بـنـاء مـسـجــد الـمـديـنـــة

   

صفحة : 76-96   

بـنـاء مـسـجــد الـمـديـنـــة 

بناء المسجد:

واشترى النبي «صلى الله عليه وآله» ـ أو وهب له ـ موضع المسجد، الذي يقال: إنه كان مربداً([1]) ليتيمين من الخزرج، كانا في حجر أسعد بن زرارة، أو غيره اشتراه ـ على ما قيل ـ بعشرة دنانير.

فأسس «صلى الله عليه وآله» المسجد في ذلك الموضع، ونقلوا إليه الحجارة من منطقة الحرة، وشارك «صلى الله عليه وآله» بنفسه في نقلها، الأمر الذي دفع الصحابة إلى الدأب في العمل، والجد فيه، حتى قال قائلهم:

لـئـن قـعـدنـــا والنبي يـعـمــل            لـذاك مـنـا الـعـمـل المـضـلـــل

وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون:

الـلـهـم إن الأجـر أجـر الآخـرة          فـارحـم الأنـصـار والمـهــاجـرة

أو نحو ذلك([2]).

وسيأتي: أن هذين البيتين أنشدهما المسلمون وهم يحفرون الخندق.

ولا مانع من تعدد الواقعة إذا تشابهت الحالات والدواعي.

وجعل طوله مئة ذراع في مثلها، أو قريباً من ذلك، وقيل: جعله سبعين في ستين.

ونحتمل أن يكون كلاهما صحيحاً، وأنه جعله في البناء الأول سبعين في ستين، ثم وسعه في البناء الثاني([3]).

وابتنى الرسول «صلى الله عليه وآله» مساكنه، وابتنى أصحابه مساكنهم حول المسجد، وكل قد شرع له إلى المسجد باباً، وقد سدت الأبواب كلها فيما بعد سوى باب أمير المؤمنين «عليه السلام»، كما سيأتي.

وقبل أن نمضي في الحديث، لا بد من الالتفات إلى بعض ما يقال هنا، من أجل تقييمه، وبيان وجه الحق فيه وذلك حسبما يلي:

أ ـ أبو بكر والعشرة دنانير:

إنهم يقولون: إن أبا بكر هو الذي دفع العشرة دنانير، ثمن المربد([4]).

ونحن نشك في ذلك.

أولاً: لأن أبا بكر لم يكن له القدرة المالية على ذلك، ولو كانت، فنحن نشك في إقدامه على هذا الأمر، وذلك استناداً إلى ما قدمناه في حديث الغار.

ثانياً: لو سلمنا وقبلنا: أنه كان قادراً، فإننا نجد في المقابل رواية تقول: إن أسعد بن زرارة قد عوض اليتيمين نخلاً له في بني بياضة، وفى أخرى: أرضاهما أبو أيوب، وفي ثالثه: معاذ بن عفراء([5]).

واحتمل البعض: أن يكون أبو بكر قد دفع الثمن، وأعطى الباقون زيادة عليه براً وصلة([6]).

ولكن ذلك ليس بأولى من العكس، أضف إلى ذلك أنه لا ينسجم مع التعبير بكلمة: «عوضهما» فإنه ظاهر في كونه ثمناً وعوضاً، لا براً وصلة.

ثالثاً: قد روى البخاري وغيره: أن الرسول «صلى الله عليه وآله» أرسل إلى ملأ من بني النجار، فقال: يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا، قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا من الله([7]).

ب ـ أحجار الخلافة:

وقد روى الحاكم، عن عائشة، قالت: أول حجر حمله النبي «صلى الله عليه وآله» لبناء المسجد، ثم حمل أبو بكر حجراً آخر، (ثم حمل عمر)([8])، ثم حمل عثمان حجراً آخر.

فقلت: يا رسول الله، ألا ترى إلى هؤلاء كيف يساعدونك؟.

فقال: يا عائشة، هؤلاء الخلفاء من بعدي.

هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه([9]).

ولكن هذه الرواية لا يمكن أن تصح، فعدا عن تناقض واختلاف نصوصها كما لا يخفى على من راجعها في المصادر المختلفة وقارن بينها، فإننا نذكر:

أولاً: قال الذهبي، بعد أن ضعف سند الحديث: «لو صح هذا لكان نصاً في خلافة الثلاثة، ولا يصح بوجه، فإن عائشة لم تكن يومئذ دخل بها النبي «صلى الله عليه وآله»، وهي محجوبة صغيرة، فقولها هذا يدل على بطلان الحديث»([10]).

ولنا تحفظ على قوله: إنها كانت صغيرة، ذكرناه في موضع آخر من هذا الكتاب.

وقال ابن كثير: «هذا الحديث بهذا السياق غريب جداً»([11]).

ثانياً: وفي مقام الإشكال على حديث سفينة: في أحجار الخلافة المتقدم([12]) قال البخاري في تاريخه: «ابن حبان لم يتابع على الحديث المذكور لأن عمر وعثمان، وعلي (كذا) قالوا: لم يستخلف النبي «صلى الله عليه وآله»([13]).

لقد قالت عائشة: «لو كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» مستخلفاً لاستخلف أبا بكر وعمر» و صححه الحاكم والذهبي([14]).

يريد البخاري: أن هذا الحديث يخالف عقيدة أهل السنة في كون النبي «صلى الله عليه وآله» لم ينص، ولم يستخلف، وبهذا يصححون خلافة أبي بكر التي جاءت بطريقة غير طبيعية ولا مألوفة.

وقد ذكر العلامة الأميني([15]): طائفة كبيرة من كلماتهم الدالة على أن الخلافة انتخابية، فهذه الرواية تكون كاذبة على مذهبهم، وهي كاذبة واقعا أيضاً، لأنه «صلى الله عليه وآله» إنما نص على أمير المؤمنين علي «عليه السلام» خليفة بعده، والنصوص الدالة على ذلك لا تكاد تحصى، وقد استدل بذلك أمير المؤمنين وصحبه، وأهل بيته وولده، وشيعته من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وإلى يومنا هذا، ولا يكاد يخلو كتاب من تلك النصوص المتضافرة والمتواترة، جملة وآحاداً([16]).

ثالثاً: إن هذه الرواية تذكر عثمان في جملة الواضعين للأحجار الأولى، ولكن عثمان ـ كما يقولون ـ كان حينئذٍ في الحبشة، كما أشار إليه السمهودي ولم يكن حاضراً في المدينة، ولأجل ذلك حذف السهيلي عثمان من الرواية([17]).

تحريف في مستدرك الحاكم:

ولعل هذا هو السر في حذفها تبرعاً من نص الحاكم، حين طبع كتابه، لأن الذهبي ذكرها في تلخيصه، وهذا يعد من التحريف الذي هو خيانة حقيقية للدين وللأمة وللأجيال.

والخلاصة: أن عثمان وإن قدم مكة حين بلغهم إسلام أهل مكة، لكنهم لما تبين لهم خلاف ذلك، رجع عدة منهم وبقي عدة، ويبدو أن عثمان قد كان من جملة من رجع كما يدل عليه قولهم: إن عثمان قد هاجر الهجرتين إلى الحبشة([18]).

وذكر العسقلاني: أنه بعد أن سمع المسلمون الذين في الحبشة بهجرته «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة، عاد منهم ثلاثون إلى مكة ومنهم ابن مسعود، الذي وصل المدينة في حين كان «صلى الله عليه وآله» يتجهز إلى بدر..([19]).

ولكن لا ندري كيف يصح كلام العسقلاني هذا؛ إذ ما هو السبب في عودتهم إلى مكة، مع أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تركها إلى المدينة!! إلا أن يكون هو إرادة الحصول على أموالهم، وهو بعيد.

ج: عثمان وعمار:

ويقولون: «كان عثمان بن عفان رجلاً نظيفاً متنظفاً، وكان يحمل اللبنة، فيجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه، ونظر إلى ثوبه، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب، فأنشأ يقول:

لا يستوى مـن يعمـر الـمساجـدا         يـدأب فـيـهـا قـائمـاً وقـاعــدا
 ومـن يـرى عـن الـتـراب حـائـدا
 

فسمعها عمار بن ياسر، فجعل يرتجز بها، وهولا يدري من يعني بها، فمر بعثمان، فقال: يا ابن سمية، بمن تعرض ـ ومعه جريدة ـ فقال: لتكفن، أو لأعترضن وجهك، فسمعها النبي «صلى الله عليه وآله»، وهو جالس في ظل بيت أم سلمة ـ وفي رواية: في ظل بيته ـ فغضب «صلى الله عليه وآله»، ثم قال: إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي، فإذا بلغ ذلك من المرء فقد بلغ، ووضع يده بين عينيه.

فكف الناس عن ذلك، ثم قالوا لعمار: إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا القرآن.

فقال: أنا أرضيه كما غضب.

فقال: يا رسول الله، ما لي ولأصحابك؟

قال: ما لك ولهم.

قال: يريدون قتلي، يحملون لبنة لبنة، ويحملون على اللبنتين والثلاث.

فأخذ بيده، فطاف في المسجد، وجعل يمسح وفرته من التراب.

ويقول: يا ابن سمية، لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية»([20]).

وهكذا نجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» يستفيد حتى من حالة المزاح التي يريد أن يثيرها عمار، في متابعة شؤون الدعوة، وفي تحصين المسلمين من الانخداع بأولئك الذين يظهرون الدين والتدين، وهم إنما يعملون من أجل تحقيق أهدافهم، وفي سبيل مصالحهم، فعلى الناس في المستقبل أن يلتفتوا لهذه الحقيقة، كما أن هذه الإشارة منه «صلى الله عليه وآله» إلى قتلة عمار الذي سيقتله ابن عم عثمان (معاوية) بحجة الطلب بدم عثمان نفسه الذي له هذا الموقف الخشن من عمار، لا يخلو من طرافة، وهو أمر يدعو إلى التأمل والتدبر حقاً.

ألم يكن عثمان في الحبشة؟!

ونعود إلى سياق الحديث فنقول: ولكن أليس قد قدمنا: أن عثمان لم يكن حاضراً حين بناء المسجد، وإنما كان في الحبشة؟!

ولعله لأجل هذا استبدل العسقلاني، والحلبي عثمان بن عفان بعثمان بن مظعون([21]).

وقبل أن نجيب عن ذلك: نشير إلى ما تقدم من أنه لا مورد لهذا الكلام لو قلنا: إنه «صلى الله عليه وآله» قد بقي عند أبي أيوب سنة أو سبعة أشهر، لأنه كان مشغولاً ببناء المسجد وبيوته، إذ من الممكن أن يصل الخبر إلى المهاجرين في الحبشة، ويأتون إلى المدينة خلال هذه المدة، ومنهم عثمان، فيكون عثمان قد شارك في البناء، وجرى ما جرى، وإن لم يشارك في التأسيس، ووضع أحجار الخلافة!!.

ولكننا على أي حال، قد استبعدنا بقاء المسلمين هذه المدة الطويلة في بناء مسجده «صلى الله عليه وآله»، وهم يعدون بالعشرات، وقد بايعه منهم في العقبة أكثر من ثمانين من المدنيين.

والجواب الصحيح هنا هو: أن الظاهر هو أن قضية عثمان وعمار قد وقعت حين البناء الثاني للمسجد، وذلك بعد عام خيبر، أي في السنة السابعة للهجرة([22]).

ويدل على ذلك:

أولاً: ما رواه البيهقي في الدلائل قال: لما قتل عمار قال عبد الله بن عمرو بن العاص لأبيه: قد قتلنا هذا الرجل، وقد قال رسول الله فيه ما قال! قال: أي رجل؟

قال: عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رسول الله «صلى الله عليه وآله» المسجد، فكنا نحمل لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين، فمر على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: تحمل لبنتين وأنت ترحض؟ أما إنك ستقتلك الفئة الباغية، وأنت من أهل الجنة، فدخل عمرو إلى معاوية الخ..([23]).

قال السمهودي بعد ذكر هذه الرواية: «قلت: وهو يقتضي أن هذا القول لعمار كان في البناء الثاني للمسجد، لأن إسلام عمرو كان في الخامسة»([24]).

وروى عبد الرزاق وغيره: أن عمرو بن العاص دخل على معاوية، وأخبره: أنه سمع رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول لعمار: تقتله الفئة الباغية([25]).

ودخل رجلان على معاوية يختصمان برأس عمار، فقال لهما عبد الله بن عمرو بن العاص: لتطب نفس كل واحد منكما لصاحبه برأس عمار، فإني سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: تقتل عمار الفئة الباغية.

فقال معاوية لعمرو: ألا تغني عنا مجنونك هذا؟([26]).

ومعلوم: أنها قضية واحدة في مناسبة واحدة.

ثانياً: لقد ورد في الرواية نفسها ما يدل على أنها قد كانت في البناء الثاني، وذلك لأنها ذكرت: أنه كان يستظل ببيت أم سلمة، ومعلوم أنه «صلى الله عليه وآله» قد بنى المسجد أولاً، ثم بنى بيوته([27])، كما أنه «صلى الله عليه وآله» كان يبني بيوته بالتدريج عند الحاجة إليها، وأول ما بنى بيت سودة وعائشة([28])، فلا ريب في أنه «صلى الله عليه وآله» قد بنى بيت أم سلمة بعد بنائه المسجد بمدة طويلة، وذلك بعد موت أبي سلمة كما سيأتي.

سر انتصار النبي  صلى الله عليه وآله لعمار:

ويلاحظ هنا: أن المسلمين قد كانوا على درجة من الوعي، بحيث كانوا يدركون: أن عملهم هذا ليس لأجل الدنيا، وإنما هو للآخرة، وأن الآخرة هي التي يجب أن يكون لها المقام الأول والأخير في تفكيرهم، وأعمالهم ومواقفهم، فإن العيش الحقيقي هو عيش الآخرة، بل لا عيش سواه، والخسران المبين هو الخسران فيها.

اللهم لا عـيـش إلا عـيـش الآخـرة         اللهم ارحـم الأنصـار والمهـاجرة

وكان انتصار النبي «صلى الله عليه وآله» لعمار، الذي ملئ إيماناً إلى مشاشه ـ كما جاءت به الرواية عنه «صلى الله عليه وآله»([29]) ـ وعذب في سبيل الله، ولم يزل ولا يزال يعمل من أجل دينه وعقيدته بإخلاص ووعي، كان انتصار النبي «صلى الله عليه وآله» له من هذا المنطلق بالذات، حينما تهدده بعض من كان يدل عمله وتصرفاته، وتجافيه عن الغبار والتراب على أنه ليس بالمستوى المطلوب، بل ربما كان للدنيا بالنسبة إليه المقام الأول، كما ربما يستفاد من أفعاله اللاحقة، فانتصر النبي «صلى الله عليه وآله» لعمار، ليدل على أنه منسجم مع جهاده، ومع وعيه وإخلاصه لدينه وعقيدته.

هذا، ولا بد من التنبيه أخيراً، إلى أن عثمان قد حاول تعيير وتحقير عمار بنسبته إلى أمه، حيث قال له: «يا ابن سمية بمن تعرض؟ الخ..» مع أن أم عمار كانت أول شهيد في الإسلام، حيث قتلت بفعل التعذيب من أجل دينها وعقيدتها.

وقد أشار النبي «صلى الله عليه وآله» في انتصاره لعمار ومحاماته عنه إلى المقام الشامخ لأمه الصابرة المجاهدة سمية «رحمها الله» فينسبه إليها، ويقول: «يا ابن سمية لا يقتلك أصحابي الخ..».

لماذا المسجد أولاً:

إن من الملاحظ: أن أول عمل بدأ به «صلى الله عليه وآله» في المدينة هو بناء المسجد، وهو عمل له دلالته وأهميته البالغة.

وذلك لأن المسلمين كانوا فئتين: مهاجرين وأنصاراً، وتختلف ظروف كل من الفئتين، وأوضاعها النفسية، والمعنوية، والمعيشية، وغير ذلك عن الفئة الأخرى.

والمهاجرون أيضاً كانوا من قبائل شتى، ومستويات مختلفة: فكرياً، واجتماعياً، مادياً، ومعنوياً، كما ويختلفون في طموحاتهم، وتطلعاتهم، وفي مشاعرهم، وفي علاقاتهم، ثم في نظرة الناس إليهم، ومواقفهم منهم، وتعاملهم معهم، إلى غير ذلك من وجوه التباين والاختلاف، وقد ترك الجميع أوطانهم وأصبحوا بلا أموال، وبلا مسكن، إلى غير ذلك مما هو معلوم، وكذلك الأنصار؛ فإنهم أيضاً كانوا فئتين متنافستين، لم تزل الحرب بينهما قائمة على ساق وقدم إلى عهد قريب.

وقد أراد الإسلام أن ينصهر الجميع في بوتقة الإسلام ليصبحوا كالجسد الواحد، في توادهم وفي تراحمهم وتعاونهم، وغير ذلك، وأن تتوحد جهودهم وأهدافهم، وحركتهم، ومواقفهم، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى إعداد وتربية نفسية، وخلقية، وفكرية لكل هذه الفئات، لتستطيع أن تتعايش مع بعضها البعض، ولتكون في مستوى المسؤولية، التي يؤهلها لها في عملية بناء للمجتمع المتكافل المتماسك الذي هو نواة الأمة الواحدة التي لها رب واحد وهدف واحد، ومصير واحد.

وليصبح هذا المجتمع قادراً على تحمل مسؤولية حماية الرسالة، والدفاع عنها، حينما يفرض عليه أن يواجه تحدي اليهود في المدينة، والعرب والمشركين، بل والعالم بأسره، لا بد أن تنصهر كل الطاقات والقدرات الفكرية والمادية وغيرها لهذا المجتمع في سبيل خدمة الهدف: الرسالة فقط.

والمسجد هو الذي يمكن فيه تحقيق كل ذلك، إذ لم يكن مجرد محل للعبادة فقط ولا غير، بل كان هو الوسيلة الفضلى للتثقيف الفكري، إن لم نقل: إنه لا يزال حتى الآن أفضل وسيلة لوحدة الثقافة والفكر والرأي، حينما يفترض فيها أن تكون من مصدر واحد، وتخدم هدفاً واحداً في جميع مراحل الحياة، مع الشعور بالقدسية، والارتباط بالله تعالى.

وهكذا فإن ذلك من شأنه أن يبعد المجتمع المسلم عن الصراعات الفكرية، التي تنشأ عن عدم وجود وحدة موضوعية للثقافة التي يتلقاها أفراده كل على حدة، فتتخالف المفاهيم والأفكار والمستويات، وتزيد الفجوات اتساعاً باستمرار، حتى يظهر نتيجة لذلك عدم الانسجام في وضوح الهدف، وفي المشاعر، وفي الاندفاع نحوه، مما يؤثر تأثيراً كبيراً على مسيرة الوصول إليه، والحصول عليه.

وبهذا يتضح: أن المدرسة التي نعرفها اليوم إذا كانت لا تعطي إلا المفاهيم الجافة، والأفكار البعيدة عن واقع الإنسان، والتي لا تنسجم مع احتياجاته، ولا مع تكوينه النفسي والفكري وغير ذلك، بالإضافة إلى عدم الشعور فيها بالله سبحانه وتعالى، أو الخضوع له، فإن هذه المدرسة لن تكون هي الوسيلة المنشودة، بل يكون المسجد هو الأفضل والأمثل حسبما أوضحناه، لا سيما وأنها لن تكون قادرة على ملء الفراغ العقائدي والفكري له، حيث يبقى عرضة للتيارات والأهواء، وفي متناول أيدي المتاجرين بالشعوب عن طريق وسائل الإعلام الهدامة التي يملكونها.

وأما استعمال وسائل الإعلام في عملية الإعداد والتربية، فإنها بالإضافة إلى ما تقدم، تجعل الإنسان إنطوائياً ومحدوداً يفكر تفكيراً شخصياً بشكل عام، وتقلل فيه إحساسه بالحاجة إلى الآخرين، وإلى الارتباط بهم، ولا تسهل عليه محبتهم ومودتهم.

وخلاصة الأمر: أن العمل الاجتماعي عبادة، والجهاد عبادة، والعمل السياسي حتى استقبال الوفود، وتدبير أمور المسلمين عبادة أيضاً.

وهكذا يقال في علاقات المؤمنين بعضهم ببعض، وتزاورهم وحضورهم مجلس الرسول «صلى الله عليه وآله» وتعلمهم الأحكام، فإن كل ذلك وسواه عبادة أيضاً.

والمسجد هو أجلى وأفضل موضع تتجلى فيه هذه العبادة، كما أن المسجد هو الوسيلة الفضلى للتثقيف، وللتربية النفسية، والخلقية، والعقائدية.

وهو من الجهة الأخرى وسيلة لشيوع الصداقات، وبث روح المحبة والمودة بين المسلمين، فإنه حينما يلتقي المسلمون ببعضهم البعض عدة مرات يومياً في جو من الشعور ـ عملاً ـ بالمساواة والعدل، وحينما تتساقط كل فوارق الجاه والمال، وغيرها، ويبتعد شبح الأنانية والغرور عن أفق هذا الإنسان، فإنه لا بد أن تترسخ حينئذٍ فيما بين أفراد هذا المجتمع أواصر المحبة والتآخي والتآلف، ويشعر كل من أفراده بأنه في مجتمع يبادله الحب والحنان، وأن له إخواناً يهتمون به، ويعيشون قضاياه ومشاكله، ويمكنه أن يستند إليهم، ويعتمد عليهم، الأمر الذي يجعل هذا المسلم يثق بنفسه وبدينه، وبأمته، وليكون المثال الحي للمؤمن الصادق الواعي والواثق، ولتكون الأمة من ثم خير أمة أخرجت للناس.

ثم إن المسجد يساعد على تبسيط العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، ويقلل من مشاكل التعامل الرسمي، والتكلفات البغيضة، التي توحي بوجود فوارق ومميزات، بل وحدود تفصل هذا عن ذاك، وبالعكس.

وبعد.. فإن اهتمام الإسلام بالمسجد وتأسيسه، حتى إن ذلك كان أول أعماله «صلى الله عليه وآله» في قباء، ثم في المدينة، ليدلنا دلالة واضحة على أنه يريد منا أن نتعامل مع هذه الدنيا، ونستفيد منها من منطلق ديني، فإنما هي مزرعة الآخرة، فلا بد أن تقاد قيادة إلهية ويستفاد منها من خلال الارتباط به تعالى.

وبعدما تقدم، فإننا نعرف: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أسس المسجد ليكون بمثابة مركز للقيادة والريادة، ففيه كان «صلى الله عليه وآله» يستقبل الوفود، ويبت في أمور الحرب والسلم، ويفصل الخصومات، وفيه كان يتم البحث عن كل ما يهم الدولة وشؤونها، والناس، ومعاملاتهم وارتباطاتهم، وليهب المسجد الناس نفحة روحية، وارتباطاً بالله جل وعلا، وببعضهم البعض في كل مجالات الحياة، ومنطلقاتها، بعيداً عن النوازع الذاتية، وعن الحساسيات القبلية والعرقية، وعن تأثيرات الفوارق الإجتماعية، وفيه كان يجد الضعيف قوته، والمهموم المغموم سلوته، والذي لا عشيرة له ينسى بل يجد فيه عشيرته، والمحروم من العطف والحنان يجد فيه من ذلك بغيته.

والخلاصة: لقد كان المسجد موضع عبادة وتعلم وتفهم لما يفيد في أمور الدين والدنيا، وتربية نفسية وخلقية، ومحلا للبحث في كل المشاكل التي تهم الفرد والمجتمع، ومكاناً مناسباً للتعارف والتآلف بين المسلمين.. إلى غير ذلك مما تقدم.

مشاركة النساء في بناء المسجد:

وبعد.. فقد ورد في بعض النصوص: أن النساء قد شاركن في بناء المسجد، فكن يحملن الحجارة لبناء المسجد ليلاً، والرجال نهاراً([30]).

ونشير هنا إلى أمرين:

أحدهما: إن مشاركة المرأة في أمر كهذا، له مساس بالحالة السياسية والاجتماعية والعبادية، يعتبر أمراً مهماً جداً، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن المرأة لم يكن لها أي دور في الحياة وكان العربي يحتقرها، ويمارس ضدها أبشع أنواع المعاملة، كما تقدمت الإلماحة إلى ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

الثاني: إن هذه المشاركة قد روعي فيها عنصر الحفاظ على الجو الخاص بالمرأة، بعيداً عن أجواء الإثارة التي لا بد وأن تترك آثارها السلبية على المجتمع، نتيجة للاختلاط، وعدم التحفظ، الذي ينشأ عن عملهن نهاراً في مرأى ومسمع من الرجال الأجانب.

مشاركة النبي صلى الله عليه وآله في بناء المسجد:

ولقد كان المسلمون قادرين على القيام بمهمة بناء المسجد، ولم تكن ثمة حاجة مادية لمشاركته «صلى الله عليه وآله»، ولكنه «صلى الله عليه وآله» قد آثر المشاركة في عملية البناء، الأمر الذي أثار الحماس لدى المسلمين، فاندفعوا يعملون بجد ونشاط، وكان نشيدهم:

لـئـن قـعــدنــا والـنـبـي يعـمـل لــذاك مـنَّـا الـعـمـل المـضــلـل

كما أن هذه المشاركة قد أعطت قيمة خاصة للعمل، وعبرت عن مدى ارتباط النبي «صلى الله عليه وآله» به وحبه له، وفوق ذلك، فإنه قد بين بذلك الخط العام لشخصية القائد في الإسلام، وأنه يجب أن يكون شعوره بالمسؤولية تجاه العمل يتعدى حدود إصدار الأوامر إلى الآخرين، ولا سيما إذا كان ذلك يرتبط بالهدف الأقصى، والمصلحة العليا للإسلام وللمسلمين.

ثم إنه كان يريد أن يكون ذلك الإنسان المتواضع المحبب للناس، الألوف لهم، ويكون معهم كأحدهم، فلا يستعلي عليهم، ولا يحتجب عنهم، وليكون ذلك هو الدرس العملي لمن يعاصره «صلى الله عليه وآله» من أصحاب النفوذ، وتأديباً لمن يأتي بعده من حكام وخلفاء وغيرهم.

جماعة خاصة بالنساء:

ويقولون: إنه كان للنساء جماعة خاصة بهن، فكان الرجال يصلون في المسجد والنساء يصلين في رحبة المسجد بإمامة سليمان بن أبي حثمة، وحين تسلم عثمان الخلافة جمع بين الرجال والنساء([31]).

والظاهر: أن الفصل بين النساء والرجال قد جاء بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» وأصل هذا الفصل قد كان في زمن عمر بن الخطاب، وفي صلاة التراويح التي ابتدعها([32]) ثم عاد عثمان فجمع بين النساء والرجال.

فلما كانت خلافة أمير المؤمنين «عليه السلام» عاد ففصل بين الرجال والنساء، وصار يصلي بالنساء رجل اسمه عرفجة([33]).

ولكن هناك إشكال في هذه الروايات وهو أنها تذكر: أن علياً «عليه السلام» قد فعل ذلك في قيام شهر رمضان، أي في الصلاة المعروفة بصلاة التراويح.

ومن المعلوم: أن علياً «عليه السلام» كان يعتبر ذلك بدعة، وكان يمنع عنه([34]) فكيف يفعله؟

فالصحيح هو: أن ما فعله «عليه السلام» إنما كان في الصلوات اليومية لا في صلاة التراويح.

كانت تلك بعض المعاني التي نستفيدها من عملية بناء المسجد، ولربما نجد الفرصة للتحدث عن ذلك في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.


([1]) المربد: محبس الإبل أو مكان تجمع التمر أو المكان الخالي خلف البيوت.

([2]) راجع ما تقدم في السيرة الحلبية ج2 ص67 و71 و64 و65.

([3]) وفاء الوفاء ج1 ص340 فما بعدها، وراجع: تاريخ الخميس ج1 ص365 و366، وراجع: التراتيب الإدارية ج2 ص77.

([4]) السيرة الحلبية ج2 ص65.

([5]) البداية والنهاية ج3 ص215، ووفاء الوفاء ج1 ص323 و324 عن ابن حجر، والسيرة الحلبية ج2 ص65.

([6]) السيرة الحلبية ج2 ص65، ووفاء الوفاء ج1 ص323 و324.

([7]) صحيح البخاري (ط الميمنية) ج1 ص57، وتاريخ الطبري (ط الاستقامة) ج2 ص116، والكامل لابن الأثير (ط صادر) ج2 ص110، ووفاء الوفاء ج1 ص323، والتراتيب الإدارية ج2 ص77.

([8]) الزيادة من تلخيص المستدرك.

([9]) مستدرك الحاكم ج3 ص96 و97 وتلخيصه للذهبي بهامشه، وراجع: وفاء الوفاء ج1 ص332 و333 و351 وراجع ص251، والبداية والنهاية ج3 ص218، وج6 ص204 مصرحا بأن ذلك كان في مسجد المدينة، والسيرة الحلبية ج2 ص56 و66، وتاريخ الخميس ج1 ص344 و343، ودلائل النبوة للبيهقي ج2 ص272.

([10]) تلخيص المستدرك للذهبي، المطبوع بهامش مستدرك الحاكم ج3 ص97.

([11]) البداية والنهاية ج3 ص218.

([12]) مستدرك الحاكم ج3 ص13.

([13]) السيرة الحلبية ج2 ص66.

([14]) مستدرك الحاكم ج3 ص78.

([15]) راجع: الغدير ج5 ص357 ـ 375.

([16]) راجع على سبيل المثال: الغدير ج1 ص195 ـ 213.

([17]) راجع وفاء الوفاء ج1 ص252.

([18]) راجع: طبقات ابن سعد ج1 قسم1 ص138، والكامل لابن الأثير ج3 ص185، وفي البدء والتاريخ ج5 ص17: أن رقية زوجة عثمان أسقطت علقة في السفينة في هجرتها الأولى إلى الحبشة.

([19]) فتح الباري ج7 ص145.

([20]) سيرة ابن هشام ج2 ص142، تاريخ الخميس ج1 ص345، والأعلاق النفيسة، ووفاء الوفاء ج1 ص329، والسيرة الحلبية ج2 ص72، وقد ذكره في الغـديـر = = ج9 ص21 و22 و27 عن مصادر كثيرة جداً، لكنه أخذ منه بعض فقراته، فلا بد من مراجعة تلك المصادر الكثيرة لمن أراد المزيد من التحقيق.

([21]) السيرة الحلبية ج2 ص71، وهامش السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص142 عن المواهب اللدنية.

([22]) وفاء الوفاء ج1 ص338.

([23]) تذكرة الخواص ص93 عن ابن سعد في الطبقات، والفتوح لابن أعثم ج3 ص119 و130، والثقات لابن حبان ج2 ص291، وأنساب الأشراف بتحقيق المحمـودي ج2 ص313 و317، وطبقـات ابـن سـعـد ج3 قسـم1 ص180 = = و181، ونقل عن مصنف ابن أبي شيبة ومسند أحمد ج2 ص164، وراجع هامش ص313 من أنساب الأشراف ج2 بتحقيق المحمودي، ومناقب الخوارزمي ص160، ووفاء الوفاء ج1 ص231 و232.

([24]) وفاء الوفاء ج1 ص331 و332.

([25]) المصنف ج11 ص240، وليراجع مجمع الزوائد ج9 ص297، وج7 ص242 عن أحمد في المسند والطبراني.

([26]) أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج2 ص313، ومسند أحمد في مسند عبد الله بن عمرو، وفي هامش الأنساب عن مصنف ابن أبي شيبة، وعن فتح الباري، وعن مصادر كثيرة.

([27]) زاد المعاد ج1 ص25 والسيرة الحلبية ج2 ص87.

([28]) تاريخ الخميس ج1 ص346، ووفاء الوفاء ج2 ص458 و462: استظهر الشمس الذهبي أنه بنى أولاً بيت سودة، ثم لما احتاج إلى منزل عائشة بناه، وهكذا سائر بيوته «صلى الله عليه وآله» بناها في أوقات مختلفة.

([29]) البداية والنهاية ج7 ص312، وسنن النسائي ج8 ص111، والإصابة ج2 ص512، وتهذيب التهذيب ج7 ص409، وحلية الأولياء ج1 ص139، وسنن ابن ماجة ج1 ص52، والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج2 ص478.

([30]) راجع: كشف الأستار عن زوائد البزار ج1 ص206 و222 و249 ومجمع الزوائد.

([31]) حياة الصحابة ج2 ص171 وطبقات ابن سعد ج5 ص26.

([32]) راجع: التراتيب الإدارية ج1 ص73 عن الطبقات.

([33]) حياة الصحابة ج3 ص171 عن كنز العمال ج4 ص282 عن البيهقي.

([34]) دلائل الصدق ج3 القسم الثاني ص79، ولكنهم لم يستجيبوا لمنعه >عليه السلام<.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان