لماذا أنت يا جرير؟!:
لا شك في أن جرير بن عطية الخطفي كان شاعراً مجيداً،
وكانت له مع الفرزدق مناقضات مشهورة ومعروفة. ولكنه لم يكن له من
الشرف، ونباهة الذكر، والرياسة، وبعد الصيت نصيب..
ولكن الأمويين، وأتباعهم وأشياعهم كانوا يسعون لرفع شأن
جرير، والحط من مقام الفرزدق، وتقديمه عليه، بحق كان ذلك أو بباطل..
ولعل سبب ذلك:
هو ظهور ميل الفرزدق لآل علي «عليه السلام»، من خلال ميميته المعروفة
ذائعة الصيت، التي انتصر فيها للإمام السجاد «عليه السلام» على هشام بن
عبد الملك، الذي لم يتمكن من استلام الحجر بسبب الزحام، فوضعت له كرسي،
وجلس عليها ينتظر الفرصة..
فلما جاء الإمام السجاد «عليه السلام» جعل يطوف، فكان
إذا بلغ موضع الحجر تنحى له الناس حتى استلمه هيبة له.
فسأل بعض أهل الشام هشاماً: من هذا يا أمير المؤمنين؟!
فقال: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام.
فقال الفرزدق، وكان حاضراً: لكني أعرفه.
فقال له الشامي: من هو يا أبا فراس.
فأنشأ قصيدته العصماء الشهيرة الآتية.
ونحن نذكر هنا ما توفر لنا من أبياتها من المصادر
المختلفة، مع ملاحظة أمرين:
أولهما:
أننا لم نتمكن من تتبع نصوصها إلا في بعض المصادر. ولعل في سائر
المصادر أبياتاً أخرى لم نذكرها..
الثاني:
إن ترتيب الأبيات مختلف جداً من مصدر لآخر. وهذا ما جعلنا نضيف إلى
القصيدة الأبيات التي وجدناها في بعض المصادر من دون مراعات الترتيب.
لأن هذه الإختلافات تعطي: أن الناقلين
قد رتبوا الأبيات من حفظهم، وبصورة عشوائية.. فجرينا على طريقتهم،
لأننا أردنا مجرد جمع أبياتها.. مع علمنا بأن ترتيبها وفق ما أراده
ناظمها غير ممكن أصلاً.. والأبيات التي جمعناها هي التالية:
1 ـ يا سائلي أين حل الجود والكرم عندي
بيان إذا طلابه قدموا
2 ـ إذا أتاني فتى يستامني خبراً فإن
فضل علي ليس ينكتم
3 ـ هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت
يعرفه والحل والحرم
4 ـ
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي
الطاهر العلم
5 ـ
هذا الذي أحمد المختار والده صلى عليه
إلهي ما جرى القلم
6 ـ هذا علي رسول الله والده أمست بنور هداه
تهتدي الأمم
7 ـ هذا الذي عمه الطيار جعفر والمقتول
حمزة ليث حبه قسم
8 ـ هذا ابن سيدة النسوان فاطمة وابن
الوصي الذي في سيفه نقم
9 ـ
هذا ابن فاطمة
إن كنت جاهلـه
بـجده أنبيـاء الله قـد ختمـوا
10 ـ
وليـس قـولك من هذا بضائـره
العرب تعرف من
أنكرت والعجـم
11 ـ سهل الخليقـة لا تخشى بـوادره يزينه
اثنان حسن الخلق والشيـم
(أو)
سهل الخليقـة
لا تخشى بـوادره
يزينه خصلتان الحلم والكرم
12 ـ لا يخلف الوعد ميموناً نقيبته رحب
الفناء أريب حين يعترم
13 ـ
حمال أثقال أقوام إذا افتدحوا(فدحوا) حلو
الشمـائل تحلو عنده نعـم
14 ـ
ما قال لا قـط
إلاّ في تشهـده
لولا التشهـد كانت لاءه نعـم
15 ـ
إن قال قال بما يهوى جميعهم وإن تكلم يومـاً
زانـه الكـلم
16 ـ
عم البرية بالإحسان فانقشعـت عنها الغياهب
والإملاق والعـدم
17 ـ
كلتا يديه غياث عم نفعهما تستوكفان ولا
يعروهما عدم
18 ـ
إذا رأتـه
قريـش قـال قائلهـا
إلى مكـارم هذا ينتهـي الكـرم
19 ـ
يغضي حيـاء ويغضى من مهابتـه فمـا
يكلـم إلاّ حيـن يبتسـم
20 ـ
بكفـه خـيزران ريحـه عبــق من كف أروع في
عرنينـه شـمم
21 ـ
يكـاد يـمسكه عرفان راحتـه ركن الـحطيم
إذا ما جاء يستلم
22 ـ
الله شـرفه قـدمـا وعظمــه جـرى بذاك
له في لوحـه القلـم
23 ـ
أيُّ الخلائق
(القبائل)
ليست في
رقابهم
لأوليـة هـذا أو لـه نعـــم
24 ـ
من يشكـر(يعرف)الله
يشكـر(يعرف)أوليـة
ذا
فالدين من
بيـت هذا ناله الأمـم
25 ـ هذا ابن فاطمة الزهراء عترتها في جنة
الخلد مجرياً به القلم
26 ـ بيوتهم في قريش يستضاء بها
في النائبات وعند
الحكم إن حكموا
27 ـ فجده من قريش في أرومتها محمد وعلي
بعده علم
28 ـ بدر له شاهد والشعب من أحد والخندقان
ويوم الفتح قد علموا
29 ـ وخيبر وحنين يشهدان له وفي قريظة يوم صيلم
قتم
30 ـ مواطن قد علت في كل نائبة على
الصحابة لم أكتم كما كتموا
31 ـ مواطن قد علت أقدارها ونمت آثارها لم
ينلها العرب والعجم
32 ـ هذا علي الذي ليست لشيمته في الخلق
ثانية إن عزت الشيم
33 ـ هذا علي وهذا السبط قد كملت فيه المكارم
والغايات والهمم
34 ـ هذا ابن فاطمة الزهراء ويحكم
وابن
الوصي الذي في سبقه نعم(سيفه
نقم)
35 ـ إن تنكروه فإن الله يعرفه والعرش يعرفه
واللوح والقلم
36 ـ لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه لخر يلثم
منه
موطئ(ما
وطى)القدم
37 ـ جداه خير قريش عند نسبتها المصطفى
وعلي بعده علم
38 ـ هذا علي رسول الله والده ومن بنور هداه
يهتدي الأمم
39 ـ هذا الذي قدم المختار والده صلى
عليه إلهي ما دجى الظلم
40 ـ هذا ابن من راح مسروراً بخاتمه من
كفه سائل قد سفَّه سقم
41 ـ هذا الرَّكوع فيا طوبى لسائله إذ
ناولته يد ما مسها ندم
42 ـ
ينمى إلى ذروة الدين التي قصـرت عنها
الأكف وعن إدراكها القـدم
وفي نص آخر:
43 ـ ينمى إلى ذروة العز التي قصرت عن
نيلها عرب الإسلام والعجم
44 ـ من جـده دان فضـل الأنبيـاء له وفضـل
أمتـه دانـت له الأمـم
45 ـ
مشتقـة مـن رسـول الله نبعتـه طابت عناصرها
والخيم والشيم
46 ـ ينشق ثوب الدجى عن نور غرته
كالشمس تنجاب عن
إشراقها الظلم(القتم)
47 ـ من معشـر حبهم دين وبغضهـم كفر وقربـهم
منجـى ومعتصـم
48 ـ
مقـدم بعـد
ذكـر الله ذكرهـم
في كـل بدء ومختـوم به الكلـم
49 ـ
إن عد أهل
التقـى كانوا أئمتهـم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
50 ـ
لا يستطيع جواد بعد جودهم(غايتهم)
ولا يدانيهـم قـوم وإن كرمـوا
51 ـ
هم الغيـوث إذا ما أزمة أزمـت
والأُسدُ أُسدُ
الشرى والبأس محتـدم
52 ـ يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم خيم كريم
وأيد بالندى هضم
53 ـ
لا ينقص(لا
يقبض)العسر
بسطا من أكفهم
سيان ذلك ان أثروا وإن عدمـوا
54 ـ يستـدفع الشر والبلوى بـحبهم
ويستـرب(يستزاد)به
الإحسان والنعم
فغضب
هشام، وحبس جائزته، وقال: ألا قلت فينا مثلها؟!
فقال: هات جداً كجده، وأباً كأبيه، وأماً كأمه، حتى
أقول فيكم مثلها.
فحبسوه بين مكة والمدينة، فبلغ
ذلك الإمام السجاد، فأرسل إليه عشرة آلاف درهم وقال: اعذرنا يا أبا
فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به.
فردها وقال: يا ابن رسول الله، ما قلت الذي قلت إلا
لرضا الله ورسوله، وما كنت لآخذ شيئاً.
فردها إليه وقال: بحقي عليك لما قبلتها، فقد رأى الله
مكانك وعلم نيتك. فقبلها.
فجعل الفرزدق يهجو هشاماً وهو في الحبس، فكان مما هجا
به قوله:
أيحبسني بـين المــدينة والــتي إليها قلوب
الناس يهوى منيبها
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد وعين لــه حولاء
بــاد عيوبها
فبعث إليه فأخرجه إلى البصرة([1]).
فهذا يخاطر بحياته، وبكل شيء، انتصاراً منه للحق،
ولأهله بمبادرة منه، من دون أن يدعوه إليه أحد..
أما جرير بن عطية الخطفي، فهو طالب دنيا، ومال، ونوال،
وجاه ومقام ولو بقيمة نصرة الباطل، والتحامل على الحق وأهله.
وهو يتزلف إلى أعداء أهل البيت برثاء زعمائهم القتلة،
فيرثي الزبير الخارج على إمام زمانه، والمقتول وهو منهزم، والذي تزعّم
حرباً ظالمة، ذهب ضحيتها عشرات الألوف من هذه الأمة..
وقد ضمَّن شعره كذبة مفضوحة، حين زعم أنه لما أتى خبر
مقتل الزبير إلى المدينة تضعضعت سور المدينة والجبال الخشع..
وشتان بين من يرثي الزبير الظالم والآثم طمعاً في دنيا
يصيبها.. وبين من يعرّض نفسه لأعظم الأخطار، بتصديه لطاغوت مجرم، هو من
الأكبش الأربعة الذين أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بما يصيب الأمة
منهم..
وقد انتصر للحق وأهله. وغضب لله ولرسوله، ورضي بتحمل
الأذى في سجن عسفان.. ولم يرض بأخذ الأموال التي بعث بها إليه الإمام
السجاد «عليه السلام» فأرجعها إليه، ثم قبلها امتثالاً لأمر الإمام
«عليه السلام»..
وقد ادَّعى بعضهم: أن هذه القصيدة ليست للفرزدق، واستدل
على ذلك بقوله:
يغضي حيـاء ويغضى من مهابتـه الخ..
وبقوله:
بكفــه خـيزران ريحــه عبــق الخ..
فإن غير الخليفة لا يكون هذا الخيزران في كفه، لأن
العصا إنما يحملها الملوك والجبابرة.
ثم ادَّعوا:
أن القصيدة للحزين الكناني، قالها في عبد الله بن عبد الملك بن مروان([2]).
ونجيب:
أولاً:
إن هذا الإستدلال في غير محله، إذ لماذا لا يستدل على أنها في الإمام
السجاد بقوله:
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي
النقي الطاهر العلم
وبقوله:
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهلـه
بـجده أنبيـاء الله قـد ختمـوا؟!
وغير ذلك من أبيات تدل دلالة ظاهرة وصريحة على أنها
قيلت في رجل هو من ذرية رسول الله «صلى الله عليه وآله»..
ثانياً:
ورد عن النبي «صلى الله عليه وآله»: أنه كانت له عصاً([3]).
وقد ورد أيضاً في الشريعة استحباب حملها في السفر([4]).
بل في الروايات ما دل على استحباب حمل العصا مطلقاً([5])
وقصة الإمام الصادق «عليه السلام» مع أبي حنيفة حينما
كان «عليه السلام» يحمل عصاً، فسأله أبو حنيفة: يا ابن رسول الله ما
بلغت من السن ما يحتاج معه إلى العصا.
قال: هو كذلك. ولكنها عصا رسول الله «صلى الله عليه
وآله» أردت أن أتبرك بها.
فوثب أبو حنيفة إليها، وقال له: اقبلها يا ابن رسول
الله؟!
فحسر «عليه السلام» عن ذراعه وقال: والله لقد علمت أن
هذا بشر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأن هذا من شعره فما قبلته،
وتقبل عصاً؟!([6]).
وكان الإمام السجاد «عليه السلام» يعلق عصا في السفر
على ناقته، ولم يضرب الناقة قط خوفاً من الله([7]).
([1])
بحار الأنوار ج46 ص124 ـ 127 وراجع: شرح شواهد المغني للسيوطي
ص249 وكشف الغمة ج2 ص267 والإختصاص ص191 والإرشاد للمفيد ج2
ص150 وعيون المعجزات ص63 و (ط أخرى) ص74 ووفيات الأعيان، ترجمة
الفرزدق. وكفاية الطالب ص303 و (ط أخرى) ص452 وحياة الحيوان،
مادة (أسد) ج1 ص15 والدرجات الرفيعة ص549 وإختيار معرفة الرجال
ص118 ح 234 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص306 وج4 ص169 والمعجم
الكبير ج3 ص106 والأمالي للمرتضى ج1 ص67 ـ 69 والخرائج
والجرائح ج1 ص267 ومجمع الزوائد ج9 ص200 والأغاني ج14 ص75 وج15
ص260 وثمرات الأوراق (مطبوع بهامش المستطرف) ج2 ص26 و (ط أخرى
منفصلة) ج2 ص20 والمنتظم ج6 ص331 وأنساب القرشيين لابن قدامة
ص131 وشرح الأخبار ج3 ص263 وحلية الأولياء ج3 ص139 والصواعق
المحرقة (ط سنة 1375 هـ) ص98 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص224
وقال: إن الفرزدق مدح بها الإمام الحسين، والبداية والنهاية ج9
ص108 عن الصولي، والجريري، والمحاسن والمساوئ للبيهقي ص212 عن
المدائني، وزهر الآداب (بهامش العقد الفريد) ج1 ص49 و (ط
مستقلة) ج1 ص103 وسير أعلام النبلاء ج4 ص398 وراجع: الفائق ج1
ص219 وشرح رسالة ابن زيدون، لابن نباتة المصري (مطبوع بهامش
الغيث المنسجم) ج2 ص163 وصفة الصفوة ج2 ص54 وشرح الشواهد
الكبرى للعيني (بهامش خزانة الأدب) ج2 ص513 والطبقات الشافعية
ج1 ص153 وشذرات الذهب ج1 ص142 ومرآة الجنان ج1 ص239 وترجمة
الإمام زين العابدين من تاريخ ابن عساكر ص88 ـ 98 ومطالب
السؤل، لابن طلحة (ط1 إيران) ص79 والفصول المهمة لابن الصباغ
(ط1 النجف) ص193 و (ط أخرى) ج2 ص368 ـ 273 وتذكرة الخواص ج2
ص402 ـ 405 وشرح ديوان الحماسة للخطيب التبريزي ج2 ص28 ونور
الأبصار ص129 وديوان الفرزدق للصاوي ج2 ص848 والشيخ عبد القاهر
الشهرآزوري في مجموعته (المخطوطة) الورق رقم 231. ودائرة
المعارف للبستاني ج9 ص356 وأنوار الربيع ج4 ص35 والإمام زيد
لمحمد أبي زهرة ص28 و 29 وشرح لامية العجم للصفدي ج2 ص162
ومروج الذهب ج2 ص195 والإتحاف بحب الأشراف ص51 وروضات الجنات
(ط حجرية) ص520 وتاريخ الملوك للقرماني ص110 ونهاية الإرب ج3
ص107 ـ 109 وج21 ص327 ـ 331 وشرح الحماسة للتبريزي ج4 ص167.
([2])
راجع: الأغاني (ط الدار) ج15 ص325 ـ 329 .
([3])
راجع: السيرة النبوية لابن كثير ج4 ص79 عن مسند البزار، وبحار
الأنوار ج73 ص229 وفي الهامش عن:
([4])
راجع: وسائل الشيعة (آل البيت) ج11 ص377 ـ 379 و (الإسلامية)
ج8 ص274 و 275 ومستدرك الوسائل ج8 ص127 ومن لا يحضر الفقيه ج2
ص176 وثواب الأعمال ص222 وبحار الأنوار ج73 ص229 وفي هامشه عن
أمان الأخطار.
([5])
وسائل الشيعة (آل البيت) ج11 ص379 و (الإسلامية) ج8 ص275 ومن
لا يحضر الفقيه ج2 ص186 وبحار الأنوار ج73 ص229 وفي هامشه عن
ثواب الأعمال ص107 ومكارم الأخلاق ص278 ـ 280.
([6])
مناقب آل أبي طالب ج4 ص269 و (ط المكتبة الحيدرية) ج3 ص372
وبحار الأنوار ج47 ص28 وج10 ص222 وشرح الأخبار ج3 ص299 والكنى
والألقاب ج1 ص27.
([7])
راجع: الفصول المهمة لابن الصباغ ج2 ص861 وشرح الأخبار ج3 ص273
ومستدرك الوسائل ج18 ص262 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص294 و 295
وبحار الأنوار ج46 ص91 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج12 ص88.
|