بحوث تسبق السيرة ( البحث الثالث )

   

صفحة :109-116   

البحث الثالث

شروط النهضة:

هناك عدة أمور تعتبر ضرورية وحتمية في بناء الحضارة، وحصول النهضة لأي شعب كان، وأية أمة كانت، ونود أن نشير إلى بعض مقومات وعناصر ذلك عموماً.

ثم.. وبمقارنة بسيطة وموجزة، نستطيع أن نتعرف على جانب من عظمة الإسلام وسموّه، وأصالته.

ومن أجل تسهيل تصور ما نريد عرضه على القارئ، نقوم بمقارنة محدودة بين واقع وظروف عرب شمال الجزيرة العربية، وهم أهل الحجاز، وبين واقع وظروف عرب جنوبها، وهم أهل اليمن.

فنقول:

ألف: لقد عاش اليمنيون في منطقة غنية وثرية، وتستطيع إذا ما اشتغل أهلها بزراعتها: أن توفر لهم لقمة العيش، وهي بالإضافة إلى ذلك أرض جبلية، صعبة المسالك، فهي إذن تستطيع في كثير من الأحيان أن توفر لهم حماية طبيعية، وقدرة على مقاومة الأعداء.

وإذا كان اليمنيون يشتغلون بزراعة أرضهم، ويستفيدون منها، ويعتبرونها المصدر الأول والأساس لحياتهم، واستمرار وجودهم؛ فمن الطبيعي أن يتولد فيهم لذلك شعور مبهم بمحبة هذه الأرض، والتمسك بها، والحنين إليها.

وهذا بالطبع هو المهم عادة في حب الناس لأوطانهم، وحنينهم إليها، حتى إنهم قد يبذلون كل غال ونفيس حتى دماءهم في سبيل الدفاع عنها، بل وحتى عن شبر واحد منها؛ فمحبة الوطن تنشأ غالباً من محبة الأرض، ومحبة الأرض تنشأ (عموماً) من الشعور بأنها تعطيه كل مقومات الحياة، وبأنها تحفظ له استمرار بقائه ووجوده، بالشكل المرضي له، والمقبول عنده.

ب: وكان في اليمن أيضاً حكومة مركزية مهيمنة تفرض النظام والقانون، وتهتم بإشاعة الطمأنينة، والأمن والسلام.

وإذا كان الإنسان يشعر بالأمن، ويعيش في ظل القانون، ولا يتخوف من أي عدو يتربص به الغوائل، فإنه يجد الفرصة للتفكير في تغيير الوضع الحياتي الذي يعيشه، إلى وضع أفضل وأكمل.

ج: ثم تتاح الفرصة لآمال وتطلعات هذا الإنسان للتعبير عن نفسها، وفرض وجودها، فتدفعه إلى بذل المحاولة، والتصرف فيما تناله قدراته في توجيهه في هذا السبيل.

د: ثم يأتي دور الأهم والأقوى تأثيراً في النهضة، ألا وهو النظام الأكمل والأشمل والأصلح، الذي يستطيع أن يبني الإنسان من الداخل، ويحافظ عليه من الخارج، ويزيل من طريقه كل العقبات التي يمكن أن تعترض سبيل تقدمه؛ ولتنمو وتتكامل في ظل ذلك النظام ـ من ثم ـ ملكات هذا الإنسان، وخصائصه، ولتجد طاقاته وإمكاناته الفرصة للتأثير في عملية التغيير للحاضر الذي يعيشه، والتخطيط الصحيح والسليم للمستقبل الذي يقدم عليه.

فإذا توفرت كل تلك العناصر لأية أمة، فإنها ولا شك سوف تكون قادرة على أن تبني حضارة، وتصنع لنفسها مستقبلاً مغرياً وزاهراً ومجيداً.

وقد كانت كل تلك العناصر متوفرة في منطقة اليمن، باستثناء العنصر الأخير منها، وكان فقدانها له بالذات هو السبب في أنها لم تستطع أن تفيد شيئاً من تلك القدرات والإمكانات التي توفرت لها، ولا يحدثنا التاريخ عن شيء ذي بال تميزت به اليمن في تاريخها القديم، سواء على الصعيد الفكري، أو الحضاري، أو غير ذلك، ولا كان فيها ما يعبر عن نظرة واعية، أو عقلية متطورة تتلاءم مع حجم إمكاناتها تلك.

كما أن الديانة اليهودية المحرَّفة، التي سيطرت عليها حقبة من الزمن، لم تستطع أن تقدم لها شيئاً يذكر في مجال النهوض بأهلها، والخروج بهم من ظلمات جهلهم، والتخفيف من شقائهم وآلامهم، تماماً كما لم تستطع المسيحية المحرفة في الرومان، والزرادشتية في الفرس، أن تؤثرا تأثيراً يذكر في ذلك.

أما في الحجاز: فقد كانت كل تلك العناصر مفقودة؛ ولكن عندما وجد العنصر الأخير منها ـ فقط ـ استطاعت هذه الأمة ـ وذلك هو الإعجاز حقاً ـ أن تنتقل من أمة متوحشة بدائية، تتصف بكل صفات الذل والمهانة، إلى أمة لا تدانيها، ولن تدانيها أية أمة أخرى على الإطلاق.

فعرب الحجاز لم يكونوا في الأكثر أهل زراعة، لأن أرضهم لم تكن صالحة لذلك؛ بسبب قلة المياه فيها، حيث لم يكن فيها حتى نهر واحد بالمعنى الصحيح للكلمة([1])، كما أن الأمطار تقل فيها بشكل ملحوظ، وكل ما كان هناك هو بعض الينابيع، التي كانت تظهر في الشتاء، وتجف في الصيف، فيرحلون عنها بحثاً عن غيرها، هذا عدا عن أن الأرض نفسها كان فيها القليل مما يصلح للزراعة.

إذن، فلا شيء يشد العربي إلى هذه الأرض، أو يربطه بها، ويجعله يحبها، ويتفانى في سبيلها، بل كان مصدر حياتهم ورزقهم هو: السيف، والماشية، والإبل بصورة عامة.

ولهذا نرى: أن أكثر ما يعز عليهم، ويحتل مكانة في نفوسهم هو هذه الأمور بالذات؛ فنرى الشاعر العربي يتغنى بالجمل، والسيف، والفرس، ويتغزل بالرياح الطيبة، التي تخفف عنه بعض ما يعانيه من آلام؛ نتيجة حر منطقته، ثم هو يناجي القمر والنجوم كثيراً أيضاً.

وإذا ما رأيناه يبكي ـ أحياناً ـ الديار والأطلال، فليس ذلك إلا لأنها كانت في وقت ما مصدر أنس له، أو لأنه هو نفسه كان حضرياً.

ولأن العربي هذا قد اتخذ الغزو والسلب وسيلة من وسائل العيش؛ فإننا نراه يهتم بالتغني بمواقفه هذه، ويفتخر باستمرار بشنّه الغارات فرساناً وركباناً.

ومن الجهة الأخرى، فـإنـه دائماً يتوقع أن يُغزى، وأن تُشن عليه الغارات، ولا يشعر بوجود سلطة تستطيع أن تحميه، فهو في خوف دائم، ورعب مستمر.

وإذا كان الأمن غير متوفر له، فكيف يمكن أن تتوفر له الفرصة للتفكير في حياته، ومحاولة الخروج من واقعه، وتحسين ظروف عيشه، ثم التخطيط للمستقبل بواقعية، وأناة، ثم العمل بهدوء واطمئنان على تنفيذ خططه، وتحقيق آماله؟!

ومن الجهة الثالثة: كيف وأنى يمكن لآماله أن تنمو، ولطموحاته أن تتجسد وهو في كل يوم يفقد أملاً، ويتحمل ألماً؟؟

وخلاصة الأمر: أنه لا سلطة مركـزية تستطيع أن تفرض هيبتها وهيمنتها بيسر وفعالية، بل إن ذلك قد يتعذر بالنسبة إلى أمة تعيش حياة التنقل والغارة وتتحول باستمرار من مكان إلى مكان.

وقد كان العرب يتجنبون الالتحام بالجيوش المنظمة ـ لتفوقها عليهم ـ فإذا تعقبتهم تلك الجيوش هربوا إلى البادية، واعتصموا بها، وكذلك يفعلون إذا واجهوا الجيش ووجدوا فيه قوة([2]).

وإذن.. فهم كانوا يفقدون كل أسباب النهضة والتقدم، ولا يملكون منها حتى الأمل بالتغيير، فضلاً عن إرادته، والعمل من أجله، هذا فضلاً عن أن الصفات الذميمة، والعادات السيئة، التي كانت تهيمن عليهم جماعات وأفراداً لم تكن تسمح لهم بأية نهضة، أو أي تقدم نحو الأفضل، إن لم تكن تزيد من بلائهم وشقائهم، وتدفعهم خطوة بل خطوات إلى الوراء.

ولكنهم مع ذلك كله، عندما وجـدوا الرسالة السماوية الحقة، استطاعت تلك الرسالة، وذلك الرسول ـ وفي فترة وجيزة جداً ـ أن تنقل هذه الأمة من حضيض الذل والمهانة إلى أوج العظمة، والعزة والكرامة، وأن تغير فيها كل عاداتها ومفاهيمها، وتخفف، بل وتقضي على كل أسباب شقائها، وآلامها، وذلك هو الإعجاز حقاً.

نعم.. لقد استطاع الإسلام في فترة لا تتجاوز سنواتها عدد أصابع اليدين أن يحدث انقلاباً حقيقياً وجذرياً في عقلية ومواقف وسلوك تلك الأمة، وفي مفاهيمها، وأن ينقلها من العدم إلى الوجود، ومن الموت إلى الحياة.

ولو أن المسيحية واليهودية وغيرهما من الأديان والمذاهب كان فيها أدنى صلاح، ومع توفر كل الظروف الملائمة لنجاحها في تغيير الأوضاع السيئة ـ آنذاك ـ لعبرت عن نفسها، ولأثبتت وجودها، مع أن المسيحية قد كانت في العرب أيضاً قبل الإسلام، وكذلك اليهودية، ولكنها لم تستطع أن تغير من عقلية العربي، وسلوكه، ومفاهيمه عن الحياة والمستقبل شيئاً، بل بقي يئد البنات، ويشن الغارات، إلى غير ذلك من أفعال وصفات.

بل إنهم ليذكرون: أن القبيلة العربية الفلانية التي كانت تدين بالمسيحية ما كانت تعرف من المسيحية غير شرب الخمر ـ كما سيأتي ـ كما أن اليهود قد عاشوا بينهم، وكان العرب يحترمونهم جداً، ويعتبرونهم وحدهم مصدراً للمعرفة والعلم ـ كما تقدم في الجزء السابق ـ ولكنهم لم يكن لهم في سلوكهم، وعقليتهم، أثر يذكر.

 

([1]) راجع: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج1 ص157 فما بعدها.

([2]) راجع: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج5 ص413 و414 و420، وراجع: تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الأول، الجزء الأول ص70 وحياة محمد لهيكل ص39 ومحاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ج1 ص33.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان