صفحة : 308-340   

الفصل الثاني: خطاب القائد..

الخطاب العتيد:

وذكروا: أن الإمام علياً «عليه السلام» خطب يوم الجمل، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

أيها الناس، إني أتيت هؤلاء القوم ودعوتهم واحتججت عليهم، فدعوني إلى أن أصبر للجلاد، وأبرز للطعان.. فلأمهم الهبل، وقد كنت وما أهدد بالحرب، ولا أرهَّبُ بالضرب، أنصف القارة من راماها([1])، فلغيري فليبرقوا وليرعدوا، فأنا أبو الحسن الذي فللت([2]) حدهم، وفرقت جماعتهم، وبذلك القلب ألقى عدوي، وأنا على ما وعدني ربي من النصر والتأييد والظفر، وإني لعلى يقين من ربي، وغير شبهة من أمري.

أيها الناس! إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص، ومن لم يمت يقتل، وإن أفضل الموت القتل، والذي نفسي بيده، لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش.

وا عجباً لطلحة! ألَّب([3]) الناس على ابن عفان، حتى إذا قتل أعطاني صفقته بيمينه طائعاً، ثم نكث بيعتي، اللهم خذه ولا تمهله.

وإن الزبير نكث بيعتي، وقطع رحمي، وظاهر علي عدوي، فاكفنيه اليوم بما شئت([4]).

وفي نص آخر: «وظاهر عدوي، ونصب الحرب لي وهو يعلم أنه ظالم لي، اللهم فاكفنيه كيف شئت، وأنَّى شئت»([5]).

ونقول:

القيادة تصارح قاعدتها:

لاحظنا في هذا النص كيف أن أمير المؤمنين «عليه السلام» يحكي للناس ما جرى بينه وبين قادة الناكثين، ولم نجد الناكثين قد فعلوا مثل ذلك مع ناسهم.. بل هم قد أخفوا عنهم ما جرى، واقتصروا على إصدار الأوامر إليهم، ولم يعطوهم حق النظر فيما يجري ويدور حولهم، ليكون لهم أي دور في اتخاذ القرار، بالرغم من أنه يعنيهم في أعز شيء لديهم، وهو حياتهم، ومستقبلهم في الدنيا وفي الآخرة.

ولا يمكن لأحد أن يقدم على أمر مصيري بهذه الخطورة ما لم تتضح له الأمور، ويوازن بينها.. كما لا يحق لأحد أن يفرض على الناس أن يخاطروا بأعز شيء لديهم، وهو أرواحهم، اعتماداً على أمر يصدره غيرهم لهم، ولا يعطيهم أية فرصة للنظر في حيثيات ذلك الأمر، ومبرراته. بالرغم من أنه لا شيء يلزم الناس بطاعته، أو يشير إلى عصمته، أو يعطيه الحق بأن يلزم الناس بالعمل وفق ما يأمر به أو ينهى عنه.

أما علي «عليه السلام»، فهو بالرغم من أنه الرجل المعصوم، حسب تصريح القرآن، والإمام المنصوب من قبل الله تعالى عليهم، وقد جعل الله طاعته كطاعته، ومعصيته كمعصيته، إلا أنه «عليه السلام» لم يجعل أمره هو المصدر لإلزامهم، بل أراد أن يكون قرارهم الطوعي، المستند إلى الوعي التام والوضوح والاستشراف المباشر لحقيقة ما يجري، والقائم على ضوابط عقلية ومعايير شرعية، والمنبثق عن الدوافع الإعتقادية والإيمانية الصحيحة هو المنطلق لإقدامهم وإحجامهم.. حتى إذا أصيب أحدهم في نفسه قتلاً أو جرحاً، أو في ماله، أو في معيشته، أو في علاقاته الإجتماعية أو غيرها، فإنه سيكون له ثواب الشهداء، والمجاهدين، والمضحين، والباذلين في سبيل الله سبحانه..

ولولا ذلك، بأن أقدم على القتال لمجرد شهوة قتل الناس، أو طمعاً في دنيا يصيبها، لكان مجرد قتيل، أو جريح، أو منفق ومبذّر، لا يختلف عن سائر القتلى والجرحى، الذين خسروا أنفسهم، وما لهم، وحياتهم، والدين، ولم يكن لهم في آخرتهم أي نصيب..

وهذا ما لا يرضاه «عليه السلام» لهم، لأنه إنما يجاهد ويضحي من أجل سعادتهم في الدنيا والآخرة. فلا يمكن أن يكون سبباً في ضياع هذه السعادة على أي منهم في أي حال..

وهذا هو السبب في مصارحته لهم، وفي عمله الدائب لرفع مستوى الوعي والمعرفة لديهم..

ودعوى القوي كدعوى السباع:

وقد أظهر النص المتقدم مدى التفاوت بين نهجين:

أحدهما: يعتمد الحجة والبرهان والإقناع سبيلاً إلى التحكم بحركة الواقع، وتحديد التصرفات والمواقف.. والإقدام والإحجام.. وهذا هو نهج علي الذي تجلى في تعامله مع الناكثين..

الثاني: يعتمد الجبرية، وفرض القرار على الآخرين، من دون تقديم أي مبرر، أو حتى ما له صورة حجة ودليل.. إنه نهج هيمنة وقهر وغلبة، على قاعدة:

ودعوى القوي كدعوى السباع         من الناب والظفر برهانها

إنه نهج يأتي من خلال الشعور بالقوة والقدرة على فرض الرأي، ومن خلال روحية التحكم بالآخرين، ومصادرة فكرهم لصالح قرارات الأهواء، والميول الشوهاء، والعصبيات العمياء، والطموحات الباطلة البلهاء، ورائدهم في ذلك انتفاخات خاوية، وغرور يورد صاحبه الهاوية..

وهذا هو نهج أعداء علي «عليه السلام» معه، كما أظهره جوابهم لأمير المؤمنين «عليه السلام»، حين جاءهم بالبراهين والحجج، فظنوا أن ذلك عن ضعف منه، وأن قوتهم كفيلة بحسم الأمور، لأن حق علي ليس له قوة تحميه، فدعوه «عليه السلام» إلى أن يصبر للجلاد، ويبرز للطعان.

ويبدو: أن هؤلاء لم يحسنوا فهم ما كان يجري على يد علي «عليه السلام» في عهد الرسول «صلى الله عليه وآله»، فقد توهموا أن شجاعته «عليه السلام» كانت اكتسابية ومستعارة من الكثرة العددية، والقوة القتالية للحشد الذي كان يشارك في القتال في تلك المعارك الهائلة، بالإضافة إلى الحماس الذي كانت توفره له تلك القوى، وبهذا فسروا ما جرى في بدر، وأحد والخندق، وخيبر، وذات السلاسل، وحنين، وسواها..

مع أن هذا لو صح لما اقتصر الأمر على علي «عليه السلام»، بل لوجدنا عشرات آخرين، يصنعون أعظم الملاحم في تلك الحروب، ولما كنا رأينا هزيمة أبي بكر وعمر وغيرهما في خيبر، ولا في حنين، وأحد وسواهما.. ولكُنّا رأينا الصحابة بما فيهم طلحة والزبير وأبو بكر وعمر وغيرهم في طليعة المبارزين لعمرو بن ود في الخندق، ولمرحب في خيبر..

على أنه لو كان هذا هو السبب، فكيف نفهم إنجاز علي «عليه السلام» في أحد، وفي حنين، وغيرهما؟! بعد أن هرب المسلمون ولم يبق غيره في الميدان، فإن المفروض هو أن الجماعات التي توفر الحماس قد تلاشت، ولم يعد هناك ما يبرر كل هذا الاستبسال منه «عليه السلام» الذي هزم كل تلك الجموع..

على أن علياً نفسه «صلوات الله وسلامه عليه» قد رد هذا التوهم الباطل حين قال عن قلعه باب حصن خيبر: ما قلعته بقوة جسمانية، وإنما قلعته بقوة ربانية([6]).

وقد كذَّب «عليه السلام» هذا الزعم الباطل مرة أخرى بمبيته على فراش رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليلة الهجرة، حيث لم يكن هناك أحد يمكن الإستقواء به، أو الإستفادة من حماسه..

ثم جاءت الآية المباركة لتؤكد على أن القضية خارجة عن هذا السياق بالكلية، فقد أنزل الله تعالى في حق علي «عليه السلام» بمبيته ليلة الهجرة قوله سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾([7]).

حيث دلت الآية المباركة على أن الأساس في هذا الإنجاز الجهادي هو الوعي والقرار النابع من الإيمان، والواجب الديني، والسمو الروحي، والصفاء النفسي، والفناء في الله تبارك وتعالى.. فهو ينصر الله مع عميق ثقته بأن الله ينصره.. ﴿إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾([8]). فعلي «عليه السلام» يستمد قوته من صلته بالله القوي العزيز الجبار، القاهر والقادر، وليس من العدة والعدد الذي يراه من حوله..

من أجل ذلك: نجده «عليه السلام» يقول هنا، مفنداً هذا الزعم الفاسد: «فلأمهم الهبل، وقد كنت وما أهدد بالحرب، ولا أرهَّب بالضرب».

أنصف القارة من راماها:

أما قوله «عليه السلام»: «أنصف القارة من راماها»، فهو بيان لخطأ حسابات الناكثين. الذي هو من أهم أسباب الفشل، والخيبة التي حلت بهم، لأن الخطأ في التقدير يجعل أي جهد يبذل يذهب في غير الوجه الصحيح، ولا سيما إذا كان التوظيف للقوة التي تجرَّدت عن الفكر الذي يحميها، والإيمان الذي يرفدها، وللمشاعر الحميمة التي تحتضنها ـ نعم، إن هذا التوظيف ـ سيكون بمثابة إهدار لتلك القوة، وتفريط بها.. وهذا ما أصاب الناكثين فعلاً..

أما بالنسبة لعلي أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقد كان الأساس عنده هو الحجة والدليل الذي يصنع القناعات، ويحولها إلى وجدان يغذيه الإيمان، وتحتضنه القلوب، وتحوطه المشاعر.

إنه لا يفكر باستخدام القوة لفرض القناعة، أو لإجراء القرارات التي لا تمتلك رصيداً فكرياً يحميها، وإنما هو يستفيد من القوة حين تتعرض الحقائق المدعمة بالحجج والأدلة إلى القمع غير المبرر، وإلى محاولة مصادرة حرية الناس بالتعاطي الإيجابي مع تلك الحقائق..

وهذا ما بينه «عليه السلام» بقوله: «فلغيري، فليبرقوا وليرعدوا. فأنا أبو الحسن الذي فللت حدَّهم..».

إلى أن قال: «وإني لعلى يقين من ربي، وغير شبهة من أمري..».

فدلنا بذلك: أن وضوح الرؤية عنده، وعدم وجود الشبهة لديه، وثقته بنصر الله تعالى له هو الذي يعطيه هذه الصلابة في دينه، وهذه القوة على مكابدة الصعاب، ومواجهة أعتى القوى، بكل رضى وسكينة، وثقة وطمأنينة..

لألف ضربة بالسيف لأهون من ميته على فراش:

والناس في موقف الجهاد والتضحية يكونون أحوج ما يكون إلى فلسفة الموت، ومعرفة أحواله وطرائقه. وقد بين لهم أهم ما يرتبط به بعبارات يسيرة، وقصيرة وواضحة المعنى. ولها سياق تستسيغه الأذواق، لعذوبة ألفاظه، وسلامة وانسجام تراكيبه، وسهولة تناوله وتداوله..

وقد تضمنت كلماته جملة من الحقائق، نذكر منها:

1 ـ إن تقلب الإنسان في أحواله لا يؤثر في حتمية الموت، وفي الأجل المسجل له في اللوح المحفوظ، لأن الموت خارج عن دائرة التأثر بالأحوال، فالإقامة والسفر، والحل والترحال، والبعد والقرب، لا يمنع الموت من أن ينزل بالإنسان في اللحظة التي أذن الله لعزرائيل أن يقبض روحه فيها..

وعلى أي حال.. فإن كان يطلب بالهرب من ساحات الجهاد، لأجل التخلص من هذه الحتمية، فهو طلب لما لا يكون..

2 ـ غير أن ذلك لم يمنع من أن يجعل الله تعالى للإنسان نفسه دوراً في اختيار الوسيلة التي يموت بها، في نفس ذلك الأجل المحتوم والمحقق حصوله كما هو مسجل في اللوح المحفوظ.

تماماً كما جعل الله تعالى للإنسان بأعماله الصالحة دوراً في أن يطيل عمره المكتوب في لوح المحو والإثبات، بواسطة صلة الرحم، أو أن يسيء الإختيار، بأن يقتل نفسه، أو يقطع رحمه، فيقصر عمره الذي ظهر في لوح المحو والإثبات أيضاً..

فتلخص بما ذكرناه: أن الهرب من الموت لا يغير شيئاً في الأجل المكتوب في اللوح المحفوظ.. بل هو سيموت في نفس ذلك الأجل، سواء هرب أو ثبت، أقام أم ظعن..

3 ـ وهذا يعني: أنه لا بد من النظر في وسائل الموت نفسها، فبعد أن عرفنا: أن الأجل المكتوب في اللوح المحفوظ لا بد أن يتحقق كما هو.. نقول:

إن الله قد أعطى الإنسان دوراً في اختيار وسيلة الموت وحالته، فقد يموت في حال الهرب، وقد يموت في حالة الثبات، وقد يموت في حال الفرار من الزحف.. وقد يموت وهو في حال الذكر والعبادة، وقد يموت وهو على وضوء، وقد يموت وهو يمارس المعصية. وقد يموت على فراشه وقد يموت بالسيف، أو بالسم، وقد يموت بفعله، وقد يموت بفعل عدوه، إلى غير ذلك من الصور والحالات المختلفة..

4 ـ ثم إن أمير المؤنين «عليه السلام» قد أعطى مقارنة ميدانية بين حالتين يكثر عروضهما وتعرض الإنسان لهما.. وهما:

ألف: الموت على الفراش، فيظن الإنسان أنه الموت الأيسر له، والأهون عليه..

ب: الموت بالسيف، فيظن أنه الأصعب، والأمرّ، والأقسى.

ولكن أمير المؤمنين «عليه السلام» قد قلب المعادلة، وبدا لقاصري النظر، وكأنه قد أوغل في المبالغة إلى الحد الذي يثير الدهشة، ويدعو للتساؤل.. فهو يقول، مقدماً القسم الذي لا يعقل الاستعانة به في غير بيان لباب الحقيقة الصافية: «لا والذي نفسي بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على فراش».

ونحن لا نملك إلا التصديق والتسليم بهذه الحقيقة، إنطلاقاً من التسليم لمقام الإمام والإمامة، والعصمة والطهارة. وإن كنا غير قادرين على إدراك كنه هذا المعنى بصورة تفصيلية..

فلعل لسكرات الموت وأهواله، وما يصنعه خروج الروح من كل عرق بذلك العرق، وما يُلْحِقُه به من أذى وألم، وعمق الشعور بهذا الأذى بصورة تفصيلية ـ لعل لذلك كله ـ آلاماً تفوق في حدتها وشدتها آلام ألف ضربة بالسيف.

اللهم خذ طلحة ولا تمهله:

وكانت شكواه «عليه السلام» من طلحة: هي أنه ألَّب الناس على عثمان، فلما قتل بايع علياً «عليه السلام» طائعاً، ثم نكث بيعته..

ونلاحظ هنا ما يلي:

1 ـ إن طلحة لم يتعامل مع عثمان بالطريقة المقبولة والمعقولة، فهو لم يأخذ على عثمان أمراً أخطأ فيه، ثم طالبه بإصلاحه، أو بالتراجع عنه.. كما هو المفروض بأهل الإنصاف والدين، فإنهم يطالبون المخطيء بالعودة عن خطئه. وبإصلاح ما أفسد، ومراعاة أحكام الشرع والدين، والتزام طريق الحق والعدل.

وأما ترك هذا الأمر، والانصراف إلى تحريض الناس، وتأليبهم، وإثارة عواطفهم وتحريكهم للثورة ضد إنسان أو فئة قبل أن يقيم الحجة على تلك الفئة، ومن دون سلوك الطرق المقررة شرعاً.. في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فليس هو الطريق القويم، والصراط السوي في أي حال.. بل هو طريقة الغوغاء، وأهل الريب.. فكيف إذا فعل هذا الجرم، ثم أضاف إليه جرماً آخر، وهو اتهام الأبرياء بما فعلت يداه.. بالإضافة إلى نكث بيعة إمامه، وخروجه عليه..

فكان لا بد من إسماع الناس هذه الحقيقة، وبيان أن طلحة كان قد ألَّب الناس على عثمان، حتى قتل، فكيف يريد الأخذ بثاره؟!

2 ـ ثم إنه «عليه السلام» يريد أن يسمع الناس: أن طلحة قد بايعه طائعاً، فكيف يدعي الإكراه؟! ولو كان طلحة صادقاً فيما يدعيه من شراكة علي «عليه السلام» في قتل عثمان فلماذا بادر إلى بيعته، وبايعه طائعاً؟!

3 ـ إذا كان قد بايعه طائعاً فلماذا نكث بيعته؟! ولماذا جاء لحربه الآن؟! وهل يمكن الوثوق بمن بايع طائعاً ثم ينكث؟!

4 ـ وكان دعاؤه «عليه السلام» على طلحة هو: أن يأخذه الله ولا يمهله..

وقد ظهرت استجابة الله تعالى دعاء علي «عليه السلام» حيث كان طلحة أول المقتولين في بداية المعركة.. ثم سارت المعركة بدونه حتى هزيمة جيش الناكثين، وقتل الزبير وهو منهزم..

ولتكن هذه الإستجابة السريعة لدعائه «عليه السلام» عبرة للناس الذي جاء بهم طلحة ليكونوا وقوداً لهذه الحرب..

اللهم أكفني الزبير اليوم بما شئت:

1 ـ إن الزبير.. وإن كان قد ألَّب على عثمان، وحرض على قتله ولكن لم يكن تأليب الزبير على عثمان ظاهراً وشائعاً بين الناس بمستوى ظهور وشيوع ما فعله طلحة.. ولذلك اكتفى «عليه السلام» بالحديث عن نكثه بيعته، ليعلم الناس: أنهم لا يملكون أية وثيقة تضمن وفاء الزبير لهم، لو فرض أنه انتصر على علي «عليه السلام»..

2 ـ إن الزبير هو ابن عمة علي «عليه السلام»، وقد قطع رحمه، وخرج عليه بالجيوش، ساعياً في قتله، فهل لمن هو بعيد عنه رحماً أن يتوقع صلته ووفاءه له؟!

والحال، أن العربي معروف بعصبيته لعشيرته وقرابته.. فالزبير قد خالف الله في نكثه، وخالفه في قطيعة رحمه، وخالف السنة الجارية في البشر في صلة أرحامهم.. بل خالف حتى أعراف قومه، فإن العربي، وكذلك غير العربي يتعصب لرحمه ولا يقطعه..

3 ـ فكيف إذا كان الزبير قد تجاوز ذلك، وظاهر على ذوي رحمه أعداءهم، وناصرهم عليهم، وسعى في قتلهم؟!

4 ـ وكان طلبه «عليه السلام» من الله: هو أن يكفيه الزبير بالطريقة التي يشاؤها سبحانه مما يناسب هذه الجرائم التي ارتكبها.. وقد كفاه الله تعالى إياه بقتله على يد أحد الأشرار، ولم يقتله «عليه السلام» بيده، لأن الله تعالى لم يرد أن يقتل علي يد علي «عليه السلام»، لأن له رحماً به، ولا يريد الله له «عليه السلام» أن يقتله بيده، حتى لو كان المقتول هو الذي قطع رحمه.

ولأنها كانت قتلة ذليلة وسيئة، لأنه قَتَله وهو منهزم، وهي شر قتلةٍ بالنسبة لأهل الدنيا، فإن المقتول لم ينل من بغيه ذاك حتى عنوان المقتول في ساحة النزال الذي يتفاخر به أهل الدنيا.. وإن كان هذا العنوان مخزياً عند الله أيضاً، ولكن الله أراد له عنواناً أشد خزاية، وأعظم سوءاً، لأن فيه خزي الدنيا والآخرة على حد سواء كما رأينا..

5 ـ وقد أظهر النص الآخر: أنه «عليه السلام» قد تعمد أن يظهر بغي الزبير، وشدة قبح ما أقدم عليه، ببيانه أنه قد فعل ما فعل، وهو يعلم أنه ظالم له..

وربما يكون في هذا إشارة إلى قول رسول «صلى الله عليه وآله» للزبير عن علي «عليه السلام»: لتقاتلنه وأنت ظالم له..

وهذا هو ما ذكَّره به «عليه السلام»، وظهر للناس كلهم أنه قد تردد في البداية بمواصلة الحرب، بل أعلن انصرافه عنها، ثم تذرع بعتق عبده مكحول.. وعاد إلى ساحة القتال. وهذا من أعظم الخذلان.


 

لا تعجلوا حتى أعذر إليهم:

عن حنان بن سدير قال: سمعت أبا عبد الله «عليه السلام» يقول: «دخل علي أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة والزبير، فقلت لهم: كانا [إمامين] من أئمة الكفر، إن علياً «عليه السلام» يوم البصرة لما صف الخيول، قال لأصحابه: لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني وبين الله عز وجل وبينهم.

فقام إليهم، فقال: يا أهل البصرة، هل تجدون عليَّ جوراً في حكم؟!

قالوا: لا.

قال: فحيفاً في قسم؟!

قالوا: لا.

قال: فرغبة في دنيا أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم، فنقمتم عليَّ، فنكثتم بيعتي؟!

قالوا: لا.

قال: فأقمت فيكم الحدود وعطلتها عن غيركم؟!

قالوا: لا.

قال: فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لا تنكث؟! إني ضربت الأمر أنفه وعينه فلم أجد إلا الكفر أو السيف.

ثم ثنى إلى صاحبه فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾([9]).

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، واصطفى محمداً بالنبوة، إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت([10]).

وفي رواية أخرى عن أبي عثمان البجلي، مؤذن بني أفصى قال: سمعت علي بن أبي طالب «عليه السلام» حين خرج طلحة والزبير لقتاله يقول: عذيري من طلحة والزبير؛ بايعاني طائعين غير مكرهين، ثم نكثا بيعتي من غير حدث، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾([11]).

ونقول:

لا بأس بملاحظة ما يلي:

مناشدات علي في الميدان:

إن وضوح الرؤية شرط أساس في مشروعية الحرب، وهذا ما كان علي «عليه السلام» يحرص على إيصال الناس إليه، وإيقافهم عليه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيا عن بينة، لأن الإنسان المؤمن لا يقدم على سفك دم أخيه الإنسان إذا كان يرى أن ذلك الإنسان غافل عن الحقيقة، أو أن له شبهة تجعله معذوراً عند الله تعالى. إلا إن كان في مقام الدفاع عن نفسه.. فدعوة الناس لقتل إخوانهم، ولا سيما إذا كانوا من أهل دين واحد، معناه: دعوتهم لمعصية الله تعالى، والتمرد عليه، والتخلي عن المسلمات، وتجاوز الخطوط الحمراء من الناحية الدينية، والوجدانية، والمشاعرية.. و.. و..

أما إن كانوا يخالفونهم في الدين، ولم تقم الحجة عليهم، ولم تَزُلِ الشبهة عنهم، فإن دعوتهم إلى قتالهم وقتلهم يساوق دعوتهم إلى التخلي عن وجدانهم، وضميرهم الإنساني، وعن مشاعرهم الطبيعية.

وهذا ما ألمح إليه «عليه السلام» حين قال عن الناس: أنهم «صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»([12]).

وفي كلتا الحالتين تصبح دعوة الإمام الناس لقتل هؤلاء أو أولئك من موجبات اختلال العلاقة الروحية، واهتزاز الثقة بين الإمام والأمة، حيث ترتسم علامة استفهام كبيرة حول مدى إخلاصه، ودقته في مراعاة ما تجب عليه مراعاته.. سواء ربح الحرب أو خسرها.. وسيشعر الذين شاركوا في تلك الحرب معه، بتأنيب الضمير، وبأنه قد ورطهم فيما كان ينبغي أن لا يتورطوا فيه..

وهذا ما يفسر لنا الجهود المضنية والحثيثة التي كان يبذلها «عليه السلام» في التعامل مع أعدائه.. وإفراطه الذي لا يرتاب أحد في حسنه، وفي مطلوبيته ومحبوبيته لله تعالى في ابتداع الأساليب المختلفة، لتقديم الحجج، وسد الذرائع التي يتذرع بها مناوئوه..

بالإضافة إلى طول أناته، وشدة صبره، وإعطائه أطول وأكثر الفرص للطرف الآخر لمراجعة حساباته.. وتفننه في الترغيب في السلم والسلامة، والترهيب من الحرب والفتنة.. ما وجد إلى ذلك سبيلاً..

ثم هو يترك الخيار لعدوه في أن يختار الحرب أو السلم، وحين يختار الحرب، فإنه لا يسأم من الرفق به والمداراة له والصفح عنه، فلعل أحداً يستفيق من سكر الهوى، ويعود إلى صراط الحق..

وهذه المناشدة الميدانية للناس، ما هي إلا واحدة من عشرات المواقف والمناسبات التي استفاد منها «عليه السلام» لدرء الفتنة، وإقامة الحجة..

الإقرار سيد الحجج:

وقد لاحظنا: أنه «عليه السلام» يحرص في مناشدته الآنفة الذكر على الحصول على إقرار صريح من خصومه بما من شأنه أن يثبت حقه، ويدفع باطلهم. وليظهر لكل أحد أنهم يقدمون على هذا الأمر من دون شبهة، أو انفعال، أو فورة غضب، أو استفزاز، بل كانوا هم الذين يستفزون أصحابه، ويصرون على تسويق باطلهم بعد ظهور بطلانه..

وبذلك يكون «عليه السلام» قد أزاح كل العلل التي قد يعتل بها حتى بعض مرضى النفوس. ولم يعد هناك أية شبهة في أنهم يتعمدون الباطل.. وبذلك يصبح قتالهم عند أهل الإيمان وحتى قتلهم فريضة دينية ووجدانية.. يحتاج هو «عليه السلام» إلى بذل جهد للسيطرة على حالة الاندفاع فيها، والحد من حدته، وتلافي آثار شدته..

ولنا أن نَعُدَّ هذا الأمر من أروع إنجازات أمير المؤمنين «عليه السلام»، بل هو أصل أصيل في نجاح كل حرب، وفي تحقيق أي نصر.. حيث تصبح الحرب تكليفاً شرعياً، وواجباً ضميرياً ووجدانياً، ولا ينظر ـ بعد ذلك ـ إلى النتائج الميدانية، ومن يقوم بواجبه، فهو منتصر على كل حال.. منتصر حين يربح الحرب، ومنتصر حين يخسرها..

وهذا يفسر لنا قول الإمام الحسين «عليه السلام» في كتابه إلى بني هاشم حين سار إلى كربلاء: «..من لحق بي استشهد، ومن تأخر عني لم يبلغ الفتح»([13]). حيث اعتبر أن استشهاده فتحاً ونصراً حاسماً، وليس مجرد نصر.. فإن الفتح هو سقوط الهيمنة، وكسر شوكة الطرف الآخر في أهدافه، والتحكم بمصيره، والاستيلاء عليه.

أما النصر، فيبقى مجرد نصر في معركة، وقد تلحقه هزيمة في معركة أخرى.. دون أن يسقط الهيكل على رؤوس من فيه..

مبررات نكث البيعة:

وقد لاحظنا: أن المخالفات التي اعتبرها «عليه السلام» مبرراً لنكث البيعة هي نفسها تسلب عن طلحة والزبير الصلاحية لمقام الإمامة، باعترافهما.. والمبررات التي أقرا بأنها لم تصدر منه «عليه السلام» هي التالية:

1 ـ الجور في الأحكام القضائية..

2 ـ الحيف في قسم الأموال..

3 ـ الاستئثار لنفسه ولأهل بيته بأمر دنيوي، أعم من أن يكون مالاً، أو منصباً، أو جاهاً، أو سلطاناً..

4 ـ إقامة حدود الله تعالى في قوم، وتعطيلها في آخرين..

وقد أقر الناكثون له بأنه «عليه السلام» لم يخالف أياً من هذه الأمور الأربعة.. ولو أنه خالف واحدة منها لم يستحق مقام الإمامة.. وبذلك يكونون قد أسقطوا أنفسهم عن الصلاحية لمقام الإمامة من جهات هي:

أولاً: إن إقرارهم هذا يدل على أنهم بمطالبتهم إياه بتوليتهم البصرة والكوفة كانوا مبطلين، وأن نفس مطالبتهم هذه تدل على عدم أهليتهم لمقام الإمامة، لأنهم يريدون الاستئثار لأنفسهم بمنصب دنيوي فيه المال، والجاه، والسلطان..

ثانياً: إن إقرارهم هذا يدل على أن مطالبتهم إياه بأن يعطيهما أكثر من غيرهما، معناه: أنهما يريدان منه أن لا يراعي سنة العدل في قسم الأموال. وهذه المطالبة.. إذا انضمت إلى ذلك الإقرار منهما في المناشدة يفضي إلى الحكم بعدم أهليتهم لمقام الإمامة..

ثالثاً: إن مطالبتهم إياه بدم عثمان، وإخراجهم أنفسهم عن دائرة المطلوبية بهذا الدم، مع أنهم هم الذين حرضوا على عثمان، وهاجموه وقاتلوه. ولم يفعل علي «عليه السلام» شيئاً من ذلك، بل حاول منع القتل عنه ـ إن هذا ـ يدل على عدم أهليتهم للإمامة، لأنه جور في القضاء، وتعطيل لحدود الله عمن يستحق أن تجري عليه.. وقد أقرا في المناشدة بأن من يفعل ذلك لا يستحق مقام الإمامة.

رابعاً: وهناك المخالفة الصريحة للفقرة الرابعة، ولكنها جاءت بصورة أوضح وأقبح، وهو ما سيتضح في الفقرة التالية..

المخالفة الشرعية والوجدانية:

وقد ألحق «عليه السلام» مناشدته لطلحة والزبير بالأمور الأربعة السابقة التي أقرا بها بسؤال بيَّن سقوطهما عن الصلاحية لمقام الإمامة بسبب مخالفتهما في نفس موقفهما هذا، فقد قال لهما: «فما بال بيعتي تنكث، وبيعة غيري لا تنكث»؟!

أي أن طلحة والزبير ينكثان الآن بيعة من يعترفان بأنه لا يجور في حكم، ولا يحيف في قسم الأموال، ولا يستأثر لنفسه ولا لأهل بيته بمال ولا بمنصب، ولا بجاه ولا بسلطان..

ولكنهما لا ينكثان، بل يحرمان نكث بيعة من يجور في أحكامه، ويحيف في قسم الأموال، ويستأثر لنفسه ولأهل بيته بالمناصب، وبالسلطة وبكل شيء.. مع علمهما بأن بيعته كانت عن إكراه.. ولا بيعة لمكره.

فقد تقدم: أنه «عليه السلام» قررهما، فأقرا بأنه لم يكن يجوز لعلي «عليه السلام» أن يطلب من عثمان أن يعتزل بعد بيعته له، مع أن حكم عثمان قد قام تحت طائلة التهديد بقتل أركان الشورى، ومع أنهما قد حرضا على عثمان، وحاصراه، وهاجماه، وشاركا في قتله، بحجة أنه جار في أحكامه، وحاف في قسم الأموال، واستأثر لنفسه ولأهل بيته بالأموال والمناصب والسلطان..

فهما إذن، ينكثان بيعة من يقيم حدود الله في الناس كلهم، ولا يعطلها في أي كان من الناس..

ويفيان بالبيعة لمن يعطل الحدود على قومه، ويقيمها في غيرهم.. ففعلهما هذا هو الآخر تعطيل لأحكام الله وحدوده في قوم، وإجراء لها ظلماً وعدواناً في من لا تجري عليه، ولا يصح نسبتها إليه. وهذا من أقبح الظلم، وأعظم الجرائم، فكيف يدعي الأمامة لنفسه من يقدم عليه ويرتكبه؟!

إما السيف.. وإما الكفر:

وقد قرر أمير المؤمنين «عليه السلام»: أن من يقرُّ بذلك كله، ثم يصِّر على نكث بيعته، ومواصلة حربه على إمامه، ويكيل بمكيالين على هذا النحو البالغ السوء، والذي لا مبرر له، ويتعمد الباطل إلى هذا الحد، ثم يقتل المئات من الأبرياء، والأتقياء في البصرة، ويقتل حراس بيت المال، وينتهب الأموال.. ويقتل المصلين في المسجد. ويسعى في الأرض فساداً ـ قرَّر أمير المؤمنين «عليه السلام» ـ أنه إزاء هذا الواقع قد أصبح أمام خيارين:

الأول: اللجوء إلى السيف لإخماد الفتنة، ومنع الفساد، والباطل من أن يصبح نهجاً، ومنع تعطيل حدود الله تعالى.. والتصدي للتلاعب بالمفاهيم والقيم الإيمانية والوجدانية، وإحلالها محل أحكام الله وشرائعه، وتمكينها من الهيمنة على المسار العام..

الثاني: الكفر بما أنزله الله على نبيه «صلى الله عليه وآله»، والمراد هنا: الكفر العملي، بمعنى عدم إجراء أحكام الله سبحانه، وليس المراد به الخروج من الدين، أو إنكار ضرورياته..

ويمكن تفسير هذه الكلمة بنحوٍ، وهو أن يكون المراد: أنه «عليه السلام» لم يجد إلا السيف لمحاربة هؤلاء المفسدين، أو إفساح المجال للكفر وأهله ليتحكموا بالأمة، وليطعنوا في الدين، ويقوضوا دعائم الحق والإيمان..

ويشهد لهذا المعنى استشهاده «عليه السلام» بالآية الشريفة: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ([14]).

ثم أقسم «عليه السلام»: أن الناكثين هم أصحاب هذه الآية، وما قوتلوا منذ نزلت.

وهذا يتوافق مع ما قلنا، من أن الخيار منحصر في أمرين: إما الحرب.. وإما القبول بأن يحكم الكفر البلاد والعباد، ويعبث بالقيم، ويطعن في دين الله تعالى..

علام نقاتلهم؟!:

وبذلك يتضح الجواب عن السؤال الذي طرحه بعضهم على أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقد روي عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت واقفاً مع أمير المؤمنين «عليه السلام» يوم الجمل، فجاء رجل حتى وقف بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين كبَّر القوم وكبَّرنا، وهلَّل القوم وهلَّلنا، وصلَّى القوم وصلَّينا، فعلى ما تقاتلهم؟!

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: على ما أنزل الله جل ذكره في كتابه.

فقال: يا أمير المؤمنين، ليس كل ما أنزل الله في كتابه أعلمه فعلمنيه.

فقال علي «عليه السلام»: ما أنزل الله في سورة البقرة.

فقال: يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلمنيه.

فقال علي «عليه السلام» هذه الآية: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ([15]).

فنحن الذين آمنا وهم الذين كفروا.

فقال الرجل: كفر القوم ورب الكعبة.

ثم حمل، فقاتل حتى قتل رحمه الله([16]).

ونقول:

لاحظ الأمور التالية:

يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض:

لقد سمع الناس من رسول الله «صلى الله عليه وآله»: أن من قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه (ودمه)([17]).

وقرأوا أيضاً في آيات القرآن الكريم، وسمعوا من رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما دلَّ على حرمة دم المسلم على أخيه المسلم، وأن من قتل مؤمناً متعمداً، فجزاؤه جهنم خالداً فيها..

وقد اصطف هذان الفريقان للحرب.. ورأى الناس: أن كلا الفريقين يمارس شعائر الإسلام من الأذان والصلاة، وشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فما معنى القتال بينهما إذن؟!..

فكان لا بد من تعريف الناس بأن ممارسة الشعائر وحدها لا تكفي، لأن المطلوب هو الإيمان والتسليم بكل ما أمر به الله تعالى، وجاء به رسول الله «صلى الله عليه وآله».. وأن الإيمان ببعض الكتاب، والكفر ببعض مساوق للكفر بالجميع، لأن الكفر ببعض الكتاب يبطل أثر الإيمان بالبعض الآخر، ويجعله كأن لم يكن..

الإبهام توطئة لمزيد من الوضوح:

وقد لاحظنا: أن علياً «عليه السلام» قد أبهم إجابته لذلك الرجل مرتين متواليتين، لكي يزيد بذلك الإبهام من وضوح الإجابة، التي سيتحفه بها، فقد أراد «عليه السلام»: أن يرتسم في ذهن السائل: أنه لا يقدم على حرب هؤلاء القوم اجتهاداً منه، ولا استناداً إلى قول مبهم، محتمل للتأويل، ولا لأمر قد يكون مرهوناُ بقيود وشروط قد تبدلت، وانتفى موضوعها.. بل هو يمتثل الأمر الإلهي الصريح، الذي لم يقيد بقيد، بل جاء لتكون القاعدة العامة، التي يجب الإلتزام بها كلما تحقق موضوعها..

ولذلك أحاله «عليه السلام» على كتاب الله سبحانه، بصورة عامة. وكان يعلم أنه سيجيل فكره في آياته، وربما لا يصل إلى شيء، فيحتاج للعودة إليه «عليه السلام» وهو في حيرة أشد، ورغبة أقوى، وانتباه أعظم لما سيقوله له..

وهكذا كان، فقد عاد إليه معترفاً بأنه لا يعرف كل ما في كتاب الله، وليعلن أنه بحاجة إلى من يعلمه، وأنه يعرف أن علياً «عليه السلام» هو الذي يعرف، ويعلِّم. فطلب منه ذلك..

فأجابه «عليه السلام» بجواب آخر قرَّبه فيه إلى موضع الجواب، ولكنه لم يضع إصبعه عليه مباشرة، بل اكتفى بالإشارة إلى أن الجواب موجود في سورة البقرة..

ولعله أراد بذلك: أن يزيد من لهفة ذلك السائل إلى سماع الجواب، فإن من يعرف أن ضالته ضمن مجموعة كبيرة من مثيلاتها، فإن أمله بالوصول إليها يكون أضعف منه حين يعلم أنها في ضمن مجموعة صغيرة من مثيلاتها، كما أن شوقه إلى الوصول إليها بصير أشد، ورغبته آكد..

وفي المرة الثالثة تلا أمير المؤمنين «عليه السلام» الآية المباركة على ذلك الرجل، وأفهمه: أن هؤلاء القوم جاءهم النبي «صلى الله عليه وآله» بالبينات، وأيده الله بالوحي، وصنع له المعجزات والكرامات.. ولكن صحابته بالرغم مما يرونه من ذلك كله اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر.

فأدرك ذلك الرجل هذا المعنى وطبقه على هذين الفريقين، وعرف من آمن ومن كفر. فحمل عليهم وقاتل حتى قتل.

ويبدو: أن هذه الواقعة قد وقعت بعد أن التحم القتال، لأن علياً «عليه السلام» لم يأذن لأحد بمهاجمة الناكثين إلا بعد أن بدأوه هم بالقتال، واستشهد بعض أصحابه..


([1]) القارة: قبيلة من بني الهون بن خزيمة، سموا قارة لاجتماعهم والتفافهم، ويوصفون بالرمي، وفي المثل: أنصف القارة من راماها. راجع: النهاية ج4 ص120.

([2]) فلَّه فانفلّ، أي كسره فانكسر. راجع: لسان العرب ج11 ص531.

([3]) من التأليب: التحريض. راجع: لسان العرب ج1 ص216.

([4]) الكافي ج5 ص53 و 54 ح4 عن ابن محبوب رفعه، الأمالي للطوسي ص169 و 284 عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي نحوه، وراجع نهج البلاغة: الخطبة 174 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص228 و 229 وبحار الأنوار ج32 ص194 و 61 وكشف الغمة ج1 ص240 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج5 ص434 ونهج السعادة ج1 ص297 و 302 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص306 والكنى والألقاب ج1 ص239.

([5]) بحار الأنوار ج32 ص189 وج41 ص206 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص112 ونهج السعادة ج6 ص292 وكتاب الفتوح لابن أعثم ج2 ص468 والمناقب للخوارزمي ص185 ومطالب السؤول ص214 وكشف الغمة ج1 ص241 وكشف اليقين ص153 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج3 ص290 .

([6]) راجع: المواقف للإيجي ج3 ص628 و 638 وتاريخ الخميس ج2 ص51 عن شرح المواقف، وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص316 والطرائف لابن طاووس ص519 وشرح مئة كلمة لأمير المؤمنين لابن ميثم ص257 وكتاب الأربعين للشيرازي ص430 وبحار الأنوار ج55 ص47 وج70 ص76 وج84 ص32 وج99 ص138 ومناقب أهل البيت «عليه السلام» للشيرواني ص222 والدر النظيم ص271 وكشف اليقين ص141.

([7]) الآية 207 من سورة البقرة.

([8]) الآية 40 من سورة الحج.

([9]) الآية 12 من سورة التوبة.

([10]) بحار الأنوار ج32 ص185 والبرهان (تفسير) ج2 ص107 وقرب الإسناد ص96 وتفسير العياشي ج2 ص77 و 78 وتفسير نور الثقلين ج2 ص188 ومستدرك الوسائل ج11 ص63.

والإستشهاد بالآية إلى آخر الرواية عن أبي عثمان البجلي، مؤذن بني أفصى. راجع: الأمالي للطوسي ص131 وبشارة المصطفى ص267 وتفسير العياشي ج2 ص78 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص223 و 224.

([11]) الأمالي للمفيد ص73 وتفسير العياشي ج2 ص79 وراجع ص78 وبحار الأنوار ج32 ص124 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ج5 ص223 و 224.

([12]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص84 الخطبة رقم 53 الفقرة رقم9 وتحف العقول ص127 ومستدرك الوسائل ج13 ص161 وبحار الأنوار ج33 ص600 وج74 ص241 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص679 و موسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج4 ص235 ونهج السعادة ج5 ص60 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص32.

([13]) راجع: بصائر الدرجات ص502 ودلائل الإمامة ص188 ونوادر المعجزات ص109 و 110 والخرائج والجرائح ج2 ص771 و 772 وذوب النضار ص29 ومثير الأحزان ص27 ومدينة المعاجز ج3 ص461 وبحار الأنوار ج42 ص81 وج45 ص85 والعوالم، الإمام الحسين ص318 ولواعج الأشجان ص256 ومستدرك سفينة البحار ج9 ص46 واللهوف في قتلى الطفوف ص41 والدر النظيم ص533 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج4 ص194.

([14]) الآية 12 من سورة التوبة.

([15]) الآية 253 من سورة البقرة.

([16]) الإحتجاج للطبرسي ج1 ص248 و 249 وبحار الأنوار ج32 ص202 وتفسير العياشي ج1 ص136 وتفسير نور الثقلين ج1 ص254 وتفسير كنز الدقائق ج1 ص601 وغاية المرام ج4 ص310.

([17]) مسند أحمد ج1 ص19 و 48 وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج2 ص110 وج4 ص6 وج8 ص50 و 140 وصحيح مسلم (ط دار الفكر) ج1 ص38 و 39 وسنن أبي داود ج1 ص347 وسنن الترمذي ج4 ص117 وسنن النسائي ج5 ص14 وج6 ص4 و 5 و 6 و 7 وج7 ص77 و 78 والسنن الكبرى للبيهقي ج4 ص104 و 114 وج7 ص3 وج8 ص136 و 176 وج9 ص49 و 182 ونيل الأوطار ج1 ص366 وج4 ص175 والسنن الكبرى للنسائي ج2 ص8 و 280 و 281 وج3 ص4 و 5 و 6 وصحيح ابن حبان ج1 ص449 و 450 و 452 والمعجم الأوسط ج1 ص288 وج2 ص67 ومسند الشاميين ج1 ص372 وج4 ص130 و 167 و 210 ومعرفة السنن والآثار ج5 ص181 والإستذكار لابن عبد البر ج2 ص152 وج3 ص214 والنص والإجتهاد ص109 وكنز العمال (ط مؤسسة الأعلمي) ج6 ص531 وج1 ص62 وكشف الخفاء ج1 ص193.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان