الـدعـوة فـي مـراحـلهــا الأولـي 

   

صفحة :41 - 86   

الـدعـوة فـي مـراحـلهــا الأولـي 

أول من أسـلـم:

إن أول من أسلم، واتبع وصدق، وآزر وناصر، هو أمير المؤمنين، وإمام المتقين، علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وعلى أبنائه الأئمة الطاهرين.

وأورد العلامة الأميني في كتابه القيم([1]): أقوالاً عن العشرات من كبار الصحابة، والتابعين، وغيرهم من الأعلام، وعن العشرات من المصادر غير الشيعية، تؤيد وتؤكد على أن أمير المؤمنين >عليه السلام< هو أول الأمة إسلاماً.

ومن هؤلاء الأعلام:

1 ـ علي >عليه السلام< نفسه.

2 ـ الإمام الحسن >عليه السلام<.

3 ـ الإمام الباقر >عليه السلام<.

4 ـ عمر بن الخطاب.

5 ـ سلمان الفارسي.

6 ـ أنس بن مالك.

7 ـ ابن عباس.

8 ـ أبو ذر.

9 ـ المقداد بن عمرو.

10 ـ خباب بن الأرت.

11 ـ جابر بن عبد الله الأنصاري.

12 ـ أبو سعيد الخدري.

13 ـ حذيفة بن اليمان.

14 ـ عبد الله بن مسعود.

15 ـ أبو أيوب الأنصاري.

16 ـ خزيمة بن ثابت >ذو الشهادتين<.

17 ـ عمرو بن العاص.

18 ـ سعد بن أبي وقاص.

19 ـ زيد بن أرقم.

20 ـ محمد بن أبي بكر.

21 ـ جرير بن عبد الله البجلي.

22 ـ بريدة الأسلمي.

23 ـ عفيف الكندي.

24 ـ أبو رافع.

25 ـ أبو مرازم.

26 ـ هاشم المرقال.

27 ـ عبد الله بن حجل.

28 ـ أبو عمرة >بشير بن محصن<.

29 ـ عبد الله بن خباب بن الأرت.

30 ـ عبد الله بن بريدة.

31 ـ مالك الأشتر.

32 ـ عدي بن حاتم.

33 ـ محمد بن الحنفية.

34 ـ طارق بن شهاب الأحمسي.

35 ـ عبد الله بن هاشم المرقال.

36 ـ عمرو بن الحمق.

37 ـ سعيد بن قيس الهمداني.

38 ـ عبد الله بن أبي سفيان.

39 ـ كعب بن زهير.

40 ـ ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب.

41 ـ الفضل بن أبي لهب.

42 ـ أبو الأسود الدؤلي.

43 ـ جندب بن زهير.

44 ـ مالك بن عبادة.

45 ـ زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي.

46 ـ النجاشي بن الحارث بن كعب.

47 ـ عبد الله بن حكيم.

48 ـ عبد الرحمن بن حنبل.

49 ـ عامر الشعبي.

50 ـ الحسن البصري.

51 ـ قتادة.

52 ـ ابن شهاب الزهري.

53 ـ محمد بن المكندر.

54 ـ أبو حازم سلمة بن دينار.

55 ـ ربيعة بن عبد الرحمن.

56 ـ محمد بن السائب الكلبي.

57 ـ جنيد بن عبد الرحمن.

58 ـ محمد بن إسحاق.

59 ـ الوليد بن جابر.

 

وزاد العسقلاني:

60 ـ عبد الله بن فضالة المزني.

61 ـ عمر بن مرة الجهني([2]).

بعض ما جاء في سبق علي عليه السلام إلى الإسلام:

هذا كله، عدا عن الكثير من الروايات الواردة عن النبي الأعظم >صلى الله عليه وآله<، وكلمات أمير المؤمنين >عليه السلام< نفسه، وعدا عن كلمات الصحابة والتابعين وأشعارهم، بل لقد ادعى البعض الإجماع عليه([3]).

ولعل حصر ذلك متعذر على أي باحث ومتتبع، ولذا فلا محيص لنا عن الإكتفاء بأمثلة قصيرة لتكون عنواناً وإشارة لغيرها من الكثير الطيب الذي لم نذكره، ونحيل القارئ إلى ما كتبه العلامة الأميني([4]) فليراجعه إن أراد.

فإنهم يقولون:

لقد بعث النبي >صلى الله عليه وآله< يوم الإثنين، وأسلم علي >عليه السلام< يوم الثلاثاء([5]).

ومما ورد عن النبي الأعظم >صلى الله عليه وآله< بسند صحيح قوله: أولكم وروداً علي الحوض، أولكم إسلاماً علي بن أبي طالب([6]).

وعنه >صلى الله عليه وآله<: إنه لأول أصحابي إسلاماً، أو أقدم أمتي سلماً([7]).

وعنه أنه أخذ بيد علي >عليه السلام<، فقال: هذا أول من آمن بي، وهذا أول من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصديق الأكبر([8]).

وعنه >صلى الله عليه وآله<: هذا أول من آمن بي، وصدقني، وصلى معي([9]).

وعنه >صلى الله عليه وآله<: إن أول من صلى معي علي([10]).

تصريحات أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك:

وعلي نفسه يصرح في كثير من المناسبات بذلك؛ فيقول عن نفسه: إنه لم يسبقه أحد في الصلاة مع رسول الله، وإنه أول من أسلم مع رسول الله >صلى الله عليه وآله< وإنه الصديق الأكبر >عليه السلام<، وإنه لا يعرف أحداً في هذه الأمة عَبَدَ الله قبله غير النبي >صلى الله عليه وآله<، وإنه صلى قبل أن يصلي الناس سبع سنين([11]).

ولعل المراد التعبد مع النبي >صلى الله عليه وآله< قبل البعثة بسنتين، أو خمس سنين؛ حيث بدأت إرهاصات النبوة، ثم يضم إليها ثلاث أو خمس سنين فترة الدعوة الاختيارية غير المفروضة بعد البعثة، أو لعله عَبَدَ الله حقاً مع رسول الله قبل البعثة سبع سنين إذا كان قد أسلم >عليه السلام< وهو ابن اثني عشر سنة أو حتى عشر سنين، حيث كان الرسول >صلى الله عليه وآله< يتعبد قبل البعثة وكان >صلى الله عليه وآله< على دين الحنيفية، فكان علي >عليه السلام< يَعْبُدُ الله معه >صلى الله عليه وآله<.

إلا أن يكون الصحيح في الرواية هو ما ذكره ابن بطريق أنه >صلى الله عليه وآله< قال: صلت الملائكة عليّ وعلى علي سبع سنين([12]).

ومهما يكن من أمر، فإن الكلمات الدالة على هذا الأمر كثيرة، كما أنه >عليه السلام< قد كتب هو نفسه بهذا الأمر إلى معاوية، وردده في كلماته الكثيرة المتضافرة([13]).

دليل آخر:

وإن احتجاجه >عليه السلام< بأنه أول من أسلم، واحتجاج أصحابه من الصحابة والتابعين بهذه الكثرة العجيبة على خصومهم في صفين وغيرها واهتمامهم الواضح بهذا الأمر ليدل على ذلك دلالة واضحة.

ولم نجد أحداً من أعدائه >عليه السلام< حاول إنكار ذلك، أو التشكيك فيه، أو طرح اسم رجل آخر على أنه هو صاحب هذه الفضيلة دونه، رغم توفر الدواعي لذلك، ورغم أن الطرف المقابل لا يتورع حتى عن الاختلاق والكذب على الرسول الأعظم >صلى الله عليه وآله<، بل على الله سبحانه وتعالى.

فلو أنهم عرفوا: أن كذبتهم هذه تجوز على أحد لكانوا لها من المبادرين، ولكن التسالم على هذا الأمر كان بحيث لا يمكنهم معه التوسل بأية حيلة، فكل ذلك يدل على أن ذلك قد كان أمراً مسلماً به ومجمعاً عليه، ولا يمكن إنكاره لأحد.

وكشاهد على هذا التسالم نذكر هنا حادثة واحدة فقط، جرت لسعد بن أبي وقاص، الذي كان منحرفاً عن علي >عليه السلام<، ـ كما سيأتي في معركة أحد إن شاء الله تعالى ـ ونترك ما عداها وهو كثير جداً، وهذه الحادثة هي أنه:

سمع رجلاً يشتم علياً، فوقف عليه وقرره بقوله: يا هذا، على ما تشتم علي بن أبي طالب؟ ألم يكن أول من أسلم؟ ألم يكن أول من صلى مع رسول الله >صلى الله عليه وآله<؟ ألم يكن أعلم الناس؟ الخ..([14]).

كما أن المقداد كان يتعجب من قريش لدفعها هذا الأمر عن أول المؤمنين إسلاماً، يعني علياً >عليه السلام<([15]).

خاتمة المطاف:

وأظن أن ما ذكرناه كافٍ ووافٍ في هذا المجال، ومن أراد المزيد فعليه بالمراجعة إلى الكتب المعدة لذلك.

وبعد هذا، فلا يصغى لقول النواصب والحاقدين، الذين يهتمون في طمس فضائله >عليه السلام< بكل وسيلة، ولو عن طريق الدجل والتزوير، ومنهم ابن كثير، الذي قال: >وقد ورد في أنه أول من أسلم أحاديث كثيرة، لا يصح منها شيء<([16]).

لا يا بن كثير: لقد تجنيت على الحقيقة وعلى التاريخ كل التجني، ولم تستطع أن تكتم ما يعتلج في صدرك من إحن، فجرّك ذلك إلى المكابرة، وإلى إنكار ما يكاد يلحق بالضروريات.

فإن الروايات الصحيحة والصريحة الدالة على هذا الأمر كثيرة وكثيرة جداً، كما يعلم بالمراجعة([17]).

القول بأن خديجة أول من أسلم:

ونجد في مقابل ذلك قولاً  آخر مفاده: أن خديجة كانت هي السباقة إلى الإسلام وأنها أول مخلوق آمن به، بل لقد ادعى البعض الإجماع على هذا القول([18]).

ولكنه قول مردود، لأن العديد من الروايات عن النبي >صلى الله عليه وآله<، وعن علي >عليه السلام<، وعن الصحابة والتابعين تعبر بأن علياً >عليه السـلام< أول من صلى، أو أول من آمن، أو أول الأمة أو الناس إسلاماً([19])، ولا يمكن أن يكون المقصود بالأمة أو الناس خصوص الرجال بناءً على هذا القول، ولا خصوص الصبيان، بناءً على قولٍ آخر يأتي.

 أبو بكر، وسبقه إلى الإسلام:

وبعد كل ما تقدم نعرف: أن ادعاء سبق غير أمير المؤمنين >عليه السلام< إلى الإسلام قد جاء متأخراً عن عهد الخلفاء الأربعة، ووضع بعد وفاة أمير المؤمنين >عليه السلام<، ولربما يكون قد حصل ذلك حينما كتب معاوية إلى الأقطار يأمرهم أن لا يدعوا فضيلة لعلي إلا ويأتوه بمثلها لغيره من الصحابة([20]).

ومن هنا، فإننا نعتقد: بأن القول بأولية إسلام أبي بكر، والمروي عن:

1 ـ ابن عباس.

2 ـ الشعبي.

3 ـ أبي ذر.

4 ـ عمرو بن عبسة.

5 ـ إبراهيم النخعي.

6 ـ حسان بن ثابت، الذي يروى عنه قوله:

إذا تـذكـرت شجــواً من أخي ثقـة                 فـاذكـر أخـاك أبـا بكر ومـا فعـلا
خير البـريـة أتقــاهــا وأعـدلهـــا               إلا الـنـبـي وأوفـاهـا بمـا  حصلا
والثـاني الصـادق المحمـود مشهده            وأول النـاس منهـم صدق الرسلا
عـاش حميـداً، لأمــر الله متـبـعــاً               بهدي صاحبه الماضي وما  انتقـلا(
[21])

نعم، إننا نعتقد: أن ذلك كله موضوع في وقت متأخر، تزلفاً للأمويين، كما أن شعر حسان هذا لا يبعد أن يكون منحولا‌ً، إذ لا يمكن أن يبادر إلى مخالفة ما كان متسالماً عليه بين الأمة، ولا سيما الصحابة منهم.

كما أننا نلاحظ: أن البيتين الأخيرين فيهما حشو ظاهر، وليس لهما صياغة منسجمة([22]).

ولربما يقال: إنهما بعيدان عن نَفَس حسان، وعن شاعريته، وعن سبكه، وطريقته ومما يدل على عدم صحة ذلك بالإضافة إلى ما تقدم:

أولاً: إنه قد تقدم: أن ابن عباس، والشعبي، وأبا ذر الذين روي عنهم القول بأولية أبي بكر هم أنفسهم يقولون:

إن أمير المؤمنين >عليه السلام< هو أول من أسلم، ويقول الإسكافي([23]):

إن حديثهم في علي أقوى سنداً، وأشهر من الحديث الآخر المنسوب إليهم في أبي بكر.

وأما رواية أبي ذر، وعمرو بن عبسة، فهي مضطربة، لأنها تذكر:

أن أبا ذر، وعمرو بن عبسة كلاهما ربع الإسلام، وأن بلالاً أسلم قبل أبي بكر، ولا تذكر علياً >عليه السلام<، ولا خديجة، وهذا يعني: أن بلالاً قد أسلم قبل خديجة وعلي؛ مع أن العكس هو الصحيح، فإذا كانت خديجة >رحمها الله< وعلي >عليه السلام< وبلال، وعمرو بن عبسة قد أسلموا أولاً؛ فأين يكون إسلام أبي بكر بعد هذا؟!

ثانياً: إن عائشة نفسها تعترف بأن أباها كان رابعاً في الإسلام، وقد سبقه إلى ذلك خديجة، وزيد بن حارثة، وعلي >عليه السلام<([24]).

ثالثاً: قد تقدم: أننا لم نجد أحداً يعترض على الصحابة، ولا على التابعين، ولا على أمير المؤمنين >عليه السلام< في احتجاجاتهم المتعددة على معاوية وغيره بأن علياً >عليه السلام< هو أول الأمة إسلاماً ـ لم نجد أحداً يعترض، ويقول: بل أبو بكر هو الأول.

وما روي من ذلك: من أن أبا بكر قد احتج به، فقد فنده العلامة الأميني في الغدير وأثبت أنه غير صحيح فليراجع([25]).

فإلى متى يدخرون هذه الحجة؟! ولماذا يدخرونها؟!

بل إننا لم نجد أبا بكر، ولا أحداً من أنصاره ومحبيه يحتج له بأنه أول من أسلم، رغم احتياجاتهم الشديدة إلى ذلك، ولا سيما في السقيفة؛ حيث لم يجدوا ما يحتجون به من فضائله إلا كونه كبير السن، وصاحب رسول الله >صلى الله عليه وآله< في الغار ـ كما احتج به صاحبه عمر، وغيره ثمة([26]) ـ وستأتي الإشارة إلى احتجاجاتهم تلك حين الحديث عن قضية الغار إن شاء الله تعالى.

هذا كله، عدا عن تصريح البعض بأن أبا بكر كان رابع أو خامس من أسلم([27]).

وعدا عن قول أمير المؤمنين علي >عليه السلام<: أنا الصديق الأكبر، أسلمت قبل أن يسلم أبو بكر([28]).

وعدا عن الرواية التي تقول: إن العباس قد أخبر عفيفاً بأنه لم يسلم سوى خديجة وعلي، فلو أن عفيفاً أسلم حينئذٍ كان في الإسلام ثانياً([29]).

رابعاً: إننا نقول: إن إسلام أبي بكر قد تأخر عن البعثة عدة سنوات ويدل على ذلك ـ ونحن نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم ـ الأمور التالية:

ألف ـ ما قـالـوه من أنه لمـا أسلم سماه النبي >صلى الله عليه وآلـه< صديقاً([30]) مع أن تسميته هذه ـ كما يدَّعون ـ إنما كانت بعد الإسراء حين صدقه أبو بكر وكذبته قريش([31]).

أو حين الهجرة في الغار (وكلاهما لا يصح أيضاً كما سيأتي في حديث الغار إن شاء الله تعالى).

وهم يدّعون: أن الإسراء كان بعد البعثة باثنتي عشرة سنة وإن كنا نحن نعتقد بخلاف ذلك.

وأنه كان في السنة الثانية أو الثالثة، كما سيأتي في الفصل الآتي.

ب ـ يروي البعض: أنه أسلم وآمن بعد الإسراء والمعراج فسمي يومئذٍ بـ >الصديق<([32]) مع قولهم: أن الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة بقليل ـ كما سنرى ـ .

ج ـ لـقـد روى الطبري ـ بسند صحيح كـما يقول الأميني([33]) ـ عن محمد بن سعيد، قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم إسلاماً؟

فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين([34]).

وهذا يعني: أنه قد أسلم بعد انتهاء الفترة الاختيارية للدعوة، وبعد خروجه >صلى الله عليه وآله< من دار الأرقم، لأنهم قد خرجوا بعد أن تكاملوا أربعين رجلاً، كما يقولون، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، حين الكلام حول إسلام عمر بن الخطاب.

د ـ ولسوف نذكر إن شاء الله في أواخر حديث الغار: أن أبا قحافة يذكر: أن ابن مسعود قد أسلم هو وجماعة قبل إسلام أبي بكر، وابن مسعود قد أسلم قبل إسلام عمر كما ذكره النووي في تهذيب الأسماء واللغات.

هـ ـ لقد ورد: أنه >صلى الله عليه وآله< قد بعث وأبو بكر غائب في اليمن، قال أبو بكر، فقدمت مكة، وقد بعث النبي >صلى الله عليه وآله< فجاءني صناديد قريش، إلى أن قال:

>فقالوا: يا أبا بكر، أعظم الخطب، وأجل النوائب، يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي ولولا أنت ـ أو: ولولا انتظارك ـ ما انتظرنا به؛ فإذ قد جئت فأنت الغاية والكفاية<([35])، والذي عند أبي هلال، عن الشعبي، عن أشياخه، منهم جرير، في خبر طويل هو: >قال أبو بكر: فلما قدمت مكة استبشروا، وظنوا أنه فتح عليهم بقدومي فتح، واجتمعوا إلي، وشكوا أبا طالب، وقالوا: لولا تعرضه دونه لما انتظرنا به.

قلت: ومن تبعه على مخالفة دينكم؟

قالوا: بنو أبي طالب<([36]).

ولكن لنا تحفظ على هذا النص الذي يعطي لأبي بكر منزلة كبيرة في قريش، وهي منزلة لا يؤيد التأريخ أن أبا بكر كان قد بلغها أصلاً، كما سنشير إليه في موضعه.

و ـ وعن ابن إسحاق، قال: إن أبا بكر لقي رسول الله >صلى الله عليه وآله<، فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد، من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آباءنا إلخ.. ثم ذكر إسلام أبي بكر([37]).

وإن كنا نشك في صحة هذا النص الأخير، إذ أن رسول الله >صلى الله عليه وآله< لم يعبد تلك الآلهة قط، فما معنى سؤاله عن ذلك؟!

إلا إذا قلنا إنه لم يكن يتجاهر برفضها، فصح أن يسأله عن ذلك.

ويؤيد ذلك ما رواه المقدسي، قال: >إسلام أبي بكر ـ زعم بعض الرواة: أنه كان في تجارة له بالشام، فأخبره راهب بوقت خروج النبي >صلى الله عليه وآله< من مكة، وأمره باتباعه، فلما رجع سمع رسول الله يدعو إلى الله، فجاء وأسلم<([38]).

ويؤيد ذلك أيضاً قولهم: إن أبا بكر قال للنبي >صلى الله عليه وآله<: فقدت من مجالس قومك، واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها فدعاه >صلى الله عليه وآله< إلى الإسلام فأسلم([39]).

فكل ذلك يدل على أن إسلام أبي بكر كان بعد الفترة السرية وبتعبير أدق بعد (فترة الدعوة الاختيارية، وغير المفروضة) التي استمرت ثلاث أو خمس سنوات.

وبعد أن أنذر عشيرته الأقربين، وبعد أن أُمر بالصدع بالأمر، ودعوة الناس عامة.

وبعد تكفيره للآباء والأمهات.

وبعد عرض قريش على أبي طالب أن يقنع ولده بالعدول عن هذا الأمر.

وبعد عرضهم عليه ولداً آخر على أن يخلي بينه وبينهم.

وبعد وقوع المواجهة بين قريش وبينه، ثم قيام أبي طالب دونه، ولولا انتظارهم لأبي بكر ما انتظروا به، وكل ذلك يدل على أن إسلامه قد تأخر إلى السنة الرابعة أو الخامسة إن لم يكن بعد ذلك أيضاً؛ فقد قال أبو القاسم الكوفي:

إن أبا بكر قد أسلم بعد سبع سنين من البعثة([40]).

ولربما يكون ذلك صحيحاً أو قريباً من الصحيح، إذا أخذنا بالروايات المتقدمة الدالة على أنه قد أسلم بعد اشتداد المواجهة بين الرسول وبين المشركين، وقيام أبي طالب دونه، وبعد أكثر من خمسين رجلاً، فلربما يكون المراد بالخمسين هو خصوص من أسلم بعد الإعلان بالدعوة، أو بعد الهجرة إلى الحبشة.

وهكذا يتضح: أن القول بأن أبا بكر هو أول من أسلم لا يمكن إلا أن يكون من القول الجزاف، والدعوى الفارغة، ومن المختلقات التي افتعلت في وقت متأخر.

طريق جمع فاشل:

وقال البعض: الأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال([41]).

وهو كلام فارغ، بعد أن ثبتت أولية علي >عليه السلام< على كل أحد.

وقولهم: إنه أول من أسلم من الصبيان عجيب، وذلك لما يلي:

1 ـ إنه قد جاء عنه >عليه السلام<، وعن غيره القول: بأنه أول رجل أسلم([42])، مما يعني أنه كان حينئذٍ رجلاً بالغاً.

وقد قلنا: إنه قد أسلم وعمره عشر سنوات أو اثنتا عشرة سنة.

ومن الواضح: أن الرجولية والبلوغ لا ينحصر بالسن، فإن عمرو بن العاص ـ كما يقولون ـ كان يكبر ولده عبد الله باثنتي عشرة سنة فقط([43])، والراشد بالله قد وطئ جارية وهو ابن تسع سنين، فحملت منه كما يدَّعون([44]).

كما أن ثمة أقوالاً كثيرة في سن علي >عليه السلام< حين إسلامه، وقد رأينا الحافظ عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والكليني، والحسن البصري، والإسكافي وغيرهم كثير، يذكرون في سن علي رقماً يتراوح ما بين 12 سنة إلى 16 سنة، وبعضهم يتجاوز ذلك أيضاً؛ كما تقدم بيانه في مبحث ولادته >عليه السلام<.

2 ـ قد ذكر غير واحد: أن البلوغ قد حدد بعد الهجرة، أي في غزوة الخندق، في قضية رد ابن عمر وقبوله في الغزو، أما قبل ذلك فقد كان المعتمد هو التمييز والإدراك([45])، وعليه يدور مدار التكليف، والدعوة إلى الإسلام والإيمان وعدمه.

ولـولا أن أمير المؤمنين >عليه السلام< كـان في مستوى الإسلام والإيمان، لم يقدم النبي الأعظم >صلى الله عليه وآله< على دعـوتـه إلى الإسلام، ثم قبوله منه، وإلا لكان ذلك سفهاً، ولا يمكن صدور السفه من الرسول الأكرم >صلى الله عليه وآله<.

3 ـ بل إننا نستطيع أن نستفيد من دعوته إلى الإسلام وهو صبي امتيازاً له خاصاً، يؤهله لأن يكون هو الوصي له >صلى الله عليه وآله<، أوليس قد تكلم عيسى في المهد صبياً، ويحيى أيضاً قد أوتي الحكم صبياً كما نص عليه القرآن؟

4 ـ وأيضاً، لو كان الأمر كما ذكروه؛ فلا يبقى معنى لقول النبي >صلى الله عليه وآله< عنه: إنه أول من أسلم، أو: أولكم إسلاماً؛ فإن معنى ذلك هو أن أوليته بالنسبة إلى النساء والرجال والعبيد والأحرار على حد سواء.

5 ـ وأخيراً، فإن هذا الورع المصطنع لم يوجد إلا عند هؤلاء المتأخرين، ولم نجد أحداً واجه احتجاج أمير المؤمنين والصحابة والتابعين بحجة من هذا القبيل، ولعله لم يكن لديهم ورع يبلغ ورع هؤلاء الغيارى على أبي بكر وعلى فضائله!!.

هدف الورعين (!!!) من الجمع بين الروايات.

ونستطيع أن نرجح: أن هدف أولئك الورعين من هذا الجمع بين الروايات هو إظهار:

أن إسلام غير علي >عليه السلام< كان أفضل من إسلامه، لأن إسلام غيره كان عن تدبر وتعقل، ونظر وتبصر، أما أمير المؤمنين >عليه السلام<، فقد كان إسلامه عن طيش وتقليد، كما هو شأن الصبيان كما ذكره الجاحظ([46]).

ولا نريد أن نفيض في الرد على هذه المزعمة، فإن إسلام علي >عليه السلام< كان عن تدبر وتعقل، وعن تفكير وتأمل وقد أسلم استناداً إلى فكره ورأيه، ولم يستشر حتى أباه رضوان الله تعالى عليه([47])، وقد أجاب الإسكافي وابن طاووس عن كلام الجاحظ بما فيه الكفاية، فليراجع([48]).

تنبيه:

وبالمناسبة فإن من الملاحظ: أن عمر بن الخطاب كان يعتبر البلوغ بالشبر؛ فمن بلغ ستة أشبار أجرى عليه الأحكام، ومن نقص عنها ولو أنملة تركه، وكذلك كان رأي ابن الزبير أيضاً([49]).

وعلى ذلك جرى العباسيون من بعد، فقد أمر إبراهيم الإمام العباسي أبا مسلم الخراساني: أن يقتل في خراسان كل من يتهمه، إذا كان قد بلغ خمسة أشبار([50]).

ونحن لا نريد التعليق على هذا، ونكل ذلك إلى القارئ نفسه؛ ليحكم حسبما يقتضيه ضميره ووجدانه.

مقارنة، وهدف:

وجدير بالملاحظة هنا: أن البعض يذكر: أن النبي >صلى الله عليه وآله< قال لعلي >عليه السلام<: >أدعوك إلى ترك (أو الكفر بـ)‍ اللات والعزى<([51]).

ونحن نجزم بعدم صحة هذا القول عنه >صلى الله عليه وآله<؛ إذ لم يسبق لعلي >عليه السلام< إيمان بها، ليدعوه >صلى الله عليه وآله< إلى تركها([52])، كيف وقد تربى في حجر الرسول الأعظم >صلى الله عليه وآله<، وتلقى التوحيد، وكل المكارم والفضائل عنه >صلى الله عليه وآله<.

ولنقارن بين هذا وبين ما يذكره البعض عن أبي بكر من أنه لم يسجد لصنم قط([53])، رغم أنه كان حين أسلم قد بلغ الأربعين أو تجاوزها؟! فأبو بكر إذن قد ضارع النبي >صلى الله عليه وآله< في عدم السجود للأصنام.

ولكننا لا ندري لماذا ترك دين قومه؟ وكيف لم يشتهر هذا الأمر عنه، في زمن الصحابة والتابعين؟ وبقي هكذا مخفياً إلى زمان متأخر جداً، حتى اكتشفه هؤلاء؟

وكيف غفل عنه الصحابة ومنافسوه منهم، وغفل عنه هو نفسه وأنصاره يوم السقيفة، فلم يحتج ولا احتجوا به على استحقاقه للخلافة، رغم أنهم احتجوا بكبر سنه، وما شاكل ذلك، مما لا يجدي ولا يسمن ولا يغني من جوع؟!.

من أسلم بدعاية أبي بكر؟!

ويذكرون: أن عدداً من كبار الصحابة قد أسلموا على يد أبي بكر، واستجابة لدعوته، منهم:

>طلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، و عبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة الجراح، وخالد بن سعيد بن العاص، وأبو ذر، وعثمان بن عفان، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم<([54]).

قال الجاحظ: >وقالت أسماء بنت أبي بكر: ما عرفت أبي إلا وهو يدين بالدين، ولقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام، فما دمنا حتى أسلمنا، وأسلم أكثر جلسائه<([55]).

ولكن ذلك كله محل شك وريب وذلك للأمور التالية:

1 ـ إنه قد تقدم ما يدل على أن إسلام أبي بكر قد كان بعد الخروج من دار الأرقم، وبعد اشتداد الأمر بين النبي >صلى الله عليه وآله< وقريش، وقيام أبي طالب دونه ينافح عنه ويكافح، وهؤلاء قد أسلم أكثرهم قبل ذلك، وذلك لأنه >صلى الله عليه وآله< قبل نزول قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}([56]) لم يكن مأموراً بدعوة أحد، بل كان من يسلم إنما يسلم باختياره.

ثم أمر >صلى الله عليه وآله< بدعوة عشيرته، ثم أمر بإنذار أم القرى ومن حولها، حتى انتهى الأمر بإنذار الناس كافة.

ولكنه >صلى الله عليه وآله< لما أسلم معه من أسلم وخشي حصول بعض الصدامات لهم مع قريش اختار دار الأرقم ليصلي أصحابه فيها، وبعد شهر أعلن بالأمر، فلم تكن هناك سرّية في دار الأرقم بالمعنى الدقيق للكلمة.

وأما الذين أسلموا قبل المواجهة مع قريش، فنذكر منهم:

زيد بن حارثة الذي أسلم ثانياً، وفي نفس الوقت أسلم خالد بن سعيد بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن عبسة، وعتبة بن غزوان، ومصعب بن عمير([57]) أما الأرقم بن أبي الأرقم فكان سابعاً([58])، وقصة إسلام أبي ذر معروفة، وكان إسلامه على يد النبي >صلى الله عليه وآله< نفسه، وعلي >عليه السلام< هو الواسطة، وسيأتي ذلك بعد صفحات يسيرة.

ومن الأولين أيضاً:

جعفر بن أبي طالب، وبلال، وخباب بن الأرت، والزبير بن العوام، وكل هؤلاء أسلم قبل أبي بكر ـ على حد تعبير الإسكافي في نقض العثمانية([59]).

ويرى المقدسي: أن الزبير أسلم رابعاً، أو خامساً.

2 ـ وعدا عما تقدم، فإن أبا اليقظان خالد بن سعيد بن العاص، كان هو نفسه يزعم: أنه أسلم قبل أبي بكر([60]).

وعليه فلا يصغى لما حكاه البيهقي من أنه رأى في منامه النار، ثم لقي أبا بكر فأخذه إلى النبي >صلى الله عليه وآله<، فأسلم([61]) فإن أبا اليقظان نفسه يكذب ذلك وينكره، وهو أعرف بنفسه من كل أحد.

وأما عثمان فقد اشترط لإسلامه أن يزوجه الرسول >صلى الله عليه وآله< رقية، ففعل، فأسلم([62]) فأين هي دعوة أبي بكر له، والحالة هذه؟!.

ويروي المدائني عن عمر بن عثمان: أن عثمان قال: إنه دخل على خالته أروى بنت عبد المطلب يعودها، فدخل رسول الله >صلى الله عليه وآله<، فجعل ينظر إليه، وقد ظهر من شأنه يومئذٍ شيء؛ فجرى له معه >صلى الله عليه وآله< حديث، وقرأ عليه >صلى الله عليه وآله< بعض الآيات، ثم قام >صلى الله عليه وآله< فخرج.

قال عثمان: فخرجت خلفه فأدركته، وأسلمت([63]).

فإذا أخذنا بهذه الرواية أيضاً لم يكن لأبي بكر في إسلام عثمان يد ولا نصيب.

وأما سعد بن أبي وقاص ف‍ >كان سبب إسلامه: أنه رأى في المنام قال: كأني في ظلام، فأضاء قمر، فاتبعته، فإذا أنا بزيد وعلي قد سبقاني إليه، وروي: فإذا أنا بزيد وأبي بكر، قال: ثم بلغني: أن رسول الله يدعو إلى الإسلام مستخفياً، فلقيته بأجياد، فأسلمت، ورجعت إلى أمي الخ..<([64]).

وعن إسلام طلحة يقولون: إنه كان في بصرى، فسمع خبر خروج نبي اسمه أحمد في ذلك الشهر من راهب، فلما قدم مكة سمع الناس يقولون: تنبّى محمد بن عبد الله، فأتى إلى أبي بكر، فسأله فأخبره، ثم أدخله على رسول الله >صلى الله عليه وآله< فأسلم، فأخذهما نوفل بن خويلد وقرنهما بحبل، فسميا القرينين([65]).

ولكن هذه الرواية كما ترى، لا تدل على أنه أسلم بدعوة أبي بكر إياه، بل هي في خلاف ذلك أظهر كما هو واضح، كما أنهم يذكرون رواية أخرى مفادها:

أن طلحة ذهب بنفسه إلى رسول الله فأسلم([66])، وأما أن أبا بكر وطلحة قد سميا القرينين فسيأتي أنه لا يصح أيضاً؛ وذلك ضعف آخر في هذه الرواية.

بل لقد كذّب علي >عليه السلام< أن يكون أحد من قريش قد عُذِّب كما سنرى فكيف يكون طلحة وأبو بكر قد عُذِبَّا، وقُرن أحدهما إلى الآخر؟!

3 ـ يقول الإسكافي هنا ما ملخصه:

إن أبا بكر قد عجز عن إدخال أبيه، مع أنه معه في بيت واحد، وابنه الوحيد عبد الرحمن في الإسلام، وبقيا على شركهما إلى عام الفتح، وكذا الحال في أخته أم فروة، وزوجته نملة ـ أو قتيلة ـ بنت عبد العزى، التي فارقها حين نزل قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}([67])، بعد الهجرة بعدة سنين.

ويمضي الإسكافي هنا فيقول: كيف استطاع أبو بكر أن يهيمن على سعد، والزبير، وطلحة، و عبد الرحمن وغيرهم وهم ليسوا من أترابه، ولا من جلسائه، ولا كان له معهم صداقة أو مودة، ولم يستطع أن يقنع عتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما من جلسائه، بل وأكبر منه سناً، ويأنسان إلى حديثه وطرائفه ـ كما يزعم أنصاره ـ؟! وما له لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام، وهو الذي أدبه وعلمه، وعرفه أنساب العرب، وقريش وطرائفها وأخبارها كما يدَّعون؟!.

وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب الدخول في الإسلام في تلك الفترة، وكان صديقه وأقرب الناس شبهاً به، وبحالاته، ولئن رجعتم إلى الإنصاف لتعلمن بأن إسلام هؤلاء لم يكن إلا بدعاء النبي >صلى الله عليه وآله< وعلى يديه([68]).

4 ـ وأما ما تقدم نقله عن أسماء، فهو يقتضي أن تكون أسماء وأهل بيت أبي بكر أسبق الناس إلى الإسلام، وقد عد ابن هشام ممن أسلم في الفترة الأولى من الدعوة بحيث يُعدّ من السابقين الأول أسماء وعائشة ابنتا أبي بكر([69])، وعند النووي وغيره: أن عائشة قد أسلمت بعد ثمانية عشر إنساناً وأختها أسماء أسلمت بعد سبعة عشر([70]).

ولكن قد فات هؤلاء: أن كل ما تقدم يكذب هذا الذي ذكروه هنا.

أضف إلى ذلـك: أن عمر أسمـاء كـان حين البعـثـة أربـع سنـين على أبعد التقادير، أما عمر عـائشة فنحن نقـول: إنها أيضاً كان عمرهـا قريبـاً من هذا([71]).

ولكن نفس أولئك يقولون: إنها قد ولدت بعد البعثة بخمس سنين([72])، فكيف تكونان قد أسلمتا بعد ثمانية عشر إنساناً؟ مع أن الفترة السرية أو فقل الدعوة الإختيارية، وعدم الإعلان، قد انتهت بإسلام أربعين؟!

وأما جلساؤه وأهل بيته فقد تكلمنا عنهم، ولم يبق إلا ولده محمد، وهو إنما ولد بعد مبعث النبي >صلى الله عليه وآله< بثلاث وعشرين سنة، أي قبل وفاته >صلى الله عليه وآله< بقليل.

سر التأكيد على دور أبي بكر:

وأما سر التأكيد على دور أبي بكر فقد أوضحه لنا الجاحظ، حين قال:

>ولذلك قالوا: إن من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلموا بالسيف، ولم يذهبوا في ذلك إلى العدد، بل عنوا الكثرة في القدر، لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى، كلهم يصلح للخلافة، وهم أكفاء علي >عليه السلام< ومنازعوه في الرياسة والإمامة، فهؤلاء أكثر من جميع الناس<([73]).

نعم يا جاحظ: لقد تجاوز أبو بكر كل التوقعات، حتى لقد بزَّ النبي نفسه، ولم يستطع وهو الرسول الأعظم أن يجاريـه في تلك الفضائل المجعولة ـ كما قدمنا ـ ولا ندري لماذا غلط جبرئيل ونزل عليه دونه!.

وحسبنا هنا ما ذكرناه حول هذا الموضوع؛ فإن استقصاء الكلام فيه يحتاج إلى جهد مضن ووقت طويل.

هل عمير بن أبي وقاص من السابقين؟!

ويذكر ابن هشام هنا: أن عمير بن أبي وقاص كان من جملة السابقين إلى الإسلام([74]).

ولكن ذلك لا يصح؛ لأنهم يقولون: إن عميراً قد قتل في بدر، وله ستة عشر عاماً، فيكون عمره حين البعثة سنة واحدة([75])؛ فكيف يكون من السابقين إذن؟!.

إسلام أبي قحافة:

وفي رواية: أنه لما نُبئ رسول الله >صلى الله عليه وآله<، وهو ابن أربعين سنة، صدقه أبو بكر وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة، قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}([76]). واستجاب الله له فأسلم والداه وأولاده كلهم.

ولكن هذه الرواية لا تصح، وذلك.

أولاً: لما تقدم من أن أبا بكر إنما أسلم بعد عدة سنوات من البعثة، وكان عمره حينئذٍ حوالي خمس وأربعين سنة.

ثانياً: إن أبا قحافة إنما أسلم سنة ثمان عام الفتح([77]) وأم أبي بكر أسلمت ـ كما قالوا ـ سنة ست من البعثة([78])، وأولاد أبي بكر حالهم معلوم، حتى إن أحدهم قد طلب مبارزة أبيه ـ أبي بكر ـ يوم أحد أو بدر، كما سيأتي، فكيف يقول: إنه قد أنعم الله عليه وعلى والديه بعد النبوة بسنتين، ويطلب من الله أن يوفقه لشكر هذه النعمة؟!.

ثالثاً: إن الآية المذكورة هي التي في سورة الأحقاف رقم 15، لأنها هي التي ذكرت الأربعين سنة، دون الآية التي في سورة النمل رقم 19.

وعلى هذا نقول: الأحقاف قد نزلت في المدينة، لا في مكة، وإسلام أبي بكر كان في مكة قبل عدة سنوات.

الدعوة في مراحلها التي اجتازتها:

ويرى البعض: أن الدعوة قد مرت بمراحل أربع:

الأولى: المرحلة السرية، واستمرت ثلاث أو خمس سنوات.

الثانية: الإعلان بالدعوة إلى الله بالقول فقط، دون اللجوء إلى العنف، واستمرت حتى الهجرة.

الثالثة: مرحلة الدفاع عن الدعوة بالسيف، واستمرت إلى صلح الحديبية.

الرابعة: قتال كل من وقف في سبيل الإسلام، من الوثنيين والمشركين، وغيرهم، وهو ما استقر عليه أمر الدعوة وحكم الجهاد([79]).

المرحلة السرية:

ولكننا لا نوافق على استعمال مصطلح >الفترة السرية< هنا إذ إن الظاهر هو أن النبي >صلى الله عليه وآله< لم يكن حينما بعث مأموراً بدعوة عموم الناس كما قدمنا، ولكنه كان يعرض هذا الدين بصورة طوعية وعفوية، وبدون أن يوجه الأنظار إلى ذلك، فكان هناك أفراد يسلمون تباعاً.

وقد كان هذا الأسلوب في تلك الفترة ضرورياً من أجل الحفاظ على مستقبل الدعوة، حتى لا تتعرض لعمل مسلح يقضي عليها في مهدها، حيث لا بد من إيجاد ثلة من المؤمنين، ومن مختلف القبائل يحملون هذه العقيدة ويدافعون عنها، حتى لا يبقى مجال لتصفيتهم السريعة والحاسمة من قبل أعدائهم الأشرار.

كما أنه >صلى الله عليه وآله< أراد أن لا تهدر الطاقات، وتذهب الجهود سدى، وينتهي الأمر إلى تمزق، وتوزع في الثلة المؤمنة، ثم إلى ضياع مدمر.

وأيضاً؛ فقد كانت هذه الفترة بمثابة إعداد نفسي، وتربية عقيدية وروحية لتلك الصفوة المؤمنة بربها، وبرسالة نبيه الأكرم >صلى الله عليه وآله<، تمكنهم من الصمود في وجه التحديات التي تنتظرهم.

وإذا كان >صلى الله عليه وآله< يريد: أن يقود عملية تغيير شاملة، فلا بد له من إتاحة الفرصة لتهيئة وإعداد القوى التي تستطيع أن تحقق هدفاً كبيراً كهذا، وتتمكن من الحفاظ والاحتفاظ بالوجود الفعال والمؤثر في بقاء ذلك الهدف.

النبي عليه السلام في دار الأرقم:

قال المؤرخون: ولما صار عدد المسلمين ثلاثين رجلاً ـ كما قيل ـ وصار بعض المسلمين يخرجون إلى الشعاب والجبال خارج مكة لأداء الفرائض، وإقامة الشعائر، وصار بعض المشركين يترصدونهم، ويتعمدون إيذاءهم، وحصلت صدامات فردية لهم معهم، ومنها أنه كما يقولون:

خرج جماعة من المسلمين إلى شعاب مكة للصلاة، فظهر عليهم نفر من قريش كانوا يرصدونهم، ويتبعون آثارهم، وهم يصلون؛ فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص ـ والعهدة على الراوي ـ يومئذٍ رجلاً من المشركين بلحى بعير، فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام([80]).

ولكن قد قال الزبير (أي ابن بكار): وطليب أول من دمى مشركاً في الإسلام؛ بسبب النبي >صلى الله عليه وآله< فإنه سمع عوف بن صبرة السهمي يشتم النبي >صلى الله عليه وآله<، فأخذ له لحى جمل، فضربه فشجه الخ..([81]).

ومرة أخرى تعقب مشركان مسلمَين خرجا للصلاة في أحد الشعاب، فباطشاهما([82]).

فهذه الحوادث الجزئية ـ على ما يظهر ـ قد دفعت بالنبي >صلى الله عليه وآله< إلى اختيار دار الأرقم([83])، الواقعة على الصفا ليجعلها مركزاً لدعوته، ومحلاً لاجتماع أصحابه به، ثم الابتعاد عن أنظار المشركين في عبادتهم وشعائرهم، بدلاً من الخروج إلى الشعاب من أجل الصلاة.

فكانت هذه الدار هي مركز حركته ونشاطاته وبقي فيها شهراً([84]) ولم يخرج منها حتى تكامل المسلمون أربعين رجلاً كما قيل([85])، وقيل: أكثر، وقيل: أقل، وحينئذٍ خرج >صلى الله عليه وآله< ليعلن دعوته، وليبدأ مرحلة جديدة هي أصعب مرحلة، وأخطرها، وأكثر عنفاً، وأشد بلاءً.

هذا، ولكن بعض المحققين([86])يحتمل أن يكون >صلى الله عليه وآله< قد دخل دار الأرقم مرة أو مرات، ولكن يد السياسة قد طورت هذا الأمر؛ لتكون دار الأرقم في مقابل شعب أبي طالب، بل يدَّعون: أنها دعيت دار الإسلام([87]).

لكننا في المقابل لا نرى أن دار الأرقم كانت لها هذه الأهمية، ولا هذا الدور، ولذلك تجد ابن إسحاق وهو من نعرف ـ لا يشير إلى دار الأرقم لا من قريب ولا من بعيد ـ كما أن البلاذري يذكرها بصورة عابرة، دون أية أهمية.

والذي يهتم بدار الأرقم ويبرزها على أنها مفصل تاريخي هو الواقدي بالدرجة الأولى، فلعل المسلمين ترددوا على هذه الدار مرات، فعظمت السياسة ذلك وطورته، حتى دعيت هذه الدار دار الإسلام، للتعتيم على شعب أبي طالب حسبما تقدم، وذلك عن منطق السياسة الذي عرفناه وألفناه غير بعيد.

قريش لا تهتم لمرحلة ما قبل الإعلان:

كان المشركون قد عرفوا بتنبؤ النبي >صلى الله عليه وآله< من أول الأمر، ولكنهم لم يهتموا كثيراً بالأمر ـ بادئ ذي بدء ـ ربما لأنهم اعتبروا أن القضية ليست بذات أهمية كبيرة؛ إلا من وجهة قبلية بالدرجة الأولى، ولكنهم ظلوا يتنسمون الأخبار، ويستطلعونها وكانوا يقولون: إن فتى عبد المطلب ليكلم من السماء.

إسلام أبي ذر رضوان الله عليه:

وفي هذه الفترة كان إسلام أبي ذر >رحمه الله< الذي كان رابع، أو خامس من أسلم([88])، حيث إنه سمع بمبعث النبي >صلى الله عليه وآله< فأرسل أخاه ليستقصي له الخبر، فرجع إليه، ولم يشف له غليلاً.

فذهب هو بنفسه إلى مكة؛ فكره أن يسأل عن النبي >صلى الله عليه وآله< علانية ورآه علي >عليه السلام< مضطجعاً في ناحية المسجد الحرام، فعرف أنه غريب، فاستضافه ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء، ثم سأله أبو ذر عن النبي >صلى الله عليه وآله<، فأخذه إليه بصورة سرية؛ حيث أمره أن يتبعه، فإن رأى ما يخاف منه عطف كأنه يريد أن يقضي حاجة، أو يصلح نعله.

وبعد أن أسلم أبو ذر خرج إلى المسجد الحرام؛ فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فقام إليه المشركون فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس؛ فأكب عليه، وقال: ويحكم، ألستم تعلمون: أنه من غفار، وإنها طريق تجارتكم إلى الشام؟ فتركوه، ولكنه عاد في اليوم الثاني إلى مثل ذلك، فخلصه العباس([89]).

وثمة نصوص أخرى لا مجال لذكرها هنا.

ولما ضُرب أبو ذر جاء إلى النبي >صلى الله عليه وآله< فقال: يا رسول الله، أما قريش فلا أدعهم حتى أثأر منهم، ضربوني.

فخرج حتى أقام بعسفان، وكلما أقبلت عير لقريش، يحملون الطعام، ينفر بهم على ثنية غزال؛ فتلقي أحمالها؛ فجمعوا الحنط، ويقول أبو ذر لقومه: لا يمس أحد حبة حتى تقولوا: >لا إله إلا الله<.

فيقولون: >لا إله إلا الله<، ويأخذون الغرائر([90]).

وحسب نص آخر: كان أبو ذر رجلاً شجاعاً يتفرد وحده بقطع الطريق، ويغير على الصرم([91]) في عماية الصبح على ظهر فرسه، أو على قدميه كأنه السبع..

إلى أن قال:

>فكان يعترض لعيرات قريش، فيقطعها، فيقول: لا أرد إليكم منها شيئاً، حتى تشهدوا: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله: فكان على ذلك حتى هاجر رسول الله، ومضى بدر، وأحد، ثم قدم فأقام بالمدينة<([92]).

وأسلم على يده نصف قبيلته غفار، ووعده الباقون بأن يسلموا إذا قدم النبي >صلى الله عليه وآله< المدينة([93]).

وكـان أبو ذر يتأله في الجاهلية، ويقول: >لا إله إلا الله<، ولا يـعـبد الأصنام، ويقال: إنه صلى قبل مبعث النبي >صلى الله عليه وآله< عدة سنوات([94]).

ما يستفاد من حديث إسلام أبي ذر:

أولاً: إن عدم عبادة أبي ذر للأصنام، ليس إلا من أجل منافرتها لحكم العقل، وللفطرة السليمة، حين لا تطغى على الإنسان أي من العوامل الخارجية التي تجعل على قلبه وبصره غشاوة.

ويلاحظ: أن القرآن ما زاد في مقاومته لعبادة الأصنام، والتوجيه إلى الله تعالى على أن نبه العقل، وأثاره، وأرشد إلى ما تقتضيه الفطرة السليمة في هذا المجال، وكل من يستعرض الآيات القرآنية يرى كيف أن القرآن يهتم في الإرجاع إلى الفطرة، وحكم العقل، ويعتبر أن لهما وحدهما الحق في الحكم في هذا المجال.

ثانياً: إن أسلوب علي >عليه السلام< في المحافظة على عنصر السرية، حتى لا يلتفت المشركون إلى طبيعة تحركاته وأهدافه، وأسلوبه في إيصاله أبا ذر إلى الرسول الأعظم >صلى الله عليه وآله< ـ رغم أنه لا يزال فتى يافعاً ـ إن دلَّ على شيء؛ فإنما يدلُّ على دراية وروية، وتبصر وتدبر بالأمور، مما يؤكد امتيازه >عليه السلام< على غيره، ممن عاش ومارس الأمور.

كما أن اتكال أبي ذر رجل الحكمة والتبصر على دعوة علي >عليه السلام< له، واستجابته لدعوته ونزوله ضيفاً عليه، يدلّ على أنه كان يرى في علي من الحكمة والروية ما لا يراه في غيره، مهما كان فارق السن بينه وبين أولئك كبيراً.

ولقد كان >عليه السلام< يهدف إلى الحفاظ على أبي ذر من جهة، وعلى أن لا يُلفت نظر المشركين إلى أنه يقوم بنشاط من أجل إدخال الناس في هذا الدين الجديد من جهة أخرى، وهذا الثاني هو الأهم بالنسبة إليه، فإنه لا يمكن أن يتخلى عن الدعوة في سبيل الشخص، ولكن الشخص هو الذي يضحي بنفسه وبكل ما لديه في سبيل الحفاظ على الدعوة وبقائها، ولكن هذه التضحية لا بد أن تكون في وقت الحاجة إليها، وحين يكون لا بد منها ولا غنى عنها، وإلا فلربما يكون ضررها أكثر من نفعها، أو على الأقل يكون هدراً لطاقات، وإتلافاً لقدرات ربما تكون الدعوة في يوم ما بأمسّ الحاجة إليها.

ثالثاً: ما فعلته قريش بأبي ذر لم يكن بسبب أن المواجهة كانت قد وقعت بينها وبين النبي >صلى الله عليه وآله<؛ فإن هذه المواجهة لم تكن حصلت حينئذٍ، وإنما رأت في تصرف أبي ذر هذا تحدياً لهـا، واعتداءً على شرفها، وكبريائها، ولا يقصد منه إلا تحقيرها وإذلالها، من دون مبرر ظاهر تراه وتتعقله لتصرف كهذا سواه، ولعلها أرادت من بطشها بهذا الرجل الغريب والوحيد ردع الآخرين، وإرهابهم، ومنعهم من الإقبال على الدخول في الإسلام، أو من التظاهر به.

رابعاً: إنتقام أبي ذر من قريش على ذلك النحو قد أثر فيها نفسياً، وروحياً إلى حد بعيد، وعرفها:

أنها لا يمكن أن تتعامل مع الآخرين، كما يحلو لها، وعلى حسب ما تشتهي، لأن الآخرين يملكون من الوسائل الفعالة للضغط عليها ما لا تجد معه حيلة، ولا تستطيع سبيلاً.

خامساً: إن نجاح أبي ذر في دعوته قومه من قبيلتي غفار وأسلم، حتى إنه يستغل تشوقهم للحصول على غرائر الحنطة لطرح الخيار النهائي عليهم ـ إن نجاحه هذا ـ ليدل على أنه كان بعيد الهمة والنظر عاقلاً لبيباً أريباً، يدرك أهداف الرسالة السماوية الحقة التي اعتنقها خير إدراك، ويدرك واجباته تجاهها، ثم هو ينفذ مهمته، ويقوم بواجباته على النحو الأكمل والأمثل.

سادساً: إن محاولات أبي ذر الجادة للتعرف على صدق النبي >صلى الله عليه وآله< في دعواه، وإرساله أخاه أولاً، ثم ذهابه هو بنفسه، وبقاءه ثلاثة أيام يبحث عن النبي الأكرم >صلى الله عليه وآله<، إنما كانت بدافع ذاتي ينبع من داخله، يدفعه إلى البحث عن الحق، والعمل من أجله، وفي سبيله.

وهذا يؤيد القول: بأن العقل هو الذي يحكم ويدفع إلى تعلم ما ينفع، وما يضر، للالتزام بذاك، والابتعاد عن هذا. بل هو أمر فطري مغروس في فطرة الإنسان وطبيعته وسجيته، حتى إنك تجد الطفل الذي يحس بألم النار ليس فقط لا يحاول بعد ذلك الاقتراب منها، وإنما هو يجهد بكل ما أوتي من قوة وحول في الابتعاد عنها.

سابعاً: إن موقف علي >عليه السلام< من أبي ذر ليعكس لنا: أن هذا الفتى اليافع والناشئ كان يعتز بنفسه، ويثق بها، فيدعو أبا ذر ليكون ضيفه ثلاثة أيام، ثم هو يساعده على الوصول إلى النبي >صلى الله عليه وآله< بشكل ذكي وحذر، ثم هو يتركه ثلاثة أيام لا يسأله عن أمره حتى لا يشعر هذا الضيف بأن مضيفه ربما يكون قد ضاق به ذرعاً، أو ملّ وجوده؛ وليكون قد أتاح له الفرصة ليستأنس في هذا البلد الذي يراه غريباً عليه، ويألفه، ويرتاح إليه نفسياً، كما ارتاح جسدياً؛ وليكون أنفذ بصيرة، وأكثر اطميناناً في بيان حاجته التي جاء من أجلها.

ثامناً: إن جهر أبي ذر بإسلامه، وتعريضه نفسه للضرب والإهانة من قبل المشركين، إنما يعكس لنا مدى اعتزاز أبي ذر بإسلامه هذا، ومدى استعداده للتضحية في سبيله، ثم هو يعكس مدى حنق قريش ورعونتها في مواجهة الدعوة إلى الله تعالى، حتى إنها تنسى: أن من تبطش به ربما يكون في المستقبل سبباً في عرقلة تجاراتها إلى الشام، ومضايقتها اقتصادياً.

نعم، تنسى ذلك، وتهجم عليه لتضربه، ثم ترتد عنه لا بدافع إنساني، ولا عن قناعة فكرية، وإنما لدوافع اقتصادية دنيوية، تعكس أنانيتها، ومستوى تفكيرها أولاً وأخيراً، ولا شيء أخطر على الإنسان من الأنانية التي ربما تضع على عينيه غشاوة؛ فلا يبصر الحق الأبلج، ولا يهتدي سواء السبيل.

تاسعاً: لعل أبا ذر قد أراد كسر شوكة أعداء الإسلام، وفتح ثغرة في هذا الجبروت، ثم كسر حاجز الخوف لدى المسلمين، ليتشجعوا على مواجهة الأخطار، وضرب المثل الحي لهم في مجال التضحية من أجل الدين والحق، كما أن ذلك لسوف يؤثر على من يميلون إلى هذا الدين ويتعاطفون مع المسلمين، ويثير إعجابهم بصورة كبيرة.

وأخيراً، فلسوف نرى: أن ثمة محاولات لنسبة موقف أبي ذر الشجاع والجريء والفذ هذا تجاه قريش إلى غيره من الصحابة، كأبي بكر تارة، وعمر أخرى.

ولكن كل ذلك لا يمكن أن يصح، كما سنذكره حين الحديث عن إسلام عمر، وهجرة أبي بكر.

 


([1]) راجع: الغدير ج3 ص95 و96 و99 و224 ـ 236 وج 10 ص156 و158 و164 و168 و290 و322 وج 9 ص115 و122 وراجع دلائل الصدق، والأوائل للطبراني ص78 ـ 79.

([2]) الإصابة ج2 ص357 ـ 358.

([3]) راجع: الصواعق المحرقة الفصل الأول، الباب التاسع، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص22.

([4]) راجع: الغدير ج3 ص220 ـ 243 وج 10 ص158 ـ 162.

([5]) راجع: الأوائل ج1 ص195.

([6]) مستدرك الحاكم ج3 ص136 وصححه، وتاريخ بغداد للخطيب ج2 ص81، والاستيعاب هامش الإصابة ج3 ص28 وشرح النهج للمعتزلي والسيرة الحلبية، والسيرة النبوية لدحلان، ومناقب الخوارزمي، والغدير ج3 ص220 عنهم فراجعه، والآحاد والمثاني، مخطوط في مكتبة كوپرلي رقم 235.

([7]) الغدير ج3 ص95 ـ 96 عن: مسند أحمد ج5 ص26 والاستيعاب ج3 ص36، والرياض النضرة، ومجمع الزوائد، والمرقاة، وكنز العمال، والسيرة النبوية لدحلان، والسيرة الحلبية، وليراجع: مستدرك الحاكم ج3، والمنمق، وجمع الجوامع ومجمع الزوائد ج9 ص102 عن الطبراني عن ابن إسحاق، وقال: هو مرسل صحيح الإسناد، وأخرجه الطبراني وأحمد قال الهيثمي ج9 ص101 وفيه خالد بن طهمان وثقه أبو حاتم وبقية رجاله ثقات.

([8]) الغدير ج2 ص313 عن الطبراني والبيهقي، والعدني، ومجمع الزوائد وكفاية الطالب وإكمال كنز العمال ولسوف يأتي في حديث الغار حين الكلام عن تلقيب أبي بكر بالصديق المزيد من المصادر لهذا الحديث، وفرائد السمطين ج1 ص39.

([9]) شرح النهج للمعتزلي ج13 ص225.

([10]) الغدير ج3 ص220 عن فرائد السمطين باب 47 بأربعة طرق.

([11]) مصادر ذلك ستأتي بعد الهامش التالي.

([12]) كشف الغمة للإربلي ج1 ص334.

([13]) راجع هذه النصوص كلها عن أمير المؤمنين >عليه السلام< في الغدير ج3 ص213 و221 و222 وج 10 ص158 ـ 164 وج 2 ص25 ـ 30 و314 عن: شرح النهج ج1 ص503 و404 و283 وج2 ص102 وأبي داود بإسناد صحيح، وتاريخ بغداد للخطيب ج4 ص224، ومجمع الزوائد ج9 ص102 عن أبي يعلى، وأحمد، والبزار والطبراني في الأوسط، وفرائد السمطين باب 48، والأوائل ج1 ص195 ووقعة صفين لنصر بن مزاحم ص355 و360 و132 و100 و168 وجمهرة الخطب ج1 ص178 و542 و428 وجمهرة الرسائل ج1 ص542، ومروج الذهب ج2 ص59، وتذكرة سبط ابن الجوزي ص115، ومطالب السؤل ص11، والمحاسن والمساوئ ج1 ص36 وتاريخ القرماني هامش الكامل ج1 ص218 وثمة مصادر أخرى في الغدير ج10 ص322 فراجع.

([14]) مستدرك الحاكم ج3 ص500، وصححه هو والذهبي في تلخيصه هامش نفس الصفحة، وحياة الصحابة ج2 ص514 ـ 515.

([15]) الغدير ج9 ص115 عن اليعقوبي ج2 ص140.

([16]) البداية والنهاية ج7 ص335.

([17]) راجع الغدير ج3 وإحقاق الحق، قسم الملحقات، وغير ذلك.

([18]) راجع: السيرة الحلبية ج1 ص267، وفي تهذيب الأسماء واللغات ج2 ص182 نقل عن الثعلبي الاتفاق عليه، وقال ابن الأثير: إنها أول خلق الله إسلاماً بإجماع المسلمين. راجع السيرة النبوية لدحلان ج1 ص90 وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص148 والأوائل للطبراني ص80.

([19]) راجع: السيرة النبوية لدحلان ج1 ص91، والسيرة الحلبية ج1 ص268 و275 ومناقب المغازلي، ومناقب الخوارزمي، ص18 ـ 20 والغدير ج3 ص220 ـ 236 وج10 ص168 و29 و322 وج9 ص392 تجد الكثير من التصريحات بذلك وكذا في تاريخ بغداد ج4 ص233 وحلية الأولياء ج1 ص66 وتهذيب تاريخ دمشق ج3 ص407.

([20]) راجع: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية من ص72 حتى ص74.

([21]) ديوان حسان ص29 ط أوروبا.

([22]) فليلاحظ مثلاً: كلمة منهم في البيت الثالث وقوله في الرابع: (متبعاً بهدي). وقوله: وما انتقلا إلى غير ذلك من وجوه الضعف في السبك والصياغة.

([23]) راجع، الغدير، وشرح النهج للمعتزلي ج13، وآخر كتاب العثمانية.

([24]) راجع: الأوائل ج1 ص202 وراجع ص206.

([25]) راجع: الغدير ج7 ص91 ـ 94 و224 فما بعدها.

([26]) مستدرك الحاكم ج3 ص66، وسنن البيهقي ج8 ص153 والغدير ج5 ص369 وج 7 ص92 وج 10 ص7 و13 عن عدد كبير من المصادر، وكنز العمال ج8 ص139 عن ابن أبي شيبة، وعن الكنز أيضاً ج3 ص140 ولسوف نذكر طائفة من المصادر حين الكلام عن قضية الغار.

([27]) راجع: سير أعلام النبلاء ج1 ص216.

([28]) ستأتي مصادر ذلك في أواخر الجزء الثاني من هذا الكتاب.

([29]) راجع: لسان الميزان ج1 ص395 وغير ذلك.

([30]) السيرة الحلبية ج1 ص273، والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص8.

([31]) السيرة الحلبية ج1 ص273.

([32]) مجمع الزوائد ج1 ص76 عن الطبراني في الكبير.

([33]) الغدير ج3 ص240.

([34]) تاريخ الطبري ج2 ص60 والبداية والنهاية ج3 ص28 والتعجب للكراجكي ص34.

([35]) الصواعق المحرقة ص148 ط سنة 1324 ه‍. والسيرة الحلبية ج1 ص275، والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص89، وتاريخ الخميس ج1 ص287 وتاريخ مدينة دمش ج3 ص32 وأسد الغابة ج3 ص208.

([36]) الأوائل للعسكري ج1 ص194.

([37]) دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص416 ـ 417 والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص432 ـ 433 وسيرة ابن إسحاق ص139.

([38]) البدء والتاريخ ج5 ص77.

([39]) البداية والنهاية ج3 ص29 ـ 30 والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص439.

([40]) الاستغاثة ج2 ص31.

([41]) السيرة الحلبية ج1 ص275، والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص90 ونزهة المجالس ج2 ص147 والبداية والنهاية ج3 ص17 و26 و29.

([42]) وفي سيرة ابن إسحاق ص138: أول الرجال إسلاماً، وفي مصادر أخرى: أول أصحابي إسلاماً: راجع السيرة الحلبية ج1 ص268.

([43]) المعارف لابن قتيبة ص125 ط دار إحياء التراث العربي سنة 1390 ه‍.

([44]) السيرة الحلبية ج1 ص269.

([45]) راجع إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص149 والسيرة الحلبية ج1 ص269 والكنز المدفون ص256 ـ 257 عن البيهقي.

([46]) راجع: العثمانية ص6 و7.

([47]) الفصول المختارة ص227.

([48]) راجع شرح النهج للمعتزلي ج13 حينما يورد كلام الإسكافي وراجع أيضاً: بناء المقالة الفاطمية، الصفحات الأولى من الكتاب، والبحار ج38 ص286.

([49]) المصنف ج10 ص178 وعن خصوص عمر راجع: الغدير ج6 ص171 عن كنز العمال ج3 ص116 عن ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، ومسدد، وابن المنذر في الأوسط.

([50]) راجع حياة الإمام الرضا >عليه السلام< للمؤلف ص122 عن: الطبري ط ليدن ج9 ص1974 وج 10 ص25، والكامل لابن الأثير ج4 ص295، والبداية والنهاية ج10 ص28 و64 والإمامة والسياسة ج2 ص114، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص45، والعقد الفريد ط دار الكتاب ج4 ص479، وشرح النهج للمعتزلي ج3 ص267 وضحى الإسلام ج1 ص32.

([51]) السيرة الحلبية ج1 ص268، والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص91.

([52]) الإمتاع للمقريزي ص16.

([53]) السيرة النبوية لدحلان ط دار المعرفة ج1 ص39 و92.

([54]) راجع: البداية والنهاية ج3 ص29، والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص94 ـ والسيرة الحلبية ج1 ص276 وتهذيب الأسماء واللغات ج2 ص182، وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص78.

([55]) شرح النهج للمعتزلي ج13 ص270 وعثمانية الجاحظ ص31.

([56]) الآية 214 من سورة الشعراء.

([57]) تاريخ اليعقوبي ج2 ص232 وسيرة ابن هشام ج1 ص264 وغير ذلك.

([58]) الإصابة، ترجمة الأرقم ج1 ص28.

([59]) شرح النهج ج13 ص224، والعثمانية في أواخرها حيت ينقل كلام الإسكافي ص286 والغدير ج3 ص241.

([60]) البدء والتاريخ ج5 ص96.

([61]) مستدرك الحاكم ج3 ص248، والبداية والنهاية ج3 ص32 وطبقات ابن سعد ج4 ص67 ـ 68 والاستيعاب ج1 ص401 ـ 442 والإصابة ج1 ص406 ومع ذلك فإن الرواية لا تدل على أنه أسلم بدعوة أبي بكر بل هي في ضد ذلك أظهر.

([62]) مناقب آل أبي طالب ج1 ص22.

([63]) الاستيعاب ج4 ص225.

([64]) البدء والتاريخ ج5 ص84 ـ 85.

([65]) مستدرك الحاكم ج3 ص369، والبدء والتاريخ ج5 ص82 والبداية والنهاية ج3 ص29 ودلائل النبوة للبيهقي ج1 ص419.

([66]) البدء والتاريخ ج5 ص82.

([67]) الآية 10 من سورة الممتحنة.

([68]) شرح النهج للمعتزلي ج13 ص271 عن الإسكافي، ولا يردّ على الإسكافي بامرأة نوح وولده؛ حيث لم يكونا مؤمنين، فإن الإسكافي يريد أن يقول: إن المستفاد من القرائن العامة هو أن أبا بكر لم يكن يملك المؤهلات والكفاءات التي تعطيه القدرة على أن يقنع أحداً بالدخول في الإسلام.

([69]) سيرة ابن هشام ج1 ص271.

([70]) تهذيب الأسماء واللغات ج2 ص329 و351 عن ابن أبي خيثمة في تاريخه عن ابن إسحاق، والإصابة ج4 ص229 بالنسبة لأسماء فقط.

([71]) وعد المقدسي عائشة مع الذين أسلموا في السنوات الأولى من البعثة في الفترة السرية قبل أن يدخل >صلى الله عليه وآله< دار الأرقم وقال: إنها كانت صغيرة فراجع البدء والتاريخ ج4 ص146.

([72]) سيأتي بعض الكلام في ذلك، في فصل: حتى بيعة العقبة.

([73]) العثمانية للجاحظ ص31 ـ 32 وشرح النهج ج13 ص270 ـ 271.

([74]) سيرة ابن هشام ج1 ص272.

([75]) تهذيب الأسماء واللغات ج2 ص39 والإصابة ج3 ص36.

([76]) الآية 19 من سورة النمل، فتح القدير ج5 ص118 والغدير ج7 ص327 عنه وعن الكشاف ج3 ص99، وتفسير القرطبي ج2 ص193 ـ 194 والرياض  النضرة ج1 ص47، ومرقاة الأصول ص121، وتفسير الخازن ج4 ص132، وتفسير النسفي بهامشه ج4 ص132.

([77]) أسد الغابة ج5 ص275 والاستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج4 ص162 وقاموس الرجال ج10 ص166 عن المعارف لابن قتيبة.

([78]) راجع الغدير ج7 ص324.

([79]) فقه السيرة للبوطي ص91.

([80]) تاريخ الطبري ج2 ص62 وسيرة ابن هشام ج1 ص282، والبداية والنهاية ج3 ص37، والسيرة الحلبية ج1 ص283، والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص99.

([81]) الإصابة ج2 ص233.

([82]) أنساب الأشراف للبلاذري ج1 ص117.

([83]) أسلم سابع سبعة، أو بعد عشرة كما في الإصابة ج1 ص28 والاستيعاب هامش الإصابة ج1 ص107.

([84]) وقيل: أربع سنين. راجع السيرة الحلبية ج1 ص283 والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص99.

([85]) الإصابة ج1 ص28 والسيرة الحلبية ج1 ص285 والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص99 والاستيعاب هامش الإصابة ج1 ص108.

([86]) هو العلامة السيد مهدي الروحاني رحمه الله.

([87]) التراتيب الإدارية ج1 ص408.

([88]) دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص458، طبقات ابن سعد ج4 قسم 1 ص164، وحلية الأولياء ج1 ص157، ومستدرك الحاكم ج3 ص342، والاستيعاب هامش الإصابة ج1 ص313، والإصابة ج4 ص63، وأسد الغابة ج5 ص186، والغدير ج8 ص308 ـ 309 عن بعض من تقدم وعن شرح الجامع الصغير للمناوي ج5 ص423.

([89]) هذا ملخص ما في البخاري ج2 ص206 ـ 207 ط سنة 1309هـ والبداية والنهاية ج3 ص34، وحلية الأولياء ج1 ص159، ومستدرك الحاكم ج3 ص339، والغدير ج8 ص309 ـ 310 عن بعض من تقدم وصحيح مسلم   = = ج7 ص156 والاستيعاب هامش الإصابة ج4 ص63 ودلائل النبوة لأبي نعيم ج2 ص86، وطبقات ابن سعد ج4 قسم 1 ص161 ـ 162 و164 ـ 165 والإصابة ج4 ص63.

([90]) طبقات ابن سعد ج4 قسم 1 ص164.

([91]) الصرمة: القطعة كم الإبل.

([92]) طبقات ابن سعد ج4 قسم 1 ص163، وراجع تاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص100.

(2) طبقات ابن سعد ج4 قسم 1 ص163، وراجع تاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص100.

([94]) طبقات ابن سعد ج4 ق 1 ص163. ولا بأس بمراجعة ما كتبناه حول أبي ذر في مقال لنا في كتاب: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام. وحلية الأولياء ج1 ص157.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان