ليخرجن الأعز منها الأذل

ليخرجن الأعز منها الأذل:
يقول
المؤرخون:
إنه بعد
أن هُزم
بنو المصطلق
ازدحم
على الماء ـ وكان قليلاً
ـ جهجاه بن سعد الغفاري ـ وكان أجيراً
لعمر بن الخطاب، يقود له فرسه([1])
ـ وسنان بن وبرة (أو فروة) (أو أنس بن سيار كما في
تفسير
القمي).
وقال
قتادة:
(الجهني) حليف عمرو بن عوف من الخزرج ـ وفي المدارك: كان حليفاً
لابن أبي ـ فاقتتلا؛
فأعان جهجاهاً
رجل من فقراء المهاجرين، يقال له: جعال،
ولطم وجه سنان؛
فاستغاث سنان: يا للأنصار، يا للخزرج!
واستغاث
جهجاه:
يا لكنانة، يا لقريش!
أو قال:
يا معشر المهاجرين.
وفي نص
آخر:
أن جهجاهاً
ضرب سناناً،
فسال الدم.
وقيل:
كسعه، أي
دفعه. فتسارع إليهما القوم، وعمدوا إلى السلاح. فمشى جماعة من
المهاجرين إلى سنان فقالوا:
اعف
عن جهجاه. ففعل فسكنت الفتنة وانطفأت نائرة الحرب.
زاد الحلبي وغيره قوله:
فخرج رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: ما بال
دعوى الجاهلية، فأخبر بالحال، فقال: دعوها، فإنها منتنة.
أو قال:
من دعا دعوى الجاهلية كان من محشي جهنم.
قيل له:
وإن صام
وصلى،
وزعم أنه مسلم؟
قال:
وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم.
وقال «صلى الله عليه وآله»:
لينصر
الرجل أخاه ظالماً
أو
مظلوماً،
إن كان ظالماً
فلينهه، فإنه ناصر، وإن كان مظلوماً
فلينصره([2]).
فسمع عبد الله بن أبي بالأمر فغضب وعنده رهط من
قومه، فيهم زيد بن أرقم، ذو الأذن
الواعية، وهو غلام حديث السن.
فقال ابن أبي:
أفعلوها؟ قد نافرونا، وكاثرونا في بلادنا؟!
وقال:
ما صحبنا محمداً إلا لنلطم؟ والله، ما مثلنا ومثلهم
إلا كما قال: سمن كلبك يأكلك.
أما والله، لئن رجعنا
إلى المدينة ليخرجن الأعز
منها الأذل.
يقصد بالأعز
نفسه، وبالأذل
رسول الله «صلى الله عليه وآله».
ثم أقبل على من حضر من قومه،
فقال:
هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم،
وقاسمتموهم أموالكم! أما والله، لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل
الطعام لم يركبوا رقابكم، ولتحولوا إلى غير بلادكم. فلا تنفقوا
عليهم حتى ينفضوا من حول محمد.
قال دحلان:
«وإلى ذلك
أشار سبحانه وتعالى حكاية عنهم: ﴿..لا
تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنفَضُّوا..﴾([3]).
فقال له زيد بن أرقم:
أنت والله
الذليل القليل، المبغَّض
في قومك، ومحمد في عز من الرحمن، وقوة من المسلمين.
فقال له ابن أُبي:
اسكت، فإنما كنت ألعب. فمشى زيد بن أرقم، (وقيل:
سفيان بن تيم) إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأخبره الخبر،
وعنده عمر بن الخطاب، فقال عمر: دعني أضرب عنقه يا رسول الله!.
فقال:
إذن ترعد آنف كثيرة بيثرب.
فقال:
إن كرهت
أن
يقتله مهاجري، فأمر أنصارياً.
أو قال له:
فمر عباد بن بشر بقتله.
وعند البعض:
مر معاذاً
أن يضرب عنقه.
قال العسقلاني:
«وإنما
قال ذلك لأن
معاذاً
لم
يكن من قومه».
وثمة نص آخر يقول:
أو مر محمد بن مسلمة بقتله.
فقال:
كيف يا عمر إذا تحدث الناس: أن محمداً يقتل
أصحابه؟!
ولكن آذن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها.
فارتحل الناس.
قال دحلان:
«ثم سار
رسول الله «صلى الله عليه وآله» سيراً
حثيثاً،
بحيث صار يضرب راحلته بالسوط في مراقها».
وذكروا أيضاً:
أنه «صلى
الله عليه وآله» سار بالناس حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، ويوم ذاك
حتى آذتهم الشمس،
ثم
نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض،
فوقعوا نياماً.
وذلك ليشغلهم عن حديث الأمس.
وقالوا أيضاً:
إن الخزرج
لاموا ابن أبي، فأنكر أن يكون قال شيئاً،
فلما سار رسول الله «صلى الله عليه وآله» بهم ذلك السير جاءه ابن
أبي، فحلف أنه لم يقل شيئاً.
لكن نصاً آخر يذكر:
أن النبي
«صلى الله عليه وآله» هو الذي أرسل
إلى ابن أبي، فأتاه، فقال: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني؟!.
فقال عبد الله:
والذي
أنزل عليك الكتاب، ما قلت شيئاً من ذلك. وإن زيداً
لكاذب.
أو قال له «صلى الله عليه
وآله»:
إن كانت سبقت منك مقالة، فتب. فحلف بالله ما قال
شيئاً من ذلك.
وعند البخاري والترمذي وغيرهما:
أنه لما
حلف ابن أبي وأصحابه للنبي «صلى الله عليه وآله» صدقهم وكذب زيداً.
قال زيد:
فأصابني هم لم يصبني مثله، فجلست في البيت([4]).
قال دحلان:
وأنزل
الله في حق عمر (رض): ﴿قُل
لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ
اللهَ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ، مَنْ عَمِلَ
صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾([5]).
قالوا:
وكان عبد
الله شريفاً
في
قومه عظيماً،
فقال من حضر من الأنصار من أصحابه:
يا رسول الله، شيخنا وكبيرنا، لا تصدق عليه كلام
غلام، عسى أن يكون الغلام وهم في حديثه، ولم يحفظ ما قاله.
فعذره النبي «صلى الله عليه وآله».
وفي الكشاف (وقريب منه ما ذكره
القمي):
روي أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال لزيد:
لعلك غضبت عليه.
قال:
لا.
قال:
فلعله أخطأ سمعك؟
قال:
لا.
قال:
فلعله شبه عليك؟
قال:
لا.
وفشت الملامة لزيد في الأنصار وكذبوه،
وكان زيد يساير النبي «صلى الله عليه وآله» ولم
يقرب منه بعد ذلك استحياء.
فلما سار رسول الله «صلى الله عليه وآله» لقيه أسيد
بن حضير أو سعد بن معاذ كما في حبيب السير،
أو سعد بن عبادة كما ذكره القمي، فحياه بتحية
النبوة، وسلم عليه.
ثم قال:
يا رسول الله، رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح
فيها؟!.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
أما بلغك ما قال صاحبكم [صاحبك]، عبد الله بن
أبي؟!.
قال:
وما قال؟!.
قال:
زعم أنه
إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز
منها الأذل.
فقال أسيد:
(أو سعد) فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت. هو
والله الذليل، وأنت العزيز.
ثم قال:
يا رسول
الله، أرفق به، فوالله، لقد جاء الله بك، وإن قوله لينظمون له
الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً.
وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أبيه.
فأتى رسول الله «صلى الله عليه وآله» فقال: يا رسول الله، بلغني
أنك تريد قتل عبد الله بن أبي، لما بلغك عنه، فإن
كنت فاعلاً
فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها
رجل أبرَّ
بوالديه مني، وأني أخشى أن تأمر به غيري، فلا تدعني نفسي أن أنظر
إلى
قاتل عبد
الله بن أبي يمشي في الناس؛
فأقتله؛
فأقتل مؤمناً
بكافر، وأدخل النار.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
نرفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.
قال العسقلاني:
«فكان بعد
ذلك إذا حدث الحدث كان قومه هم الذين ينكرون عليه، فقال النبي «صلى
الله عليه وآله» لعمر: كيف ترى الخ..»([6]).
وفي رواية أخرى:
«لما بلغ
النبي «صلى الله عليه وآله» بغض قوم ابن أبي له قال «صلى الله عليه
وآله» لعمر: كيف ترى يا عمر؟ إني ـ والله ـ لو قتلته يوم قلت، لأرعدت
له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.
فقال عمر (رض):
قد ـ
والله ـ علمت، لأمر
رسول الله أعظم بركة من أمري»([7]).
قالوا:
ولما دنوا من المدينة ـ وفي الوفاء: لما كان بينهم
وبين المدينة يوم ـ تعجل عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على
مجامع طرق المدينة. فلما جاء عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك!
قال:
ما لك، ويلك؟!
قال:
لا والله،
لا تدخلها حتى
يأذن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويعلم اليوم: من الأعز،
ومن الأذل!
فقال له:
أنت من بين الناس؟!.
فقال:
نعم، أنا من بين الناس.
فانصرف عبد الله حتى لقي رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، فشكى
إليه ما صنع ابنه، فأرسل «صلى الله عليه وآله» إلى ابنه: أن خلّ
عنه. فدخل المدينة([8]).
وفي المنتقى:
أنه قال لأبيه:
لا أفارقك
حتى تقر أنك الذليل، وأن محمداً العزيز. فمر به رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، فقال: دعه فلعمري لنحسنن صحبته ما دام بين
أظهرنا([9]).
وفي نص آخر:
أنه صار
يقول: لأنا
أذل من الصبيان. لأنا
أذل من النساء، حتى جاء رسول الله فقال له: خل عن أبيك([10]).
وروي أنه قال له:
لئن لم
تقر لله ورسوله بالعزة لأضربن
عنقك.
فقال:
ويحك، أفاعل أنت؟!.
قال:
نعم.
فلما رأى منه الجد قال:
أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
فقال «صلى الله عليه وآله» لابنه:
جزاك الله عن رسوله، وعن المؤمنين خيراً([11]).
قالوا:
وأنزل الله تعالى سورة المنافقين في قضية ابن أبي
المذكورة([12]).
أي في تكذيبه وتصديق زيد، فلما نزلت ـ وذلك بعد أن وافى
«صلى الله عليه وآله» المدينة ـ أخذ «صلى الله عليه وآله» بأذن زيد
وقال: إن الله صدقك، وأوفى بأذنك.
وفي الإكتفاء قال:
هذا الذي
أوفى الله بأذنه.
وفي الكشاف:
لما نزلت،
لحق «صلى الله عليه وآله» زيداً
من خلفه، فعرك أذنه، وقال: وفت أذنك يا غلام إن
الله صدقك، وكذب المنافقين([13])
ونزل قوله تعالى: ﴿..
وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾([14])،
وصار يقال لزيد: ذو الأذن
الواعية([15]).
وقالوا:
لما نزلت
آية الأذن
الواعية، وبان كذب ابن أبي قيل له: يا أبا حباب، إنه قد نزل فيك آي
شداد فاذهب إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، يستغفر لك.
فلوى رأسه، ثم قال:
أمرتموني
أن أؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت؛
فما بقي إلا أن أسجد لمحمد!
فأنزل الله: ﴿وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله
لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ..﴾
الآية([16]).
وفي رواية أخرى:
إنه بعد
أن أنزل الله تعالى تكذيباً
لابن أبي، وتصديقاً
لزيد بن أرقم ﴿إِذَا جَاءكَ
المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله..﴾([17])
الآيات، قال النبي «صلى الله عليه وآله» لزيد: يا ذا الأذن
الواعية، إن الله قد صدق مقالتك، وتلا «صلى الله عليه وآله»
الآيات([18]).
ولم يلبث عبد الله بن أبي إلا أياماً قلائل، حتى
اشتكى ومات([19]).
ونقول:
إن لنا مع جميع النصوص المتقدمة لهذه القصة
وملابساتها، ونزول الآيات فيها مواقع للنظر، وفيها الكثير مما يبعث
الشك والريب، ونحن نجمل ذلك في ما يلي:
إن من يراجع نصوص القصة
المذكورة آنفاً:
يجد فيها
الكثير من الاختلافات، التي تصل إلى درجة التناقض، الأمر الذي يشير
إلى
عدم إمكان الاعتماد على أكثر تلك النصوص، لليقين
بحدوث الكذب والتزوير، والتحريف فيها.
ونذكر من ذلك النماذج الآتية:
1 ـ
من الذي كسعه جهجاه؟ هل هو سنان بن وبرة (فروة) أو
أنس بن سيار، كما في رواية القمي؟!.
2 ـ
هل الذي أخبر رسول الله بما كان من ابن أبي هو زيد
بن أرقم، أم سفيان بن تيم؟ أم أوس بن أقرم، أم عمر بن الخطاب؟!
3 ـ
هل قال
عمر للنبي «صلى الله عليه وآله»: مر معاذاً
بقتله، أم قال له: مر عباد بن بشر بذلك؟ أم محمد بن
مسلمة؟!
4 ـ
هل الذي شكا له النبي «صلى الله عليه وآله» ما كان
من ابن أبي هو أسيد بن حضير، أم سعد بن معاذ، أم سعد بن عبادة.
5 ـ
هل أرسل
النبي «صلى الله عليه وآله» إلى ابن أبي فجاءه. أم أن
ابن
أبي هو الذي بادر بالمجيء
إليه «صلى الله عليه وآله»؟
6 ـ
هل الذي
أخبر زيداً
بنزول براءته هو النبي «صلى الله عليه وآله» بعد أن
عرك أذنه([20])
(أو
أخذ أذنه فرفعه من الرجل كما عند القمي)، أم أن أبا بكر وعمر قد
تبادرا إلى زيد ليبشراه، فسبق أبو بكر، فأقسم عمر: أن لا يبادره
بعدها إلى شيء، كما ذكر ابن عبد البر([21]).
7 ـ
هل نزلت
براءة زيد في الطريق إلى المدينة، أم نزلت في المدينة نفسها، بعد
اعتزال زيد في بيته؟([22]).
8 ـ
هل كسع المهاجري الأنصاري بسيفه، أم كسعه برجله،
وذلك عند أهل اليمن شديد([23])؟
قد ذكر دحلان:
أن ثمة
آيات نزلت في حق عمر في هذه المناسبة، وهي قوله تعالى: ﴿قُل
لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ
الله لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ، مَنْ عَمِلَ
صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾([24]).
ونقول:
1 ـ
هل أذنب ابن أبي مع شخص عمر بن الخطاب، ليأمره الله
سبحانه بالعفو عنه؟!.
2 ـ
إن الآيات قد وردت في سورة الجاثية، وهي مكية قد
نزلت قبل المريسيع وتبوك بسنوات عديدة.
3 ـ
إنهم
يقولون: إن هذه الآيات منسوخة بآيات القتال،
كما عن مجاهد([25]).
وعن قتادة:
إنها
منسوخة بقوله تعالى في سورة الأنفال
الآية
57: ﴿فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَنْ خَلْفَهُمْ..﴾([26]).
4 ـ
قد صرحت
رواية أخرى عن قتادة بأنها نسخت بالآية
5
من
سورة
التوبة: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ
الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُواْ المُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدتُّمُوهُمْ﴾([27]).
وعن ابن عباس:
نسخت بالآية التي تأمر النبي «صلى الله عليه وآله»
بأن يقاتل المشركين كافة([28])
وهي الآية 36
من
سورة التوبة.
والآيات إنما تتعرض للمشركين،
فذلك يعني:
أن آيات
الجاثية إنما تتحدث عن المشركين أيضاً،
ولم يكن ثمة تشريع لقتال المنافقين لا قبل ذلك ولا بعده،
مع أن نسخها بآيات التوبة، مع وجود آيات تأمر بقتال
المشركين في سورة الأنفال، غير واضح، إلا إذا أريد أن آيات التوبة
تنص على تعميم القتال لكل مشرك بخلاف آيات سورة الأنفال.
ذكرت بعض الروايات:
أنه لما
بلغ عمر بن الخطاب قول ابن أبي: ليخرجن الأعز
منها الأذل،
أخذ سيفه، ثم خرج عامداً
ليضربه، فذكر هذه الآية: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله
وَرَسُولِهِ..﴾([29])
فرجع إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، فأخبره الخ..([30]).
ونقول:
أولاً:
إنه إذا
كانت قضية ابن أبي هذه قد حصلت في غزوة المريسيع، فإن ثمة ما يدل
على أن آية:
﴿لا
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ﴾
قد نزلت بعد ذلك.
فقد روي عن الحسن:
أنها نزلت
في ناس ذبحوا قبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم النحر،
فأمرهم أن يعيدوا ذبحاً،
فأنزل الله هذه الآية([31]).
وعن الحسن أيضاً قال:
ذبح رجل قبل الصلاة، فنزلت([32]).
إلا أن يقال:
إن المراد ليس الذبح في الحج بل الذبح يوم النحر في
المدينة. ولكنه احتمال بعيد.
ثانياً:
إننا لم
نعهد من عمر بن الخطاب شجاعة إلى هذا الحد،
لا سيما بالنسبة لابن أبي الذي لا يجهل أحد موقعه
في قومه.
إلا أن يقال:
إن عمر بن
الخطاب حين
يشعر
أنه محمي من قبل النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين، فإنه
يقدم على أمر كهذا، لا سيما إذا كان لا يواجه عدداً مسلحاً،
وإنما هو يتولى قتل رجل أعزل يقتله وهو مطمئن
إلى
أنه غير قادر على أن يحرك ساكناً
ضده.
قد ذكرت الروايات المتقدمة:
أنهم قالوا لابن أبي: يا أبا حباب، إنه قد نزل فيك
آيات شداد([33]).
ونقول:
إن هذا موضع شك وريب:
1 ـ
إنهم
يقولون: كان اسم عبد الله بن أبي حباباً،
فغير النبي «صلى الله عليه وآله» اسمه، وقال: إن حباباً
اسم شيطان([34])؟
فما معنى قولهم له: يا أبا حباب؟ وإذا كان النبي «صلى الله عليه
وآله» قد غير اسمه فلماذا لم يغير اسم ولده بل أبقاه؟!
2 ـ
ولماذا لم يغير النبي «صلى الله عليه وآله» اسم
الحباب بن المنذر وابن قيظي، وابن عمرو، وابن عبد، وابن زيد، وابن
جزء، وابن جبير وغيرهم؟
أو لماذا لم يغيروا هم أسماءهم حين عرفوا أن حباباً
اسم شيطان؟
وتذكر الروايات المتقدمة:
أن قوله
تعالى: ﴿..وَتَعِيَهَا أُذُنٌ
وَاعِيَةٌ﴾([35])،
نزل في زيد بن أرقم في هذه المناسبة.
ونقول:
أولاً:
المفروض:
أن
قصة ابن أُبي
قد كانت بعد الهجرة بخمس أو ست سنوات وهذه الآية قد وردت في سورة
الحاقة، التي نزلت في مكة قبل الهجرة([36]).
وفي كلام عمر بن الخطاب:
أنها نزلت قبل أن يسلم([37]).
وهم يدعون: أن عمر قد أسلم بعد البعثة بخمس أو ست سنين، وإن
كنا قد ناقشنا في صحة ذلك، وأثبتنا: أنه أسلم قبل الهجرة بقليل.
ولكن حتى هذا لا ينفع المستدل شيئاً هنا لأن
سورة الحاقة قد نزلت على جميع التقادير قبل الهجرة، وهذه الحادثة
قد كانت بعد الهجرة بسنوات كما قلنا.
ثانياً:
إن سياق
الآيات يأبى
عن
أن تكون هذه الآية قد نزلت في زيد بن أرقم، فإنها تتحدث عما جرى
لقوم عاد وثمود وفرعون، والمؤتفكات إلى أن تقول: ﴿إِنَّا
لَمَّا طَغَى المَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ، لِنَجْعَلَهَا
لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾([38])
أي تعيها أذن تحصي هذه العبر والعظات، وهذه الأحداث العظام
وتحفظها، وتعيها.
فلا ربط للآية
بما حدث بين زيد وابن أُبي،
لو صح أن شيئاً من ذلك قد حدث فعلاً.
ثالثاً:
سيأتي إن
شاء الله: أن
أصل
تصدِّي
زيد لابن أبي مشكوك فيه، فلا معنى بعد هذا لدعوى نزول هذه الآية في
هذه المناسبة، إلا بعد إثبات ذلك، إذ: العرش ثم النقش.
رابعاً:
قد روي عن
علي
«عليه السلام»، وعن بريدة، ومكحول، وأبي عمرو بن الأشج،
وهو:
عثمان بن عبد الله بن عوام البلوي، وعن ابن عباس،
وأنس،
والأصبغ
بن نباتة، وجابر،
وعمر بن علي،
وأبي مرة الأسلمي:
أن هذه الآية نزلت في علي
«عليه السلام»، وقد روى ذلك أهل السنة والشيعة على حد سواء، فراجع([39]).
وقال في شرح المواقف:
أكثر المفسرين على أنه علي([40]).
قال الحلبي الشافعي:
«وذكر بعض
الرافضة: أن قوله تعـالى:
﴿..وَتَعِيَهَا
أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾
جاء في الحديث: أنها نزلت في علي كرم الله وجهه.
قال الإمام ابن تيمية:
وهذا حديث
موضوع باتفاق أهل العلم.
أي وعلى تقدير صحته لا مانع من التعدد»([41]).
ونقول:
تقدم آنفاً:
1 ـ
أن حديث
نزول هذه الآية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه
السلام»
مروي عند أهل السنة، وبطرقهم، أكثر مما هو مروي عند الشيعة.
والمصادر المتقدمة، وشخصيات الرواة توضح ذلك. بل إن بعض الرواة لم
يكونوا في خط علي «عليه السلام»، ولا من أنصاره.
2 ـ
قد عرفنا: أن أصل تصدي زيد لابن أبي مشكوك فيه.
3 ـ
إن سياق الآيات لا ينسجم مع قضية زيد.
4 ـ
إن سورة الحاقة قد نزلت قبل الهجرة.
إلا أن يدَّعى:
أن هذه الآية مما تكرر نزوله.
ولكنها دعوى:
تحتاج إلى شاهد، بل الشواهد المذكورة آنفاً على
خلافها.
5 ـ
أضف إلى ذلك: أن هذه الدعوى لا تتنافى مع حديث
نزولها في علي «عليه السلام».
6 ـ
لم يذكر
لنا التاريخ أياً
من
أهل العلم قال: إن هذا الحديث موضوع، فضلاً
عن أن يكون أهل العلم قد اتفقوا على ذلك. وهذه هي
الكتب والموسوعات متداولة بين أيدي جميع الناس فليراجعها من أراد.
تقدم أن سبب قول ابن أبي: ﴿لَئِن
رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا
الأذَلَّ﴾
هو ما جرى بين جهجاه وسنان.
مع أن زيد بن أرقم يروي:
أن السبب
هو:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قدم في ناس من
أصحابه على ابن أبي، فقال ابن أبي ذلك، فسمعه زيد، فأخبر النبي
«صلى الله عليه وآله» بذلك([42]).
وثمة حديث عن ابن عباس يقول:
إن سبب
ذلك هو خلاف على الماء وقع بين أصحاب عبد الله بن أبي وبين الفقراء
المؤمنين. حيث سبقهم أصحاب ابن أبي إلى الماء، وأبوا أن يخلوا عن
المؤمنين، فحصرهم المؤمنون، فلما جاء ابن أبي نظر إلى أصحابه،
فقال: «والله
﴿لَئِن
رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا
الأذَلَّ﴾»([43])
فلما عرف النبي «صلى الله عليه وآله» بالأمر دعا ابن أبي الخ..
وفي نص آخر:
إن ذلك قد كان في الحديبية([44]).
قد ذكرت رواية ابن سيرين:
أنه بعد
أن رجع ابن أُبي
إلى المدينة لم يلبث إلا أياماً قلائل ثم توفي، وأنه طلب: أن يأتيه
الرسول في مرضه الذي توفي فيه، فلما دخل عليه بكى، فقال له «صلى
الله عليه وآله»: أجزعاً
يا
عدو الله الآن؟!
فقال:
يا رسول
الله، إني لم أدعك لتؤنبني، ولكن دعوتك لترحمني. فاغرورقت عينا
رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ثم طلب منه ابن أُبي
أن يشهد غسله، وأن يكفنه في ثلاثة أثواب من ثيابه «صلى الله عليه
وآله»، ويمشي في جنازته، ويصلي عليه([45]).
ونقول:
أولاً:
إننا لا
نستطيع أن نصدق بأنه «صلى الله عليه وآله» قد قال لابن أُبي،
وهو على فراش الموت، ومن دون أي موجب: أجزعاً
يا
عدو الله الآن.
فإن أخلاق النبي «صلى الله عليه وآله»، وسياسته لا تنسجم مع هذه
القسوة البالغة، حتى مع المنافقين، لا سيما، وأن ابن أُبي
هو الذي طلب من النبي «صلى الله عليه وآله» الحضور.
ثانياً:
إن هذه
القضية تؤيد كون قصة ابن أبي، وقوله: ﴿لَيُخْرِجَنَّ
الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ﴾،
إنما كان في غزوة تبوك كما قيل([46])،
وهي في السنة التاسعة، سنة موت ابن أُبي([47]).
وقد تقدم قولهم بعد ذكرهم لتلك
الحادثة مع زيد:
ولم يلبث
ابن أُبي
إلا أياماً قلائل، حتى اشتكى ومات([48]).
فإذا كان قد مات في التاسعة، فلا بد أن تكون
الحادثة أيضاً في السنة التاسعة، وذلك يدل على أن الحادثة قد كانت
في غزوة تبوك.
لكن الحلبي بعد أن ذكر القول:
بأن هذه الحادثة قد كانت في غزوة تبوك قال: «فيه
نظر ظاهر»([49]).
وإذا كان مستند الحلبي في هذا النظر هو الروايات التي ذكرت: أنها
كانت في غزوة المريسيع، فلا مجال لقبول ذلك منه، بعد أن تواردت على
تلك الروايات العلل والأسقام،
كما رأينا وسنرى إن شاء الله تعالى.
والخلاصة:
أن وقوع هذه الحادثة في غزوة المريسيع أمر مشكوك
فيه.
إننا في حين نجد بعض الروايات
تقول:
إن زيد بن
أرقم هو الذي تصدى
لابن أبي، نجد في النصوص الأخرى، ما يخالف ذلك، فقد ذكر ابن لهيعة،
عن أبي الأسود،
عن عروة، وذكر موسى بن عقبة في مغازيهما هذه القصة، وزعما: أن أوس
بن أقرم ـ وهو رجل من بني الحارث بن الخزرج ـ هو الذي سمع قول عبد
الله بن أبي، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب. وذكر ذلك عمر لرسول الله
«صلى الله عليه وآله».
وبعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى ابن أُبي،
فسأله عما تكلم به، فحلف بالله ما قال من ذلك شيئاً.
فقال له رسول الله «صلى الله
عليه وآله»:
إن كان سبق منك قول فتب. فجحد، وحلف.
فوقع رجال بأوس بن أقرم،
وقالوا:
أسأت بابن عمك، وظلمته، ولم يصدقك رسول الله «صلى
الله عليه وآله».
فبينما هم يسيرون إذ رأوا رسول الله «صلى الله عليه
وآله» يوحى
إليه، فلما قضى الله قضاءه
في موطنه ذلك، وسري عنه نظر رسول الله «صلى الله
عليه وآله» فإذا هو بأوس بن أقرم، فأخذ بأذنه فعصرها، حتى استشرف
القوم.
فقام رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، فقال:
أبشر، فقد
صدق الله حديثك، ثم قرأ عليهم سورة المنافقين الخ..»([50]).
وقد ادَّعى البعض:
تعدد هذه
القضية لزيد بن أرقم، ولأوس
بن أقرم كليهما([51]).
ونقول:
لا مجال لقبول هذه الدعوى الأخيرة، إذ من البعيد
حصول هذا التوافق في الخصوصيات والتفاصيل لكل
من الرجلين، كما يتضح بالمراجعة والمقارنة.
ودعوى:
أن قصة أوس خطأ من أصحاب المغازي، وأن قائل ذلك هو
زيد([52])،
ليس بأولى من العكس.
لا سيما إذا علمنا:
أن قصة
زيد تتوارد عليها العلل والأسقام
من كل جانب.
هذا كله بالإضافة:
إلى ما
تقدم من أن الذي أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بقول ابن أُبي،
هو سفيان بن تيم([53])
وليس عمر بن الخطاب كما ذكرت هذه الرواية.
ولا ندري مدى صحة ما ينسب لزيد بن أرقم من جرأة
نادرة على ابن أُبي،
ومن كلام قوي ورصين، وعالي المضمون، حيث قال له:
«أنت ـ والله ـ الذليل، المنقص في قومك. ومحمد في
عزّ
من الرحمن، وقوة من المسلمين.
فقال له ابن أُبي:
اسكت
فإنما كنت ألعب».
ولم نعهد من زيد هذا المستوى من الجرأة، والتحدي،
وهذا القدر من الوعي، والمعرفة بفنون الكلام، لا سيما وهو غلام
يافع صغير السن، قد لا يزيد عمره على الخمس عشرة سنة.
مع أننا نستغرب أن يكون جواب
ابن أبي له:
هو كلمة:
«اسكت، إنما كنت ألعب» فإنه جواب ضعيف، لا ينسجم مع قوة كلامه في
مقام التحدي السافر للنبي «صلى الله عليه وآله» ولمن معه،
وكيف سكت على إهانة زيد له،
وادَّعائه:
أنه منقص في قومه، وذليل؟ ولماذا جاء الجواب بكنت ألعب، بدل أمزح؟
إن أجواء الحوار تدعونا إلى رفض أن يكون الحوار قد
سار على هذا النهج، وبهذ الطريقة،
لو كان ثمة حوار!!
ونجد في الكلام المنسوب لزيد ترديداً
يثير الشبهة والريب، إلى درجة الاعتقاد بأن هذه
القضية قد كانت عرضة للتلاعب لدوافع مختلفة، فهو يقول: «فذكرت ذلك
لعمي، أو لعمر»([54]).
فهل يعقل أن يكون زيد قد نسي ذلك الشخص الذي تحدث
معه عن هذا الأمر الذي نشأ عنه نزول آية قرآنية، فيها التكريم
والتعظيم، والشرف، الذي لا يضاهى، والفضل الذي لا يناله إلا ذو حظ
عظيم؟!
وهل يمكن أن يكون هذا الترديد قد جاء من الرواة، لا
من زيد؟ لا سيما ونحن نرى نصاً آخر يؤكد على أنه كان رديفاً
لعمه، وأن عمه هو الذي انطلق فأخبر عمر بذلك، ثم رجع إليه فأنَّبه،
بعد أن حلف ابن أُبي
لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، فصدقه([55]).
وذلك يبعد أن يكون الترديد من الراوي، لا من زيد.
وإن كانت سائر الروايات التي تقدمت قد ذكرت أن زيداً
قد أخبر عمر بذلك. فأي ذلك نصدق، وبماذا نوجه هذا
التناقض والاختلاف؟!
إلا أن نقول كما يقوله الآخرون:
«لا حافظة لكذوب».
مع أننا نتردد كثيراً في نسبة الكذب إلى زيد، بل
نكاد نطمئن إلى أن محبيه هم الذين أوقعوه في هذه الورطة. ولعل ذلك
قد كان بعد موت زيد بعشرات السنين.
قد ذكرت بعض الروايات:
أن عم زيد
الذي أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بما كان من ابن أُبي
هو سعد بن عبادة، كما ذكره الطبراني، وابن مردويه([56]).
مع أن سعداً ليس عمه الحقيقي، وإنما هو سيد قومه
الخزرج، وعمه الحقيقي هو ثابت بن قيس. وعمه زوج أمه هو عبد الله بن
رواحة([57])
«رضوان الله تعالى عليه».
فلماذا جعل ابن عبادة عماً
له في هذه القضية بالذات يا ترى؟!
على أننا نشك:
في أن
يكون ابن عبادة أيضاً هو الذي أخبر النبي «صلى الله عليه وآله»
بالأمر، حتى لو قبلنا صحة تسميته بالعم،
وذلك لما تقدم في رواية هذه القصة من
أن ابن
عبادة قد لحق النبي «صلى الله عليه وآله»، حينما سار بالناس، وسأله
عن سبب ذلك، فقال له: أما بلغك ما قال صاحبكم عبد الله بن أبي؟!.
قال:
وما قال.
قال:
زعم أنه
إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز
منها الأذل
الخ..
فإن ظاهر هذه الرواية:
أن ابن
عبادة إلى هذا الوقت لم يكن يعلم بما كان من ابن أُبي،
وأنه علم بذلك من النبي «صلى الله عليه وآله». فكيف
يكون هو الذي أخبره بما قاله زيد عن ابن أبي؟!
قربى
ابن أرقم لابن أبي:
على أن بعض النصوص قد ذكرت:
أن الذي
نقل إلى النبي ما جرى هو غلام من قرابة ابن أُبي([58]).
وزيد بن أرقم ليس من أقرباء ابن أُبي
إذ هو:
ابن أرقم، بن زيد، بن قيس، بن النعمان، بن مالك،
بن
الأغر،
بن ثعلبة،
بن كعب بن الخزرج([59]).
وعبد الله هو:
ابن أُبي،
بن مالك بن الحرث، بن مالك، بن سالم، بن غنم، بن عوف، بن الخزرج([60]).
فأين هي القرابة بين الرجلين؟! إلا أن يكون مجرد
كونهما يلتقيان في الخزرج نفسه يكفي لوصفه بكونه من قرابته.
النبي
يضرب راحلته:
وقد عرفنا أن البعض يقول:
«ثم سار
رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالناس سيراً
حثيثاً،
بحيث صار يضرب راحلته في مراقها»([61]).
ولا ندري، ما هو ذنب الناقة التي لم تكن تدري بشيء،
أو فقل لم يكن لها دور فيما حصل ويحصل من حولها؟
كما أننا لا نصدق:
أنه «صلى
الله عليه وآله» يضرب ناقته من الأساس،
فقد:
1 ـ
روي عن
عائشة: أنها ركبت بعيراً،
وفيه صعوبة؛
فجعلت تردده، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»:
عليك بالرفق([62]).
2 ـ
وعن
الزهري وكذا عن عائشة قالت: ما ضرب «صلى الله عليه وآله» شيئاً قط
بيده، لا امرأة، ولا خادماً،
إلا أن يجاهد في سبيل الله..
وعند الزهري:
ما ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يضرب في سبيل الله([63]).
3 ـ
عن
إبراهيم بن علي،
عن أبيه، قال: حججت مع علي بن الحسين «عليه السلام»، فالتاثت([64])
الناقة عليه في سيرها، فأشار إليها بالقضيب ثم قال: آه لولا
القصاص. وردَّ
يده عنها([65]).
4 ـ
وعن الصادق «عليه السلام» قال: حج علي بن الحسين
«عليه السلام» على ناقة عشر سنين فما قرعها بسوط. ولقد بركت به سنة
من السنين فما قرعها بسوط([66]).
وفي نص آخر:
أربعين حجة([67])
أو عشراً([68]).
فهل يعقل أن يكون السجاد «عليه
السلام»
أتقى لله أو أعرف بالأحكام
من نبي الإسلام الأكرم «صلى الله عليه وآله»؟!
تقدم أن بعض الروايات عن قتادة
تقول:
«إن آية:
﴿يَحْلِفُونَ بِالله مَا قَالُواْ
وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ
إِسْلاَمِهِمْ..﴾
الآية([69])..
قد نزلت في ابن أبي في هذه المناسبة»([70]).
ونقول:
أولاً:
إننا نجد في مقابل ذلك الأقوال التالية:
1 ـ
ما روي عن
كعب بن مالك، وابن سيرين، وعروة بن الزبير، وابن عباس: أن هذه
الآية قد نزلت في الجلاس بن سويد، حيث قال: لئن كان هذا الرجل
صادقاً
لنحن شر من الحمير. فسمعه عمير بن سعد (الذي كان ربيباً
له)([71])،
فأخبر النبي «صلى الله عليه وآله»، فأتى الجلاس، وحلف بالله: أنه
ما قال ذلك،
فأنزل
الله: ﴿يَحْلِفُونَ بِالله مَا
قَالُواْ..﴾([72]).
وكان نزول هذه الآية في وقعة تبوك التي كان الجلاس
قد تخلف عنها كما عن ابن عباس([73])
وعروة([74]).
وفي نص آخر:
إنها نزلت
في منافق سمعه زيد بن أرقم يقول ـ والنبي «صلى الله عليه وآله»
يخطب ـ : إن كان هذا صادقاً
لنحن شر من الحمير، فأخبر النبي «صلى الله عليه
وآله» إلى آخر القصة السابقة، كما روي عن أنس، وابن سيرين([75]).
2 ـ
عن ابن
عباس: كان النبي «صلى الله عليه وآله» جالساً
في ظل شجرة، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم
بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق،
فدعاه «صلى الله عليه وآله»، فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟
فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا
حتى تجاوز عنهم، وأنزل الله: ﴿يَحْلِفُونَ
بِالله مَا قَالُواْ..﴾([76]).
ملاحظة:
ونسجل هنا ملاحظة حول عمير بن سعد، فإنه قد شهد
فتوح الشام، واستعمله عمر على حمص إلى أن مات.
وكان عمر يقول:
وددت أن
لي رجالاً
مثل عمير بن سعد أستعين بهم على أعمال المسلمين([77]).
وثانياً:
إن آية ﴿يَحْلِفُونَ
بِالله مَا قَالُواْ..﴾،
هي في سورة التوبة. وهي قد نزلت بعد فتح مكة([78]).
بل هي من آخر القرآن نزولاً([79]).
وهي آخر سورة نزلت تامة([80]).
والمريسيع قد كانت قبل ذلك بعدة سنوات.
أما العسقلاني، فاعتبر أن قول
البخاري:
«ثم إن
المهاجرين
كثروا بعد
هذا
مما يؤيد تقدم القصة.
ويوضح وهم من قال:
إنها كانت
بتبوك، لأن
المهاجرين حينئذٍ كانوا كثيراً جداً، وقد انضافت إليهم مسلمة الفتح
في غزوة تبوك، فكانوا حينئذٍ أكثر من الأنصار»([81]).
ونقول:
إن كلام العسقلاني أيضاً غير
صحيح:
وما قاله
لا يثبت: أن من قال: إن القضية كانت بتبوك كان وهماً
منه. وذلك لما يلي:
1 ـ
إن
البخاري ذكر أن المهاجرين
كثروا.
والصحيح هو:
أن جميع المسلمين قد كثروا. أما المهاجرون فإن
كانوا قد كثروا فإنما أضيف لهم أفراد قليلون، والكثرة إنما حصلت في
السنة التاسعة فما بعدها، وهي سنة وفود القبائل كما هو معلوم.
2 ـ
قد رووا
عن النبي «صلى الله عليه وآله»،
أنه قال:
لا هجرة بعد الفتح([82])،
فلا معنى لقول العسقلاني: إن المهاجرين بعد الفتح
قد كثروا حتى كانوا أكثر من الأنصار.
إلا أن يكون المقصود:
أن
القريشيين كثروا، وزاد عددهم بعد الفتح. لكن كثرتهم هذه ليست بهذا
القدر الذي يصوره لنا العسقلاني أي إلى حد زاد عددهم على عدد
الأنصار.
قد ذكرت النصوص المتقدمة:
أن جهجاهاً
استغاث،
فقال:
يا لقريش.
بل إن ثمة نصاً آخر يقول:
إن الحادثة قد جرت بين رجل من قريش، ورجل من
الأنصار([83]).
ونقول:
إن من الواضح:
أن جهجاهاً
رجل غفاري، وليس من قريش،
فلا يمكن الاعتماد على ما ذكر، ولا الأخذ
به مع مخالفته لهذه الحقيقة الثابتة.
قد أظهرت النصوص المتقدمة:
أن جهجاهاً
الغفاري هو صاحب المشكلة ومثيرها، ووصفته بأنه كان أجيراً
لعمر بن الخطاب، يقود له فرسه.
ثم إن بعض النصوص:
قد أظهرت حقدها على هذا الرجل بالذات، حيث تقول:
«فكسع رجل من المنافقين رجلاً من الأنصار»([84]).
ومن المعلوم:
أن
المقصود بالمنافق هو خصوص جهجاه، لأنه
هو الذي كسع الأنصاري، الذي هو سنان كما تقدم.
والذي نريد أن نلفت النظر إليه هنا هو:
أولاً:
إن
جهجاهاً لم يكن رجلاً عادياً، يمكن أن يكون أجيراً لعمر بن الخطاب
ليقود له فرسه،
ولا كان عمر في موقع يجعلنا نقبل بأنه قد أصبح
ميسور الحال، وفي موقع إجتماعي يؤهله لأن يستأجر رجلاً، لا لأجل
الخدمة، وقضاء الحاجات، بل ليقود له فرسه!!
ولا نرى أن جهجاهاً
في
موقع من يثير مشكلة في زحام الناس على الماء،
فقد نجد له من الاحترام والتقدير، ما يجعلنا نربأ
به عن أمر كهذا.
ثانياً:
إننا نشك
في صحة بعض ما ينسب إلى هذا الرجل، ونرى أن ثمة يداً
تحاول أن تسيء
إلى هذا الرجل، وتصغر من شأنه،
وتثير الشبهات حوله، إلى درجة أنها تصفه بالنفاق،
وذلك بسبب مواقفه السياسية، التي لا تنسجم مع
أهوائها، وطموحاتها، وتوجهاتها.
فهو من المبايعين لعلي «عليه
السلام»
في خلافته([85]).
وروي عن أبي حبيبة قال:
خطب عثمان
الناس، فقام إليه جهجاه الغفاري، فصاح: يا عثمان ألا إن هذه شارف
قد جئنا بها، عليها عباءة وجامعة، فانزل،
فلندرعك العباءة،
ولنطرحك في الجامعة، ولنحملك على الشارف، ثم نطرحك
في جبل الدخان.
قال عثمان:
قبحك الله، وقبح ما جئت به.
قال أبو حبيبة:
ولم يكن
ذلك منه إلا عن ملأٍ
من
الناس،
وقام إلى عثمان خيرته وشيعته من بني أمية، فحملوه،
وأدخلوه الدار([86]).
وروى البارودي، من طريق الوليد بن مسلم، عن مالك
وغيره، عن نافع، عن ابن عمر، قال:
قام جهجاه الغفاري إلى عثمان، وهو على المنبر، فأخذ عصاه، فكسره،
فما حال على جهجاه الحول حتى أرسل الله في يده الأكلة،
فمات منها([87]).
ونلاحظ:
أن عمر بن
الخطاب يقول لرسول الله «صلى الله عليه وآله» عن ابن أُبي:
دعني أضرب عنقه يا رسول الله.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
إذن،
ترعد
آنف
كثيرة بيثرب.
ولكنه لم يقنع بذلك، بل عاد فطلب منه أن يتولى قتله
عباد بن بشر، أو معاذ أو محمد بن مسلمة.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
كيف يا
عمر إذا تحدث
الناس
أن محمداً يقتل أصحابه؟!([88]).
ونقول:
قد تقدم ذلك كله.
لكن ثمة نصاً آخر يقول فيه عمر:
لما كان
من أمر ابن أبي ما كان جئت رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو في
فيء
شجرة، عنده غلام أسود يغمز ظهره، فقلت: يا رسول
الله، كأنك تشتكي ظهرك؟!
فقال:
تقحمت بي الناقة الليلة.
فقلت:
يا رسول الله، إئذن لي أن أضرب عنق ابن أبي، أو مر
محمد بن مسلمة بقتله الخ..»([89]).
ونقول:
1 ـ
إن محمد
بن مسلمة، وعباد بن بشر، ومعاذاً
هم من حواريي الحكام بعد رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، ومن مؤيدي سياساتهم، فلا غرو أن يكون ثمة اهتمام بشأنهم،
وتأكيد على موقعهم ودورهم. وموقف محمد بن مسلمة ومعاذ في تأييد ما
جرى على أمير المؤمنين والزهراء «عليهما السلام» ومشاركتهما في
الهجوم على بيت الزهراء معروف ومشهور.
2 ـ
إننا نشك في زعمهم: أن الناقة قد تقحمت بالنبي «صلى
الله عليه وآله»، وذلك لما يلي:
ألف:
تذكر لناقته العضباء أمور هامة، من كلامها له «صلى
الله عليه وآله»، «وتعريفها له بنفسها، ومبادرة العشب إليها في
الرعي، وتجنب الوحوش عنها، وندائهم لها: إنك لمحمد. وإنها لم تأكل
ولم تشرب بعد موته حتى ماتت (ذكره الإسفرائيني)»([90]).
ب:
وعن عبد الله بن قرط: قرب إلى النبي «صلى الله عليه
وآله» بدنات خمس، أو ست، أو سبع لينحرها يوم عيد، فازدلفن إليه
بأيهن يبدأ([91]).
ج:
كما أن
حماره يعفوراً
لما مات رسول الله «صلى الله عليه وآله» تردى في بئر جزعاً
وحزناً،
فمات([92]).
د:
وقال «صلى
الله عليه وآله» لفرسه وقد قام إلى الصلاة في بعض أسفاره: لا تبرح،
بارك الله فيك حتى
نفرغ من صلاتنا، وجعله قبلته. فما حرك عضواً
حتى صلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»([93]).
ه:
وهناك نصوص كثيرة تتحدث عن طاعة الحيوانات له «صلى
الله عليه وآله» فلتراجع في مظانها([94]).
وبعد أن ظهر من ابن أبي ما ظهر، فقد كان يمكن للنبي
«صلى الله عليه وآله» أن يعتبر ذلك مسوغاً
لقتله. وينفذ فيه حكم الله سبحانه. ولكنه «صلى الله عليه وآله» آثر
أن لا يعطي ذريعة لأعداء
الدين لينفثوا سمومهم، حين يتخذون ذلك ذريعة لتخويف الناس من
الدخول في الإسلام، بحجة: أنهم لن يجدوا فيه الضمانات الكافية على
حياتهم. خصوصاً إذا صوروا لهم قتل ابن أبي من زاوية انحرافية
ومظلمة، حين يزعمون لهم أن قتله إنما كان على سبيل الانتقام الشخصي
منه «صلى الله عليه وآله»، بسبب تعرض ابن أبي للمساس بشخص النبي
«صلى الله عليه وآله» وليست القضية قضية كفر وإيمان، وإقامة لحدود
الله سبحانه في حق من يكفر بالله بعد إيمانه، ويجترئ على المقدسات.
ويفسح
بعمله ذاك المجال أمام الآخرين
لجرأة مماثلة أو أشد ثم عرقلة دخول الناس في الإسلام، وفسح المجال
أمام المغرضين للتلاعب وإثارة الإشاعات
الباطلة، وتشكيك الآخرين
الذين لا يملكون قدراً
كافياً
من المعرفة والوعي واليقين.
ومن جهة ثانية:
فإن قتل ابن أبي قد يتسبب في حدوث مشاكل كبيرة،
وتشنجات خطيرة، كما أشار إليه «صلى الله عليه وآله» في ما أجاب به
عمر بن الخطاب، الذي حرضه على قتله، وعين له حتى من يتولى ذلك من
المسلمين!! حيث قال له:
«إني والله لو قتلته يوم قلت، لأرعدت
له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته».
بل لقد نصت الروايات المتقدمة على أن قوم ابن أبي
أنفسهم قد بدأوا يضيقون ذرعاً
بابن أبي وتصرفاته، وصاروا يلومونه ويعنفونه على ما
بدر منه.
فقضية
ابن أبي إذن لم تعد قضية شخص صدر منه ما يوجب الحد، بل هي قد تطورت
لتلحق آثارها بالإسلام وبالمسلمين، وحتى على المدى
البعيد أيضاً. والنبي «صلى الله عليه وآله» يعرف
متى يحق له أن يصرف النظر عن إقامة حد على من يستحقه، إذا رأى ما
يقتضي ذلك.
والأمر الغريب هنا:
أننا نجد
عمر بن الخطاب يصر على النبي «صلى الله عليه وآله» بقتل هذا الرجل،
رغم أنه «صلى الله عليه وآله» قد أخبره بأن قتله يوجب خللاً
في
الواقع القائم، ويعتبر
خطأ فاحشاً
حينما قال له: إذن ترعد
آنف
كثيرة بيثرب.
فيتجاهل عمر هذا التوضيح
والتصريح، ويقول له:
إن كرهت
أن يقتله مهاجري، فأمر أنصارياً.
مع أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أوضح له أن
نفس القتل هو الذي سوف يفسد الأمور،
ولم تكن المشكلة تكمن في من يقتله،
ولو كانت المشكلة هي هذه، فقد كان النبي يدرك أن
إيكال أمر قتله إلى أنصاري يحل المشكلة، أو لا يحلها.
وبعد كل ما تقدم نقول:
إنه حين
تكون الصفة الطاغية على حركة أو دعوة ما هي الضعف والوهن، وكانت
بعيدة عن الالتزام بمعاني الأخلاق
والإنسانية فإن خصوم هذه الدعوة أو تلك الحركة سيواجهونها بالعنف،
والاضطهاد، بقسوة وشراسة.
فإذا ما تشبثت تلك الدعوة بأسباب القوة، فإن خصومها
يتجهون نحو أساليب المكر والخديعة، ويوظفون ذلك إلى جانب ما
يملكونه من أسباب القوة، ليسد ذلك المكر مواضع الضعف والخلل في تلك
الأسباب،
وتصبح من ثم قادرة على التأثير في تدمير قدرات تلك الدعوة، أو
عرقلة حركتها بصورة أو بأخرى.
فإذا
ازدادت تلك الدعوة والحركة قوة، وازداد خصومها تقهقراً
وضعفاً،
فإن أساليب أولئك الخصوم في مواجهتها سوف تتطور وفقاً
للمستجدات، حتى
تنتهي بهم الأمور
إلى استخدام أساليب يأباها الشرف وينبو عنها الشعور الإنساني
النبيل. ذلك هو تاريخ المنافقين فليقرأه القارئون، ليجدوا فيه كل
عجيب وغريب في هذا المجال.
وهكذا كان حال المنافقين في عهد الرسول الأعظم «صلى
الله عليه وآله»، الذين ما فتئوا يكيدون للإسلام، ولنبي الإسلام،
وللمسلمين، ويتربصون بهم الدوائر فكانوا يتآمرون مع الأعداء،
ويحرضونهم، ويعدونهم النصر حيناً،
ثم كانوا يشاركون في الافتراء، وحياكة الأباطيل
حيناً
آخر، إلى جانب تخذيلهم المسلمين، وبث الإشاعات
الباطلة، وحبهم إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
هذا كله:
عدا عن
كونهم عيوناً
للأعداء،
يطلعونهم على عورات المسلمين، ويعلمونهم بأي تحرك منهم، حتى كان
النبي «صلى الله عليه وآله» كلما أراد غزوة ورى بغيرها، وكان
يستخدم أساليب كثيرة ومتنوعة ليعمي عليهم الأمور،
ويضللهم عن مقاصده الحقيقية.
عداك عما كان أولئك المنافقون يمارسونه من أساليب
اللمز والهمز. إلى جانب الكثير من الإفك
والافتراء، والهزء والازدراء.
ولكنهم حين قويت شوكة المسلمين لم يجدوا مناصاً
من
العض على الجراح، خصوصاً بعد أن ظهر لهم: أن التحركات العسكرية
للمسلمين في المناطق المختلفة كانت تسقط مواقع العدوان والتآمر
الواحد تلو الآخر،
وتقضي عليها، أو تحولها إلى مواقع قوة وصمود للمسلمين.
فكان أن رأينا المنافقين يشاركون في غزوة بني
المصطلق ولعلهم كانوا قد وثقوا بانتصار المسلمين، فأرادوا الحصول
على مكاسب مادية لهم.
ولكن نفاقهم الذي كانوا يصرون على التبرؤ منه لم
يزل يظهر على صفحات وجوههم، وفي فلتات ألسنتهم، الأمر الذي أثار
حالة من الإرباك،
الذي لو لم يتداركه الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» لبلغ إلى
حد حدوث فتنة داخلية، يخوض فيها ضعاف البصر والبصيرة حتى
آذانهم، ويوقعون الإسلام والمسلمين في مآزق
خطيرة، هم في غنى
عنها.
وقضية عبد الله بن أبي كانت من هذا القبيل كما اتضح
من النصوص التي سلفت.