صفحة :259-307   

الفصل الأول: المواقع.. والرايات.. والدروع..

أين مثرى القوم؟!:

قال المعتزلي:

ومن كلماته الفصيحة «عليه السلام» في يوم الجمل، ما رواه الكلبي عن رجل من الأنصار، قال: بينا أنا واقف في أول الصفوف يوم الجمل، إذ جاء علي «عليه السلام»، فانحرفت إليه فقال: أين مثرى القوم؟!

فقلت: هاهنا، نحو عائشة.

قال الكلبي : يريد أين عددهم؟! وأين جمهورهم وكثرتهم؟!([1]).

ونقول:

إن هذا السؤال من أمير المؤمنين «عليه السلام»: «أين مثرى القوم»؟! ليس عفوياً، ولا عابراً، بل هو يريد أن يستطلع مواضع تجمعات العدو.. لكي يحتاط لها في تعبئة قواته، واختيار القيادة الكفوءة والقادرة على التعامل معها بصورة سليمة وحاسمة.

كما أن معرفة مواضع القوة يعطي الفرصة لوضع خطة إما تقضي عليها، أو تحاصرها وتشل حركتها. أو يصلا إلى وضع تدبير يؤدي إلى تشتتها، الذي ينتهي بضعفها، وإسقاطها بأيسر السبل، وبأقل ما يمكن من خسائر..

علي يناشد ويحتج:

وأعطى رايته محمد بن الحنفية..

ثم أوقفهم من صلاة الغداة (أي الصبح) إلى صلاة الظهر، يدعوهم ويناشدهم، ويقول لعائشة: إن الله أمرك أن تقري في بيتك، فاتقي الله، وارجعي.

ويقول لطلحة والزبير: خبأتما نساءكما، وأبرزتما زوجة رسول الله واستفززتماها!!

فيقولان: إنما جئنا للطلب بدم عثمان، وأن يردَّ الأمر شورى([2]).

وألبست عائشة درعاً، وضربت على هودجها صفايح الحديد، وألبس الهودج درعاً، وكان الهودج لواءَ أهل البصرة، وهو على جمل يدعى عسكراً([3]).

وقال الأربلي:

ثم تقاربوا وتعبوا، لابسي سلاحهم ودروعهم، متأهبين للحرب، كل ذلك وعلي «عليه السلام» بين الصفين، عليه قميص ورداء، وعلى رأسه عمامة سوداء، وهو راكب على بغلة([4])، ثم يذكر ملاقاته للزبير في الميدان.

ونقول:

إن لنا مع ما تقدم وقفات عديدة، نذكر منها ما يلي:

قادة جيش علي :

وقال ابن شهرآشوب: زحف علي بالناس غداة يوم الجمعة لعشر ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وعلى ميمنته الأشتر وسعيد بن قيس.

وعلى ميسرته عمار وشريح بن هاني.

وعلى القلب محمد بن أبي بكر وعدي بن حاتم.

وعلى الجناح زياد بن كعب وحجر بن عدي.

وعلى الكمين عمرو بن الحمق وجندب بن زهير.

وعلى الرجَّالة أبو قتادة الأنصاري([5]).

قادة علي :

أولاً: إنه «عليه السلام» قد اختار لكل قسم من جيشه رجلين للقيادة، ولعل مراده أن يكون أحدهما قائداً فعلياً، وساعده الآخر، فإذا ـ لا سمح الله ـ أصيب قام الآخر مقامه من دون تلبّث، أو انتظار وصول الخبر إلى علي «عليه السلام»، ونصب بديل عنه، لأن هذه البرهة من الفراغ في موقع القيادة قد تحصل فيها نكسة خطيرة.

وقد سبق إلى هذا التدبير رسول الله «صلى الله عليه وآله»، كما ظهر في حرب مؤتة، حيث جعل ثلاثة قادة للجيش، هم: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة «رحمهم الله تعالى».

ثانياً: إن الشخصيات التي اختارها «عليه السلام» هي الشخصيات الأولى في الأمة الإسلامية، وأهل السوابق المجيدة، وأهل الدين والرياسة، وأهل العقل والتدبير والحكمة والتجربة التي قد لا يجهلها أحد من المسلمين.

ثالثاً: إن النصوص التاريخية حتى لو لم تصرح لنا بشيء من ذلك، ولكننا نطمئن إلى أنه «عليه السلام» لم يؤمِّر عليهما أحداً، تماماً كما كان «صلى الله عليه وآله» يتعامل معه في أمثال هذه المواقف، فإن إمامتهما تجعلهما في موقع الآمر لغيرهما، لا في موقع المأمور إلا من إمام مثلهما. ولو أنه «عليه السلام» قد أمَّر عليهما أحداً، لرأيت مناوئي أهل البيت «عليهم السلام» يسارعون إلى اشتهار ذلك في وجه الشيعة الذين يستدلون عليهم في إمامة علي «عليه السلام»: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يؤمر عليه أحداً.

رابعاً: هناك نصوص تقول: إن الحسن والحسين «عليهما السلام» كانا على الميمنة والميسرة، فلاحظ ما يلي:

ألف: قال خليفة بن خياط: «قال أبو اليقظان: كانت راية علي مع ابنه محمد بن علي.

قال أبو عبيدة: على الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر.
وعلى الميمنة ـ وهم ربيعة البصرة والكوفة ـ: علباء بن الهيثم السدوسي، ويقال: عبد الله بن جعفر.

وعلى الميسرة ـ وهم مضر البصرة ومضر الكوفة ـ: الحسن بن علي.

قال: ويقال: على الميمنة الحسن، وعلى الميسرة الحسين بن علي.

ولواء طلحة والزبير مع عبد الله بن حكيم بن حزام.

وعلى الخيل طلحة بن عبيد الله، وعلى الرجالة عبد الله بن الزبير، وعلى الميمنة ـ وهي مضر ـ عبد الله بن عامر، ويقال: عبد الله بن الحارث.

وعلى الميسرة ـ وهم أهل اليمن ـ: مروان بن الحكم»([6]).

ب: وقال ابن عساكر: «أخبرنا أبو غالب الماوردي، أنبأنا محمد بن علي السيرافي، أنبأنا أحمد بن إسحاق، أنبأنا أحمد بن عمران، أنبأنا موسى بن زكريا، أنبأنا خليفة بن خياط قال: وقال أبو عبيدة: و [كان الأمير] على الميسرة ـ يعني [في] يوم الجمل ـ وهم مضر الكوفة ومضر البصرة ـ: الحسن بن علي. ويقال: على الميمنة الحسن بن علي»([7]).

ج: وروى ابن عساكر أيضاً «عن أبي غالب الماوردي، أنبأنا أبو الحسن السيرافي، أنبأنا أبو عبد الله النهاوندي، أنبأنا أحمد بن عمران بن موسى، أنبأنا موسى بن زكريا، أنبأنا خليفة بن خياط، قال في تسمية الأمراء يوم الجمل: قال: قال أبو عبيدة: و [كان] على الميسرة الحسين بن علي»([8]).

د: وهذا هو القاضي النعمان حيث قال: إنه «عليه السلام» أعطى الراية يوم الجمل لمحمد بن الحنفية، فقدمه بين يديه، وجعل الحسن «عليه السلام» في الميمنة، وجعل الحسين في الميسرة، ووقف خلف الراية على بغلة رسول الله «صلى الله عليه وآله»([9]).

وحسب نص المفيد «رحمه الله»: «فقال محمد بن الحنفية «رحمه الله» قال لي أمير المؤمنين «عليه السلام»: يا بني، تقدم باللواء، وصفَّ أصحابه، فجعل الحسن في الميمنة، والحسين في الميسرة، وكان في ميمنة أهل الجمل هلال بن وكيع، وفي ميسرتهم صبرة بن عثمان الخ..»([10]).

فالمقابلة بين ميمنة أهل الجمل وميسرتهم، وبين ميمنة علي «عليه السلام» وميسرته يدل على أنهم إنما يقصدون بجعل الحسن «عليه السلام» في الميمنة، وجعل الحسين «عليه السلام» في الميسرة هو جعلهما ندين لهما.

هـ: ويؤيد ما قلناه: أنه «عليه السلام» حين وروده البصرة كان الحسنان «عليهما السلام» في الكتيبة التي فيها أبوهما، وكان الإمام الحسن «عليه السلام» عن يمينه، والإمام الحسين «عليه السلام» عن شماله، ومحمد ابنه كان حامل الراية بين يديه([11]).

توزيع القبائل في الميدان:

قال ابن اعثم:

«وزحف علي «عليه السلام» حتى نزل قبالة القوم. فنزلت مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن.

 قال: فعرض علي «عليه السلام» من معه من أصحابه، وأعوانه، فكانوا عشرين ألفاً، والزبير في ثلاثين ألفاً»([12]).

ونقول:

إن ما ذكرناه في الفقرة السابقة يوضح لنا مغزى هذا الإجراء، الذي تكرر منه «عليه السلام» مرة أخرى في حرب صفين، كما سنرى إن شاء الله تعالى.. فإنه «عليه السلام» لا يريد أن يُقتل الناس، وإنما يريد قمع الفتنة، وإقامة الدين الذى تحيا به الأمم، بأقل قدر ممكن من الخسائر.

شاهدنا على ذلك: أنه عندما أمر المختار إبراهيم بن الأشتر أن يسير إما إلى مضر، أو إلى أهل اليمن، عاد فرجح له أن يسير إلى مضر.

قال الطبري: «فنظر المختار ـ وكان ذا رأي ـ فكره أن يسير إلى قومه، فلا يبالغ في قتالهم، فقال: سر إلى مضر بالكناسة الخ..»([13]).

فإذا كانت الحرب بين أفراد أو فئات القبيلة الواحدة؛ فلربما تكون أقل ضراوة من جهة، ولأن العاطفة النسبية، والقربى القبلية تسهل على الناس تناسي الأحقاد وتجاوزها، حيث يتهيأ الجو للعودة إلى الحياة الهادئة، والمحبة والتصافي بسرعة من جهة أخرى.

والشاهد على صحة ما نقول: أن قريشاً كانت تحقد على بني هاشم بسبب نكاية علي «عليه السلام» فيها، حتى إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يبكي على ما سيحل بأهل بيته بعده، نتيجة لتلك الأحقاد([14]).

كما أن قريشاً لم تنس ـ رغم طول العهد إلى عشرات السنين ـ جراحاتها من الأنصار أيضاً، ولم تأل وسعاً ولم تدخر جهداً في الثأر لنفسها.

مضر لمضر، وربيعة لربيعة:

قال الطبري:

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن البختري العبدي، عن أبيه، قال: كانت ربيعة مع علي يوم الجمل ثلث أهل الكوفة، ونصف الناس يوم الوقعة، كانت تعبيتهم مضر ومضر، وربيعة وربيعة، واليمن واليمن، فقال بنو صوحان: يا أمير المؤمنين، ائذن لنا نقف عن مضر، ففعل.

فأتى زيد فقيل له: ما يوقفك حيال الجمل، وبحيال مضر! الموت معك وبإزائك، فاعتزل إلينا.

فقال: الموت نريد.

فأصيبوا يومئذ، وأفلت صعصعة من بينهم([15]).

ونقول:

تضمن هذا النص أمران:

الأول: أنه «عليه السلام» جعل لمضر مضر، وربيعة لربيعة، واليمن لليمن..

وهذه أيضاً هي سياسته التي اعتمدها في صفين.

وقد قلنا: إن من جملة الفوائد والعوائد التي كان «عليه السلام» يتوخاها من هذا الإجراء، هو تقليل القتلى بين الفريقين، لأن الحرب بين أهل العشيرة الواحدة تكون عادة أقل حدة وشدة منها حين تكون بين عشائر لا رابطة بينها..

كما أن التيام الجراح بين الأهل والأقارب أسرع، وعلاجها أيسر وأنجع. يضاف إلى ذلك: أن شيوع الثارات بين القبائل المختلفة ـ والعربي لا يتساهل في قضية الدم ـ يجعل للعداوات امتدادات وتشعبات بسبب أخذ الثار من المذنب وغير المذنب..

الثاني: إن جواب زيد: «الموت نريد» قد عبر عن أمر واقعي يعيشه هذا الرجل في حبه للشهادة في سبيل الله واعتبارها فوزاً وفلاحاً، وسعادة ونجاحاً.. وقد نال ما تمنى «رضوان الله تعالى عليه».

كما أن هذا الجواب قد أبطل الأثر السلبي لتخويف الناس من مضر، وتثبيطهم عن الوصول إلى الجمل. وبيَّن أن أصحاب الجمل يقاتلون عن الجمل.. وأن أصحاب علي «عليه السلام» يطلبون الحياة بالموت، والبقاء بما يراه غيرهم فناء..

الرايات.. والرياسات:

قال الطبري:

حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن عمه محمد بن مخنف قال: حدثني عدة من أشياخ الحي كلهم شهدا الجمل، قالوا: كانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم، فقتل يومئذ.

فتناول الراية من أهل بيته الصقعب، وأخوه عبد الله بن سليم، فقتلوه.

فأخذها العلاء بن عروة، فكان الفتح وهي في يده.

وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن مسلم، فقتل وقتل معه زيد بن صوحان، وسيحان بن صوحان.

وأخذ الراية عدة منهم فقتلوا؛ منهم عبد الله بن رقية وراشد.

ثم أخذها منقذ بن النعمان، فدفعها إلى ابنه مرة بن منقذ، فانقضى الأمر وهي في يده.

وكانت راية بكر بن وائل من أهل الكوفة في بني ذهل، كانت مع الحارث بن حسان بن خوط الذهلي.

فقال أبو العرفاء الرقاشي: أبق على نفسك وقومك.

فأقدم وقال: يا معشر بكر بن وائل، إنه لم يكن أحد له من رسول الله «صلى الله عليه وآله» مثل منزلة صاحبكم، فانصروه، فأقدم فقتل، وقتل ابنه وقتل خمسة إخوة له، فقال له يومئذ بشر بن حسان بن خوط وهو يقاتل:

أنا ابن حسان بن خوط وأبي             رسول بكر كلها إلى النبي

وقال ابنه:

أنعى الرئيس الحارث بن حسان                لآل ذهل ولآل شيبان

وقال رجل من ذهل:

تنعى لنا خير امرئ من عدنان          عند الطعان ونزال الأقران

وقتل رجال من بني محدوج، وكانت الرياسة لهم من أهل الكوفة.

وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلاً، فقال رجل لأخيه وهو يقاتل: يا أخي، ما أحسن قتالنا إن كنا على حق!

قال: فإنَّا على الحق، إن الناس أخذوا يميناً وشمالاً، وإنما تمسكنا بأهل بيت نبينا، فقاتلا حتى قتلا.

وكانت رياسة عبد القيس من أهل البصرة ـ وكانوا مع علي ـ لعمرو بن مرحوم، ورياسة بكر بن وائل لشقيق بن ثور، والراية مع رشراشة مولاه.

ورياسة الأزد من أهل البصرة ـ وكانوا مع عائشة ـ لعبد الرحمن بن جشم بن أبي حنين الحمامي ـ فيما حدثني عامر بن حفص، ويقال: لصبرة بن شيمان الحداني ـ والراية مع عمرو بن الأشرف العتكي، فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلاً من أهل بيته([16]).

درع الرسول ورايته:

قالوا: «ودعا علي بدرع رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذات الفضول، فلبسها، فتدلت بطنه، فرفعها بيده، وقال لبعض أهله،[ابنه] فحزم وسطه بعمامة، وتقلد ذا الفقار، ودفع إلى ابنه محمد راية رسول الله «صلى الله عليه وآله» السوداء، وتعرف بالعقاب»([17]).

قال الشيخ المفيد «رحمه الله»:

ثم دعا بدرعه [وهي درع رسول الله «صلى الله عليه وآله» المسماة بذات الفضول([18])]، فلبسه، حتى إذا وقع موقعه من بطنه [فتدلت على بطنه] أمر ابنه محمداً أن يخرمها [يحزمها بعمامته].

ثم انتضى سيفه، فهزه حتى رضى به وغمده وتقلده؛ والناس على صفوفهم، وأصحاب الجمل قد دنوا.

فأمر أمير المؤمنين «عليه السلام» بتسوية الصفوف، حتى إذا اعتدلت دفع الراية [اللواء، وهي راية رسول الله «صلى الله عليه وآله» السوداء وتعرف بالعقاب([19])] إلى محمد بن الحنفية وقال:

تقدم بالراية، واعلم أن الراية إمام أصحابك، فكن متقدماً يلحقك من خلفك، فإن كان لمن يتقدم من أصحابك جولة رجع إليك.

وجعل «عليه السلام» الناس أثلاثاً: مضر في القلب، واليمن في الميمنة، وعليهم مالك الأشتر، وفي الميسرة عمار بن ياسر([20]).

قال القاضي النعمان: روينا عن علي «صلوات الله عليه»: أنه أعطى الراية يوم الجمل لمحمد ابن الحنفية، فقدمه بين يديه، وجعل الحسن في الميمنة، وجعل الحسين في الميسرة، ووقف خلف الراية على بغلة رسول الله «صلى الله عليه وآله»([21]).

وصف أصحاب الجمل صفوفهم فجعلوا على حنظلة هلال بن وكيع، وعلى بني عمرو وبني تميم عمير بن عبد الله بن مرقد، وعلى بني سعد زيد ابن جبلة بن مرداس، وعلى بني ضبة والرباب عمرو بن يثربي، وراية الأزد مع عمرو بن الأشرف العتكي([22]).

وقال في نص آخر: وصف أصحاب عائشة صفوفهم، وجاؤا بالجمل وعليه الهودج، وفيه عائشة، وخطامه في يد كعب بن سور، وقد تقلد بالمصحف، والأزد وبنو ضبة قد أحاطوا بالجمل، وعبد الله بن الزبير بين يدي عائشة، ومروان بن الحكم عن يمينها، والزبير يدبر العسكر، وطلحة على الفرسان، ومحمد بن طلحة على الرجالة([23]).

وروى الواقدي قال: حدثني عبد الله بن [الحارث بن] الفضيل، عن أبيه، عن محمد بن الحنفية قال: لما نزلنا البصرة وعسكرنا بها، وصففنا صفوفنا، دفع أبي علي «عليه السلام» إليَّ باللواء، وقال: لا تحدثن شيئاً حتى يحدث فيكم، ثم نام، فنالنا نبل القوم، فأفزعته ففزع وهو يمسح عينيه من النوم، وأصحاب الجمل يصيحون: يا لثارات عثمان!

فبرز «عليه السلام» وليس عليه إلا قميص واحد، ثم قال: تقدم باللواء.. فتقدمت وقلت: يا أبه في مثل هذا اليوم بقميص واحد؟!

فقال «عليه السلام»: «أحرز أمرأً أجله»؛ والله قاتلت مع النبي «صلى الله عليه وآله» وأنا حاسر أكثر مما قاتلت وأنا دارع».

ثم دنا كل من طلحة والزبير فكلمهما، ورجع وهو يقول: «يأبى القوم إلا القتال فقاتلوهم فقد بغوا».

ودعا بدرعه البتراء ولم يلبسها بعد النبي إلا يومئذ، فكان بين كتفيه منها وهن.

قال: فجاء أمير المؤمنين «عليه السلام» وفي يده شسع نعل.

فقال له ابن عباس: ما تريد بهذا الشسع يا أمير المؤمنين؟!

فقال «عليه السلام»: اربط بها ما قد توهى من هذا الدرع من خلفي.

فقال له ابن عباس: أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل هذا؟!

فقال «عليه السلام»: لم؟!

قال: أخاف عليك.

قال «عليه السلام»: «لا تخف أن أوتى من ورائي، والله يا ابن عباس ما وليت في زحف قط».

ثم قال له: البس يا ابن عباس. فلبس درعاً سعدية.

ثم تقدم إلى الميمنة فقال: «احملوا».

ثم إلى الميسرة، فقال: «احملوا».

وجعل يدفع في ظهري ويقول: «تقدم يا بني»، فجعلت أتقدم وكانت إياها حتى انهزموا من كل وجه([24]).

هذه راية لا ترد:

قال الواقدي: فأمهل حتى زالت الشمس وصلى ركعتين؛ ثم قال: ادعوا ابني.

فدعي له محمد بن الحنفية، فجاء، وهو يومئذ ابن تسع عشرة سنة، فوقف بين يديه ودعا بالراية ـ وهي راية رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ فنصبت، فحمد الله وأثنى عليه وقال:

يا بني «أما إن هذه الراية لم ترد قط ولا ترد أبداً، وإني واضعها اليوم في أهلها».

ودفعها إلى محمد وقال: «تقدم يا بني».

فلما رآه القوم قد أقبل والراية بين يديه تضعضعوا؛ فما هو إلا أن الناس التقوا ونظروا إلى غرة أمير المؤمنين «عليه السلام» ووجدوا مس السلاح فانهزموا([25]).

وحسب نص الشيخ المفيد «رحمه الله»:

قال محمد: فأخذتها والريح تهب عليها، فلما تمكنت من حملها صارت الريح على طلحة والزبير وأصحاب الجمل، فأردت أن أمشي بها، فقال أمير المؤمنين: «قف يا بني حتى آمرك»([26]).

وصايا علي لجيشه:

 ثم نادى:

«أيها الناس! لا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تهيجوا امرأة، ولا تمثلوا بقتيل»([27]).

فبينا هو يوصي أصحابه إذ أظلنا نبل القوم، فقتل رجل من أصحاب أمير المؤمنين «عليه السلام»، فلما رآه قتيلاً قال: «اللهم اشهد».

ثم رُمِيَ ابن عبد الله بن بديل فقتل، فحمله أبوه عبد الله ومعه عبد الله، بن العباس حتى وضعاه بين يدي أمير المؤمنين «عليه السلام».

فقال عبد الله بن بديل: حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلوننا رجلاً رجلاً؟! قد والله أعذرت إن كنت تريد الإعذار([28]).

رايتك قدمها:

ثم قال محمد بن الحنفية «رضي الله عنه»: فقال لي أمير المؤمنين «عليه السلام»: «رايتك يا بني قدمها».

وبعث في الميمنة والميسرة، ودعا بدرع رسول الله فلبسه، وحزم بطنه بعصابة أسفل من سرته.

ودعا ببغلته الشهباء، وهي بغلة رسول الله «صلى الله عليه وآله» فاستوى على ظهرها.

ووقف أمام صفوف أصحابه، فوقفت بين يديه باللواء، وهو منشور مستعد، فجاء قيس بن عبادة إلى أمير المؤمنين وقال:

هذا اللواء الذي كنا نحف به            مع النبي وجبريل لنا مددُ

ما ضر من كانت الأنصار عيبته                أن لا يكون له من غيرها أحدُ

قوم إذا حاربوا طالت أكفهم              بالمشرفية حتى يفتح البلدُ([29])

ونقول:

إننا قبل أن ندخل في التفاصيل نشير إلى بعض التوضيحات، فنقول:

إيضاحات سريعة:

1 ـ أحرز أمرءاً أجله.. يقال: هذا أصدق مثل ضربته العرب([30]). ويراد به أن الأجل المحتوم الذي كتبه الله في اللوح المحفوظ لا يتعداه الإنسان في أي حال من الأحوال، ولا يخرمه قتال، ولا إلقاء للنفس في المهالك.. فالنفس محفوظة إلى أن يأتي ذلك الأجل، فكأنَّ الأجل هو الحافظ للإنسان.

والذي يتبدل هو الأجل المخروم، وهو الذي يظهره الله في لوح المحو الإثبات، وهو الذي يجري وفق السنن.

ونحن نشك فيما زعمه الميداني من أن هذه الكلمة من أمثال العرب، فإنها لا تصدر إلا عن معدن الوحي، ومهبط الملائكة.

2 ـ شسع النعل: قبالها. وهو زمام بين الإصبع الوسطى والتي تليها.

3 ـ وهي يهي: ضعف واسترخى. وماتهي. أي ما استرخى رباطه. ويحتمل أن تكون الكلمة «ما توي من الدرع» أي ما هلك وتلاشى منها.

والوهي: الشق في الشيء، وقد وهى الثوب يهي وهياً إذا بلي وتخرق([31]).

4 ـ الحاسر: خلاف الدارع، وهو من لا مغفر له، ولا درع، ولا بيضة على رأسه([32]).

كفى بالأجل حارساً:

وقد يسأل البعض: عن فائدة لبس علي «عليه السلام» للدرع، وهو القائل: كفى بالأجل حارساً.

وتقدم قوله «عليه السلام» أيضاً: «أحرز أمرؤ أجله» ([33]).

ونجيب:

أولاً: إن لبس الدرع ليس دائماً لأجل التحرز من الموت، بل قد يكون لأجل أنها درع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهو وصيه ووارثه، فلبس الدرع يكون كركوب بغلة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ولبس عمامته، وما إلى ذلك.

وربما يكون لأجل توقي الجراح والألم، أو لأجل أن لله المشيئة دائماً وفي كل شيء حتى ما كان من المحتوم، وحضور الأجل لا يمنع من التوقي والتحرز، فإن قوله «عليه السلام»: «أحرز امرؤ أجله» عام وشامل لكل البشر. ومع ذلك يجب عليهم التحرز والتوقي. وسيأتي مزيد توضيح لهذا الأمر. وقد يكون لتوقي الجراح والآلام.

نوم علي في ساحة الحرب:

تقدم: كيف أن علياً «عليه السلام» قد نام في ساحة الحرب، ونزيد هنا:

1 ـ قال المسعودي: وقد كان أصحاب الجمل حملوا على ميمنة علي وميسرته فكشفوها، فأتاه بعض ولد عقيل وعليٌّ يَخْفِق نعاساً على قَرَبُوس سرجه، فقال له: يا عم، قد بلغت ميمنتك وميسرتك حيث ترى، وأنت تخفق نعاساً؟!

قال: اسكت يا ابن أخي، فإن لعمك يوماً لا يعدوه. والله ما يبالي عمك وقع على الموت أو وقع الموت عليه([34]).

2 ـ قال القاضي النعمان: قال ابن الحنفية: فدنا منا القوم ورشقونا بالنبل، وقتلوا رجلاً، فالتفت إليَّ أمير المؤمنين، فرأيته نائماً قد استثقل نوماً، فقلت: يا أمير المؤمنين، على مثل هذه الحال تنام؟! قد نضحونا بالنبل وقتلوا منا رجلاً، وقد هلك الناس.

فقال: لا أراك إلا تحن حنين العذراء، الراية راية رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فأخذها وهزها، وكانت الريح في وجوهنا، فانقلبت عليهم، فحسر عن ذراعيه، وشد عليهم، فضرب بسيفه حتى صُبِغ كُم قبائه، وانحنى سيفه([35]).

ونقول:

سيظهر عن قريب: أن هذا الذي جرى قد كان بعد إعطاء الراية لولده محمد، غير أننا نقول:

هل هذه من حكايات القصاصين؟!:

قد يظن ظانٌّ: أن هذه الروايات هي مجرد حكايات ينشئها القصاصون، ليستأثروا باهتمام الناس البسطاء والمغفلين، لكي تروج بضاعتهم عندهم، إذ لا يصدق أحد أن ينام قائد الجيش في مثل هذه اللحظات الحساسة، التي تفرض أن يكون القائد فيها في أعلى درجات اليقظة والإنتباه، ورصد كل ما يجري ليتخذ القرارات الصائبة، ويقوم بالمعالجات المناسبة.

غير أننا نقول:

إن من يقول هذا الكلام أو يفكر بهذه الطريقة، لا يعرف علياً «عليه السلام» في روحياته، وتوكله، وتسليمه لله، وفي يقينه بوعده سبحانه.

ولم يكن «عليه السلام» لتأخذه سنة النوم إلا حين يكون قد فرغ من تدبير جميع الشؤون، وأنجز كل المهام التي تحتاج إلى إنجاز ورصد للمفاجآت حلولها، وما يختلس منها تأثيرها السلبي، ويجعلها تتلاشى، كما يتلاشى موج البحر على الصخر الأصم.

غير أن هنا سؤالاً يحتاج إلى جواب، وهو: أن الرواية الأولى قد ذكرت أنه «عليه السلام» قد أجاب بعض ولد عقيل بما لا يتناسب مع السؤال الذي طرحه عليه، لأنه سأله عن المبرر الذي جعله ينام. والحال.. أن ميمنته تتعرض لحملات العدو. فأجابه «عليه السلام» بما يدل على أنه لا يخاف القتل.. مع أن المفروض هو أن يجيبه بما يدل على التدبير الذي وضعه لحفظ ميمنته وميسرته من الإندحار أو الهلاك.

فهل كان هذا جواب من لا يزال تحت تأثير سنة الكرى؟!.. أم ماذا؟!

ونجيب:

أولاً: بأنه «عليه السلام» كان يعلم: أن هزيمة ميمنته وميسرته، وهو نائم ستؤدي إلى وصولهم إليه، ووضع يدهم عليه، أو قتله قبل أن يستفيق من سباته، وقبل أن تزول عنه غفلته، ودهشته، وسيلهون عن غيره من الناس، لأنهم يكونون قد بلغوا بقتله «عليه السلام» أقصى أمانيهم.

فأجاب «عليه السلام»: بأن هذا الإفتراض الذي هو الأسوأ بالنسبة إليه بنظر الناس، له جوابان:

أولهما: إن هذه النتيجة لا تقدم ولا تؤخر في الأجل المحتوم المسجل في اللوح المحفوظ، فإن للإنسان يوماً لا يعدوه.. وبذلك يصبح نومه ويقظته سيان..

الثاني: إنه «عليه السلام» لا يعتبر أن لنفس موته وحياته أثراً في قراره ومساره، ويقظته ونومه.. ولأجل ذلك فهو لا يهتم أوقع على الموت؟! أم وقع الموت عليه؟! بل المؤثر في ذلك كله عنده هو رضا الله تعالى، وتكليفه الشرعي الذي يسأله الله تعالى عنه..

ثانياً: إن تدبيره لجيشه كان قد استنفد كل الإحتياطات اللازمة، وهو يعرف أن محاولات الأعداء ستبوء بالفشل، ولم يعد ليقظته ولا لمنامه أثراً في صيانة الجيش، ولا في التفريط به.

ثالثاً: إن الإمام كالنبي «صلى الله عليه وآله» في أنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، فهو يعرف ما يجري لجيشه ولغيره، حتى وهو نائم.. ولعل سبب عدم إفصاحه لسائله عن هذا الجواب، هو أنه يخشى أن يغلو بعض الناس فيه.

وهناك جواب رابع تضمنته الرواية الثانية.. وهو الآتي في الفقرة التالية.

الراية راية رسول الله :

وقد تضمنت الرواية الثانية أموراً يحسن التوقف عندها، وهي التالية:

1 ـ في الرواية جواب رابع عن السؤال المطروح آنفاً، وهو أنه «عليه السلام» يريد أن يفهمهم عملياً وعن حسٍّ، ومباشرةٍ: بأن عليهم أن يكونوا على درجة عالية من الإيمان بصدق ما وعدهم به الله ورسوله، فإن المفروض هو: أن هذه الراية التي رفعها هي راية رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد أخبرهم أن هذه الراية لا ترد.

2 ـ وهنا درس آخر، يتحفنا به أمير المؤمنين «عليه السلام»، وهو: أن العبرة بالنتائج النهائية للحرب، وهي مضمونة، فإذا أحرز الإنسان العمل وفق الضوابط، وأنجز تكليفه الشرعي، فإنه لا عبرة بعد بما يفصله عن تلك النهاية وعن نتائجها.

3 ـ وهذا التفسير يعني: أن هذا النوم قد حصل بعد أن سلم الراية لولده محمد، وأخبره أنها راية رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأنها لا ترد.

4 ـ ويبدو: أنه «عليه السلام» قد نام في الميدان عدة مرات، وقد أيقظه ابنه تارة، وأيقظه أحد أبناء عقيل أخرى، وجرت محاورة بينه وبين كل واحد منهما اختلفت مضامينها، كما رأينا.

قتل ابن بديل:

وذكر المسعودي: أن أخاً لعبد الله بن بديل رُمِي بسهم، فقتل قبل بدء القتال، فجاء عبد الله بأخيه إلى علي «عليه السلام»([36]).

ويقال: إن اسم القتيل هو: عبد الرحمان بن بديل. وذكر بعضهم: أن عبد الرحمن هذا قد قتل في صفين([37]).

لكن اليعقوبي يقول: «فرمى رجل من عسكر القوم بسهم، فقتل رجلاً من أصحاب أمير المؤمنين، فأتي به إليه، فقال: اللهم اشهد.

ثم رمى آخر، فقتل رجلاً من أصحاب علي، فقال: اللهم فاشهد.

ثم رمى رجل آخر، فأصاب عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، فقتله، فأتى به أخوه عبد الرحمان يحمله، فقال علي: اللهم اشهد. ثم كانت الحرب»([38]).

وما ذكره المسعودي هو الصحيح، فإن عبد الله بن بديل قتل في صفين، وكان أحد القادة فيها لا في حرب الجمل. وسيأتي الحديث عن ذلك إن شاء الله تعالى.

وقد صرح المفيد «رحمه الله»: بأن المقتول هو ابن ـ وليس أخ ـ عبد الله بن بديل([39]).

والظاهر: أن قول المفيد «رحمه الله» هو الصحيح.

الدرع، والراية، والبغلة لرسول الله :

وقد لاحظنا: أن النصوص المتقدمة تقول: إنه «عليه السلام» قد لبس درع الرسول المعروفة بذات الفضول، وهي درع موشحة بالنحاس، أهداها إليه سعد بن عبادة([40])، وكان «عليه السلام» يرفع راية رسول الله «صلى الله عليه وآله» المسماة بالعقاب، ويركب بغلة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهي دلدل الشهباء المعروفة، وقد عاشت دهراً طويلاً.

ويفهم من سياق الكلام: أن هذه الأمور كانت معروفة لدى الناس، وأنهم كانوا يتعرفون عليها، ويتفاعلون معها بمجرد رؤيتها، وأنها كانت عند أمير المؤمنين «عليه السلام». ولعل فيها علامات فارقة تعرف بها.. رغم مرور أكثر من ربع قرن على استشهاد رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ومن هذه العلامات: توشيح الدرع بالنحاس، وكون البغلة شهباء، يقال: إنها أول بغلة ركبت (رئيت) في الإسلام([41]). أول بغلة تدخل الحجاز([42]). وكذلك الحال بالنسبة للراية المسماة بالعقاب.

إرث النبي عند علي :

ونستطيع أن نفهم من ذلك: أنه «عليه السلام» يريد أن يذكرهم بمنزلته من رسول الله «صلى الله عليه وآله».. وأنه وصيه، ووارثه. وهذا يشير إلى:

أولاً: صحة ما يقوله الشيعة «رضوان الله تعالى عليهم»: من أن العباس، وإن كان عم النبي «صلى الله عليه وآله»، وكان علي «عليه السلام» ابن عمه، ولكن علياً «عليه السلام» أقرب إلى الرسول «صلى الله عليه وآله» منه، لأن ابن العم من الأب والأم أقرب من العم للأب فقط.

وفي جميع الأحوال نقول:

إن كانت البنت ترث مع وجود العم، فمعنى ذلك: أن العم هنا لم يرث أيضاً، لأنه عم النبي «صلى الله عليه وآله» من قبل الأب فقط.

أما علي «عليه السلام»، فهو ابن عم النبي «صلى الله عليه وآله» لأبيه وأمه، فهو أولى بالإرث من العباس الذي هو عم النبي «صلى الله عليه وآله» لأبيه فقط.

وإن كانت البنت ترث، وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه بنص القرآن، وقد ورثت الزهراء «عليها السلام» أباها، فيكون اختصاص علي «عليه السلام» وولده بهذه الأمور لأجل وراثة الزهراء «عليها السلام» لأبيها.

إذن.. لا بد أن نسأل: لماذا منع أبو بكر الزهراء «عليها السلام» حين طالبته بإرثها فدكاً وغيرها من الأراضي، كأراضي مخيريق وسواها بعد أن منعها إياها باعتبارها نحلة لها من أبيها؟!

وكيف قال لها أنه سمع النبي «صلى الله عليه وآله» يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.

على أن قوله: ما تركناه صدقة لو صح لوجب أن يمنع العم وهو العباس من الإرث أيضاً. فما معنى ادعاء بني العباس أنه هو وارث الرسول «صلى الله عليه وآله» دونها، حتى قال شاعرهم:

أنى يكون وليس ذاك بكائن              لبني البنات وراثة الأعمام

وقال آخر:

لكم رحم يا بني بنته                       ولكن بنو العم أولى بها

ثانياً: يريد «عليه السلام» أيضاً أن يعرفهم أن الآخرين بمن فيهم طلحة والزبير، وحتى عائشة ليست لهم هذه المنزلة التي كانت لعلي «عليه السلام» من رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ثالثاً: إن اختياره ما يختص برسول الله «صلى الله عليه وآله» معناه: أنه «عليه السلام» يريد أن يفهمهم: أنهم حين يحاربونه فكأنهم يحاربون رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فرايته ـ وهي رمز الحرب ـ راية الرسول «صلى الله عليه وآله»، ودرعه هو درع الرسول، وبغلة رسول الله «صلى الله عليه وآله» هي التي تنقله من مكان إلى مكان.

وهذا جانب إيحائي قوي يلامس الوجدان والمشاعر بعد أن لامست الحجة الفكر والعقل، واستأثر لها فانقضت عليه الطموحات الشيطانية، وصادرت أحكامه، وأقامت أحكام الهوى مقامه.

الدرع التي قصرها ابن الحنفية:

روى أبو العباس المبرد: أنه جيء بدرع إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» في حرب الجمل، فاستطالها، فطلب من ولده محمد أن يقصرها، فأخذها وجمعها بكلتا يديه، وجذبها، فقطع الزائد من الموضع الذي حده له أبوه([43]).

قالوا: فأصابته عين بسبب ذلك، فخرج بيده خراج، وعطل يده([44]).

ويؤيد ذلك: ما ذكره ابن نما الحلي، من أنه أصابت محمداً قروح من عين نظرت إليه، فلم يتمكن من الخروج مع الإمام الحسين «عليه السلام» إلى كربلاء([45]).

ولا نرى أن هذه الدرع التي قصرها هي الدرع المسماة بذات الفضول، وهي درع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، لأنه «عليه السلام» لا يتصرف بآثار النبي «صلى الله عليه وآله» بهذه الطريقة. وقد صرحت الروايات المتقدمة: بأنه لبسها، فتدلت على بطنه، فأمر ولده محمداً أن يحزمها بعمامة.

وربما تكون عبارة المبرد تشير إلى ذلك، فإنها ذكرت كلمة درع منكرة، ولو أنها كانت هي الدرع المعروفة باسمها، وبنسبتها لذكرها باسمها، ولكان قد نسبها إلى رسول الله«صلى الله عليه وآله».

والذي يبدو لنا: أنه «عليه السلام» كان يلبس في الحرب أدراعاً مختلفة، بحسب الأوقات، والظروف المختلفة.

فقد ذكرت بعض النصوص المتقدمة: أنه لبس في حرب الجمل درعاً أخرى كانت لرسول الله «صلى الله عليه وآله» أيضاً، وهي المسماة بالبتراء لقصرها([46]).

كما ويظهر من بعض النصوص: أنه «عليه السلام» لبس الدرع السغدية (بالغين المعجمة أو بالعين المهملة) نسبة إلى بلد تعمل فيه الدروع([47]). وقيل: هي درع داود «عليه السلام».

فلعل هذه الدرع التي قصرها ابنه محمد هي درع رابعة جيء بها إليه ليلبسها أيضاً في بعض أوقات الحرب.. وربما جيء بها إليه ليعطيها لمن يختاره من المقاتلين من أصحابه.

هز سيفه حتى رضيه:

وقد ذكر النص المتقدم: أنه «عليه السلام» حين انتضى سيفه، هزه حتى رضيه. ونحن لا نعرف الكثير عن خصوصيات السيوف التي تجعل لبعضها أرجحية على البعض الآخر، ولعله «عليه السلام» قد هز السيف ليرى مدى جودة الحديد في صلابته وفي لدونته، وفي سلامته من العاهات فلا يكون صدئاً، ولا فلول فيه، ولا ضعف في بعض مواضعه، بل هو متماسك القبضة، حديد الضربة، صقيلا، وماضياً، ولدناً، ينعطف ولا ينكسر، وما إلى ذلك..

وهذا يعطي درساً للمقاتلين، مفاده: ضرورة تفقد سلاحهم، وتعاهده، وإصلاحه، والتأكد من سلامته، وإعداده، ورفع نقائصه..

فرق للهجوم:

قال «عليه السلام»: إن هناك جماعات يتقدمون راية الجيش، وتكون لهم جولة على العدو، فهم بمثابة فرق هجوم، تضرب العدو، ثم ترجع إلى نقطة الإرتكاز حيث تكون الراية..

وهناك جماعات يتأخرون عن الراية، وليس لهم أن يتقدموا عليها. بل تكون هي منتهى حركتهم وغايتها.. وربما تبادلوا الأدوار والمهمات.

موقع راية الجيش وأهميتها:

إن التوجيه الذي أصدره «عليه السلام» فيما يرتبط بالراية وموقعها يدلنا على أهمية الراية، وأنها رمز النصر والهزيمة، وهي بمثابة نقطة ارتكاز، ومحور تحركات للمقاتلين، فمنها ينطلقون وإليها يعودون.. وهي محط أنظارهم، وصمام الأمان للجيش كله..

وفي هذا التوجيه أيضاً دلالة على ضرورة أن يعرف كل مقاتل موقعه في المعركة، ويعرف مسار الحرب، ولو بنحو إجمالي، ويعرف موقعه من عدوه وموقعه في المنظومة العامة التي هو جزء منها، فلا يُترك حائراً لا يعرف ما يجري له أو عليه.

ويفترض أيضاً: أن يكون المقاتلون على اطلاع دائم بالحال التي تجري عليها الأمور في مسارها العام، وفي تطوراتها وتحولاتها، ليعرفوا كيف يتحركون، وكيف يتعاملون مع الأوضاع المستجدة، ولكي لا تهاجمهم الوساوس والأوهام، ولا يفاجأوا بما لم يكن لهم بالحسبان..

فإن لهذه المعرفة أثراً هاماً في بعث الطمأنينة والسكينة في نفوسهم، ومن ثم في حركتهم وفعاليتهم.

كما أن ذلك يسهل عليهم حركتهم ومعرفة حدودها ومداها، ويسهل على القيادة، وعلى إخوانهم التواصل معهم، ثم هو يمكِّن القيادة من معرفة مسار الأمور، وتنفيذ خطتها، وضبط إيقاع الحرب، ومسيرها وفق الخطة المرسومة لها.. ويسهل عليها اتخاذ القرارات المناسبة حين يقتضي الأمر ذلك..

ابن سور يتقلد المصحف:

وفي النص المتقدم: إن كعب بن سور كان آخذاً بخطام جمل عائشة، متقلداً المصحف..

ونقول:

ليس المهم حمل المصحف ولا حمل سوره، أو قراءة آياته.. بل المهم هو وعي مضامينه، وفهم تعاليمه، والإلتزام والعمل بها.. ولو أن كعب بن سور هذا كان قد قرأ القرآن، لعرف أنه يأخذ بخطام جمل يحمل امرأة أمرها القرآن بالقرار في بيتها، فقال: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾..

وقد عرف كعب بن سور ذلك بلا ريب، ولا شك في أن استدلال علي «عليه السلام» وأصحابه بهذه الآية قد بلغ مسامع أصحاب الجمل كرات ومرات، ولكن كعب بن سور يكرم عائشة في عمل قد نهاها عنه القرآن الذي يحمله.

كما أن هذا القرآن قد أمر الناس بالوفاء ببيعتهم، وبأن لا يدخلوا في الفتنة، وأن لا يعبثوا بنظام الأمة، وحرم على المسلمين أن يبغوا على إمامهم.. وحرم عليهم مقاتلة بعضهم بعضاً..

وحرم أيضاً على الناس أن يقترفوا خطيئة، أو إثماً ثم يرمون به بريئاً، واعتبر ذلك بهتاناً وإثماً مبيناً.. وهذا ما فعله قادة الناكثين.. ولكن كعب بن سور، حامل القرآن لم يتنبه إلى ذلك، أو لم يلتفت إليه، وهو الأصح والأظهر، فجاء ليقود جملاً يحمل امرأة تعين جماعة فعلوا ذلك بعينه..

الراية هي الرمز:

وقد لاحظنا: أنه «عليه السلام» قد أعطى للراية رمزية فائقة.. من حيث انتسابها إلى رسول «صلى الله عليه وآله»..

ولرايته «صلى الله عليه وآله» خصوصيتان:

إحداهما: أنها راية هداية وإيمان، وصلاح، كما أنها بانتسابها هذا تصير لها قداسة وحرمة لا بد من رعايتها، وتحتم على الناس التعامل معها بمنتهى الدقة والحساسية، وأن يحوطوها بقلوبهم، ويحموها بمهجهم، ويدفعوا عنها بكل وجودهم..

الثانية: أنها راية لا ترد، فهي رمز النصر والتقدم والفلج، ولا بد من خوض اللجج، وبذل المهج في هذا السبيل.. وهذا الشعور يعطي الثقة بها، ويؤكد الرضا بتحمل كل عناء، والصبر على كل بلاء.. حيث تصبح القيمة معنوية وروحية بالدرجة الأولى، ويصبح للموت قيمة كما للنصر الميداني قيمة، لأن الموت يصبح شهادة وحياة وسعادة، وفلاحاً ونجاحاً، وله لذته وقيمته ومعناه كما للنصر الميداني لذته وقيمته ومعناه..

للراية أهلها:

ولراية الجيش أهلها.. وهم الشجعان الأكفاء.. ولراية رسول الله «صلى الله عليه وآله» أهلها أيضاً، وهم خصوص الشجعان الأكفاء الذين يمتازون بالإيمان والطهر، والإخلاص، في درجاته العليا..

فإن الشجاعة تعني: الشعور بالثقة وبالقدرة على إيراد الضربة بالعدو. فإذا فُقد هذا الشعور زالت الشجاعة.. ولكن حامل راية رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا يعتمد في إقدامه على هذا الشعور، بل يعتمد على إيمانه وإخلاصه، وثقته بعدالة قضيته، وإيمانه بأن الله يوفيه حسابه مات أو عاش.. فلا يرى للشعور بالقوة الجسدية أو التميز على العدو بالمميزات المادية أثراً ذا بال في دعوته إلى خوض غمار التحدي وفي التصدي لأعداء الله.. بل هناك معانٍ أخرى تدعوه إلى ذلك وتحتمه عليه..

ولعل هذا هو ما أشار إليه أمير المؤمنين «عليه السلام» بقوله: «وإني واضعها اليوم في أهلها»..

ادعوا لي ابني:

وقد لاحظنا: أنه «عليه السلام» يقول: «ادعوا لي ابني»، ويخاطب ولده بقوله: «تقدم يا بني». ولعل هذا التعبير كان أكثر من مجرد إرادة الإشادة للشخص، وغير مجرد الخطاب العفوي والساذج.. وربما كان من جملة ما أراد «عليه السلام» الإيحاء به:

1 ـ أنه «عليه السلام» بجعله ولده الشاب الذي لم يصل عمره إلى عشرين سنة في نحور الأعداء، وجعله قائداً، ومسؤولاً عن أكثر الأمور حساسية، بإعطائه راية الجيش كله، ليكون هو المستهدف أكثر من أي شخص آخر، حيث تكون همة جميع الأعداء متمركزة عليه، وتريد قتله، وإسقاط اللواء من يده ـ إن ذلك ـ يدل على أن أباه يريد أن يضحي بنفسه وبأعز الناس عنده دفاعاً عن الناس وعن قضاياهم الكبرى. ولا يريد أن يضحي بالناس دفاعاً عن نفسه وعن أبنائه.

2 ـ إنه يريد أن يعطي لولده الدور الذي يستحقه، وأن تكون الراية في أهلها الحقيقيين ولا يبخسها حقها.. وابن الحنفية أهل لها.

الحسنان والراية:

قال المعتزلي: «ودفع إلى ابنه محمد راية رسول الله «صلى الله عليه وآله» السوداء، وتعرف بالعقاب، وقال لحسن وحسين «عليهما السلام»: إنما دفعت الراية إلى أخيكما. وتركتكما لمكانكما من رسول الله «صلى الله عليه وآله»([48]).

فدلنا «عليه السلام» بذلك على أنه لا يريد أن يجعل للإمامين الحسنين «عليهما السلام» موقعاً في قيادة الجيش، مهما كان رفيعاً، لأن ذلك يعطي الإنطباع بأنهما «عليهما السلام» مثل سائر القادة في الصفات والميزات والمؤهلات. مع أنهما لا يقاس بهما أحد من الخلق، ولا يدانيهما في الكمالات والميزات أحد.

وقد اختصر «عليه السلام» هذا الموضوع بقوله: لأنكما من رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فإن هذه المكانة المميزة منه «صلى الله عليه وآله» ليست هي بنوتهما له وحسب، بل هي لخصوصية الإمامة فيهما «عليهما الصلاة والسلام».

عائشة هي المحور:

وقد وصف لنا النص المتقدم كيفية مجيء عائشة، وكيف كان أحد زعماء الحرب، وهو كعب بن سور آخذاً بخطام جملها، وعبد الله بن الزبير بين يديها، ومروان عن يمينها..

وهذه الصورة وحدها، فضلاً عن الكثير الكثير مما عداها تكفي للدلالة على أن عائشة هي المحور والأساس لجيش الناكثين، وأما طلحة والزبير فكانا يديران العسكر، ويتولان قيادته..

فما معنى أن تدعي هي أو يدعي لها أنصارها أنها جاءت لتصلح بين الفريقين؟!

ولو صح ذلك، فلا بد من الإجابة على سؤال: لماذا يأتي هذا المصلح مع خصوص هذا الفريق؟! ويكون قادته هم حماتها؟! وتكون هي وجملها راية لعسكرهم..

كن مهاجماً:

وحين لا بد من الحرب، ويتمادى العدو في بغيه وطغيانه، ولا تنفع سائر الوسائل في دفع شره، وقد باشر العدوان، على أهل الحق فعلاً.. فليس معنى أن علياً لا يبدأ عدوه بالقتال هو ترك العدو يصول ويجول، ويسدد الضربة تلو الأخرى، ويبقى أهل الحق في موقع المدافع والمتلقي للضربات.. بل لا بد من مباغتته بمجرد عدوانه وبدئه بالقتال بالهجوم الساحق والماحق، الذي لا يدع له فرصة للتفكير بغير الهزيمة، والنجاة بنفسه..

بل إن علياً «عليه السلام» يقدم نموذجاً فريداً هنا، حيث أرعب الأعداء بمجرد إقبال حامل رايته نحوهم، فقد قال النص السابق: «فلما رآه القوم قد أقبل والراية بين يديه تضعضعوا، فما هو إلا أن الناس التقوا، ونظروا إلى غرة أمير المؤمنين، ووجدوا مس السلاح، فانهزموا..».

وهذا يعطي: أن الناجح هو من يدافع عن نفسه بالمبادرة للهجوم بمجرد حصول الإعتداء عليه، فيبادر إلى الهجوم القوي الذي يرعب العدو، ويذهله بنتائجه السريعة.

وسبب ذلك هو: أن ميل العدو إلى العدوان ومباشرته له يوحي له بالأمن، فإذا واجهه الهجوم المباشر، فإنه يربكه، ويذهب عنه وهم القوة، ليحل محله الشعور بالعجز والضعف فتقع الهزيمة عليه..

الريح والنصر:

وللريح أثرها على العدو، فإن المقاتل الذي يواجه الريح يجد نفسه عرضة لإنفعالات تتناسب مع لمسات الريح له، في وجهه وسائر أعضائه. وتستأثر هذه المشاعر بقسط من إدراكه، الذي يفترض أن يمحضه كله للجهد الحربي، وألا يفرط بأدنى ذرة منه، ولا سيما في لحظات مواجهته لهجوم العدو..

فكان أمير المؤمنين «عليه السلام» يهتم بهذه الخصوصية، وقد جاء اللطف الإلهي ليلبي هذا التوقع والرغبة، وليعطي للناس إشارة أخرى إلى هذا اللطف الغامر لهم، وذلك الرضا الذي هو أغلى أمنياتهم وأسناها.. وليربط بذلك على قلوبهم، ويزيدهم يقيناً، والتزاماً، وسعادة بالهدى الذي هم عليه..

قف حتى آمرك:

وحين سلم «عليه السلام» الراية لولده محمد، تحرك محمد بالراية نحو العدو، وإذ به «عليه السلام» يقول له: قف يا بني حتى آمرك.. فدل بذلك على أن المطلوب في الحرب:

أولاً: الإنضباط وعدم التصرف، إلا وفق الأصول، وبالتنسيق التام مع الفريق العامل..

ثانياً: لزوم أن تكون الأوامر صريحة وواضحة، ولا يصح الإعتماد على الإيحاءات، أو الاجتهاد في فهم المفردات..

ثالثاً: لزوم رعاية التراتبية في المسؤولية والطاعة، فلا يتصرف إلا من خلال الأمر الصادر من القيادة المخولة إصدار الأمر في ذلك المورد بخصوصه..

توجيهات للمقاتلين:

وتوجيهات القائد لجيشه قد تكون خاصة بالأداء الحربي، وأساليب الحرب، والإنضباط، وعلاقات الأفراد ببعضهم بعضاً، وبغير ذلك من أمور خاصة بهم..

وقد تكون ناظرة لطريقة التعامل مع العدو في حالاته المختلفة..

وقد يكون الهدف منها هو التعبئة الروحية، والشحن النفسي. وغير ذلك من مجالات ومقاصد مختلفة..

وما أوصاهم به «عليه السلام» هنا ناظر إلى طريقة تعاملهم مع عدوهم في ساحة القتال..

ويلاحظ: أن التوجيهات التي أصدرها تصب كلها في خانة تعامل المنتصر مع المهزوم والمندحر.. ثقة منه بالنصر، إلى الحد الذي لا يجيز لنفسه أن تتوهم للعدو أي خيار سوى الهزيمة، وذلك يزيد في تصميم قواته على المواجهة، ويكسر شوكة عدوه.

ولكنه «عليه السلام» لم يطلق العنان، ولم يعط الخيار لجنوده في التعامل مع أعدائهم، بل حد لهم حدوداً وقيدهم بقيود خمسة سنذكرها إن شاء الله، جاءت كلها ذات طابع رحيم، لأن منطلقها هو التكرم والتفضل، اتباعاً منه لسياسة رسول الله «صلى الله عليه وآله».

لأنه «عليه السلام» قد لاحظ واقع الأمة، وعرف أن ما حصل في السقيفة قد غيَّر مسار الأمور، وأن السياسات التي انتهجها المستولون على الخلافة قد أنتجت أموراً، وأوجدت نتوءات، وتشوهات عميقة وخطيرة في البنية الفكرية والإعتقادية وفي الأرواح والنفوس والقلوب والطموحات، والأهواء، والميول والعلاقات، وسيكون لها الكثير من الآثار السلبية على المسار العام.

وقد أخبره رسول الله «صلى الله عليه وآله» بهذا التغير، ولمس هو بنفسه أن أموراً ستحصل، وأن أقواماً وأشخاصاً سوف ينتزون على منبر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويتحكمون بالأمة. وسيمارسون سياسات لا يرضاها الله سبحانه ولا رسوله «صلى الله عليه وآله».

فاقتضت مصلحة الدين والأمة انتهاج سياسة مع هؤلاء تمنع أعقابهم من الإيغال في التشفي والإنتقام من أهل الإيمان، ومن الدين، وأنصار الدين والحق، وتحد من غلوائهم في ذلك قدر الإمكان..

فكانت سياسة المن والكف عن أسلافهم هي أحدى الوسائل التي استفاد منها «عليه السلام» مع الأعقاب كما استفاد رسول الله «صلى الله عليه وآله» مع أسلافهم المشركين من قبل..

ولأجل ذلك أمر أمير المؤمنين «عليه السلام» جيشه:

1 ـ أن لا يقتلوا مدبراً، لأنه يكفي في إخماد الفتنة تفريق جندها وأهلها..

2 ـ أن لا يجهزوا على جريح، فإن الجريح وإن كان لا يزال في ساحة الحرب أو قريباً منها، ولكنه بحكم الخارج عنها..

3 ـ أن لا يكشفوا عورة، فإن الدخول إلى المواضع المستورة كالبيوت، والحظائر، يكون إما بحثاً عن الذين يختفون فيها، أو طمعاً في انتهاب مال، أو العدوان على عرض، وهو غير جائز لأحد..

4 ـ أن لا يهيجوا امرأة..

5 ـ أن لا يمثلوا بقتيل.

ولسنا بحاجة إلى التذكير: بأنه بالرغم من أن علياً «عليه السلام» لم يهج امرأة، ولم يرض بأن يفعل ذلك أحد من جيشه، لا في الجمل، ولا في صفين، ولا في النهروان.

وبالرغم من أنه لم يكشف عورة، ولا أجهز على جريح، ولا مثل بقتيل..

نعم.. بالرغم من ذلك كله، فإن بني أمية قد هجموا على أخبية الإمام الحسين «عليه السلام»، وانتهبوها، وسبوا النساء، وهتكوا ستورهن، وأبدوا وجوههن، وقتلوا الأطفال، وداسوهم بحوافر الخيل، وقتلوا الرجال وبعض النساء، وقطعوا الرؤوس، ورضوا الصدور بحوافر الخيل، وقطعوا بعضهم بسيوفهم إرباً إرباً، وأجهزوا على الجرحى، وفعلوا الأفاعيل بالإمام الحسين «عليه السلام» وأصحابه، وأهل بيته، وإخوته وأبنائهم في خطب جلل، وجريمة عظيمة وهائلة وجسيمة.

فكان حال الإمام «عليه السلام» وحالهم كما قال الشاعر:

ملكنا فكان العفو منا سجية                      فلما ملكتم سال بالدم أبطح

من كانت الأنصار عيبته:

وقد لفت نظرنا قول قيس بن سعد بن عبادة «رحمه الله» هنا:

ما ضر من كانت الأنصار عيبته                أن لا يكون له من غيرها أحد..

فهذا الشعر يدل على كثرة من كان من الأنصار «رحمهم الله» مع أمير المؤمنين «عليه السلام» في حرب الجمل.. وهو يكذِّب ما يدعيه البعض، من أنه لم يحضر الجمل سوى طلحة والزبير في جانب، وعلي وعمار في جانب..

وقد أشرنا إلى ما يدل على كذب هذا الزعم بصورة تفصيلية في فصل سابق.. غير أننا لا ندري لماذا لم يذكر هذا الزاعم عائشة بنت أبي بكر؟! فإنها كانت على جملها مع الناكثين في قلب المعركة، وكان جملها علم أهل ذلك المعسكر.. وهي التي كانت تقرر وتدبر، وتأمر وتنهى وتتصرف.


 

([1]) راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص258.

([2]) مناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص339 وبحار الأنوار ج32 ص172 عنه، وأنساب الأشراف ترجمة علي «عليه السلام» (بتحقيق المحمودي) ج2 ص239.

([3]) راجع المصادر في الهامش السابق، وبحار الأنوار ج32 ص172 و 173.

([4]) راجع: كشف الغمة ج1 ص240 و 241 وبحار الأنوار ج32 ص189.

([5]) مناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص339 وبحار الأنوار ج32 ص172 عنه، وأنساب الأشراف ترجمة علي «عليه السلام» (بتحقيق المحمودي) ج2 ص239.

([6]) تاريخ خليفة بن خياط ص138.

([7]) ترجمة الإمام الحسن «عليه السلام» لابن عساكر ص170.

([8]) ترجمة الإمام الحسين «عليه السلام» لابن عساكر ص235 وتاريخ مدينة دمشق ج14 ص187.

([9]) دعائم الإسلام ج1 ص393 وراجع: جواهر الكلام ج21 ص327 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب للريشهري ج5 ص230.

([10]) الجمل للشيخ المفيد ص348 و (ط مكتبة الداوري) ص186.

([11]) مروج الذهب ج2 ص360 و 361 وكتاب الجمل لابن شدقم ص125 والدرجات الرفيعة ص40 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص30.

([12]) الفتوح لابن أعثم ج2 ص299 و (ط دار الأضواء) ج2 ص464.

([13]) تاريخ الأمم والملوك (ط الأعلمي) ج4 ص521.

([14]) راجع: الأمالي للصدوق ص102 وفرائد السمطين ج2 ص36 وراجع: بحار الأنوار ج28 ص37 و 38 و 41 و 51 و 81 وج43 ص172 و 156 والعوالم ص216 و 217 و 218 وكشف الغمة ج2 ص36 ومسند أبي يعلى ج1 ص427 ومجمع الزوائد ج9 ص118 ومستدرك الحاكم ج3 ص139 والمطالب العالية (ط دار المعرفة) ج4 ص61 وأنساب الأشراف للبلاذري.

([15]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص528 و (ط الأعلمي) ج3 ص534 و 535 والفتنة ووقعة الجمل ص167 وتاريخ مدينة دمشق ج19 ص442.

([16]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص521 و 522 و (ط الأعلمي) ج3 ص529 و 530 وراجع: الكامل في التاريخ ج3 ص251 و 252 وإمتاع الأسماع ج13 ص247.

([17]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص410 و (نشر مؤسسة إسماعيليان) ج9 ص111 وراجع: أنساب الأشراف، ترجمة علي «عليه السلام» (بتحقيق المحمودي) ص239 وأعيان الشيعة ج1 ص457.

([18]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص410 و (نشر مؤسسة إسماعيليان) ج9 ص111 وأنساب الأشراف ترجمة علي «عليه السلام» (بتحقيق المحمودي) ص239 وأعيان الشيعة ج1 ص457. وراجع: الأمالي للصدوق ص130 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص179 والكافي ج1 ص234 و 231 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج3 ص511 و 512 و (الإسلامية) ج2 ص1087 و 1088 ومستدرك الوسائل ج2 ص599 وبحار الأنوار ج16 ص99 و 124 و 127 وج25 ص120 وج26 ص207 و 212وج63 ص536 و 537 وسنن النبي للطباطبائي ص175 ومسند محمد بن قيس البجلي ص19 ومجمع الزوائد ج5 ص272 وتركة النبي للبغدادي ص101 و 103 والمعجم الكبير ج11 ص92 والجامع الصغير ج2 ص356 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج7 ص96 والطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص487 وتاريخ مدينة دمشق ج4 ص216 و 218 و 222.

([19]) الجمل ص359 و 360 و (ط مكتبة الداوري) ص191 وراجع: أنساب الأشراف ترجمة علي «عليه السلام» (بتحقيق المحمودي) ص239 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص111 وأعيان الشيعة ج1 ص457.

([20]) الجمل للجمل ص359 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص191 وراجع: أنساب الأشراف، ترجمة علي «عليه السلام» (بتحقيق المحمودي) ص239 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص71 و (تحقيق الشيري) ج1 ص96.

([21]) دعائم الإسلام ج1 ص393 وجواهر الكلام ج21 ص327 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص230.

([22]) الجمل ص359 و 360 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص191 وراجع: أنساب الأشراف ترجمة علي «عليه السلام» (بتحقيق المحمودي) ص239.

([23]) الجمل ص343 و (ط مكتبة الداوري) ص183.

([24]) الجمل ص355 و 356 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص189 وقال في هامشه: قارن بأنساب الأشراف ج2 ص231 وراجع: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص229 ونهج السعادة ج1 ص310 عن الجمل.

([25]) الجمل ص356 و (ط مكتبة الداوري) ص190.

([26]) الجمل ص341 و (ط مكتبة الداوري) ص182.

([27]) الجمل للمفيد ص341 و (ط مكتبة الداوري) ص182 وفي هامشه عن: الإمامة والسياسة ج1 ص77 وأنساب الأشراف ص262 والأخبار الطوال ص151 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص183 والعقد الفريد ج4 ص324 ومروج الذهب ج2 ص371 وشرح الأخبار ج1 ص395 وأمالي المفيد ص24 و 59 وتجارب الأمم ج1 ص330 والكامل في التاريخ ج3 ص243 وتذكرة الخواص ص72 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص228 ونهاية الأرب ج20 ص68.

([28]) الجمل للمفيد ص341 و (ط مكتبة الداوري) ص182.

([29]) الجمل ص342 و 343 و (ط مكتبة الداوري) ص182 و 183.

([30]) مجمع الأمثال ج1 ص382.

([31]) لسان العرب ج15 ص417 وبحار الأنوار ج29 ص285.

([32]) تاج العروس ج6 ص274.

([33]) الجمل ص355 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص189 ونهج السعادة ج1 ص310.

([34]) مروج الذهب ج2 ص375 ونهج السعادة ج1 ص317 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص230.

([35]) دعائم الإسلام ج1 ص393 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص230 عنه، وجواهر الكلام ج21 ص327.

([36]) مروج الذهب ج2 ص371 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص111.

([37]) مروج الذهب ج2 ص371 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص111.

([38]) تاريخ اليعقوبي ج2 ص182.

([39]) راجع: الجمل للمفيد ص341 و (ط مكتبة الداوري) ص182 والدرجات الرفيعة ص420 و 421 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص173.

([40]) سبل الهدى والرشاد ج7 ص368 وراجع: تركة النبي لابن زيد البغدادي ص101 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص491 وج3 ص428 و 468 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص147 وبحار الأنوار ج16 ص110 وتاريخ مدينة دمشق ج4 ص213 و 215 وإمتاع الأسماع ج1 ص113 وج7 ص135 و 141 و 143 وعيون الأثر ج2 ص405 وراجع: مجمع الزوائد ج5 ص272 والجامع الصغير ج2 ص356 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج7 ص96 وكتاب المجروحين لابن حبان ج2 ص108 والموضوعات لابن الجوزي ج1 ص293.

([41]) مناقب آل أبي طالب ج1 ص146 ومستدرك الوسائل ج13 ص209 عنه، وبحار الأنوار ج16 ص108 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص380 و 381 وج3 ص336 و 337 وتركة النبي للبغدادي ص99 والطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص491 وتاريخ مدينة دمشق ج4 ص230 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص422 والكامل في التاريخ ج2 ص314 والوافي بالوفيات ج1 ص91 وإمتاع الأسماع ج7 ص221 وسبل الهدى والرشاد ج7 ص403 وج11 ص407 و 421 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص431.

([42]) عن أيسر التفاسير للجزائري ج3 ص297 باب51 وراجع تاريخ الخميس ج2.

([43]) الكامل في الأدب للمبرد ج3 ص266.

([44]) زهر الربيع للجزائري (ط دار العماد) ص489.

([45]) أخذ الثار لابن نما الحلي ص81.

([46]) تاريخ الخميس ج2 ص189 وراجع: الجمل ص355 و 356 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص189 وقال في هامشه: قارن بأنساب الأشراف ج2 ص231 وراجع: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص231 وج9 ص429 ونهج السعادة ج1 ص311 عن الجمل. وراجع: بحار الأنوار ج16 ص112 وسبل الهدى والرشاد ج7 ص368 و السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص428 والنهاية في غريب الحديث ج1 ص93 وتاج العروس ج6 ص46 ولسان العرب ج4 ص38.

([47]) تاريخ الخميس ج2 ص189 عن القاموس المحيط ج1 ص301.

([48]) وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص111.

 

   
 
 

العودة إلى موقع الميزان