الخليفة الآخر لهم..

وإن فرض عدم شمولها لهم لزم وجود خليفتين في الأمة.. ولا يصح ذلك حتى لو فرض محدودية دائرة ولاية أحدهما وصغرها.. فإن الخليفة والوصي لرسول الله «صلى الله عليه وآله» على الناس واحد..

ولم يقل أحد بولاية اثنين:

أحدهما: خليفة خاص في الأهل والأقارب.

وآخر: خليفة في سائر الناس..

أريني قتلة عثمان:

وقول علي «عليه السلام» لعائشة: أريني قتلة عثمان حجة أخرى له على عائشة، بأنها تدعي عليه أمراً لا واقع له، وهو أن قتلة عثمان معه وفي جيشه، والحال أنها لا تستطيع أن تثبت ذلك، ولا أن تشير إلى أي واحد منهم بعينه، أو أن تذكر أسماً واحداً يحتمل أن يكون قد شارك في هذا القتل..

ولو كانت تستطيع الإلماح إلى أي واحد منهم لفعلت ذلك، لتخرج نفسها من المأزق، أو لذر الرماد في العيون. ولكنها تعلم أن الناس يعرفون بعضهم، وسيكون اتهام أي بريء منهم من موجبات سقوط محلها، وزيادة الإشكال عليها.. و..

واقعتان أم واقعة واحدة؟!:

قد يظن ظان: أن الرواية المتقدمة إنما هي لواقعة واحدة، ولكنها نُسبت تارة لعلي «عليه السلام»، وأخرى لعمار بن ياسر «رحمه الله»..

غير أننا نقول:

إن من الجائز أن يكون ذلك قد حصل مرتين:

إحداهما: مع عمار.

والأخرى: مع علي «عليه السلام».

كما لا يبعد أن يكون ذلك عن تبان واتفاق بينهما، لأنهما يريدان كشف الغشاوة عن أعين الناس، مع علمهما بأن الناس يعرفون أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قال لعمار: «إنه مع الحق»، وقال لعلي «عليه السلام»: «علي مع الحق والحق مع علي»..

فشهادتهما لها أهمية فائقة، فكيف إذا صاحبها اعتراف وإقرار من عائشة؟!

لماذا أربعة فوارس؟!:

وقد لاحظنا أخيراً: أن علياً «عليه السلام» لم يأت وحده، بل جاء بثلاثة فوارس معه، بالإضافة إلى عمار، مع أنه حين واقف الزبير برز إليه وحده..

وقد يكون السبب في ذلك: أنه أراد أن تعرف وتسمع تلك الجموع كلها جواب عائشة على هذا السؤال الهام، والدقيق جداً.

ويمكن لجماعة كثيرة من جيش عائشة أن تسمع وترى ما يجري، لأنهم محيطون بها وبجملها، وسيصغي الجميع لكل نغمة وهمسة تصدر من علي «عليه السلام»، ومنها في هذا الموقف.. وسيسأل من لم يسمع، لبعد موقفه، أو لأي سبب آخر ـ سيسأل ـ من سمع، وسيدقق فيما ينقل له بلهفة، وانتباه شديد.

أما جيش عائشة، فهو بعيد عنهم وعنها، فكان لا بد أن يصل إليهم الخبر، وأن يشاع بينهم.. ولم يكن من المصلحة الاقتصار على علي «عليه السلام» وعمار في ذلك.. فلعل هناك من لا يطمئن، أو فقل: لعل هناك من يشيع الريب في دقة، أو في صحة ما ينقل.. وقد يثار احتمال التباني بين علي وعمار على ادعاء هذا الأمر.. فجاء «عليه السلام» بأربع فوارس معه ليكونوا هم الصدى الذي يتردد في مسامع الجيش الذي معه، ويبلغهم بما جرى بدقة، ليزيد يقينهم، وليبدد ريب المرتابين، وتقوم الحجة على المذبذبين.

صنتم حلائلكم وقدتم أمكم:

1 ـ عن القاسم بن محمد قال: خرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير، فقال: أما أنت يا زبير فحواري رسول الله «صلى الله عليه وآله». وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» بيدك. وأرى أمكما معكما، فهل جئتما بنسائكما؟!

قالا: لا.

قال: فما أنا منكما في شيء، واعتزل..

وقال السعدي في ذلك:

صنتم حلائلكم وقدتم أمكم                هذا لعمرك قلة الانصاف

 أمرت بجر ذيولها في بيتها             فهوت تشق البيد بالإيجاف

 غرضا يقاتل دونها أبناؤها              بالنبل والخطي والأسياف

 هتكت بطلحة والزبير ستورها         هذا المخبر عنهم والكافي

2 ـ وأقبل غلام من جهينة على محمد بن طلحة، وكان محمد رجلاً عابداً، فقال: أخبرني عن قتلة عثمان.

فقال: نعم.. دم عثمان ثلاث أثلاث: ثلث على صاحبة الهودج، يعني عائشة. وثلث على صاحب الجمل الأحمر، يعنى طلحة. وثلث على علي بن أبي طالب.

وضحك الغلام، وقال: ألا أراني على ضلال!! ولحق بعلي، وقال في ذلك شعراً:

 سألت ابن طلحة عن هالك               بجوف المدينة لم يقبر

 فقال: ثلاثة رهط هم                      أماتوا ابن عفان واستعبر

 فثلث على تلك في خدرها                وثلث على راكب الأحمر

 وثلث على ابن أبي طالب                ونحن بِدُوِّية قرقر

فقلت صدقت على الأولين                وأخطأت في الثالث الأزهر([9])

ونقول:

في هذين الحديثين أمور يحسن التوقف عندها، وهي التالية:

الزبير حواري الرسول :

إدعاء أن الزبير حواري رسول الله «صلى الله عليه وآله».. وقد قلنا: إن هذا غير صحيح، فإن عمر حين جعل الزبير في الشورى اعتبره يوماً إنسان، ويوماً شيطان.. ومن كان هذا حاله، حتى عند من يجعل له نصيباً في الخلافة بعده، هل يمكن أن يكون من حواري رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!

ويؤكد ذلك: ما روي، من أن الزبير يقتل مرتداً عن الإسلام([10]).

وحديث رضاه بحكم شيبة اليهودي.. ورضا اليهودي بالتحاكم عند رسول الله «صلى الله عليه وآله»([11]).

ومع غض النظر عن مخالفات الزبير لأوامر الله ورسوله «صلى الله عليه وآله»، وقتله النفوس التي حرمها الله وخروجه على إمام زمانه.. وغير ذلك.

فقد روي عن الإمام الكاظم «عليه السلام»: إذا كان يوم القيامة ناد منادٍ: أين حواري محمد بن عبد الله رسول الله «صلى الله عليه وآله»، الذين لم ينقضوا العهد، ومضوا عليه؟!

فيقوم سلمان، والمقداد، وأبو ذر إلخ..([12]).

شلل أصبع طلحة:

وذكر الحديث المتقدم: أن طلحة وقى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بيده.. وقد ذكرنا في بعض فصول هذا الكتاب: أن هذا الأمر لا صحة له وذكرنا لهذا الأمر العديد من الدلائل والشواهد.

غير أننا نؤكد هنا على ما يلي:

ألف: ما رواه البلاذري عن هذه القضية، قال: رمى مالك بن زهير الجشمي النبي «صلى الله عليه وآله»، فاتقاه طلحة بيده، فأصاب السهم خنصره، فشلت، وقال حين أصابته الرمية: «حس»، فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: لو قال: «بسم الله» ولم يقل: «حس» لدخل الجنة([13]).

فأولاً: إن هذه الكلمة من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، تعني أن شلل أصبع طلحة لم يدخل طلحة الجنة، لأنه لم يكن مستجمعاً للشرط الذي يؤهله لذلك ألا وهو ربط ما جرى له بالله تعالى. بل دلَّ قوله حين أصيب خنصره «حس» حيث لم يذكر الله تعالى: على أنه يعيش في جو آخر، هو الذي يطفح على لسانه بعفوية وبغير قصد..

ثانياً: إنها تعطي: أن طلحة إلى تلك الساعة لم يكن قد دخل الجنة، رغم صحبته، ورغم مشاركته في حرب بدر وغيرها.. فما يقال: من أنه «صلى الله عليه وآله» قال اطلع على أهل بدر، فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، أو فقد وجبت لكم الجنة»([14]). إما لا أساس له، أو أن هذه القصة لا أساس لها.

ب: إن روايات إصابة يد طلحة مختلفة: فهل شلت إصبعه، أو إصبعاه، أو يده، أو قطعت أصبعه..

ج: قال الشعبي: «وزعم أن طلحة وقى رسول الله بيده، فضرب فشلت»([15]).

وهذا يشير إلى أن الشعبي يشك في صحة هذا الزعم.

د: زعموا: أنه «صلى الله عليه وآله» قد مسح جسد طلحة، ودعا له بالشفاء والقوة([16]).

فلماذا لم تشف يده بدعاء رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!

الإعتزال خطأ:

إن ما استند إليه ذلك الشاب السعدي ـ أي من بني سعد ـ في قرار اعتزال الفريقين لا يكفي لتبرير اعتزاله الفريقين معاً، بل هو يكفي إلزامه باعتزال فريق الناكثيين فإذا اعتزل الفريق الآخر أيضاً، فإنه قد يكون ظالماً وخاذلاً للحق، الذي يجب عليه نصرته..

وهذا التصرف إن دلّ على شيء، فهو يدل على:

إما جهل هذا الشاب، وقلة تدبره في الأمور..

وأما على أنه جبن عن مواجهة هذا الموقف الصعب، الذي تزل فيه الأقدام، وتزهق فيه الأرواح والنفوس، فأراد التملص، والتخلص بهذه الطريقة..

محمد بن طلحة رجل عابد:

وقد تضمن النص المتقدم: أن محمد بن طلحة كان رجلاً عابداً..

ونقول:

إن عبادته لم تنفعه، فإنه نكث بيعة إمامه، وخرج إليه يحاربه، قال ابن سعد: إنه قاتل قتالاً شديد([17]).

حتى قتل وكان على الرجالة يوم الجمل([18]).

وقال ابن قتيبة: وعلى القلب محمد بن طلحة([19]).

وقد كذب حين ادعى: أن ثلث دم عثمان يقع على علي «عليه السلام»([20]).

وسيأتي بعض الحديث عنه، حين ذكر مقتله إن شاء الله تعالى..

نصيب علي من دم عثمان:

وقد زعم محمد بن طلحة: أن ثلث دم عثمان على علي «عليه السلام»..

وهذا كلام باطل بلا ريب يصدر من شخص يدعون أنه كان عابداً، فما معنى أن ينطق هذا المتظاهر بالعبادة بغير الحق، وبخلاف الصدق؟!

بل ما معنى أن يجعل هذا الرجل ثلث دم عثمان على عائشة وعلى أبيه، ثم يدخل جيشهما، ويكون على الرجالة فيه، ويقاتل إمامه؟! أو فقل: يقاتل من يدعي هو أنه ليس عليه من دم عثمان إلا الثلث مع من يعترف هو أن عليهم ثلثي دم عثمان.. فأي إنصاف هذا؟! وأي عبادة تلك التي تجعل الإنسان يضع لنفسه معايير خاطئة إلى هذا الحد؟! بل مناقضة لما أمر الله تعالى ورسوله به من لزوم طاعته لا طاعة الهوى، ولا طاعة البشر فيما يخالف أمر الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق تعالى..

وهل البر بالوالدين يبيح للإنسان قتل الناس، والمشاركة في إثارة الفتنة بين المسلمين؟!

أو نكث البيعة والخروج على الإمام؟!

لماذا المطاولة، والتكرار؟!:

لعل الهدف من المطاولة، وعدم المبادرة للحرب، وتكرار النصيحة مرة بعد أخرى هو ما يلي:

1 ـ إن هذاالوقوف الطويل، قد يؤدي إلى الملل لدى بعض الناس، فيؤثر الإنصراف.

كما أن طول المكث هذا يبرِّد أجواء الإنفعال، والإندفاع تحت تأثير الخطب الحماسية، وإطلاق الشعارات البراقة، أو المثيرة لحمية الجاهلية.

2 ـ إن تكرار الحجة التي كان علي «عليه السلام» يواجه بها الناكثين، يمنح الفرصة لجميع من حضر وسمع، ليتأمل ويفكر، ويراجع حساباته، وقد يبصر بعضهم الحق، فيؤثره على الباطل.

3 ـ إن هذه المطاولة وذلك التكرار، من علي «عليه السلام»، ومواصلة الإصرار على الحرب من الناكثين، لا بد أن يقنع الكثيرين: بأن فريق الناكثين هو الساعي للحرب، والحريص على إثارة الفتنة، وأن علياً «عليه السلام» هو الذي يريد وأدها وإخمادها.. وتلافي حصولها..

4 ـ إن هذه المطاولة تمنح الفرصة للناس، لأن يرى بعضهم بعضاً، وربما كان بعضهم جيران بعض من في المعسكر الآخر.. وقد يخجل بعضهم من بعض، ويحرج بعضهم بعضاً.. فيوجب ذلك شعورهم بصعوبة ما يقدمون عليه، ويتبلور لديهم الإحساس بثقل هذا الأمر على نفوسهم.

5 ـ وربما يظهر طول المكث فرصاً للتخلص والتملص، ما يساعدهم على ابتكار وسائل تسهل عليهم الخروج من المأزق.

6 ـ ولعل هذه المطاولة تعطي قادة جيش علي «عليه السلام» الفرصة لرصد الثغرات في الجيش الآخر.. وتمكنهم من تقدير أعدادهم وإمكاناتهم، ومعرفة قادتهم، وتاريخهم، ودراسة حالتهم النفسية، بالنحو الذي يفيد في تحقيق النصر عليهم بأدنى الخسائر.

ألف: حجة علي على عائشة:

وقد رأينا: كيف أن حجة علي «عليه السلام» كانت تركز على شقين:

أحدهما: يوجهه لعائشة، ويكتفي فيه بالإشارة إلى أن موقفها هذا يتضمن مخالفة لآية قرآنية صريحة، تأمرها بالقرار في بيتها..

ولم يشر إلى شيء يرتبط بظلمها له، ومشاركتها في التحريض على عثمان، وأمرها الناس بقتله..

ولعل سبب ذلك: أن ذكر هذه الأمور في مثل هذا الجو قد يبلبل الأفكار، ويعطي الفرصة للناكثين للضرب على وتر العصبيات، وإطلاق الشعارات الرنانة حول عثمان وما جرى له..

كما أنه يفسح المجال للجدال العقيم في المبررات، وفي صحة ذلك أو عدم صحته..

والأهم من ذلك: أنه قد يفسح المجال للترويج: بأن دوافع علي «عليه السلام» للحرب شخصية، وانتقامية، وليس بصدد الدفاع عن حق وقضية ودين وإيمان..

فآثر «عليه السلام» أن يحصر الأمر في موضوع لا يمكن النقاش فيه، ولا التلاعب في دلالته..

ويلاحظ: أنه «عليه السلام» لا يزيد على الطلب منها أن تتقي الله تعالى، وأن ترجع إلى البيت الذي أمرها الله بالقرار فيه.. فلا يصرِّح لها بما يثير غضبها، ولو بأن يقول لها: لقد عصيت الله مثلاً..

بل هو يلوح في كلامه مع طلحة والزبير بما يشير إلى التخفيف من مسؤوليتهما، حين يلومهما على أنهما هما قد أخرجاها، وخبَّآ نساءهما، بل هو يصرح لهما بأنهما هما اللذان استفزاها..

وبذلك يكون قد مهد السبيل أمام كثير من أنصار عائشة لإدراك ضعف موقف عائشة من جهتين:

إحداهما: أنها امرأة تضعف أمام رأي الرجال، وتخضع لإرادتهم..

الثاني: أنها لم تنطلق في موقفها من رؤية واضحة، وفكر ثاقب، وإنما من استجابة لمشاعرها التي استفزها وأثارها الآخرون..

الثالث: إنما تطيع من لا يهتم لشأنها، أو يغار عليها، ويسعى لحفظ كرامتها.. وفي هذا تعريف لها: بأن عليها أن لا تثق بمن منطقه الكيل بمكيالين.. أو أنها على الأقل يجب عليها أن تعيد النظر في الأمور، وأن تدخل عناصر جديدة في حساباتها..

كما أن ذلك يفتح أعين الناس على مدى إمكانية الوثوق بمن يغرر ويغامر حتى بزوجة نبيهم، ولا يهتم لصون كرامتها، فهل يتوقع منه لو ظفر بما أراد أن يصون كرامة من ليس لهم موقع زوجة النبي «صلى الله عليه وآله»؟!

فلماذا إذن يقتل الناس أنفسهم من أجلها، إذا كان هذا هو حجم الموضوع، وهذه هي آفاقه، ومبتدؤه ومنتهاه؟!

ب: حجة علي على طلحة والزبير:

أما حجته «عليه السلام»، فكانت ترتكز هنا على أمرين:

أولهما: أمر أخلاقي، من حيث مجانبته لما يتوقع من أهل الكرامة من الغيرة على الأعراض، فكيف إذا وصل الأمر إلى هتك حرمة رسول الله «صلى الله عليه وآله» في أكثر الأشياء حساسية له، ويتضمن ذلك له أذى وجرحاً روحياً بالغ الألم والعمق؟! ولعل هذه الخصوصية لا يفهمها الهمج الرعاع الذين جاء بهم الناكثون لحربه، ولا سيما في مثل هذه اللحظات الحرجة التي تهيمن عليها الإنفعالات، والتشنجات العاطفية، ومعاني الشهامة والغيرة، والشمم والكرامة..

الثاني: الإشارة إلى أن طلحة والزبير قد مارسا الخداع واللعب على العواطف حتى مع زوجة نبيهم.. ومن شأن هذا أن يوقظ إحساس الناس بإمكان أن يكونوا هم أيضاً قد استُفزوا، وأُهيجوا، فإن من يستعمل هذا الأسلوب مع زوجة أقدس الخلق، هل يؤمن من أن يكون قد استعمل نفس هذا الأسلوب مع سائر الناس، لكي يوصلوه إلى أغراضه؟!

حجة الناكثين:

ويلاحظ هنا: أن الناقلين لم يذكروا لنا أن عائشة قد واجهت هذه الحجة العلوية بشيء، بل ران عليهم السكوت المطبق، والعاجز..

ولكنهم ذكروا لنا جواب طلحة والزبير على حجة علي «عليه السلام».. الذي تضمن أمرين، كلاهما يدينهما، ويهيء لفضح أمرهما.

أولهما: أنهما جاءا للطلب بدم عثمان..

وهذا يفتح الطريق أمام لفت نظر الناس إلى أنهما هما اللذان سعيا في قتله، وأجلبا عليه، وكانا من أشد الناس تحريضاً عليه، وأكثرهم جداً واجتهاداً فيه.. وأنهما يمارسان التزوير والتبرير غير المنطقي، الذي يصعب إخفاؤه حتى النهاية، بل سرعان ما ينكشف زيفه لكثير من الناس..

الثاني: أنهما يريدان ردّ الأمر شورى..

وهذا يفتح أعين الناس على التناقض الظاهر في مواقفهما، ومطالبتهما بالسبب في إصرارهما في البداية على البيعة لعلي «عليه السلام»، حتى كانا أول من بايعه، ولم يطالبا بالشورى آنئذٍ.. ثم عودتهما إلى المطالبة بها بعد أن كانا قد تجاهلاها أولاً.. فإن كان علي «عليه السلام» هو المطالب بدم عثمان، فلماذا بايعاه؟! وإن كان بريئاً منه، فلماذا نكثا البيعة؟! وإن كانت الشورى هي المعيار، فلماذا أصرَّا على تجاهلها حين بايعا علياً «عليه السلام»؟!

ومن شأن هذا: أن يفسح المجال أمام الناس ليدركوا: أن دافعهما إلى إثارة هذه الحرب هو الطمع بالحكم، وقد صرحوا بأن علياً «عليه السلام» قد تفرد بالحكم، وقالوا: لم نكن نتوقع أن يأخذ كل الأمر وحده، وبذلك يظهر أن طلبهما بدم عثمان ما هو إلا ذريعة رخيصة ومقيتة ومفضوحة إلى ذلك..

والمؤرخون وإن لم يذكروا لنا إن كان أحد من أنصار الناكثين قد تراجع عن نصرتهم.. ولكننا لا نشك في أن ذلك قد ألقى بذرة وعي في قلوب الناس، واستثار مكامن وجدانهم، وهيأهم لاكتشاف سوء ما أقدموا عليه، وسيلقي بهم من ثم في مهاوي الندم السحيق، لتعتصرهم الحسرة بين أطباقها، وتقض مضاجعهم لسبات ولسعات عقاربها وحيَّاتها. خصوصاً إذا أصروا على مواقفهم، فإن العذاب الأليم في الآخرة ينتظرهم..

عائشة، وتطوير أمر الجاهلية:

وقد ذكرنا في موضع آخر من هذا الكتاب: أن جعل صفائح الحديد على هودج عائشة، وكذلك إلباس عائشة درع الحديد يشير إلى أنه قد كان من نيتها ومن خطة أتباعها جعلها في قلب المعركة، حيث ترد السهام عليها، وتصل الرماح والسيوف إليها..

وهذا يكذب دعوى أنها جاءت لأجل الصلح والسلام.

وهو يدل أيضاً: على أن المطلوب هو الإستفادة منها كأسلوب تحريضي جاهل لم يكن جديداً على الناس، بل كان شائعاً بينهم في أيام الجاهلية، ثم عاينوا له مفردات مارسها المشركون الذين كانوا يأتون بنسائهم في بدر وأحد، وسواهما.. اللواتي كنَّ يملأن الساحة بالأهازيج ويضربن الدفوف، ليشجعنهم، وليمنعنهم من الفرار..

وهذا بالذات هو ما حصل في حرب الجمل، لكنهم طوروا هذا العرف الجاهلي، وأدخلوا عليه ما لم يكن يخطر لأهل الجاهلية على بال، وهو: أن يختاروا امرأة يعتبرونها رمزاً لما هو مقدس عندهم، وأن يجعلوها علما لجيشهم، ويوقفونها في وسط المعركة، فتكون هي المحور ونقطة الإرتكاز فيها..


 

([1]) راجع: تاريخ الأمم والملوك ج4 ص465 والكامل في التاريخ ج2 ص318 والإمامة والسياسة ج1 ص88 والبداية والنهاية ج7 ص233 وتذكرة الخواص (ط الحيدرية ـ النجف الأشرف) ص67.

([2]) الجمل للشيخ المفيد ص365 و (ط مكتبة الداوري) ص195 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص211 وقال في هامشه: الجمل ص364 وراجع: تاريخ اليعقوبي ج2 ص183 وأنساب الأشراف ج3 ص57 والأخبار الطوال ص151.

([3]) مروج الذهب ج2 ص270 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص207 عنه.

([4]) مروج الذهب ج2 ص362 و (ط أخرى) ج2 ص370 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» ج5 ص207 عنه، وراجع: تذكرة الخواص (ط النجف ـ العراق) ص72 والجمل لابن شدقم ص127 و 128.

([5]) تذكرة الخواص (ط النجف ـ العراق) ص72.

([6]) تذكرة الخواص(ط النجف ـ العراق) ص72 ومروج الذهب ج2 ص362 و (ط أخرى) ص370 و 371.

([7]) تذكرة الخواص(ط النجف ـ العراق) ص72 ومروج الذهب ج2 ص362 و (ط أخرى) ص370 و 371.

([8]) مجمع الزوائد ج7 ص497 و (ط دار الكتب العلمية ـ بيروت) ج7 ص237 والإيضاح ص77 وسعد السعود ص237 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» ج5 ص207 و 208.

([9]) تاريخ الأمم والملوك ج5 ص176 و (ط أخرى) ج4 ص465 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص482 و 483 والكامل في التاريخ ج2 ص318 والنص والإجتهاد ص438 و 439 وراجع: تاريخ المدينة ج4 ص1173 والإمامة والسياسة ج1 ص84 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» ج5 ص212 و 213 والفتنة ووقعة الجمل للضبي ص125 و 126 وقاموس الرجال ج8 ص223 و (ط أخرى) ج9 ص342 وعن بهج الصباغة ج6 ص122 وج4 ص689 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص467 و 468.

([10]) كتاب سليم بن قيس ج2 ص598 و (ط جديدة ـ مجلد واحد ـ تحقيق الأنصاري) ص162 وبحار الأنوار ج28 ص282 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص113 والصراط المستقيم ج3 ص171 .

([11]) تفسير القمي ج1 ص141 وبحار الأنوار ج9 ص194 وج22 ص93 وج31 ص649 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص278 وتفسير نور الثقلين ج1 ص509 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص507.

([12]) الإختصاص ص61 وبحار الأنوار ج34 ص275 وج22 ص342 وج46 ص343 و 344 ونفس الرحمن في فضائل سلمان ص157 وإختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) ص6 و (نشر مؤسسة آل البيت سنة 1404هـ) ج1 ص41 وروضة الواعظين ص282 وخاتمة المستدرك ج4 ص371 وشجرة طوبى ج1 ص78 ومستدرك سفينة البحار ج2 ص465 ونهج السعادة ج8 ص128 وتفسير نور الثقلين ج5 ص210 .

([13]) أنساب الأشراف ج1 ص318 وراجع: المستدرك للحاكم ج3 ص369 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص253 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص217 وتاريخ مدينة دمشق ج25 ص76 وإمتاع الأسماع ج1 ص157.

([14]) راجع: صحيح البخاري (ط سنة 1309هـ) ج2 ص110 وج3 ص39 و 129 و (ط مشكول) كتاب المغازي، غزوة بدر وج9 ص23 وفتح الباري ج6 ص100 وج8 ص486 وج7 ص237 عن أحمد، وأبي داود، وابن أبي شيبة، والبداية والنهاية ج4 ص284 وج3 ص328 عن الخمسة، ما عدا ابن ماجة، ومجمع الزوائد ج8 ص303 وج9 ص303 و 304 وج6 ص162 و 163 عن أحمد، وأبي يعلى، والبزار، وحياة الصحابة ج2 ص463 و 364 عن بعض من تقدم، والسيرة الحلبية ج2 ص203 و 192 ومجمع البيان ج9 ص269 و 270 وتفسير القمي ج2 ص361 والإرشاد للمفيد ص33 و 34 و 69 وصحيح مسلم (ط دار إحياء التراث العربي) ج4 ص1941 والمغازي ج2 ص797 و 798 وأسباب النزول ص239 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص47 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص58 وج17 ص266 وسنن أبي داود ج3 ص44 و 45 و 48 والتبيان للطوسي ج9 ص296 وأسد الغابة ج1 ص361 والدر المنثور ج6 ص203 وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص93 و 439 و 440 والسنن الكبرى للبيهقي ج9 ص146 والسيرة النبوية لابن هشام ج4 ص39 و 41 ودلائل النبوة للبيهقي ج2 ص421 و 422 والجامع الصحيح ج5 ص409 و 410 ومسند الشافعي ص316 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص97 وتفسير فرات ص183 و 184 ولسان العرب ج4 ص557 والمبسوط للشيخ الطوسي ج2 ص15 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص48 و 49 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص143 و 144 وكنز العمال ج17 ص59 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص371 وبحار الأنوار (ط بيروت) ج72 ص388 وج21 ص125 و 119 و 120 و 136 و 137 و (ط حجرية) ج8 ص643 عن إرشاد المفيد، وإعلام الورى، وتفسير القمي، وتفسير فرات، وعون المعبود ج7 ص310 و 313 والدرجات الرفيعة ص336 وزاد المعاد ج3 ص115 وعمدة القاري ج14 ص254 وتاريخ الخميس ج2 ص79 وترتيب مسند الشافعي ج1 ص197 والمحلى لابن حزم ج7 ص333 والجامع لأحكام القرآن ج18 ص50 و 51 وأحكام القرآن للجصاص ج5 ص325 وجامع البيان ج28 ص38 ـ40 والكامل في التاريخ ج2 ص242 وكشف الغمة ج1 ص180 والإصابة ج1 ص300 والبرهان في تفسير القرآن ج4 ص323 والإعتصام بحبل الله المتين ج5 ص500 و 501 والصافي (تفسير) ج5 ص161 ونهج السعادة ج4 ص28 ومعجم البلدان ج2 ص335 والمواهب اللدينة ج1 ص149 وبهجة المحافل ج1 ص188 و 400. وعن المصنف لابن أبي شيبة ج15 ص69، وعن تفسير الثعالبي ج4 ص289 وعن منهاج البراعة ج5 ص106.

([15]) تاريخ الخميس ج1 ص431 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج10 ص438 عن الشعبي وراجع: المصنف لابن أبي شيبة ج8 ص490.

([16]) دلائل الصدق ج3 ق1 ص259.

([17]) الطبقات الكبرى لابن سعد ج5 ص54.

([18]) الجمل للمفيد ص343.

([19]) الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص66 و (تحقيق الشيري) ج1 ص89.

([20]) تاريخ الأمم والملوك ج3 ص482 و 483 والفتنة ووقعة الجمل ص125 وقاموس الرجال للتستري ج9 ص342 وتاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1173 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص467 والنص والإجتهاد ص438 والغدير ج9 ص80 عن الطبري، وابن قتيبة. وراجع: الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص62 و (تحقيق الشيري) ج1 ص84.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان