تـشــريـع بـعـض الـعـبــــادات

   

صفحة :183-204   

تـشــريـع بـعـض الـعـبــــادات

 

الزيادة في الصلاة:

وقد ورد في بعض الروايات المعتبرة([1]): أن الصلاة كانت في أول الأمر ركعتين ركعتين، فرضها الله تعالى على العباد مباشرة، وفوض لرسوله زيادة معينة يزيدها عليها في الوقت المناسب، من دون حاجة إلى وحي جديد، فزاد «صلى الله عليه وآله» في المغرب ركعة واحدة، وفي الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين.

وقيل: إن هذه الزيادة كانت في السنة الأولى من الهجرة، وقيل: بعد ولادة الحسنين «عليهما السلام».

وقد يقال: أن الأول هو الأصح، لورود ذلك في حديث تحويل القبلة ـ الذي سيأتي الكلام فيه هو وفرض الزكاة بعد بدر ـ وذلك كان قبل ولادتهما «عليهما السلام».

إلا أن يقال: إن هذه الرواية موضع شك، فقد تعودنا من هؤلاء الناس التلاعب في النصوص والآثار إذا كانت تثبت فضلاً وكرامة لعلي وأهل بيته «عليهم السلام».

وعلى كل حال، فإن هذه الزيادة غير مستهجنة، فإن تشريع الأحكام كان تدريجياً؛ وعلى الأخص تلك الأحكام التي ربما يصعب الالتزام بها على العربي؛ لمخالفتها لما اعتاد عليه، وركن وسكن إليه.

قول آخر في فرض الصلاة:

وبعد ما تقدم: فهناك روايات يظهر منها: أن الصلاة قد فرضت تامة من أول الأمر، أو على الأقل كانت تامة في مكة فقد قالوا:

1 ـ كان أول صلاة صلاها رسول الله «صلى الله عليه وآله» الظهر، فأتاه جبرائيل فقال: {إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}([2]).

قال: فقام جبرائيل بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، والنبي «صلى الله عليه وآله» خلفه، ثم الناس خلف رسول الله، والنساء خلف الرجال، قال: فصلى بهم الظهر أربعاً، حتى إذا كان العصر، قام جبرائيل ففعل مثلها، ثم تذكر الرواية صلاة المغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً([3]).

وواضح: أن سورة الصافات مكية، فالرواية تدل على أن الصلاة فرضت تماماً في مكة.

2 ـ وعن نافع بن جبير، وغيره: لما أصبح رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليلة أسري به فيها، لم يرعه إلا جبرائيل يتدلى حين زاغت الشمس، ثم تذكر الرواية أنه صلى بهم الظهر أربعاً، والعصر كذلك الخ..([4]).

3 ـ وعن الحسن البصري: إن صلاة الحضر أول ما فرضت فرضت أربعاً([5]).

ولكننا لا نستطيع قبول ذلك، لوجود الروايات الثابتة والصحيحة عند الشيعة، وعند غيرهم، الدالة على أن صلاة الحضر قد فرضت أولاً ركعتين، ثم زيد فيها.

إلا أن يكون المراد: أن الصلاة أبلغت إلى النبي «صلى الله عليه وآله» أولاً كاملة، ولكن المصلحة كانت تلزم أولاً بركعتين، ثم صارت تلزم بالكل، وفوض إلى النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» أمر تبليغ ذلك في الوقت المناسب.

ولذلك فقد اعتبرت الركعتان الأوليان فريضة، أي ما فرض من الله مباشرة على العبد، والباقي سنة، وهو ما أبلغ حكمه للنبي «صلى الله عليه وآله» ليبلغه في صورة تحقق موضوعه، وهو المصلحة المقتضية له.

فرض الزكاة:

ويقولون: إن فرض زكاة الأموال كان بعد بدر في السنة الثانية، وذلك بعد فرض زكاة الفطر.

وقيل: بل فرضت الزكاة في السنة الثالثة.

وقيل: في الرابعة([6]).

ولكن الصحيح: هو ما ذهب إليه البعض([7]) من أن فرض الزكاة كان في مكة.

وذلك بدليل:

1 ـ إن عدة آيات قرآنية نزلت في مكة تأمر بإيتاء الزكاة، ونذكر من ذلك: قوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ..} وهي في سورة مكية([8]).

وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} وهي مكية([9]).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وهي مكية([10]).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وهي مكية أيضاً([11]). ولتراجع سورة الروم المكية الآية 39.

ثم إن الله تعالى قال: عن إسحاق، ويعقوب، ولوط، وإبراهيم «عليهم السلام»: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ}([12]).

وقد حكى الله سبحانه على لسان عيسى قوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً}([13]).

وقال تعالى عن إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}([14]).

وكل ما تقدم إنما ورد في سور مكية.

وفي الآيات الأخيرة دلالة على تشريع الزكاة في الأمم السالفة أيضاً، وقد علمنا: أنها لم تنسخ.

2 ـ وروي عن أبي طالب: أنه حدث عن النبي «صلى الله عليه وآله»: إن ربه أرسله بصلة الأرحام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة([15]).

3 ـ عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: لما بعث النبي «صلى الله عليه وآله» أتيته لأبايعه فقال: لأي شيء جئت يا جرير؟

قلت: جئت لأسلم على يديك، فدعاني إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة([16]).

4 ـ وقد روى الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، وأبي بصير، وبريد، وفضيل، كلهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله «عليهما السلام»، قال: فرض الله الزكاة مع الصلاة([17]).

وسند هذه الرواية جيد، كما ترى.

5 ـ ويؤيد ذلك أيضاً: أن جعفر بن أبي طالب قد ذكر الزكاة لملك الحبشة، على أنها مما أمرهم الله به([18]).

رواية تعارض ما سبق:

ولكن ربما ينافي ما قدمناه، ما جاء في رواية صحيحة السند: أنه لما أنزلت آية الزكاة، التي في سورة التوبة، وهي مدنية، ومن أواخر ما نزل، أمر «صلى الله عليه وآله» مناديه في الناس: إن الله فرض عليكم الزكاة، وبعد أن حال الحول أمر مناديه فنادى في المسلمين: أيها المسلمون، زكوا أموالكم تقبل صلاتكم، قال: ثم وجه عمال الصدقة وعمال الطسوق([19]).

ولكن هناك عشرات الآيات التي نزلت قبل سورة التوبة، والتي ربما تصل إلى ثلاثين آية، كلها تدل على فرض الزكاة، وحملها كلها على الاستحباب، أو على خصوص زكاة الفطرة بعيد جداً.

فلا بد من حمل هذه الرواية على أن الزكاة، وإن كانت قد شرعت قبل هذا الوقت، إلا أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يضع الجباة لها إلا بعد نزول هذه الآية، ويمكن أن يكون إيجابها قد حصل في مكة، ولكن فرض أخذها، والإلزام بدفعها قد كان في المدينة.

فرض زكاة الفطرة:

وإذا كانت زكاة الفطرة فرضت قبل زكاة الأموال، فتكون هي أيضاً قد فرضت في مكة، ويدل على ذلك بالإضافة إلى ما تقدم:

ما ورد في سفر السعادة من أنه «صلى الله عليه وآله» كان يرسل منادياً ينادي في الأسواق، والمحلات، والأزقة في مكة: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ومسلمة([20]).

وإن كنا نستبعد ذلك، بسبب حساسية الوضع فيما بين المسلمين والمشركين آنئذٍ.

فرض الصيام:

ويقولون: إن صيام شهر رمضان المبارك قد فرض في المدينة في السنة الثانية([21])، حين نزول قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ..} إلى قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..}([22]).

وكان الناس قبل فرض صوم شهر رمضان يصومون أياماً، كما ذكره القمي([23]).

وذكر الحلبي: أنه «صلى الله عليه وآله» كان قبل فرض شهر رمضان يصوم هو وأصحابه ثلاثة أيام، وهي الأيام البيض من كل شهر([24]).

ومما يدل على فرض الصيام في مكة، كلام جعفر بن أبي طالب رحمه الله المتقدم مع ملك الحبشة، وفيه: أن النبي «صلى الله عليه وآله» أمرهم بالصلاة والزكاة، والصيام.

مناقشة وردها:

لكن البعض قد سجل تحفظاً هنا، فقال: إنه يغلب على ظنه أن تكون قصة جعفر وملك الحبشة موضوعة؛ بدليل ذكر الصيام فيها، وهو لم يشرع إلا بعد الهجرة إلى الحبشة([25]).

ولكن هذا التحفظ لا اعتبار به؛ إذ لماذا لا يكون نفس كلام جعفر هذا دليلاً على تشريع الصيام في مكة؟!.

يضاف إليه قولا القمي والحلبي المتقدمان: إلا أن يكون مراده بتحفظه المسجل خصوص صيام شهر رمضان، فلا مجال حينئذٍ للاعتراض عليه بكلام الحلبي والقمي رحمه الله.

لكن مما يدل على أن شهر رمضان قد فرض في مكة: أنه لما أسلم عمرو بن مرة الجهني، وأرسله «صلى الله عليه وآله» إلى قومه، قال لهم:

«إني رسول من رسول الله إليكم: أدعوكم إلى الجنة، وأحذركم من النار، وآمركم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله، ورفض الأصنام، وحج البيت، وصيام شهر رمضان، شهر من اثني عشر شهراً، فمن أجاب فله الجنة» وكان ذلك في أول بعثة النبي «صلى الله عليه وآله»([26]).

هذا، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الصوم كان مشرعاً في الأمم السالفة، فقد قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ}([27]).

والمراد بالأيام المعدودات هو شهر رمضان المبارك، كما فسرتها الآية نفسها.

صيام يوم عاشوراء:

ويذكرون هنا أيضاً: أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» حينما قدم المدينة، وجد يهود المدينة يصومون يوم عاشوراء، وهو العاشر من المحرم([28])؛ فسألهم عن ذلك، فقالوا ـ على ما في الصحيحين ـ وغيرهما: «هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه.

فقال «صلى الله عليه وآله»: فأنا أولى بموسى، وأحق بصيامه منكم، فصامه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأمر بصيامه»([29]).

وكان ذلك قبل أن يفرض صوم شهر رمضان.

وفي الصحيحين وغيرهما أيضاً: عن عائشة، وغيرها: كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يصومه، فلما هاجر إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال: «من شاء صامه، ومن شاء تركه»([30]).

ويذكر مسلم وغيره: أن صيامه «صلى الله عليه وآله» ليوم عاشوراء كان قبل وفاته «صلى الله عليه وآله» بسنة([31]).

كذب تلك الروايات:

ونحن نعتقد ونجزم: بأن ذلك كله من نسج الخيال.

فبعد غض النظر عن:

1 ـ المناقشة في أسانيد تلك الروايات، وكون أكثر رواتها محل تهمة وريب، كما أن فيهم من لم يأت إلى المدينة إلا بعد عدة سنين من الهجرة كأبي موسى الأشعري، وفيهم من كان حين الهجرة طفلاً صغيراً كابن الزبير، فضلاً عن شهوده لما قبلها، وفيهم من لم يسلم إلا بعد سنوات من الهجرة كمعاوية.

2 ـ وعن تناقضها فيما بينها، يكفي أن نذكر: أن رواية تقول: إنه صام يوم عاشوراء في المدينة، متابعة لليهود، ولم يكن يعلم به.

وأخرى تقول: إنه كان يصومه هو والمشركون في الجاهلية.

وثالثة: إنه ترك يوم عاشوراء بعد فرض شهر رمضان.

وأخرى: إنه لما صامه قالوا له: إنه يوم تعظمه اليهود، فوعد أن يصوم اليوم التاسع في العام المقبل؛ فلم يأت العام المقبل حتى توفي «صلى الله عليه وآله»([32]).

ورواية أخرى عن معاوية، الذي لم يسلم إلا عام الفتح، تقول: إنه «صلى الله عليه وآله» لم يأمر أصحابه بصيام عاشوراء، بل قال لهم: لم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر.

إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف التي تظهر بالتتبع والمقارنة.

وقد ذكر شطراً منها ابن القيم. فراجع([33]).

فنحن بعد غض النظر عن ذلك، نشير إلى ما يلي:

أولاً: إن الرواية الأولى تفيد: أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يجهل بسنة أخيه موسى، وأنه تعلمها واستفادها من اليهود، وقلدهم فيها، ولا ضير عند هؤلاء في ذلك، فإنهم يروون ـ ونحن نستغفر الله من ذلك ـ : أنه «صلى الله عليه وآله» كان يحب موافقة أهل الكتاب في كل ما لم يؤمر به([34]).

ثم يروون عنه «صلى الله عليه وآله» ما يناقض ذلك ـ وكذلك هو يناقض نفسه دائماً عندهم، حتى في هذا المورد ـ فهو الذي يكره في الأذان بوق اليهود وناقوس النصارى، ويخالفهم في معاملة الحائض، ويأمر بصبغ الشعر، مخالفة لليهود والنصارى، وينهى عن تقليدهم في الإسلام([35]).

وكان «صلى الله عليه وآله» يصوم يوم السبت والأحد كثيراً، يقصد بذلك مخالفة اليهود والنصارى([36]).

بل لقد بلغ في مخالفته لهم حداً جعل اليهود يقولون: «ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه»([37]).

وقال ابن الحاج: «وقد كان عليه الصلاة والسلام يكره موافقة أهل الكتاب في كل أحوالهم، حتى قالت اليهود: إن محمداً يريد أن لا يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه».

وقد ورد في الحديث: «من تشبه بقوم فهو منهم»([38]).

ثانياً: إن إطلاق كلمة عاشوراء على العاشر من محرم إنما حصل بعد استشهاد الإمام الحسين «عليه السلام»، وأهل بيته وصحبه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ثم إقامة المآتم لهذه المناسبة من قبل أئمة أهل البيت «عليهم السلام» وشيعتهم رضوان الله تعالى عليهم، ولم يكن معروفاً قبل ذلك على الإطلاق، وقد نص أهل اللغة على ذلك، فقد قال ابن الأثير، «هو اسم إسلامي»([39]).

وقال ابن دريد: إنه اسم إسلامي لا يعرف في الجاهلية([40]).

ثالثاً: إننا لم نجد في شريعة اليهود صوم يوم عاشوراء، ولا هم يصومونه الآن، ولا رأيناهم يعتبرونه عيداً أو مناسبة لهم([41]).

رابعاً: قد تقدم: أن صوم شهر رمضان قد فرض في مكة قبل الهجرة، فراجع.

وبعد كل ما تقدم، وثبوت كذب هذه الأحاديث؛ فلا يبقى مجال لجعل عدول النبي «صلى الله عليه وآله» عن صوم يوم عاشوراء من أسباب حقد اليهود على المسلمين، كما زعمه البعض([42]).

في فضائل يوم عاشوراء أيضاً:

وعلى كل حال، فإننا نجدهم يذكرون في فضل عاشوراء في أول شهر محرم؛ روايات أخرى أغرب وأعجب، حتى إن من يقرؤها يخرج بانطباع: أنه لا أفضل من ذلك اليوم على الإطلاق ـ حتى ولا ليلة القدر ـ ففيه كانت أهم الأحداث التي لا يمكن أن ينساها التاريخ البشري أو يتجاهلها، حتى ولادة النبي «صلى الله عليه وآله»، وهجرته، اللتين هما في ربيع الأول بالاتفاق!!([43]).

وفيه أغرق الله فرعون، ونجا موسى وقومه، واستوت سفينة نوح على الجودي، وتاب الله على آدم الخ..([44]).

أيوم عزاء أم يوم عيد؟!:

ويقول أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية، بعد ذكر ما جرى على الحسين «عليه السلام» في يوم عاشوراء:

«فأما بنو أمية، فقد لبسوا فيه ما تجدد، وتزينوا، واكتحلوا، وعيدوا، وأقاموا الولائم، والضيافات، وأطعموا الحلاوات والطيبات، وجرى الرسم في العامة على ذلك أيام ملكهم، وبقي فيهم بعد زواله عنهم، وأما الشيعة، فإنهم ينوحون، ويبكون، أسفاً لقتل سيد الشهداء فيه الخ..»([45]).

ويقول المقريزي ـ بعد أن ذكر: أن العلويين المصريين كانوا يتخذون يوم عاشوراء يوم حزن، تتعطل فيه الأسواق ـ :

«فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور، يوسعون فيه على عيالهم، وينبسطون في المطاعم، ويتخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون، ويدخلون الحمام جرياً على عادة أهل الشام، التي سنها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان؛ ليرغموا به آناف شيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن على الحسين بن علي «عليه السلام»؛ لأنه قتل فيه».

قال: «وقد أدركنا بقايا مما عمله بنو أيوب من اتخاذ عاشوراء يوم سرور وتبسط»([46]).

وفي زيارة عاشوراء المروية عن الإمام الباقر «عليه السلام»، قال: «اللهم إن هذا يوم تبركت به بنو أمية، وابن آكلة الأكباد»([47]).

ثم وضعوا على لسان ابن عباس في قوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}([48]) قال: يوم عاشوراء([49]).

وضع الأحاديث:

وقد وجد أعداء أمير المؤمنين وولده «عليهم السلام»، وشيعته «رض» ـ وجدوا ـ من بين أولئك الذين باعوا آخرتهم بدنياهم من يضع لهم الأحاديث على لسان النبي «صلى الله عليه وآله» في فضل هذا اليوم، واستحباب إظهار الزينة، والخضاب، والسرور، والتوسعة على العيال، ولبس الجديد فيه، وصومه، وطبخ الحبوب، والأطعمة، والاغتسال، والتطيب، والاكتحال؛ إلى غير ذلك من مظهرات النصب والعداء لأهل البيت «عليهم السلام»([50]).

ولكن الذي يهون الخطب: أن العلماء والنقاد، حتى المنحرفين عن أهل البيت «عليهم السلام» ـ كابن تيمية وأضرابه ـ قد حكموا على هذه الأحاديث، إلا ما شذ منها بالوضع والاختلاق من قبل الكذابين أخزاهم الله تعالى([51]).

لكن الجرح الذي لا يندمل، والخزي الذي لا يمحى: تلك الفتاوى التي طلع البعض بها علينا، والتي تقول بحرمة لعن يزيد، وعدم جواز تكفيره([52]) مهما كانت الشواهد والدلائل متضافرة على ذلك.

ثم تحريمهم رواية مقتل الحسين «عليه السلام»([53]) وتحريمهم التحزن والتفجع في يوم عاشوراء([54]).

وسيعلم الذين ظلموا حق آل محمد، وفرحوا في يوم حزنهم، أي منقلب ينقلبون.

أساليب مقاومة عاشوراء:

لقد بقيت عاشوراء الشوكة الجارحة في أعين أعداء أهل البيت «عليهم السلام»، فحاولوا مقاومتها بكل ما لديهم، فعدا عما قدمناه، نشير إلى ما يلي:

1 ـ قال ابن العماد: «تمادت الشيعة في هذه الأعصر في غيهم بعمل عاشوراء باللطم، والعويل، والزينة، وشعار الأعياد يوم الغدير؛ فعمدت غالية السنة وأحدثوا في مقابلة يوم الغدير»..

إلى أن قال: «وجعلوا بإزاء يوم عاشوراء بعده بثمانية أيام يوم مصعب بن الزبير، وزاروا قبره يومئذ بمسكن، وبكوا عليه، ونظروه بالحسين؛ لكونه صبر وقاتل حتى قتل؛ لأن أباه ابن عمة النبي الخ..»([55]).

ولكن، هيهات أن يكون مصعب، عبد الدنيا، وطالب السلطان، والمناوئ لأهل البيت «عليهم السلام»، كأبي الشهداء، ريحانة رسول الله «صلى الله عليه وآله» وسيد شباب أهل الجنة، وإمام الأمة، طالب الحق، وناصر الدين، الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه.

ولكنها الأحقاد الدفينة والإحن القديمة، والنصب لأهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، الذين أمر الله تعالى بمودتهم: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}([56]).

2 ـ قال ابن كثير في حوادث سنة 363: «فيها، في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والرافضة، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه، بعيد عن السداد، وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقالوا: نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير»([57]).

ولكن هذا القائل قد تجنى على الرافضة، حين ساواهم بالنواصب، أعداء أهل البيت، وشيعتهم، فإن فعل الشيعة الروافض هو عين الدين والعقل، وفعل غيرهم هو الدال على عدم العقل والدين.

3 ـ إستعمال القوة والعنف، فإنك تجد في كتب التاريخ، في تاريخ مستهل كل عام قولهم: وفي هذا اليوم (أي عاشوراء) اقتتلت الروافض والسنة: فراجع المنتظم لابن الجوزي وغيره([58]).

ولعل أعظم محنة، وأشدها نكاية وقعة الكرخ ببغداد، التي أحرق النواصب فيها دور شيعة أهل البيت، وقتلوا ألوف الرجال والأطفال([59]).

وقد ذكرنا طائفة من النصوص حول هذا الموضوع في كتابنا: «صراع الحرية في عصر المفيد»، فليراجعه من أراد.

ويذكر هنا: أنه في سنة 437 ه‍. وقع بين الشيعة والسنة في بغداد في يوم عاشوراء سوء، «ثم اتفق الفريقان على نهب دور اليهود، وإحراق الكنيسة العتيقة التي لهم»([60]).

وفي حوادث سنة 442: «اصطلح الروافض والسنة ببغداد، وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين، وترضوا في الكرخ على الصحابة، وترحموا عليهم»([61]).

ونكتفي هنا بهذا القدر، فإننا لسنا بصدد استقصاء ذلك وتتبعه.


([1]) الوسائل ج3 في أبواب إعداد الفرائض ونوافلها، باب عدد الفرائض اليومية، وجملة من أحكامها.

([2]) الآية165 من سورة الصافات.

([3]) المصنف للحافظ عبد الرزاق ج1 ص453، وسنن البيهقي ج1 ص262، وعن أبي داود في مراسيله، والدر المنثور ج5 ص293.

([4]) مصنف الحافظ عبد الرزاق ج1 ص455، وفي هامشه عن أبي داود.

([5]) البداية والنهاية ج3 ص331، وتفسير الطبري في سورة النساء الآية101.

([6]) راجع: تاريخ الخميس ج1 ص407، والسيرة الحلبية ج1 ص339، وغير ذلك.

([7]) وفاء الوفاء ج1 ص277.

([8]) الآية156 من سورة الأعراف.

([9]) الآية4 من سورة المؤمنون

([10]) الآية3 من سورة النحل والآية4 من سورة لقمان.

([11]) الآية7 من سورة فصلت.

([12]) الآية73 من سورة الأنبياء.

([13]) الآية31 من سورة مريم.

([14]) هذه الآية والتي سبقتها هي الآية31 و55 من سورة مريم.

([15]) الإصابة ج4 ص119، والبحار ج35 ص151، والطرائف ص304، والغدير ج7 ص368 عن نهاية الطلب للشيخ إبراهيم الحنبلي.

([16]) تدريب الراوي ج2 ص212 عن الطبراني في الأوسط، وذكر الشطر الأول من الحديث في الإصابة ج1 ص232.

([17]) الوسائل ج4 ص5، وفروع الكافي ج3 ص498.

([18]) الثقات لابن حبان ج1 ص65، وحلية الأولياء ج1 ص114 و116 عن ابن إسحاق، والبداية والنهاية ج3 ص70 و74 و69، وتاريخ الخميس ج1 ص290، وسنن البيهقي ج9 ص144، وسيرة ابن هشام ج1 ص360، ومجمع الزوائد ج6 ص27 و24 عن الطبراني وأحمد، ورجاله رجال الصحيح، وحياة الصحابة ج1 ص354 و357، عن بعض من تقدم، وعن فتح الباري ج7 ص30 وحسن إسناده.

([19]) راجع: الكافي ج3 ص497، وتفسير البرهان ج2 ص156.

([20]) السيرة الحلبية ج2 ص136.

([21]) البداية والنهاية ج3 ص254.

([22]) الآيات183 إلى185 من سورة البقرة.

([23]) تفسير القمي ج1 ص65.

([24]) فجر الإسلام ص76.

([25]) السيرة الحلبية ج2 ص132 و136، تفسير ابن كثير ج1 ص213 وراجع ص214.

([26]) البداية والنهاية ج2 ص252 عن أبي نعيم، ومجمع الزوائد ج8 ص244 عن الطبراني، وحياة الصحابة ج1 ص191 عنهما، وعن كنز العمال ج7 ص64 عن الروياني، وابن عساكر.

([27]) الآية183 من سورة البقرة.

([28]) أسد الغابة ج5 ص507.

([29]) المصنف ج4 ص289 و290، والبخاري ط الميمنية ج1 ص244، وصحيح مسلم ط صبيح بمصر ج3 ص150، والسيرة الحلبية ج2 ص132 و133، وتاريخ الخميس ج1 ص360، والبداية والنهاية ج1 ص274 وج3 ص355، وراجع: تفسير ابن كثير ج1 في آيات صيام شهر رمضان في سورة البقرة، ومشكل الآثار ج3 ص85 ـ90، وزاد المعاد ج1 ص164 و165.

([30]) المصادر المتقدمة، والموطأ ج1 ص279، والبخاري ط مشكول ج5 ص51، ومشكل الآثار ج3 ص86 و87، وزاد المعاد ج1 ص164 و165.

([31]) صحيح مسلم ج3 ص151.

([32]) صحيح مسلم ج3 ص151، وراجع المصادر المتقدمة.

([33]) راجع: زاد المعاد ج1 ص164 و165.

([34]) صحيح البخاري ط الميمنية ج4 ص67 باب فرق الشعر في اللباس، والسيرة الحلبية ج2 ص132، وزاد المعاد ج1 ص165.

([35]) راجع في ذلك كله مفتاح كنوز السنة فقد نقل ذلك عن البخاري كتاب60 و77 باب50 و67، وصحيح مسلم كتاب3 حديث16، وكتاب37 باب8، والترمذي كتاب44 حديث24، وكتاب22 باب10، وكتاب40 باب7، والنسائي كتاب3 و48 و83 على الترتيب، إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة المختلفة فراجع: مفتاح كنوز السنة وغيره. وراجع: مسند أبي يعلى ج10 ص398 و399 و366 وفي هامشه عن مصادر كثيرة.

([36]) زاد المعاد ج1 ص168 عن مسند أحمد، والنسائي.

([37]) السيرة الحلبية ج2 ص115، وسنن أبي داود ج2 ص250، ومسند أبي عوانة ج1 ص312.

([38]) المدخل لابن الحاج ج2 ص48.

([39]) المصدر السابق.

([40]) نهاية ابن الأثير ج3 ص240.

([41]) الجمهرة في لغة العرب ج4 ص212.

([42]) راجع: مقال حسن السقاف في مجلة الهادي سنة7 عدد2 ص36.

([43]) اليهود في القرآن ص20 و26.

([44]) راجع في بعض هذه الفضائل: تاريخ الخميس ج1 ص360 و361، والسيرة الحلبية ج2 ص133 و134، واللآلي المصنوعة ج1 ص108 ـ 116 وغير ذلك.

([45]) تقدمت بعض المصادر لذلك قبل حوالي ثلاث صفحات، وراجع: عجائب المخلوقات، مطبوع بهامش حياة الحيوان ج1 ص114.

([46]) الكنى والألقاب ج1 ص431، وراجع: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج1 ص137 عن الآثار الباقية ط أورپا ص329، وراجع: عجائب المخلوقات، مطبوع بهامش حياة الحيوان ج1 ص115، ونظم درر السمطين ص230.

([47]) الخطط والآثار للمقريزي ج1 ص490، وراجع: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج1 ص138 عنه.

([48]) الآية59 من سورة طه.

([49]) مصابيح الجنان ص291.

([50]) تاريخ واسط ص78.

([51]) راجع: عجائب المخلوقات (مطبوع بهامش حياة الحيوان ج1 ص115 و14) والسيرة الحلبية ج2 ص134، ونوادر الأصول للحكيم الترمذي ص246، واللآلي المصنوعة ج1 ص108 و116، ونظم درر السمطين ص230 واقتضاء الصراط المستقيم ص300، وتذكرة الموضوعات ص118، والدر المنثور ج4 ص303، والحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج1 ص138، والصواعق المحرقة ص182، والمدخل لابن الحاج ج1 ص289.

([52]) راجع في ذلك: تذكرة الموضوعات للفتني ص118، واللآلي المصنوعة ج1 ص108 ـ 116، والسيرة الحلبية ج2 ص134، واقتضاء الصراط المستقيم ص301، وراجع: الصواعق المحرقة ص181 و182، ونظم درر السمطين ص228 ـ 230، وراجع: المدخل لابن الحاج ج1 ص291 و290.

([53]) راجع: الصواعق المحرقة ص221، وإحياء علوم الدين ج3 ص125، والعواصم من القواصم وهوامشه، والإتحاف بحب الأشراف ص62 و68.

([54]) الصواعق المحرقة ص221.

([55]) اقتضاء الصراط المستقيم ص299 و300، ونظم درر السمطين ص228.

([56]) شذرات الذهب ج3 ص130 عن العبر، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج1 ص95 عنه، وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص145، والمنتظم لابن الجوزي ج7 ص206.

([57]) الآية23 من سورة الشورى.

([58]) البداية والنهاية ج11 ص275، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج1 ص94، وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص144 و145.

([59]) بحوث مع أهل السنة والسلفية ص145.

([60]) البداية والنهاية ج11 ص275.

([61]) البداية والنهاية ج12 ص54.

   
 
 

العودة إلى موقع الميزان