نصوص غير معقولة في حديث الإفـك

   

صفحة : 201-244  

نصوص غير معقولة في حديث الإفـك

مما سبق:

قد أشرنا فيما سبق خصوصاً في فصل «عائشة..» إلى أمور عديدة غير معقولة في حديث الإفك.. مثل قولها:

إنه «صلى الله عليه وآله» لم يتزوج بكراً غيرها.

وما تدعيه لنفسها من جمال.

وأن ضرائرها كن يحسدنها.

وأنها كانت لها حظوة عند رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وأنها كانت على درجة من الضعف والهزال.

وأنها كانت صغيرة السن جداً.

وأنها كانت على درجة من قلة الفطنة والغفلة، لا تفقه كثيراً من القرآن.

بالإضافة إلى خصائصها التي ميزتها على سائر نساء النبي. ونذكر في هذا الفصل طائفة أخرى من الأمور التي لا مجال لقبولها مما جاء في حديث الإفك فنقول:

1 ـ الإفك من الضرائر:

عندما سألت عائشة أمها عما يقوله الناس، قالت: «هوّني عليك، فوالله، لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا  حسدنها، وأكثرن عليها».

إذن.. فضرائر عائشة هن اللواتي جئن بالإفك، وأكثرن عليها لوضاءتها، ولمحبة النبي لها.

ونقول:

إن عائشة نفسها تصرح: بأن نساء النبي «صلى الله عليه وآله» قد عصمن عن الخوض في الإفك.. إلا أن حمنة طفقت تحارب لأختها.. أما أختها نفسها فقد عصمها الله بالورع.. فلا ندري من نصدق: البنت؟! أم أمها؟!

ولقد اعتذر الحلبي بقوله: «إلا أن يقال: ظنت أمها ذلك على ما هو العادة في ذلك»([1]).

أما العسقلاني فحاول الاعتذار عن ذلك: بأن أمها أرادت تطييب نفسها، وأنها ذكرت صفة الضرائر عموماً، ولم تتهم ضرائر عائشة([2])..

ونقول:

أولاً: إنها احتمالات أقل ما يقال فيها: إنها خلاف الظاهر.. فلا يصار إليها إلا بدليل.

ومجرد الرغبة في دفع الإشكال عن حديث الإفك لا يكفي مبرراً لهذه التمحلات، ولا سيما مع كثرة مواقع الضعف والوهن في هذا الحديث.

ثانياً: كيف ظنت أمها ذلك؟ مع كون الخائضين بالإفك هم ابن أُبي، وأضرابه ممن لا ربط لهم ببيت النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله».. ويعلم بهم كل أحد، ولم يبق ناد إلا طار فيه هذا الخبر.. فهذا مجرد اتهام للضرائر لا مبرر له، مع وجود الشياع العظيم في خارج بيت النبي «صلى الله عليه وآله»..

هذا مع علم أم رومان بشيوع الحديث، ووصوله إلى أبي بكر، وإلى النبي «صلى الله عليه وآله»، وتحدث الناس به..

ثالثاً: أما أنها أرادت تطييب نفسها، فهل يكون ذلك باتهام الأبرياء، وزرع الحقد والضغينة لهن في نفس عائشة؟!.. لست أدري.. ولا أظن أحداً يدري.. إلا إن كان العسقلاني نفسه..

2 ـ هل كان صفوان حصوراً حقاً؟

وتقول روايات الإفك: إن صفوان بن المعطل لم يكن له مأرب في النساء، وإنه كان حصوراً لا يأتي النساء، أي إنما معه مثل الهدبة.. أي أنه كان عنيناً.. كما صُرّح به في كثير من الموارد([3]).

وأنه ما كشف كنف أنثى قط([4]).

ولكن كل ذلك لا يصح، وذلك لما يلي:

أولاً: إننا نجد ما يدل على أنه كان متزوجاً، وقد شكته زوجته إلى النبي «صلى الله عليه وآله» بأنه لا يمكنها من الصيام.. فكان عذره: أنه رجل شهواني، لا يصبر عن النساء، وإسناد هذه الرواية صحيح.

فلا معنى لجعل البزار والبخاري حديث الإفك دليلاً على عدم صحتها([5]).

ولم لا يكون العكس هو الصحيح، ولا سيما بملاحظة: أن حديث الإفك قد تواردت عليه العلل والأسقام الموجبة لضعفه وسقوطه؟!

وقد حاول العسقلاني الجمع والتوجيه: بأنه ربما يكون قد تزوج بعد حديث الإفك، ومعنى أنه لم يكشف كنف أثنى قط: أنه لم يجامع([6]).

ولكن ماذا يعمل العسقلاني بالنصوص الكثيرة التي تقول: إنه كان عنيناً، وله مثل الهدبة، ولا مأرب له بالنساء! إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه هنا؟!

والصحيح في القضية هو ما ذكرناه نحن، وأيدناه بما تقدم.

ثانياً: لقد روى القرطبي أيضاً: أن زوجة صفوان جاءت تشكوه إلى النبي «صلى الله عليه وآله»: ومعها ابنان لها منه، فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: أشبه به من الغراب بالغراب([7]).

فكيف يكون للعنين الذي له مثل الهدبة أولاد؟!

وحين لم يستطع العسقلاني أن يجيب على هذا، حاول التشكيك بقول القرطبي بقوله: إنه لم يقف على مستنده في ذلك.. ثم يورد احتمال أن يكون الذي قال له النبي «صلى الله عليه وآله» ذلك هو صفوان آخر([8]).

ولكنه بعد تصريح القرطبي بأن المراد هو ابن المعطل، فلا يصغى لاحتمالات العسقلاني، وتوجيهاته التبرعية، فإنها اجتهاد في مقابل النص.

وإذا كان العسقلاني لم يقف على مستند القرطبي، فإن ذلك لا يسقط الرواية عن درجة الاعتبار، بل هو يحتّم على العسقلاني أن يقوم بمزيد من البحث والتتبع.

وإذا لم يوجد للرواية سند، فإن ذلك لا يعني أن تكون كاذبة،لا سيما مع تقوّيها بالرواية الصحيحة التي سبقتها.

ثالثاً: من أين علمت عائشة وسواها أن لصفوان بن المعطل مثل هذه الهدبة؟! بل من أين علمت أن لا مأرب له بالنساء؟!

رابعاً: إذا كان صفوان عنيناً، وله مثل الهدبة، فلماذا لم يبادر كل من سمع الإفك إلى تكذيب ذلك، والسخرية من القاذفين والإفكين؟!!

وكيف شاع الإفك وذاع، حتى دخل كل ناد وبيت، كما نص عليه الزمخشري؟!

وكيف لم يلتفت الإفكون إلى أنهم لن يجدوا من يصدقهم في فريتهم، والحالة هذه؟!

ولماذا احتاج النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الوحي والاستعذار من ابن أُبي؟!

ولماذا قال النبي «صلى الله عليه وآله» لعائشة: إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه.

ولماذا تبكي عائشة وأمها وأبوها، وتحمّ وتمرض؟!.

وكيف استقر في قلوبهم ذلك؟..

ولم لم يبادر أحد منهم ولا النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الذبّ عنها، وتكذيب القائلين؟!..

وصفوان.. لماذا لم يبادر إلى إظهار نفسه، والإعراب عن واقع القضية، وحقيقة الأمر؟!.

اعتذارات واهنة:

وأما احتمال أن يكون القذف فيما هو دون الزنا، فيرده: أن الآيات تطلب الشهداء الأربعة من القاذفين..

ويرده أيضاً: أنهم يقولون: إنه «صلى الله عليه وآله» قد حد من قذف، ولم يقولوا: إنه «صلى الله عليه وآله» قد عزّرهم!!

وأيضاً: لماذا يجازف ابن المعطل بضرب حسان، ثم يعرّض نفسه لغضب النبي «صلى الله عليه وآله»، من أجل ذلك؟

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه.

وقد يقال: إن المراد بكونه حصوراً: أنه ممن يحبس نفسه عن شهوته.

ونقول:

أولاً: قد تقدم: أنه لم يكن يمكن زوجته من الصيام حتى شكته إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ثانياً: إن هذا الأمر لا ينفع في مقام التبرئة، لأنه وصف اختياري فيمكن أن يكون الإنسان كافاً نفسه اليوم غير كاف لها غداً أو بعد غد. وكم تجد من الناس من يكون على صفة العدالة اليوم ثم يخرج عن ذلك إلى دائرة الفسق وتعمّد ارتكاب الفواحش والمعاصي.

ثالثاً: إن هذا المعنى لا يناسب قولهم: إنهم وجدوه كذلك.

3 ـ صفوان يدخل على أهل النبي :

وأما قول النبي «صلى الله عليه وآله» على المنبر عن صفوان: إنه ما كان يفارقه في سفر ولا حضر، ولم يكن يدخل على أهله إلا معه..

وفي لفظ: «بيتي».

وفي لفظ: «بيتاً من بيوتي إلا معي»([9]) فهو أيضاً غريب وعجيب.

فأولاً: إن صفوان حسبما يقولون: لم يسلم إلا في تلك السنة، ويرى بعض المؤرخين ـ وهو الواقدي ومن تبعه ـ : أن أول مشاهده الخندق.

بينما يرى فريق آخر: أن أول مشاهده هو غزوة المريسيع نفسها، وكان إسلامه قبلها([10]).

فكيف صح أن يقال: إنه لم يفارق النبي «صلى الله عليه وآله» في سفر، ولا في حضر، وهو لم يسلم، ولم يتبع النبي «صلى الله عليه وآله» إلا قبل مدة وجيزة جداً. وكانت أول مشاهده المريسيع نفسها.. فهل كان يدخل على زوجات النبي «صلى الله عليه وآله»، ويسافر معه، لا يفارقه وهو مشرك؟!

ثانياً: لو أننا تجاوزنا ذلك، فإن قول النبي «صلى الله عليه وآله»: لم يكن يدخل على أهلي إلا معي.. غريب وعجيب، ولا سيما إذا صدقنا ما قالته الرواية: من أن الحجاب كان قد ضرب على نساء النبي..

فما هو المبرر لدخول صفوان على نساء النبي «صلى الله عليه وآله»، وهو رجل أجنبي عنهن، سواء في حضوره «صلى الله عليه وآله»، أو في حال غيابه؟!

وأين هي الغيرة، والحمية، والدين إذن؟!.

ألا يعتبر ذلك طعناً في شخص النبي «صلى الله عليه وآله» والعياذ بالله؟!.. هذا النبي الذي أمر زوجاته أن يستترن حتى من ابن أم مكتوم الأعمى، وحين قلن له «صلى الله عليه وآله»: إنه أعمى، قال النبي «صلى الله عليه وآله»: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟([11]).

اللهم إلا أن نأخذ بقول ابن زيد: إن الناس كانوا لعائشة محرماً، فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم، وليس لغيرها من النساء ذلك([12]). ولكن:

1 ـ ليت شعري: ما الفرق بين عائشة، وبين سائر أزواج النبي «صلى الله عليه وآله»، ولماذا اختصت عائشة بهذه الفضيلة دونهن؟!

2 ـ لماذا إذن ضرب عليها الحجاب؟ فإن ذلك سفه ولغو، لعدم وجوب الستر عليها أصلاً، وجواز تبرجها تبرج الجاهلية!!

وكذلك لماذا يمنعها حتى من رؤية الأعمى ابن أم مكتوم؟!

ثالثاً: إنه لا معنى لقوله «صلى الله عليه وآله»: لم يكن يدخل على أهلي إلا معي، فإن الإفك كان في حال غياب النبي «صلى الله عليه وآله»، لا في حال حضوره، ولا في حال دخوله على أهله..

إذ لم يدَّع أحد: أن صفوان قد دخل على أهل النبي بدون علمه، بل ادَّعوا الإفك عليه في بقائه مع عائشة في الصحراء، فقد قال ابن أُبي كما يروون: زوجة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت.. أو ما هو أقبح من هذا الكلام.

4 ـ هجاء حسان لصفوان وضربة صفوان له:

وأما ما ذكروه في روايات الإفك: من أن حسان بن ثابت قد هجا صفوان بقوله:

أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا    وابن الفـريعـة أمـسى بيضـة البلد

فعدا عليه صفوان فضربه بالسيف،

وتقدم في نص آخر: أنه قعد له، فضربه ضربة بالسيف، وهو يقول:

تـلقَّ ذبـاب السيف مني فـإنـنـي         غـلام إذا هـوجـيت لست  بشاعر
ولكـنـنـي أحمي حمـاي وانـتـقـم        من الباهت الرامي الـبراة الطواهر

فاستغاث حسان الناس، ففر صفوان، فجاء حسان إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فاستعداه عليه، فاستوهبه، فعاضه من نخل عظيم، وجارية([13])، فإنه أيضاً: محل شك كبير، فقد ورد:

1 ـ أن فتية من المهاجرين والأنصار تنازعوا على الماء، وهم يسقون خيولهم، فغضب من ذلك حسان، فقال هذا الشعر.

وتفصيل القضية: أن جهجاه أورد فرساً لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، وفرساً له الماء، فوجد على الماء فتية من الأنصار، فتنازعوا فاقتتلوا، فقال ابن أُبي: هذا ما جزونا به، آويناهم ثم هم يقاتلوننا.

فبلغ حسان بن ثابت، فهجا المهاجرين بالأبيات الإحدى عشرة، التي منها هذا البيت:

أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا    وابـن الفـريعـة أمسى بيـضة البلد

قال: فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: يا حسان نفست علي إسلام قومي؟! وأغضبه كلامه.

فعدا صفوان على حسان، وضربه بالسيف، وقال:

تـلقَّ ذباب السيف منـي فـإنـنـي         غـلام إذا هـوجـيت لست بشـاعر
ولـكـنـنـي أحمي حمـاي وانتـقـم        من الباهت الـرامي البراة  الطواهر

ثم ذكر: أن قوم حسان أخذوا صفوان، وأطلقه سعد بن عبادة، وكساه.. ثم أتوا بحسان إلى النبي «صلى الله عليه وآله» مرتين، فلم يقبله، وقبله في الثالثة([14]).

وهذه هي الرواية المنسجمة مع سائر النصوص.. كتعبير ابن أُبي عن المهاجرين بـ «الجلابيب»([15]).

2 ـ إن روايات الإفك تصرح: بأن حساناً كان يعرّض بمن أسلم من مضر.

ونقول: ما شأن من أسلم من مضر بقضية الإفك؟!

3 ـ وبالنسبة لقول النبي «صلى الله عليه وآله» لحسان: «أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام»؟

نقول: لماذا لم يؤنبه النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» على قذفه، وإنما أنبه على هجائه لقومه فقط؟!

4 ـ وبالنسبة لقول صفوان لحسان حين ضربه بالسيف:

تـلـقَّ ذبـاب السـيـف مني فـإنـني       غـلام إذا هـوجـيت لست بشـاعر

نقول: إن هذا الشعر يشير إلى أن صفوان بن المعطل إنما ينتقم من حسان بسبب هجائه له.. وهو الأمر الذي عجز صفوان عن مواجهته، فلجأ إلى طريقة العنف.

5 ـ إن قول صفوان في البيت التالي:

ولـكـنـنـي أحمي حمـاي وأنـتـقـم                من الباهت الرامي الـبراة  الطواهر

صريح في أنه يؤنبه على رميه الطواهر من النساء، وليس بالضرورة أن يكون مقصوده هو عائشة، فيما يرتبط بالإفك عليها، بل المقصود ـ كما صرح به الصنعاني ـ هو أم صفوان، فإن حسان بن ثابت كان يهجو صفوان بن المعطل ويذكر أمه، فضربه من أجل ذلك([16]).

6 ـ قد ذكرت بعض الروايات أن صفوان قال: «آذاني، وهجاني، وسفه عليّ، وحسدني على الإسلام، ثم أقبل على حسان، وقال: أسفهت على قوم أسلموا»؟([17]).

فلو كانت القضية في موضوع الإفك، لكان المناسب احتجاج صفوان عليه بذلك، ليكون باب العذر له أوسع.. وكان على النبي «صلى الله عليه وآله»: أن يؤنبه على ذلك أيضاً، لأن ذلك عند الله عظيم، كما عبّرت به الآية الشريفة.

7 ـ وقال السمهودي، وأبو الفرج: روى عقبة، عن العطاف بن خالد، قال: كان حسان يجلس في أجمة فارع، ويجلس معه أصحابه: ويضع لهم بساطاً يجلسون عليه، فقال يوماً ـ وهو يرى كثرة من يأتي رسول الله «صلى الله عليه وآله» من العرب يسلمون ـ :

أرى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا              وابن الفريعـة أمسى بيـضـة البلـد

فبلغ ذلك رسول الله «صلى الله عليه وآله» فقال: من لي من أصحاب البساط؟

فقال صفوان بن المعطل: أنا لك يا رسول الله منهم، فخرج إليهم، واخترط سيفه، فلما رأوه مقبلاً عرفوا من وجهه الشر، ففروا وتبددوا، وأدرك حسان داخلاً بيته، فضربه، ففلق ثنّته.

فبلغني: أن النبي «صلى الله عليه وآله» عوضه، وأعطاه حائطاً، فباعه من معاوية بن أبي سفيان بمال كبير، فبناه معاوية بن أبي سفيان قصراً([18]).

وخلاصة الأمر: أن كل الدلائل والشواهد تشير إلى أن ضرب صفوان لحسان لا علاقة له بقضية الإفك على الإطلاق.

8 ـ وبعد كل ذلك.. لماذا يلجأ صفوان إلى ضرب حسان في قضية الإفك، وإلى استعمال أسلوب العنف معه، أليس قد علم الناس: أنه لا يقرب النساء، وأنه كان عنيناً، وأن له مثل الهدبة؟!

ولماذا.. لا يضرب ابن أبي أيضاً، أليس هو أولى بذلك، بعد ان تولى كبر الإفك، كما يقولون؟!

9 ـ وإذا كان قد ضرب حساناً، فلماذا يظهر النبي «صلى الله عليه وآله» التغيظ على صفوان، ويدافع عن قاذف زوجته، ويحاول المحافظة عليه، ثم يتبرع من ماله بسيرين، وبيرحاء ـ على ما يقولون ـ ليرضي حساناً عن ضربته؟!

ولماذا لا يرضيه من مال صفوان قصاصاً له؟!

ولماذا يهتم النبي «صلى الله عليه وآله» بالصلح بينهما، ويحاول إرضاء حسان بهذا النحو من التضحية بالمال وغيره، مع أن الصلح في قضية تتعلق بزوجة هذا المصلح نفسه؟! وتتضمن بالأخص رميها بالزنا.. نعوذ بالله من ذلك.

10 ـ وأما إذا كان صفوان قد ضربه بعد نزول آيات التبرئة.. وكان حسان قد عاد إلى القذف.. فقد كان اللازم: أن يقيم النبي «صلى الله عليه وآله» عليه الحد من جديد، مع أن الأمر يصير أشد وأعظم حينئذٍ، لأنه يتضمن تكذيب القرآن.

إلى غير ذلك من الأسئلة، التي لم ولن تجد لها جواباً مقنعاً ومقبولاً على الإطلاق.([19]).

5 ـ بيرحاء:

ويقولون: إن صفوان بن المعطل ضرب حسان بن ثابت في قضية الإفك، فعوّض النبي «صلى الله عليه وآله» حساناً عن ذلك ـ بالإضافة إلى سيرين ـ أرضاً اسمها: بيرحاء.

ونحن نشك في ذلك:

إذ قد ورد في البخاري: أن أبا طلحة قال للنبي «صلى الله عليه وآله»: إن الله يقول في كتابه: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله.. أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.

فقال «صلى الله عليه وآله»: بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين.

فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه([20]).

فأعطاها لحسان، وأبي بن كعب، لأن حساناً يجتمع معه في الأب الثالث، وأبي ابن عمته([21])..

وأضاف ابن زبالة، عن أبي بكر بن حزم إليهما: ثبيط بن جابر، وشداد بن أوس، أو أباه أوس بن ثابت، يعني أخا حسان فتقاوموه، فصار لحسان، فباعه لمعاوية بمائة ألف درهم([22])..

6 ـ شعر حسان في الاعتذار لعائشة:

تذكر روايات الإفك: أن حسان بن ثابت قد اعتذر لعائشة بأبيات يقول فيها:

حصـان رزان مـــا تــــزن بـريـبة       وتـصـبح غرثى من لحوم  الغوافل

فقالت له: لكنك لست كذلك.. وفيها:

فـإن كـان مـا قـد قيـل عنـي  قلته                فـلا رفـعـت سـوطي إلي  أنـامـلي

إلى آخر الأبيات.

ونحن نشك في صحة ذلك، لما يلي:

1 ـ إن قوله: فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم، يدل على: أنه يكذب ما نسب إليه من الإفك، وليس فيه اعتذار لأحد.

بل هو يستدل على عدم صحة ذلك بقوله:

وكيف وودي مـا حييت ونصـرتي              لآل رسـول الله زيـن المـحـافـــل
أأشـتـم خير الناس بعـلاً ووالـداً        ونفسـاً لقـد أنـزلت شر  المنـازل
(
[23])

كما أنه ليس فيه تكذيب لنفسه كما زعمت بعض الروايات([24]) بل هو تكذيب لما نسب إليه مع استدلال وإيراد شواهد.

2 ـ ما رواه ابن هشام، عن أبي عبيدة، قال: إن امرأة مدحت بنت حسان بن ثابت عند عائشة، فقالت:

حصـان رزان مــا تـــزن بـريـبـة               وتـصـبح غرثى من لحوم  الغوافل

فقالت عائشة: لكن أباها([25]).

3 ـ وفي بعض طرق رواية مسروق: أن حساناً قال ذلك: «يشبب ببنتٍ له»([26]).

4 ـ لقد ورد: أن أنس بن زنيم، حينما بلغه إهدار النبي «صلى الله عليه وآله» دمه جاء إليه معتذراً، وأنشده أبياتاً كان منها قوله:

ونـبّـي رسـول الله: أنـي هـجـوته               فـلا رفعت سـوطي إلي إذن يدي([27])

وعلى هذا.. فلا يستبعد أن تكون هذه القصيدة منحولة لحسان بما فيها أبيات التبري كما ربما تشير إليه الشواهد.

وقد قال الأصمعي عن حسان: «تنسب له أشياء لا تصح عنه»([28]).

ومحاولة العسقلاني التأكيد على: أن اللامية قد قالها حسان في عائشة، إذ قد ورد فيها:

فإن كنت قد قلت الذي زعموا لكم       الخ....([29])،

ما هي إلا محاولة فاشلة، بعد أن ثبت التصرف في الأبيات.. وأيضاً فإن هذا البيت عام المضمون؛ فيمكن أن يكون قد بلغ ابنة حسان عن المادحة شيء يسوؤها، فتريد أن تبرئ نفسها منه. أو لعل البيت لأنس بن زنيم، ثم نحل لحسان، لحاجة في النفس قضيت.

هذا كله.. عدا عن أن البيت الأول، أعني قوله: حصان رزان الخ.. عام المضمون كذلك.

ويلاحظ أيضاً: أن بعض الأبيات المذكورة فيها ضعف ولين، لا يناسب شعر حسان. فليلاحظ قوله:

تعـاطـوا بـرجم القول زوج نبيهم                وسخطة ذي العرش الكريم فاترحوا
فـآذوا رسـول الله فيهـا وعـمـموا               مخازي سـوء عمموها وفضحوا
([30])

واخيراً:

فإن مما يلفت النظر هنا: أن البعض قد جعل قوله:

فــلا رفـعـت سـوطـي......                 الخ..

دليلاً على أنه لم يجلد في الإفك، ولا خاض فيه([31])..

ولكنهم لما رأوا: أن قول الآخر:

لقـد ذاق حسـان الـذي كان أهله         وحمنة، إذ قـالـوا هجيراً  ومسـطح

ينافي ذلك، ادّعوا: أنه محرَّف، وأن الصحيح هو الرواية الأخرى:

لقـد ذاق عبد الله الذي كان أهله([32])   الخ..

بل لقد قالوا: إن هذا الشعر هو لحسان نفسه في ابن أُبي، وأنه قد قاله في الإفكين حين جلدوا([33]).

مع أن قائل هذا الشعر هو عبد الله بن رواحة، أو كعب بن مالك، كما سيأتي.. كما أن أبا عمر صاحب الإستيعاب قال: إن الأصح هو قوله:

لقـد ذاق حسـان الـذي كان أهله ([34])   الخ..

وعلى كل حال.. فإن عندنا مثل عامي يقول: الفاخوري يجعل أذن الجرة أين وكيفما أراد.

7 ـ توبة الإفكين أو تبرئتهم:

وقد ذكروا: أن عائشة قد رجت الجنة لحسان، وقالت، في قوله:

فـإن أبي، ووالـــده، وعـــرضــي       لعـرض محــمـد منــكـم وقـاء..

بهذا البيت يغفر الله له كل ذنب.. وبرأته من أن يكون قد افترى عليها، ثم لما قيل لها: أليس ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟

قالت: لم يقل شيئاً الخ..([35]).

وأيضاً.. فإننا نجد في بعض الروايات: أن ابن عباس يؤكد على توبة حسان، ومسطح، وحمنة!!

ويقول الصفدي: «تاب الله على الجماعة إلا عبد الله السلولي»([36]). يقصد بالجماعة: حمنة، وحساناً، ومسطحاً.

وفي رواية: أن الله تعالى سوف يستوهب المهاجرين من الإفكين يوم القيامة، فيستأمر النبي «صلى الله عليه وآله» عائشة.. فتهبه إياهم([37]).

ونحن إزاء هذه المنقولات نشير إلى ما يلي:

1 ـ كيف تبرئ عائشة حساناً، وهم يقولون: إنه ممن تولى كبر الإفك؟!.

وكيف نجمع بين جعلها العذاب العظيم له هو عماه.. وبين قولها: لم يقل شيئاً؟!

فمن لم يقل شيئاً لماذا يكون له هذا العذاب العظيم؟

2 ـ كيف حكمت عائشة بمغفرة كل ذنب لحسان، وكيف يكون العذاب العظيم له هو عماه، مع أن القرآن قد نص على أن العذاب العظيم يكون في الآخرة، لا في الدنيا؟! وأنه عذاب ينتظر الإفكين، ولا مفر لهم منه، قال تعالى: {..لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}..

3 ـ كيف يحكم ابن عباس والصفدي بتوبة الإفكين، وكذلك عائشة، مع أن ابن عباس نفسه وغيره يصرحون: بأن من يقذف أزواج النبي «صلى الله عليه وآله»، لا توبة له، وأما من يقذف غيرهن فله توبة؟!([38]).

وروى الزمخشري وغيره: عن ابن عباس: أنه كان يوم عرفة في البصرة يفسر القرآن، وكان يسأل عن تفسيره، حتى سئل عن هذه الآيات، فقال: من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته، إلا من خاض في أمر عائشة.

قال الزمخشري: وهذا منه مبالغة، وتعظيم لأمر الإفك([39]). وهذا موافق لصريح الآيات القرآنية.

4 ـ كيف يحكم ابن عباس والصفدي بتوبة الثلاثة، وحصر العذاب الأخروي في ابن أبي، ونحن نرى: أن آيات القرآن قد نصت على أن العذاب العظيم في الآخرة لجميع الإفكين؟

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إلى آخر الآيات.

هل لقاذف زوجة النبي توبة؟!

هذا.. ويرى البعض أن لقاذف زوجة النبي «صلى الله عليه وآله» توبة، وأنه إنما طوي ذكر التوبة في آيات الإفك لكونها معلومة([40])..

ونحن إزاء هذا الادِّعاء نشير إلى ما يلي:

1 ـ إن من يقذف أزواج النبي «صلى الله عليه وآله» يؤذي نفس النبي «صلى الله عليه وآله». ولا أعظم وأشد من أذيته «صلى الله عليه وآله» في ناموسه، وشرفه.. وحال من يؤذيه «صلى الله عليه وآله» في الدنيا والآخرة معلوم من الآيات القرآنية وغيرها.. ولا سيما إذا كانت أذية من هذا النوع!!

2 ـ إن هذا الرأي لا يضر بما قلناه آنفاً، من تناقض كلام ابن عباس وغيره في هذا المقام.

3 ـ قال الزمخشري: «..ولو فليت القرآن كله، وفتشت عما أوعد به من العصاة، لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة!! رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل على طرق مختلفة، وأساليب مفتنة، كل واحد منها كاف في بابه.. ولو لم ينزل إلا هذه الآيات الثلاث (يعني قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ..} إلى قوله: {الحَقُّ المُبِينُ}..) لكفى بها: حيث جعل القَذَفَةَ ملعونين في الدارين جميعاً، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا..»([41]).

ومع ذلك كله هم يقولون: إن لقاذف زوجة النبي توبة، لماذا؟ لكي يصح قولهم بتوبة حسان وأضرابه، ممن لهم بهم هوى سياسي أو غيره!!

ما عشت أراك الدهر عجباً!!

8 ـ ضرب بريرة:

وتذكر روايات الإفك: أن علياً «عليه السلام» قد انتهر الجارية بريرة، وفي بعضها: أنه ضربها.

وفي رواية: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال لعلي: شأنك بالجارية.. فسألها علي، وتوعدها، فلم تخبره إلا بخير، ثم ضربها وسألها.

وفي رواية الاكتفاء، وابن إسحاق: فقام إليها علي، فضربها ضرباً شديداً، يقول: أصدقي رسول الله «صلى الله عليه وآله»([42]).

وعند ابن أبي الحديد: لما استشار النبي «صلى الله عليه وآله» علياً، قال له: «ما هي إلا شسع نعلك، وقال له: سل الخادم وخوفها، وإن أقامت على الجحود فاضربها، إلى أن قال: ونقل النساء إليها كلاماً كثيراً عن علي وفاطمة، وأنهما قد أظهرا الشماتة، جهاراً وسراً، بوقوع هذه الحادثة لها، فتفاقم الأمر وغلظ..» ثم ذكر: أنه عندما نزل القرآن ببراءتها، كان منها ما يكون من المغلوب حين ينتصر..([43]).

ونقول:

وفي نص آخر: أنه «عليه السلام» قال للنبي «صلى الله عليه وآله»: «وسل بريرة خادمتها، وابحث عن خبرها منها، فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله»: فتول أنت يا علي تقريرها.

فقطع لها علي «عليه السلام» عسباً من النخل، وخلا بها يسألها عني، ويتهددها، ويرهبها. لا جرم أني لا أحب علياً أبداً»([44]).

ونقول:

1 ـ إننا لا نعرف المبرر لضرب بريرة ـ هذه التي عجب الناس من فقهها!! ـ كما يزعمون.. بل ما هو المبرر حتى لانتهارها؟!. بل ما هو المبرر لأمر النبي «صلى الله عليه وآله» له بذلك، بقوله: «شأنك بالجارية»؟!.

نعم.. لا نعرف المبرر لهذا الأمر الذي يقع بمرأى من النبي «صلى الله عليه وآله» وبمسمع، بل بموافقته وأمره، سعياً لانتزاع إقرار منها على زوجة هذا النبي الأعظم بالقبيح.. مع أن هذا النبي نفسه قد حرم التوسل بالقوة، أو بأي من أساليب التخويف، لانتزاع إقرار من أحد على غيره. وإذا كان علي «عليه السلام» قد بادر إلى ذلك من عند نفسه، وكان ذلك يمثل عدواناً عليها، فلماذا لا يقتص منه ما دام أنه قد اعتدى عليها بالضرب والتهديد؟!

2 ـ هل كانت بريرة حاضرة وناظرة لما جرى بين صفوان وعائشة لتعرف بالأمر وتقر به إثباتاً أو نفياً؟!

التوجيه البارد:

ومن الطريف هنا أن يوجه السهيلي ذلك بقوله: «..وإن ضرب علي للجارية، وهي حرّة ولم تستوجب ضرباً، ولا استأذن رسول الله «صلى الله عليه وآله» في ضربها.. فأرى معناه: أنه أغلظ لها بالقول، وتوعدها بالضرب، واتهمها أن تكون خانت الله ورسوله، فكتمت من الحديث ما لا يسعها كتمه، مع إدلاله، وأنه كان من أهل البيت..»([45]).

ونقول:

1 ـ إننا لا ندري متى تغيرت اللغة، وصار معنى قولهم: «ضربه»: أنه تهدده بالضرب؟!.

2 ـ ولا ندري أيضاً.. ما الفرق بين الحرة والأمة، حتى يجوز ضرب الأمة بلا ذنب، ولا يجوز ضرب الحرة؟!

3 ـ ولا ندري كذلك.. إن كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يأذن في ضرب البريء، أو لا يأذن؟!

4 ـ ولا ندري رابعة: إن كان مجرد الاتهام لأحد يبرر ضربه، والاعتداء عليه، وتهديده؟!

5 ـ ولا ندري أخيراً!! وليتنا كنا ندري.. إن كان مجرد كون علي «عليه السلام» من أهل البيت «عليهم السلام»، وإدلاله بذلك، يسوِّغ له الاعتداء على الأبرياء بالضرب والتهديد؟!

فمن كان يدري.. فليعلمنا، فلسوف نكون له من الشاكرين.

9 ـ استشارة بريرة وتقريرها:

وأين قولهم: إنهم قد ضربوا بريرة لانتزاع إقرار منها على سيدتها، من قول بعض الروايات: إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد استشار بريرة، ثم صعد المنبر فبرأ عائشة؟

وبعض الروايات تعكس الأمر، وتقول: إنه برأها، ثم استشار في أمرها.

ونحن لا يمكننا قبول ذلك أيضاً، وذلك لما يلي:

أولاً: إنه حينما برأها أولاً.. قد دل على أنه قاطع بطهارة ذيلها.. فما معنى محاولة تقريرها ثانياً؟ فإن كان في شك من أمرها فقد كان الأجدر: أن يقررها قبل أن يقف في المسجد ذلك الموقف، ويقول ذلك القول، الذي كاد أن يوقع الفتنة بين الحيين الأوس والخزرج.. فإن ذلك هو التصرف الطبيعي لكل إنسان يواجه مشكلة من هذا النوع.

وكذلك الحال.. لو كان قد سأل عنها بريرة، ثم برأها على المنبر أولاً، ثم عاد فاستشار في أمرها، كما تقول بعض الروايات الأخرى.. فما المبرر لهذه الاستشارة اللاحقة؟ فإن الأولى والأجدر، والتصرف الطبيعي هو عكس ذلك. إذ أن السؤال والتبرئة لها لا يبقيان موقعاً للاستشارة في أمرها، لأن الأمر يكون قد حسم وانتهى.

وإن كان الأمر لم يحسم بذلك، فكيف اعتمد على قول بريرة حينما برأها أولاً على المنبر؟([46]).

ثانياً: إذا كان «صلى الله عليه وآله» قد أعلن في المسجد براءة عائشة، ثم عاد فقرّر بريرة، فماذا سيكون موقفه لو أن بريرة أقرت بخلاف ما أعلنه، وماذا سيقول للناس يا ترى؟!

ثالثاً: هل كان النبي «صلى الله عليه وآله» الذي هو عقل الكل، وإمام الكل، ومدبر الكل بحاجة إلى الاستشارة حقاً؟!

وكيف أدركت بريرة براءة عائشة، وعجب الناس من فقهها، وكذلك عمر وعثمان، وأسامة، و..و.. و.. ولم يستطع النبي «صلى الله عليه وآله»، نبي الأمة أن يدرك ذلك؟!

وهل لم يكن عنده من الفقه بمقدار ما عند بريرة؟!.

وأين كان فقه علي «عليه السلام»، وكذلك فقه غيره من صحابة الرسول «صلى الله عليه وآله»؟!.

رابعاً: لنفرض أن بريرة اتهمت عائشة، والعياذ بالله، مع أنها سيدتها، وولية نعمتها، وواهبة حريتها.. فهل يستطيع النبي «صلى الله عليه وآله» أن يرتب الأثر على اتهام بريرة، وهو يعلم: أنها لم تكن معها في تلك الغزوة؟!

وإذا كانت معها، فلماذا لم تخبر حاملي الهودج أن سيدتها ليست فيه؟!

خامساً: هل يمكن للنبي «صلى الله عليه وآله» أن يرتب الأثر على اتهامها لسيدتها، وهي شاهد واحد.. وهذا الشاهد هو امرأة، وليست رجلاً؟!

سادساً: إنها لم تشهد بالنفي، بل أظهرت عدم علمها بشيء؛ فكيف جاز ـ بعد هذا ـ للقسطلاني أن يقول: إنه «صلى الله عليه وآله» قد اعتمد على قول بريرة، عندما برأ عائشة على المنبر، كما تقدم؟!!

سابعاً: ما هو المبرر لاستشارة أولئك الذين لم يحضروا ولم يشهدوا غزوة المريسيع أصلاً، مثل بريرة، وأم أيمن، وزينب بنت جحش وغيرهن؟!

ولم لم يختر من زوجاته إلا خصوص زينب بنت جحش، التي تقول عائشة: إنها الوحيدة التي كانت تساميها من بين زوجات النبي «صلى الله عليه وآله» ليسألها؟ فهل يريد حقاً: إثبات التهمة عليها؟!..

ثم لماذا يترك سؤال واستشارة أم سلمة، التي تنص الروايات على أنها كانت معها في غزوة المريسيع؟!

ثامناً: حتى لو كانوا جميعاً معها في غزوة المريسيع، فأيهم ذلك الذي كان معها حينما وجدها ابن المعطل وحيدة في الصحراء، ثم لحقهم بها؟!!

فحتى لو شهد الكل عليها بالإثبات أو بالنفي.. فإن ذلك لا يفيد، ولا يصح ترتيب الأثر عليه، ولا يمكن إثبات شيء في أمر كهذا إلا عن طريق الإقرار وحسب، فلا معنى للاستشارة، ولا لسؤال أحد.

10 ـ نفاق سعد بن عبادة:

تقول عائشة: «فقام سعد بن عبادة، سيد الخزرج ـ وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ـ » ([47]).

وتقول عن أسيد بن حضير: «..وكان أسيد رجلاً صالحاً في بيت من الأوس عظيم»([48]).

فهل يعني ذلك: أن صلاح ابن عبادة قد ذهب الآن؟!

وإذا كان قد ذهب، فما الذي يكفل عودته إليه؟! فلعله استمر على عدم الصلاح إلى ما بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله»، حتى طالب بالخلافة لنفسه، ونازع أباها، ولم يبايعه، حتى اغتالته السياسة في الشام، على حد تعبير طه حسين.

أما أسيد بن حضير ـ الذي شهدت له أم المؤمنين بالصلاح الفعلي!! وجعلته في بيت من الأوس عظيم!!! ـ سيأتي بعض ما يفسر لنا هذا الموقف تجاهه ـ فإن ذلك يرتبط بتاريخه ومواقفه ـ في موضعه كما سنرى إن شاء الله تعالى.

ثم.. هناك وصف أسيد بن حضير لسعد بن عبادة بأنه: منافق يجادل عن المنافقين!!. فإننا لا ندري ما هو المبرر لهذا، إذ من المعلوم لدى كل أحد أن ابن عبادة لم يكن منافقاً، بل هو من كبار الصحابة، وهو ينافس أباها في أمر الخلافة!!

والأنكى من ذلك: أن عائشة تحاول الإيحاء بصحة كلام ابن حضير، وذلك حينما تقول: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً.

وأهم من ذلك كله: أن نجد النبي «صلى الله عليه وآله» يسكت عن وصفهم لسعد بالنفاق.

تأويلات موهونة:

وأجاب البعض عن هذا: بأن النبي إنما ترك الإنكار على ابن حضير، لأنه إنما قال ذلك مبالغة في زجر سعد، وعلى سبيل الغيظ والحنق.

وهذا الجواب لا يصح، لأن المنكر الذي صدر من أسيد، هو منكر على أي حال، سواء صدر منه على جهة الغيظ، أو لأجل الزجر، ولا يخرجه ذلك عن كونه قذفاً بأمر فظيع، وخطير جداً، ومعصية عظمى.

وقد اعتذر ابن التين ـ وحسّنه العسقلاني ـ : بأن مقصود عائشة: أنه لم يتقدم منه الوقوف مع أنفة الحمية([49]).

وهو كلام فارغ.. فإن ذلك يعني: أن سعداً قد وقف هنا مع أنفة الحمية، وأن ذلك لم يصدر منه قبل هذا.

ومن الواضح: أن هذا يكفي مبرراً للطعن في صلاحه، ولا سيما إذا كان هذا الوقوف يجر إلى إيذاء رسول الله «صلى الله عليه وآله»، والنيل من كرامته وشرفه، ويؤدي إلى النزاع بين الأوس والخزرج.

هذا كله بالإضافة إلى: أن ابن معاذ لم يتكلم بما يثير الحمية الجاهلية عند ابن عبادة!!

وأما توجيه كلام أسيد تارة: بأن سعداً أراد أن يصنع صنيع المنافقين، لا أنه منافق بالفعل، وأخرى ـ كما يقول المازري ـ : بأنه ليس المراد: نفاق الكفر، بل المراد، أنه كان يظهر المودة للأوس، ثم ظهر عدمه،

أما هذه التوجيهات، فهي أيضاً لا يمكن أن تكون مقبولة.. وذلك لبعدها عن مدلول اللفظ، وسياق الكلام، فإنه إنما أثبت لابن عبادة عين نفاق المنافقين الذين يجادل عنهم سعد.. لأنه يريد أن يجعله منهم، ومدافعاً عنهم.

ثم ما هو الربط بين المودة للأوس وقضية الإفك على عائشة، والاستعذار من ابن أبي وبين حمية الجاهلية؟ ولم يصدر من ابن معاذ شيء يثير حمية الجاهلية أبداً، وإنما هو قد تعهد بتنفيذ أوامر النبي «صلى الله عليه وآله» فقط.. فهل تنفيذ أوامره «صلى الله عليه وآله» يتنافى مع المودة للأوس؟!

11 ـ جلد الإفكين:

وروايات جلد الإفكين مختلفة جداً أيضاً كما قدمنا حين الحديث عن تناقضات روايات الإفك، فاستقصاء الكلام فيها يحتاج إلى وقت طويل.. ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك كله، ولذا فنحن نكتفي هنا بالإشارة إلى ما يلي:

1 ـ إن أغرب ما في روايات الإفك: أن بعضها يقول: إن الإفكين قد جلدوا حدين.. وتزيد بعضها: إنه وجئ في رقابهم.. وبعضها يكتفي: بالوجأ في الرقاب للبعض منهم.

ونحن لم نستطع أن نفهم: لماذا جلدوا الحد الآخر!! كما أننا لم نعرف: السبب في ضم بالوجأ في الرقاب إلى الحد الشرعي، فهل هو جزء منه؟ أم هو من قبيل البخشيش؟! أم ماذا؟.

ولعل روايات الإفك المضطربة في هذا الأمر جداً هي التي دعت أصحاب النوايا الحسنة!!! إلى أن ينسبوا إلى ابن عمر القول: بأن قاذف أزواج النبي «صلى الله عليه وآله» يحد حدين، وهذا مما تفردت به روايات الإفك، وابن عمر.

بل إن البعض يقول: من قذف عائشة يقتل، ومن قذف أزواج النبي «صلى الله عليه وآله» يحد حدين([50]).. ولعل حكمهم بقتله، لأجل أن قذفه لها حينئذٍ يتضمن تكذيباً للقرآن النازل في براءتها.

وليس في القرآن نص يفيد: أن الإفك كان على عائشة، وإنما سمتها الروايات ـ التي قد تبين حالها. أما جلد أهل الإفك جلدين فإننا لم نفهم حتى الآن، لماذا حكم بالحدين لمن يقذف سائر أزواجه «صلى الله عليه وآله»؟

2 ـ ثم هناك الرواية التي تقول: إنه «صلى الله عليه وآله» أمر برجلين وامرأة فجلدا الحد، وفسروا الرجلين بحسان ومسطح، والمرأة بحمنة، ويؤيده قول ابن رواحة، أو كعب بن مالك([51]).

لقـد ذاق حسـان الـذي كـان أهله                وحمنـة إذ قـالـوا هجيراً ومسـطح

الأبيات.. ولم يذكر معهم ابن أُبي.

لكن في الطبراني قال: أما ابن أبي فقد سلم من الجلد، كما تقوله هذه الرواية. وروى هذا البيت بصيغة لقد ذاق عبد الله.. ونُسب مع بقية الأبيات لحسان نفسه([52]).

ولكن لماذا لم يجلد ابن أبي، مع أنه هو الذي تولى كبر الإفك، حسبما ذكرته روايات كثيرة؟! وكيف جاز لرسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يعطل الحد الشرعي الثابت عليه؟!

واعتذر البعض عن ذلك: بأن قبيلته كانت تمنعه بحيث لو أراد النبي «صلى الله عليه وآله» أن يحده للزم فساد كبير.

ولكن كل ذلك لا يجدي؛ إذ ما الفرق بين حسان، وابن أبي؟ فابن أبي خزرجي، وكذلك حسان، فلماذا لا يمنع الخزرج حساناً شاعرهم، ولسانهم، كما منعوا ابن أبي؟! أم يعقل أنهم يمنعون المنافق، ولا يمنعون المسلم؟!. وقد تلاوموا على أخذهم صفوان بن المعطل، عندما كسع حساناً بالسيف، بدون إذن النبي «صلى الله عليه وآله» لهم في أخذه.. فلماذا إذن، يمنعون النبي «صلى الله عليه وآله» من إقامة حدّ من حدود الله تعالى.. ولا سيما في قضية ترتبط بناموس وشرف هذا النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه؟!!

واعتذر الحلبي بعذر آخر، حيث قال: «الحد كفارة، وليس من أهلها، وقيل: لم تقم عليه البينة بخلاف أولئك، وقيل: لأنه كان لا يأتي بذلك على أنه من عنده، بل على لسان غيره»([53]).

وهو اعتذار عجيب وغريب، فإن الحدود لا تعطل بحجة الأهلية وعدمها.. ولا ورد في تشريع الحدود تقييد من هذا القبيل.

وأما عن البينة فنقول: كيف لم تقم عليه البينة، وهم يقولون: إنه هو الذي تولى كبر الإفك، أي معظمه؟! ومن ينص القرآن على أنه قد تولى كبره منهم وله عذاب عظيم.. كيف يترك من دون أن يصيبه العذاب الأليم في الدنيا؟!

وكيف كان ينقل ذلك على لسان غيره؟ وهم يقولون: إنه أول من قال: فجر بها ورب الكعبة.. ثم تبعه من تبعه.. فلماذا لا يشهدون عليه بما سمعوه منه؟

إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة، والمحيرة التي لا تجد جواباً مقنعاً ولا مقبولاً.

3 ـ ثم هناك قول أبي عمر في الإستيعاب، وصححه الماوردي: أن حدّهم لم يشتهر، والذي اشتهر هو أنه لم يجلد أحد.

فكيف لم يجلد أحد؟

وهل عطل النبي «صلى الله عليه وآله» حداً من حدود الله؟!

وهل للنبي «صلى الله عليه وآله» أن يعطل الحدود؟!

4 ـ وإذا كان مسطح قد نفى عن نفسه الاشتراك في الإفك، وحسان قد برأته عائشة، وقالت: لم يقل شيئاً.. فلماذا تقول الروايات الأخرى: إنهما جلدا حدين، أو حداً واحداً، أو وجئ في رقبتيهما، أو ضربا ضرباً وجيعاً؟!

5 ـ وإذا نظرنا إلى رواية أخرى، فإننا نجد أنها تقول: إن ابن أبي حدّ حدّين ووجئ في رقاب الباقين، كما عن الطبراني، وابن مردويه، أو ضربوا ضرباً وجيعاً، كما في بعض الروايات.

فلا ندري لماذا اختص ابن أبي بالحدين، دون بقية رفقائه.. الذين شاركوه في الإفك؟

وكون ابن أبي قد تولى كبر الإفك، لا يوجب الحدين له، دون غيره، إذ لم يقل أحد من الأئمة: أن ذلك يوجب حدين.. كما أنه لم يقل أحد: أن العذاب العظيم في الآية هو ذلك([54]).

6 ـ وأما حدّهم في الآخرة، ثمانين ثمانين([55])، فلم نعرف له وجهاً، بعد أن كانت الحدود تشريعات دنيوية محضة.. وليس في الآخرة سوى العذاب الأليم لهم، بنص آيات الإفك نفسها.

7 ـ ويبقى هنا سؤال.. لماذا أخّر النبي «صلى الله عليه وآله» حد القاذفين طيلة شهر، أو أكثر من خمسين يوماً، من بدء إفكهم، حسبما تقدم؟! حتى شاع، وتناقلته الألسن!!

إعتذارات غير مقبولة:

وقد يعتذر عن ذلك: بأن آيات حد القذف لم تكن قد نزلت بعد، فلما نزلت حدّهم، ويدل عليه: استعذار النبي «صلى الله عليه وآله»، وأن ابن معاذ قال: إنه يقتل الإفك، ولو كان حكم القذف معلوماً لقال ابن معاذ وسائر الناس حكم القذف معلوم، ويدك مبسوطة([56]).

وجوابه: أن معنى ذلك: أنهم قد ارتكبوا ذنباً لم يكن قد نزل حكمه بعد، فكيف يؤاخذون به؟! فإن ذلك غير مقبول في العادة والعرف.

ولو كان للحدود هذا المفعول الرجعي للزم أن يعاقب النبي الصحابة جميعاً على كثير من المخالفات التي صدرت منهم، ثم نزلت عقوباتها بعد أشهر.. مع أننا لم نجد النبي «صلى الله عليه وآله» قد فعل ذلك في أي مورد أبداً.

وربما يقال في الجواب أيضاً: إن حكم القذف كان معلوماً مع عدم الشاهد، وهو الجلد، وتبرئة المقذوف شرعاً.. فتأخير النبي «صلى الله عليه وآله» إجراء الحد عليهم، كان بهدف الانتظار إلى حين نزول براءة ذيلها واقعاً بالآيات.

ولكنه جواب لا يصح أيضاً: لأن ما أتى به الوحي لا يزيد على ما تعينه آية القذف من براءة المقذوف براءة شرعية وظاهرية، لأن الآيات الست عشرة تستدل على كذب الإفكين بعدم إتيانهم بالشهداء، وهذا دليل البراءة الظاهرية لا الواقعية.. ولا ملازمة بين الحكم الشرعي بالبراءة، وبين البراءة الواقعية.. وقوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}.. إنما أثبت البراءة، التي يشترك بها جميع المقذوفين، من غير قيام بينة.. والبراءة المناسبة لهذا المعنى هي الشرعية([57]).

قال النيسابوري والزمخشري، والنص له: «جعل الله التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب ثبوت شهادة الشهود الأربعة، وانتفاؤها.. والذين رموا عائشة لم تكن لهم بينة، على قولهم، فقامت عليهم الحجة (عند الله)، أي في حكمه وشريعته كاذبين..»([58]).

وهذا هو معنى البراءة الشرعية لا الواقعية.

وعلى هذا.. فالآيات لا يمكن أن تتناسب مع روايات الإفك هنا، بل لا بد من البحث عن مصداق آخر لها.. وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

12 ـ عمى مسطح:

تذكر بعض روايات الإفك: أن مسطحاً قد عمي، وأن ذلك كان من جملة ضروب العقاب له، لافترائه على أم المؤمنين عائشة([59]).

ونحن لا نستطيع أن نقبل بهذا:

فأولاً: إن ذلك لم يذكر في أي من كتب التاريخ والتراجم، حتى الكتب التي خصصت لذكر العميان، وشرح أقوالهم، واستقصاء أخبارهم كنكت الهميان، ومعارف ابن قتيبة، وغير ذلك.

ثانياً: إن المؤرخين يقولون: إن مسطحاً قد شهد حرب صفين، مع سيد الأوصياء «عليه السلام»، ومات سنة 37 للهجرة([60]).

وواضح أنه لو كان أعمى لم يشهد صفين، لأن الأعمى لا يستطيع الحرب، ولا يجيد الطعن والضرب.

ثالثاً: قد عرفنا: أن بعض الروايات تقول: إنه لم يشارك في الإفك إلا في حدود أنه ضحك وأعجبه.

13 ـ حسان: الأعمى ـ الجبان ـ المشلول!!

أ ـ عمى حسان:

وأما عمى حسان، الذي تقول عائشة: إنه العذاب العظيم له([61]):

فإن كان مقصودها: أنه كان بسبب ضرب صفوان له،

فالجواب: إن ذلك غير صحيح، وذلك لما يلي:

أولاً: إن ضربة صفوان إنما وقعت في يد حسان([62]) ولم تقع على رأسه، ولا في وجهه.. فكيف أوجبت عماه؟!!

ثانياً: في الصحيحين من طريق سعيد بن المسيب قال: مرّ عمر بحسان في المسجد، وهو ينشد، فلحظ إليه، فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله الخ..([63]).

فإدراكه لحظ عمر له يدل على أنه كان بصيراً حتى ذلك الوقت.

إلا أن يقال: إنه قد عمي بعد ذلك التاريخ.

ويجاب عنه: بأن مجرد حدوث العمى بعد سنوات كثيرة ليس دليلاً على أنه كان على سبيل العقوبة.

ثالثاً: لقد ذكروا: أنه كان جباناً، وجعلوا ذلك هو سبب عدم شهوده مع النبي في أي من مشاهده([64]).

أضف إلى ذلك: أن أبا عمر قد قال في مقام اعتذاره عن عدم شهوده مع النبي «صلى الله عليه وآله» مشاهده: «..وقيل: إنما أصابه ذلك الجبن منذ ضربه صفوان بن المعطل بالسيف»([65]).

ونقول:

بناء على هذا: إنه لو كان ضريراً لكان الاعتذار عن عدم حضوره الحروب بالعمى أولى من الاعتذار بالجبن.

وأما إذا كان مقصود عائشة: أن الله ابتلاه بالعمى بعد الإفك بسنوات عديدة، وبعد وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ليكون ذلك هو العذاب العظيم له،

فالجواب: أن ذلك مجرد اجتهاد من عائشة إذ من الذي أخبرها: أن هذا العمى قد جاء على سبيل العقوبة وليس له سبب آخر؟! ولقد رأينا كثيرين ابتلوا بالعمى، ولا يعتبر ذلك أحد أنه عقوبة وعذاب عظيم لهم.. مثل: عقيل، والعباس، وابن عباس، وجابر الأنصاري، وأبي سفيان بن الحارث.. وغيرهم.

ب ـ جبن حسان:

وأما قولهم: بأن جبن حسان كان بسبب ضربة صفوان له:

فيكذبه أولاً: قولهم: إن الضربة وقعت في يده، كما تقدم.

ويكذبه ثانياً: قضيته مع صفية واليهودي الذي قتلته، وجبن حسان عن النزول لقتله، وحتى عن سلبه.

وهذه القضية كانت في وقعة الخندق([66]).. التي عرفت تقدمها على المريسيع، وعلى حديث الإفك، وعلى ضرب صفوان له.

ثالثاً: إنهم يصرحون: بأنه لم يشهد أياً من المشاهد، لا بدراً، ولا أُحداً، ولا غيرهما، بسبب جبنه([67]).

فلو كان الجبن إنما أتاه بسبب ضربة صفوان، لوجب أن يكون لحسان أدنى أثر في الحروب قبل السنة السادسة، ولا نجد له شيئاً من ذلك.

رابعاً: إن البعض يقول: «إن حسان (بن ثابت) كان لسناً شجاعاً، فأصابته علة أحدثت له الجبن»([68]). فالعلة هي سبب جبن حسان، وليس ضربة صفوان.

وأخيراً.. فإن البعض ينكر: أن يكون حسان جباناً، بدليل: أنه كان يهاجي قريشاً، ويذكر مثالبهم ومساويهم، ولم يبلغنا: أن أحداً عيره بالجبن، والفرار من الحروب.. وقد عير هو نفسه الحارث بن هشام بالفرار.. وما أجابه بما ينقض به أو يطعن به عليه، بل اعتذر عن فراره بأمور أخرى([69]).

خامساً: إنهم يذكرون: أن عائشة قد برأته من قضية الإفك.. وأنه هو أنكر ذلك كما تقدم.

ج ـ شلل يدي حسان:

ثم إن بعض الروايات تصرح: بأن ضربة صفوان لحسان، قد أوجبت شلل يدي حسان.. ([70]) وذلك غريب وعجيب:

أولاً: إنهم يقولون: إن الضربة أصابت إحدى يديه([71]) لا كلتاهما، فكيف صارت إذن سبباً لشلل اليد الأخرى؟!

ثانياً: لماذا لا يعتذرون عن عدم شهوده المشاهد، إلا بجبنه، وقد كان الاعتذار بشلل يديه أعذر وأولى.

هذا كله.. عدا عن أن أحداً من المؤرخين لم يذكر شلل يدي حسان على الإطلاق.. مع اعتنائهم التام بذكر مثل هذه الأمور لا سيما بالنسبة للصحابة الكبار، والشخصيات منهم.. حتى لقد ألفوا كتباً خاصة في ذوي العاهات منهم.. أو عقدوا لبيانها فصولاً مطولة في كتبهم.

14 ـ قبّعة الإخفاء:

لقد ذكرت عائشة في حديث الإفك: أنه «صلى الله عليه وآله» كان إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله.

قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بعدما نزل الحجاب.

ونقول:

أولاً: إن ثمة روايات تقول: إن أم سلمة أيضاً كانت مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» في غزوة المريسيع([72]). وقد قدمنا ذلك أيضاً في ضمن النصوص والآثار لحديث الإفك، الرواية رقم 10.

ثانياً: لماذا لم تنبّه أم سلمة حاملي الهودج إلى غيبة رفيقتها؟! أم أنها لم ترها حين ذهبت من بينهم؟..

وإذا كانت أم سلمة قد غفلت عن غيبة عائشة، أو لم ترها حين تركت هودجها، فهل لبست عائشة قبعة الإخفاء، وخرجت من بين ذلك الجيش كله، فلم يرها أحد؟!

ثالثاً: إنه إذا كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يستصحب بعض نسائه، فإن الجيش أيضاً سيفعل كما كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يفعل، فسيصطحب المتزوجون أو كثير منهم نساءهم.. ومن الراجح أن تسير النساء في مجموعات تخصهن، لا أن تسير كل امرأة مع زوجها، وهذا معناه: أن النسوة يرين بعضهن، ولا سيما في حالات نزول الجيش للاستراحة، ويعرفن من تغيب منهن لقضاء الحاجة ومن لا تغيب.

فلماذا لم تخبر النسوة حامل هودج عائشة بغيبتها عن هودجها؟

ولماذا تركنها تذهب وحدها، ألم يخفن عليها من سبع، أو من أي طارق وطارئ في ذلك الليل البهيم، قد يلحق بها الأذى، ولا أقل من أن تفاجئها حركة بعض الحيوانات، فتصاب ببعض الحالات العصبية بسبب الرعب القاتل، والخوف العظيم؟!

رابعاً: إننا لا ندري لماذا اختارت أن تذهب وحدها في ذلك الليل وفي قلب الصحراء؟

ولماذا اختارت أن تبعد عن الجيش هذا المقدار الكبير، الذي فقدت معه سماع جلبة الرحيل وضوضاء حركة الجيش، مع أن الليل ساتر؟.

ونحن نعلم: أنها هي نفسها قد ذكرت: أنها حتى وهي في المدينة، وحيث الأمن والأمان متوفر أكثر مما هو في الصحراء، قد خرجت إلى حاجتها مع أم مسطح، وتقول: إنها علمت بأمر الإفك من قبل هذه المرأة بالذات، وفي نفس هذه المناسبة.

فيا سبحان الله كيف أن الإفك عليها قد كان بسبب قضاء الحاجة، ثم كانت معرفتها بأمر الإفك، أيضاً، في مناسبة قضاء الحاجة!!

15 ـ القرعة بين النساء:

ومن الأمور التي تحتاج إلى تأمّل دعوى أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان إذا خرج في سفر أقرع بين نسائه..

فإن بعض الباحثين يشك كثيراً في صحة ذلك، ويقول: إن ذلك لم يرد إلا عن عائشة، وفي خصوص غزوة بني المصطلق.

ولأجل ذلك، فإن ثمة قدراً من الطمأنينة إلى أن الأمر كان على عكس ذلك تماماً، أي أنه «صلى الله عليه وآله» لم يستصحب نساءه في أسفاره الحربية.


([1]) السيرة الحلبية ج2 ص295.

([2]) فتح الباري ج8 ص355.

([3]) راجع: المحبر ص109 والأغاني (ط ساسي) ج4 ص64 والسيرة الحلبية ج2 ص301 وفتح الباري ج8 ص350 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص319 والبداية والنهاية ج4 ص319 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص270 والكامل في التاريخ ج2 ص199 وتقدم ذلك عن المعجم الكبير للطبراني ج23 ص123 و 124 ومجمع الزوائد ج9 ص237.

([4]) المعجم الكبير ج23 ص129.

([5]) راجع: فتح الباري ج8 ص350 عن سنن أبي داود، والبزار، وابن سعد، وصحيح ابن حبان، والحاكم من طريق الأعمش، عن أبي سعيد..

وراجع: السيرة الحلبية ج2 ص302 و 293 ومشكل الآثار ج2 ص423 والإصابة ج2 ص191.

([6]) فتح الباري ج8 ص350 والإصابة ج2 ص191.

([7]) المصدران السابقان.

([8]) المصدران السابقان.

([9]) راجع: السيرة الحلبية ج2 ص299 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص312 والبداية والنهاية ج4 ص161 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص267 والكامل في التاريخ ج2 ص197. ومصادر كثيرة أخرى تقدمت في فصل النصوص والآثار.

([10]) الإستيعاب بهامش الإصابة ج2 ص187 وأسد الغابة ج3 ص26 والإصابة ج2 ص190 وفتح الباري ج8 ص349.

([11]) طبقات ابن سعد ج8 ص128 و 126 ومسند أحمد ج6 ص296.

([12]) جامع البيان ج18 ص77.

([13]) المعجم الكبير ج23 ص111 و 117 ومجمع الزوائد ج9 ص236.

([14]) الأغاني (ط ساسي) ج4 ص12 وراجع: البداية والنهاية ج4 ص163 عن ابن إسحاق.

([15]) السيرة الحلبية ج2 ص304.

([16]) المصنف للصنعاني ج10 ص162.

([17]) المغازي للواقدي ج2 ص437.

([18]) الأغاني ج4 ص11 ووفاء الوفاء ج3 ص962 و 963.

([19]) المصنف ج10 ص162.

([20]) البخاري كتاب الزكاة باب48، باب الزكاة على الأقارب، والسيرة الحلبية ج2 ص304 ووفاء الوفاء ج3 ص961، مع بعض الاختلاف، وسنن النسائي ج6 ص231 و 232 والروض الأنف ج4 ص22 وأخرجه مسلم، والراوندي، وأبو داود، والنسائي مختصراً.

([21]) الروض الأنف ج4 ص22 والسيرة الحلبية ج2 ص304 ووفاء الوفاء ج3 ص962 وسنن النسائي ج6 ص232.

([22]) وفاء الوفاء ج3 ص963.

([23]) مسند أبي يعلى ج8 ص335 ـ 338 وتاريخ الخميس ج1 ص479 وفتح الباري ج8 ص374 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص320.

([24]) راجع: مسند أبي يعلى ج8 ص335 ـ 338.

([25]) السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص320 وفتح الباري ج8 ص374.

([26]) فتح الباري ج8 ص374.

([27]) مغازي الواقدي ج2 ص790 والإصابة ج1 ص69 والسيرة الحلبية ج2 ص302.

([28]) الإستيعاب بهامش الإصابة ج1 ص339.

([29]) فتح الباري ج8 ص374.

([30]) المعجم الكبير ج23 ص116 و 117.

([31]) السيرة الحلبية ج2 ص302 والروض الأنف ج4 ص23.

([32]) الروض الأنف ج4 ص24 والمعجم الكبير ج23 ص116 و 117.

([33]) الإستيعاب، بهامش الإصابة ج4 ص359 و 360 والمعجم الكبير ج23 ص116 و 117 وراجع: مجمع الزوائد ج9 ص236.

([34]) الإستيعاب بهامش الإصابة ج4 ص359 و 360 والمعجم الكبير ج23 ص116 و 117 وراجع: مجمع الزوائد ج9 ص236.

([35]) راجع: تاريخ الخميس ج1 ص478والإستيعاب بهامش الإصابة ج1 ص340.

([36]) نكت الهميان ص136.

([37]) الدر المنثور ج5 ص37 عن الطبراني.

([38]) الدر المنثور ج5 ص35 عن سعيد بن منصور، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عباس، وجامع البيان ج18 ص83 والسيرة الحلبية ج2 ص306، عن الخصائص الصغرى، بمثل قول ابن عباس.

([39]) الكشاف ج3 ص223 وتفسير النيسابوري، بهامش الطبري ج18 ص69.

([40]) راجع: تفسير النيسابوري بهامش الطبري ج18 ص69.

([41]) تفسير الكشاف ج3 ص223.

([42]) راجع: فتح الباري ج8 ص358 وتاريخ الخميس ج1 ص478 وإرشاد الساري ج7 ص269 والسيرة الحلبية ج2 ص298 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص313 والكامل في التاريخ ج2 ص197 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص267 والبداية والنهاية ج4 ص162.

([43]) شرح النهج للمعتزلي ج9 ص194.

([44]) الجمل ص157 و 158 و 412 وراجع (ط سنة 1413هـ) ص426، وراجع: المعجم الكبير ج23 ص111 ـ 117 ومجمع الزوائد ج9 ص236.

([45]) الروض الأنف ج4 ص20، وليراجع: السيرة الحلبية ج2 ص298.

([46]) إرشاد الساري ج4 ص395.

([47]) النص موجود في الرواية في هذا المجلد.

([48]) مغازي الواقدي ج2 ص427.

([49]) فتح الباري ج8 ص362.

([50]) السيرة الحلبية ج2 ص294 و 305 و 306.

([51]) الأبيات مذكورة في مختلف المصادر، لكن نسبها إلى قائلها في التنبيه والإشراف ص216.

([52]) المعجم الكبير ج23 ص116 و 117 والإستيعاب بهامش الإصابة ج4 ص359 و 360.

([53]) السيرة الحلبية ج2 ص305.

([54]) تفسير الميزان ج15 ص103.

([55]) الدر المنثور ج5 ص37 عن الطبراني.

([56]) راجع في التوجيه، وجوابه: تفسير الميزان، للطباطبائي ج15 ص102 و 103.

([57]) المرجع السابق.

([58]) الكشاف ج3 ص219 وتفسير النيسابوري بهامش الطبري ج18 ص64.

([59]) إرشاد الساري ج7 ص257 والسيرة الحلبية ج2 ص305.

([60]) أسد الغابة ج4 ص154 و 355 والإستيعاب بهامش الإصابة ج3 ص130 و 495، وقالا: إنه هو الأكثر، والإصابة ج3 ص408.

([61]) نكت الهميان ص136 والسيرة الحلبية ج2 ص302.

([62]) السيرة الحلبية ج2 ص304 عن الإمتاع.

([63]) الإصابة ج1 ص326 وصحيح مسلم ج7 ص62.

([64]) أسد الغابة ج2 ص6 والسيرة الحلبية ج2 ص303.

([65]) الإستيعاب بهامش الإصابة ج1 ص341.

([66]) الإصابة ج4 ص349 ونكت الهميان ص134 و 135 وغرر الخصائص الواضحة ص355 وقاموس الرجال ج3 ص119 وأسد الغابة ج5 ص493 ومعاهد التنصيص ج1 ص74 وعن السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص246 وعن تاريخ ابن عساكر ج4 ص140.

([67]) الإستيعاب بهامش الإصابة ج1 ص341 ونكت الهميان ص134 والمعارف لابن قتيبة ص136.

([68]) نكت الهميان ص135 وتهذيب الكمال ج6 ص24 وسير أعلام النبلاء ج2 ص521 والوافي بالوفيات ج11 ص272.

([69]) راجع: نكت الهميان ص135 والإستيعاب بهامش الإصابة ج1 ص341 ـ 343.

([70]) تاريخ الخميس ج1 ص475، عن أنوار التنزيل، وإرشاد الساري ج7 ص257 والسيرة الحلبية ج2 ص203.

([71]) السيرة الحلبية ج2 ص304 عن الإمتاع.

([72]) راجع: الجزء الثاني عشر من هذا الكتاب تحت عنوان (الباب الرابع: غزوة المريسيع، أحداث وقضايا).

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان