فــدك.. دلـيــل الإمـــامــة

   

صفحة :249-276   

فــدك.. دلـيــل الإمـــامــة
 

الكيد الإعلامي يفرض تزوير الحقائق:

إننا نذكر في هذا الفصل طرفاً مما ذكره أنصار الخلفاء الذين غصبوا فدكاً من صاحبها الشرعي، بهدف تأييد خلافتهم، وإضعاف أصحاب الحق الشرعيين، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وسنسعى إلى إطلاق الإشارات التي توضح حقيقة الكيد الإعلامي الذي مارسوه بعيداً عن معنى التقوى، والأمانة، والإلتزام بأحكام الشرع، وبالمبادئ الإنسانية، والقيم الأخلاقية..

فنقول وعلى الله نتوكل، وبه نعتصم، ومنه نستمد التوفيق، والسداد والرشاد:

فدك خالصة لرسول الله :

قد عرفنا فيما تقدم: أن النبي «صلى الله عليه وآله» أرسل علياً «عليه السلام» إلى فدك، بعد أن عرض الراية على الآخرين، ولم يجد من بينهم من هو أهل لها..

ولا شك في أن أخبار ما جرى في خيبر، وقتل علي «عليه السلام» فرسانها الأشداء، ومنهم مرحب، وقلع باب حصنها الأعظم ـ لا شك في أن هذه الأخبار ـ قد سبقت علياً «عليه السلام» إلى أهل فدك، فماتوا خوفاً ورعباً، وبادروا إلى عقد الصلح مع أمير المؤمنين «عليه السلام»..

ولكننا نجدهم يروون القضية في سياق يستبعد علياً «عليه السلام» نهائياً، وكأنه لم يكن له وجود في خيبر، ويستعيضون عنه بمحيصة بن مسعود.

ونحن لا نريد إنكار أن يكون لمحيصة بعض الدور في ترتيب أمر كتابة كتاب استسلامهم.. ولكنه دور هامشي بلا شك.

إلا أن المغرضين، وهواة التزوير يجعلونه هو الأساس والمحور لكل ما جرى في فدك، فقد قالوا:

 لما أقبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى خيبر فدنا منها، بعث محيصة بن مسعود الحارثي إلى فدك ـ وهي قرية بخيبر ـ يدعوهم إلى الإسلام، ويخوفهم أن يغزوهم، كما غزا أهل خيبر، ويحل بساحتهم.

قال محيصة: فجئتهم، فأقمت عندهم يومين، فجعلوا يتربصون ويقولون: بالنطاة عامر، وياسر، والحارث، وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمداً يقرب حراهم، إن بها عشرة آلاف مقاتل.

قال محيصة: فمكثت عندهم يومين، فلما رأيت خبثهم أردت أن أرجع، فقالوا: نحن نرسل معك رجالاً منا، يأخذون لنا الصلح، كل ذلك ويظنون أن يهود تمتنع.

فلم يزالوا كذلك حتى جاءهم قتلُ أهل حصن ناعم، وأهل النجدة منهم، ففت ذلك في أعضادهم.

فقدم رجل من رؤسائهم يقال له: نون بن يوشع في نفر من يهود، فصالحوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» على أن يحقن دماءهم، ويجليهم، ويخلوا بينه وبين الأموال، ففعل رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ويقال: عرضوا على رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يخرجوا من بلادهم، ولا يكون للنبي «صلى الله عليه وآله» عليهم من الأموال شيء، فإذا كان أوان جذاذها جاؤوا فجذوها، فأبى رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يقبل ذلك.

وقال لهم محيصة: ما لكم منعة ولا حصون ولا رجال، ولو بعث إليكم رسول الله «صلى الله عليه وآله» مائة رجل لساقوكم إليه، فوقع الصلح بينهم بأن لهم نصف الأرضين بتربتها، ولرسول الله «صلى الله عليه وآله» نصفها، فقبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذلك.

يقول محمد بن عمر: وهذا أثبت القولين.

وأقرهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» على ذلك، ولم يأتهم.

فلما كان عمر بن الخطاب، وأجلى يهود خيبر، بعث إليهم من يقوِّم أرضهم، فبعث أبا الهيثم مالك بن التيهان، وفروة بن عمرو بن جبار بن صخر، وزيد بن ثابت، فقوموها لهم ـ النخل والأرض ـ فأخذها عمر، ودفع إليهم نصف قيمة النخل بتربتها، فبلغ ذلك خمسين ألف درهم أو يزيد، وكان ذلك المال جاء من العراق، وأجلاهم إلى الشام([1]).

وحسب تعبير الدياربكري: «اشترى منهم حصتهم النصف بمال بيت المال»([2]).

فكانت فدك خالصة لرسول الله «صلى الله عليه وآله» لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب([3]).

وقال ابن إسحاق: فكانت خيبر فيئاً بين المسلمين، وفدك خالصة لرسول الله «صلى الله عليه وآله» لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب([4]).

ونقول:

كل فدك لرسول الله :

يظهر من هذا النص: أن فدكاً كلها لرسول الله «صلى الله عليه وآله» على الرواية الأولى، وله نصفها بناءً على الرواية الثانية([5]).

والرواية الثانية: مخالفة لما أجمعت عليه الأمة، فلا يلتفت إليها..

والصحيح هو النص الذي يقول: إن فدكاً كلها لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، فإن ذلك هو حكم الله سبحانه في كل ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فهو له «صلى الله عليه وآله»..

يضاف إلى ذلك: أن الروايات الآنفة الذكر قد صرحت: بأنهم عرضوا على رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يجليهم، ويخلُّوا بينه وبين الأموال. ففعل ذلك «صلى الله عليه وآله»، فقد قال ابن إسحاق: «لما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأهل خيبر، بعثوا إلى رسول الله يسألونه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم، ويخلون له الأموال، ففعل. فكانت خيبر فيئاً بين المسلمين، وفدك خالصة لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب».

وفي النص الثاني: أنهم عرضوا أن يجليهم، فإذا كان أوان جذاذها جاؤوا فجذوها، فأبى رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يقبل ذلك..

فما معنى: أن يصالحهم بعد ذلك على أن يكون لهم نصف الأرض بتربتها؟! فمن يرضى بالجلاء هل يعطي نصف الأرض بتربتها؟! ألا يعد ذلك سفهاً وتضييعاً؟!

بداية عن تزوير الحقائق:

ذكر الحلبي عن فدك: «أنه «صلى الله عليه وآله» كان ينفق من فدك، ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم.

ولما مات «صلى الله عليه وآله»، وولي أبو بكر الخلافة، سألته فاطمة «عليها السلام» أن يجعلها أو نصفها لها، فأبى. وروى لها: أنه «صلى الله عليه وآله» قال: إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة»([6]).

وقد أصر عمر بن الخطاب في حكايته لما جرى على هذا الأمر، ونحن لا نستغرب أن يصر عمر على أن فدكاً كانت فيئاً للمسلمين، ولرسول الله «صلى الله عليه وآله» الحق في أن ينفق منها ما يحتاج إليه ولا حق له في أزيد من ذلك!! ولا نستغرب أيضاً أن يُتَابِعَ عمرَ في قوله هذا، أولئك الذين صححوا خلافته، واعتقدوا إمامته..

ولكننا نستغرب من طريقة صياغة هؤلاء للحدث، فإنهم يظهرون مهارة لافتة في التعتيم على الحقيقة، وفي تجهيل الناس بها..

وهذه الحقيقة التي ذكرنا طرفاً منها في غزوة بني النضير، ونزيد في توضيح ملامح الصورة لحقيقة ما جرى، فنقول:

أهل البيت ماذا يقولون؟!

ونشير في البداية: إلى أن أهل البيت «عليهم السلام»، وهم أدرى بما في البيت، وهم سفينة نوح التي من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، وهم أحد الثقلين اللذين أمرنا الله بالتمسك بهما، والأخذ عنهما، وهم المنزهون المطهرون بنص القرآن ـ إن أهل البيت «عليهم السلام» ـ قد ذكروا: أن حكم الله تعالى هو: أن كل ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فهو ملك خاص وخالص لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، وليس فيئاً للمسلمين، كما زعمه الآخرون المناوئون لهم «عليهم السلام»..

فدك دليل الإمامة:

لقد كانت هناك سلسلة من الأحداث تتابعت في غضون ثلاثة أشهر، كان لكل منها دوره القوي في تاريخ الإسلام، وفي مستقبله، وفي حفظ أساس الدين، من قبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» من جهة، وفي السعي إلى الإخلال بأمر الله تعالى، والتمرد على توجيهات النبي «صلى الله عليه وآله» من قبل آخرين، من جهة أخرى..

وقد أجملنا هذه الأحداث في كتابنا: «الغدير والمعارضون»، وسنحاول هنا أن نذكر جملاً من ذلك أيضاً.. فنبدأ بالحديث كما يلي:

1 ـ في حجة الوداع:

إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يسعى ـ وفقاً للتوجيهات والأوامر الإلهية ـ إلى تحصين أمر الإمامة، بالتأكيد والنص عليها بمختلف الأساليب البيانية: قولاً، وعملاً، وتصريحاً، وتلميحاً، وكناية، وإشارة، وسراً، وجهراً، وما إلى ذلك..

وكان الفريق الطامع والطامح ـ وهم قريش ـ يسعون إلى إحباط هذه المساعي، والتشكيك في تلك البيانات ومحاصرتها، وإبطال آثارها..

وقد اتجهت الأمور نحو التصعيد في الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياته «صلى الله عليه وآله»، بصورة قوية وحاسمة. ونحن نذكر هنا سبعة مفاصل أساسية وشاخصة، في هذه الفترة بالذات، فنقول:

لقد كان أول مفصل هام وحساس وأساسي، في يوم عرفة، في حجة الوداع؛ فقد بادر النبي «صلى الله عليه وآله» إلى إبلاغ إمامة علي «عليه السلام» للناس، في موسم الحج هذا، حيث إن الناس ـ وفيهم من كل الأجناس، والفئات والمستويات ـ قد جاؤوا إلى الحج من مختلف البلاد، واجتمعوا في صعيد واحد، يظهرون التوبة والندم، ويجأرون بالدعاء لله تعالى بأن يتقبل منهم..

فأراد «صلى الله عليه وآله» أن يخطبهم، ويبلِّغهم ما أمره الله تعالى بتبليغه، ولما انتهى إلى الحديث عن الإمامة والأئمة، وشرع فيه، تصدى له الفريق القرشي الطامح، ليفسد عليه تدبيره، وليمنعه من القيام بما أمره الله سبحانه، فصاروا يقومون ويقعدون، وضجوا إلى حد لم يعد للحاضرين المحيطين به «صلى الله عليه وآله» مجال لسماع كلامه «صلى الله عليه وآله».

ولعلهم قد ظنوا أنهم نجحوا فيما أرادوه كما توحي به ظواهر الأمور.

ولكن الحقيقة هي العكس من ذلك تماماً.. فإن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يعلم: أنهم سوف يغتصبون الخلافة على كل حال.. ولكنه يريد أن يعرِّف الأجيال إلى يوم القيامة ذلك.. وأن لا يمكِّنهم من التشكيك في أحقية أمير المؤمنين علي «عليه السلام» بها، وفي النص عليه ونصبه لهذا الأمر من قبل الله ورسوله..

ولأجل ذلك: فإن الخطة النبوية كانت ترمي إلى التأكيد على هذا الأمر، وفضح الذين يريدون أن يتخذوا من التظاهر بالدين والتقوى ذريعة إلى مآربهم..

وقد تحقق ذلك لرسول الله «صلى الله عليه وآله» في هذا الموقف بالذات، في أقدس البقاع، وأفضل الأزمنة ـ يوم عرفة ـ وهم يؤدون فريضة عظيمة، وركناً من أركان الشريعة، وهم محرمون لله تعالى، يجهرون بتلبية النداء الإلهي «لبيك اللهم لبيك». ويعلنون اعترافهم بوحدانيته «لبيك لا شريك لك لبيك»، وبمالكيته، وبنعمته وفواضله «إن الحمد والنعمة لك والملك..» ويقفون في أحد المشاعر المعظمة، وحيث لا همَّ لهم إلا الدعاء، والإستغفار، وطلب الحاجات من الله تعالى.. والإجتهاد في الحصول على رضاه لكي يستجيب لهم، ويكون معهم.

نعم، إنه في هذا الموقف بالذات ظهر للناس جميعاً: أنه رغم أمر الله تعالى لهم بأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي «صلى الله عليه وآله»، لكي لا تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، صاروا يضجون إلى حد أنهم أصموا الناس، فلا يستطيع أحد أن يسمع من كلامه «صلى الله عليه وآله» شيئاً، وصاروا يقومون ويقعدون الخ..

وحمل الناس، الذين أتوا من كل حي وبلد وقبيلة، في قلوبهم هذه الذكرى المرة، معهم إلى بلادهم، التي يعودون إليها من سفر طويل وشاق، ويتلهف من يستقبلهم لسؤالهم عما رأوه أو سمعوه من أفضل البشر، وأكرم الأنبياء «عليه السلام»، وأشرف المخلوقات، لم يره الكثيرون منهم إلا هذه المرة اليتيمة، وسيموت «صلى الله عليه وآله» بعدها، وتبقى ذكراه في قلب هؤلاء كأعز شيء عليهم، وأثمنه عندهم.

ولا بد أن ينقلوها للناس دائماً بحزن، وأسى، ومرارة، وليتضح لهم أمر عجيب وغريب، وهو: أن صحابة النبي «صلى الله عليه وآله» لا يوقرون نبيهم الأعظم، والخاتم، ولا يحترمونه، ولا يطيعونه.

2 ـ غدير خم:

وربما يمكن لهم أن يعتذروا للناس، وأن يقولوا لهم: لقد حاسبنا أنفسنا، وندمنا على ما بدر منا، فإنها كانت هفوة عابرة، وقد اعتذرنا، وقبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» عذرنا..

ثم استجدت أمور قبل وفاته «صلى الله عليه وآله» أوجبت أن يعدل هو نفسه «صلى الله عليه وآله» عن موضوع إمامة الأئمة، فأعاد الأمر شورى بين المسلمين..

وقد يجدون من طلاب اللبانات، ومن عبيد الدنيا، من يرغب في تصديق مزاعمهم هذه، فجاءت قضية غدير خم لتقول للناس: لا تقبلوا أمثال هذه الأعذار.

وذلك لأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بمجرد أن انقضت مراسم الحج، ترك مكة فوراً، وخرج مع الحجيج العائد إلى بلاده قبل أن يتفرقوا.

وكان رؤوس هؤلاء الطامعين والطامحين يرافقونه ليعودوا معه إلى المدينة، وبقي في مكة والطائف، وفي كل هذا المحيط أنصار هؤلاء ومحبوهم.. وقد ابتعدوا شيئاً فشيئاً عن المناطق التي تدين لهم بالولاء، وأصبحوا غير قادرين على الإقدام على أية إساءة للرسول «صلى الله عليه وآله».. لأنهم أصبحوا لا يستطيعون مواجهة عشرات الألوف، وهم بضع عشرات من الأفراد، فإن جماهيرهم في مكة وما والاها لم يأتوا، ولن يستطيعوا أن يأتوا معهم..

فلما بلغ «صلى الله عليه وآله» غدير خم، نزلت الآيات الآمرة له بلزوم إنجاز المهمة التي كلفه الله تعالى بها، ونزل معها تهديد صريح لأولئك المعاندين: بأن استمرار اللجاج والعناد سوف يعيد الأمور إلى نقطة الصفر ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ..([7])، الأمر الذي يعني أنه مستعد للدخول معهم في حرب طاحنة، كحرب بدر وأحد، فاضطر هذا الفريق المناوئ، والطامح، والطامع، إلى السكوت.

وبلَّغ النبي «صلى الله عليه وآله» إمامة علي «عليه السلام» في غدير خم، وتظاهر ذلك الفريق بالطاعة، وقدم البيعة لعلي «عليه السلام»، حتى قال له أحدهم: بخ بخ لك يا علي، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة..

ولا ندري إن كانت هذه البخبخة انحناءً أمام العاصفة؟! أم أنها جاءت لتعبِّر عن حسرة وألم، وعن أمور أخرى لا نحب التصريح بها!!

ولكن الباب بقي مفتوحاً أمامهم للخروج من هذا المأزق.

يقول هؤلاء للناس: صحيح أن النبي «صلى الله عليه وآله» نصب علياً «عليه السلام» في غدير خم، وقد بايعناه، وبخبخنا له.. ولكن استجدت أمور بعد ذلك جعلته «صلى الله عليه وآله» يعدل عن قراره هذا، والله على ما نقول وكيل، فإننا صحابته المحبون المطيعون المأمونون على ما يأمرنا به.

أو أنهم يقولون: إن هذه الأمور جعلت علياً «عليه السلام» نفسه يستقيل من هذا الأمر.. (وقد سرت شائعة بهذا المضمون فعلاً، وتركت آثارها حتى على اجتماع السقيفة نفسه).

فجاءت قضية:

3 ـ تجهيز جيش أسامة:

لتبين بالفعل لا بالقول: أن هؤلاء الطامحين والطامعين كانوا لا يطيعون أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، حتى مع إصراره عليهم، والتصريح بغضبه منهم، فهو يأمرهم بالخروج مع جيش أسامة، ويلعن من يتخلف عن ذلك الجيش، ولكنهم يصرون على رفض الخروج معه، ويتعللون بأنهم يخافون على النبي «صلى الله عليه وآله» من أن يحدث له حدث في غيبتهم..

وقد يعتذرون أيضاً عن هذه المخالفة: بأنها خطأ فرضته محبتهم له «صلى الله عليه وآله» وخوفهم عليه، ولم تكن ناشئةً عن روح متمردة، أو غير مبالية.

فجاءت قضية:

4 ـ الصلاة بالناس:

حيث إنهم اغتنموا فرصة مرض رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فاحتلوا مكانه في إمامة الصلاة، ربما ليؤكدوا أنهم هم المؤهلون لموقعه «صلى الله عليه وآله» من بعده، وليجعلوا ذلك ذريعة لادعاء أن من يخلف النبي «صلى الله عليه وآله» في إمامة الصلاة هو الذي ينبغي أن يخلفه في غير الصلاة أيضاً..

وقد يَدَّعي بعضهم، أو يَدَّعي لهم محبوهم أيضاً: أن النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي أمرهم بالصلاة، أو أنهم أخبروه فرضي.

ولكن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أبطل تدبيرهم هذا أيضاً، وحوَّله إلى إدانة لهم، وصار سبَّة عليهم، وذلك بمجيئه ـ رغم مرضه ـ محمولاً على عاتق علي «عليه السلام» نفسه وشخص آخر. فعزل أبا بكر عن الصلاة، وصلى مكانه.

فهو «صلى الله عليه وآله» لم يكتف بنفي أن يكون قد أمر أحداً بالصلاة مكانه، أو بالقول: بأنه لا يرضى بصلاة من صلَّى في مكانه، بل قرن عدم رضاه هذا، بالفعل والممارسة حين جاء وعزله بنفسه، وفي وسط صلاته، لكي لا يعتذر أحد بأن أبا بكر حين رأى النبي «صلى الله عليه وآله» مقبلاً آثره وقدَّمه..

وبذلك يكون «صلى الله عليه وآله» قد بيَّن أن أبا بكر أقدم على ما لا حقَّ له فيه، إما من حيث فقدانه لشرائط إمامة الصلاة، أو من حيث إن في الأمر سراً أعظم من ذلك، وهو الإعلان بأنه ليس أهلاً لتمثيل رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأنه ليس فقط لا يستحق المقام الذي يرشح نفسه له، بل هو لا يستحق السكوت والستر عليه لو تصدى، ولو لمثل إمامة جماعة في صلاتهم بل لا بد من المبادرة إلى منعه من ذلك، حتى لو أفضى هذا المنع إلى فضيحته، وسقوطه.

وذلك يدل على: أن هناك أمراً عظيماً أوجب سقوط حرمته، وجرَّده من حقوقه، فما هو ذلك الأمر العظيم يا ترى؟..

وبذلك يظهر: أنه لم تعد هناك حاجة إلى تفهيم الناس أن شرائط إمام الجماعة ـ وهي العدالة، وصحة القراءة، ونحو ذلك ـ تختلف عن شرائط الخلافة والإمامة، إذ لا تحتاج إمامة الجماعة في الصلاة إلى العلم، ولا إلى الشجاعة، ولا إلى أن لا يكون بخيلاً أو جافياً. كما أنها لا تحتاج إلى النصب من المعصوم، ولا غير ذلك من أمور كثيرة ذكرتها الآيات والروايات، ونصت على أنها لا بد منها في الإمامة والخلافة لرسول الله «صلى الله عليه وآله»..

ويعتذرون عن ذلك أيضاً: بأن هذه المبادرة من أبي بكر قد جاءت عن حسن نية، وسلامة طوية، ولم يقصد بها الإساءة إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بل المقصود بها نيل ثواب الصلاة جماعة..

ولعل عدم الإستئذان في ذلك منه «صلى الله عليه وآله» هو الذي أغضبه «صلى الله عليه وآله»، ولم يكن يظن أن الأمور تصل إلى هذا الحد، ولا شك في أنه قد استغفر الله تعالى من هذا الخطأ غير المقصود.

فجاءت القضية التالية: لتؤكد عدم صحة أمثال هذه الإعتذارات أيضاً:

5 ـ إن الرجل ليهجر:

فقد طلب النبي «صلى الله عليه وآله» كتفاً ودواة، لكي يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده، فقال عمر: إن الرجل ليهجر أو غلبه الوجع([8]).. فجاءت هذه الكلمة لتكون أوضح في الدلالة، وأصرح في التعبير عن جرأة هؤلاء على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وعن مدى تصميمهم على تحقيق طموحاتهم، والوصول إلى أطماعهم، وعن المدى الذي يمكن أن تصل إليه تصرفاتهم في هذا الإتجاه.. وعن الحرمات التي يمكن أن تهتك من أجل ذلك..

حيث إن النبي «صلى الله عليه وآله» حين طلب في مرض موته: أن يأتوه بكتف ودواة، إنما أراد أن يحرجهم في اللحظة الأخيرة، ليظهروا للناس على حقيقتهم.. وبعد ذلك فإن على الناس أنفسهم أن يعدُّوا للأمر عدته، وأن لا تغرهم الإدعاءات الباطلة، والإنتفاخات الفارغة، وبذلك يكون «صلى الله عليه وآله» قد فتح باباً يستطيع الداخل فيه أن يصل إلى كنه الأمور، ولو بعد مرور الأحقاب والدهور، التي تنأى بالحدث عن المشاهدة، وتمعن في إبهامه.

ولعلهم يعتذرون حتى عن مثل هذا الأمر العصي عن الإعتذار، فيقولون: لقد كانت هذه أيضاً هفوة غير مقصودة، في ساعة فوضى مشاعرية غير محمودة، وقد عضنا ناب الندم لأجل ما صدر، وأكلتنا نيران الحسرة بسبب ما بدر، فبادرنا إلى الله بالإستغفار، وللنبي «صلى الله عليه وآله» بالإعتذار، فقبل عذرنا، ومات وهو راض عنا، وحمَّلنا للناس وصاياه، وعرَّفنا نواياه، وأخبرنا: أن الأمور قد تغيرت، وجاء ما أوجب نقض الهمم، وفسخ العزائم، فيما يرتبط بالبلاغ الذي كان في يوم الغدير.

فجاءت قضية أخرى أوضح وأصرح، وهي:

6 ـ الهجوم على فاطمة عليها السلام:

لقد جاء هجومهم على بيت الزهراء «عليها السلام»، واقتحامه، وما لحقها «عليها السلام» من إهانة وظلم، واعتداء بالضرب، وإسقاط الجنين، ليسقط كل الأقنعة، بل هي قد تلاشت، واهترأت، وتمزقت، وأصبحت أوهى وأكثر حكاية لما وراءها حتى من بيت العنكبوت.

خصوصاً مع تصريح القرآن بطهارة هذه السيدة المظلومة المعصومة، وبوجوب مودتها، ومع تصريح الرسول «صلى الله عليه وآله» بأن من آذاها فقد آذى الله، وهي ابنته الوحيدة، وسيدة نساء أهل الجنة..

وقد فعلوا ذلك في ساعة دفنها لأبيها، وبالتحديد فوق قبره الشريف، وفي مسجده ثم منعوها من البكاء على أبيها وجرعوها الغصص، وساموها أشد الأذى.

فأعلنت «عليها السلام» غضبها عليهم وهَجَرَتْهم إلى أن ماتت، وأوصت أن تدفن ليلاً، ولم ترض بحضورهم جنازتها.

ولكننا مع ذلك لا بد أن نقول: قد يمكن لهؤلاء أن يعتذروا للناس البسطاء من ذلك أيضاً، فيقولون: لعن الله الشيطان، فإن موت رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أدهش عقولنا، وحير ألبابنا، وأصبحنا نخاف من الذل الشامل، والبلاء النازل. فاندفعنا بحسن نية، وسلامة طوية لتدبير الأمر، ولدفع الفتنة، وللإمساك بالأمور قبل أن ينفرط العقد، ويضيع الجهد، فوقعنا في الهفوات، وارتكبنا الخطيئات، فها نحن نعترف ونعتذر، وقد سعينا لاسترضاء الزهراء «عليها السلام»، ورمنا طلب الصفح منها، ولكنها لم تقبل.

غير أن ما صدر منا لا يعني أننا لا نصلح للمقام الذي اضطلعنا به، بل نحن أهل له وزيادة، وقادرون على القيام بأعباء المسؤولية فيه..

فجاءت القضية الأخيرة، والتي هي:

7 ـ غصب فدك:

لتكون آخر مسمار يدق في نعش ما يدَّعونه لأنفسهم من الفلاح والصلاح، لأنها أبدلت الشك باليقين، وأسفر الصبح لذي عينين، وصرح الزبد عن المخض، وظهر: أن هؤلاء يفقدون حتى أبسط السمات والمواصفات لمن يفترض فيه أن يتولى شؤون الأمة، وأن مقام خلافة النبوة قد أخذ قهراً، كما أظهرته وقائع ما جرى على الزهراء «عليها السلام».

ولنفترض: أن هؤلاء الطامحين والطامعين، والمعتدين والغاصبين، أنكروا ذلك كله، وزعموا: أنهم أكرموا الزهراء «عليها السلام»، ولم يضربوها، ولم يسقطوا جنينها، وزعموا: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم ينص على علي «عليه السلام»، ولجأوا إلى التشكيك في سند النص المثبت لإمامة علي «عليه السلام»، أو التشكيك في دلالته، أو حاولوا التشكيك في كل القرائن والدلالات والتصريحات، والكنايات، والحقائق والمجازات، في الآيات والروايات المثبتة لإمامته «عليه السلام».

نعم.. لنفترض أنهم أقدموا على ذلك كله، فإن باب المعرفة يبقى مفتوحاً على مصراعيه لكل الأجيال، عبر الأحقاب والأزمان.. وذلك من خلال قضية فدك بالذات.

لقد أراد هؤلاء أن يأخذوا فدكاً، ليقولوا للناس بالفعل قبل القول: إنهم هم الذين يتبوّؤون منصب خلافة الرسول «صلى الله عليه وآله»، وأن ما كان له قد أصبح لهم أيضاً، بحكم كونهم خلفاءه، فلهم الحق في أن يتصرفوا فيما كان يتصرف فيه، والذي كان من شؤونه أصبح من شؤونهم..

واختاروا فدكاً لهذا الأمر؛ لأنها هي الأوضح دلالة، والأعمق أثراً، لأنها في يد بنت الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» بالذات، وزوجة الرجل الذي يناوئونه، ويواجهونه. فإن مرت هذه المبادرة بسلام، فإن الناس سوف يقولون: إذا كانت سلطة هؤلاء قد طالت علياً «عليه السلام» نفسه، وبنت رسول الله «صلى الله عليه وآله» مباشرة، فماذا عسى يمكن لغيرهم أن يفعل؟!

فاستولوا على فدك، وأخرجوا عمال الزهراء «عليها السلام» منها، بعد سنوات من تملكها والتصرف فيها في حياة رسول الله «صلى الله عليه وآله».. متذرعين بحجج واهية، لا تسمن ولا تغني من جوع.

ولم تطالبهم الزهراء «عليها السلام» بما كان منهم من العدوان عليها وضربها، وإسقاط جنينها، لأن غاية ما يمكن أن ينتج عن ذلك هو إزجاؤهم الكلام المعسول، وإظهار الأسف، واصطناع حالات من التواضع، وهضم النفس والإستعطاف..

ويرى الناس البسطاء: أنهم بذلك قد أدوا قسطهم للعلى.. وسوف يكون المعتدون سعداء لتحويل القضية برمتها إلى قضية شخصية، تخضع لأمزجة الأفراد ولأخلاقياتهم. وربما لا يخطر على بال الكثير من الناس القضية الأساس التي كانت السبب في اندفاعهم للعدوان، وقد لا يدور بخلدهم أن هذا لا يكفي، بل لا بد من معاقبة المجرم، وأن من يرتكب جرائم كهذه فهو لا يصلح لمقام الإمامة والخلافة، وأن ذلك يوجب عليهم أن يتخلوا عن المقام الذي اغتصبوه إلى صاحبه الشرعي، وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام».

ولأجل ذلك أبقت الزهراء «عليها السلام» على موضوع العدوان عليها بعيداً عن الأخذ والرد، وعن الحجاج والإحتجاج. كما أنها لم تستجب لاستدراجاتهم لها فيه، بل أبقت على موقفها الغاضب والرافض، لكل بحث ومساومة إلا بعد الإعتراف بالحق وإلا بعد إرجاعه إلى أهله. وقد حافظت على هذا الموقف إلى أن لحقت بربها، ليبقى ذلك العدوان ماثلاً في وجدان الناس، بعيداً عن الأيدي العابثة، التي تريد إسقاط تأثيره، بصورة أو بأخرى.

والذي حصل من خلال قضية فدك: هو دلالتها على أنهم ما زالوا يفقدون أبسط الشرائط التي تؤهلهم لأبسط مسؤولية، ومن هذه الشرائط المفقودة، شرط الأمانة، فهم غير مأمونين على دماء الناس، كما أظهره فعلهم بالسيدة الزهراء «عليها السلام».

وغير مأمونين على أعراضهم، كما أوضحه هتكهم لحرمة بيتها، وهي التي تقول: خير للمرأة أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل.

وغير مأمونين على أموال الناس، كما أوضحه ما صنعوه في فدك، وفي ميراثها..

فإذا كانوا لا يحفظون أموال ودماء وعرض رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فهل يحفظون دماء وأعراض وأموال الضعفاء من الناس العاديين؟!

وإذا كانوا يجهلون حكم الإرث؛ فقد علمتهم إياه السيدة الزهراء «عليها السلام».

وبعد التعليم، والتذكير، فإن الإصرار يدل على: فقدانهم لأدنى درجات الأمانة والعدل.

فهل يمكنهم بعد ذلك كله ادِّعاء: أنهم يريدون إقامة العدل، وحفظ الدماء، والأعراض، والأموال، وتعليم الناس دينهم، وتربيتهم، وبث فضائل الأخلاق فيهم، وغير ذلك؟

ومن جهة أخرى: فإنهم يفقدون المعرفة بأبده البديهيات في الإسلام، ويكفي للتدليل على ذلك أن نذكر الفقرة التالية من خطبتها، حين بلغها اجتماع القوم على منعها فدكاً، فدخلت على أبي بكر، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، وقالت: أيها المسلمون أغلب على إرثي؟

يا بن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً!

أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾([9]).

وقال: فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ([10]).

وقال: ﴿وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ([11]).

وقال: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ([12]).

وقال: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى المُتَّقِينَ([13]).

وزعمتم: أن لا حظوة لي، ولا أرث من أبي، ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟

أم هل تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟

أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟

أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟

فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون..

ثم قالت «عليها السلام» لأبي بكر: سبحان الله، ما كان أبي رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن كتاب الله صادفاً، ولا لأحكامه مخالفاً! بل كان يتبع أثره، ويقفو سوره. أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً، يقول: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ([14]).

ويقول: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ([15]).

وبيَّن عز وجل فيما وزع من الأقساط، وشرع من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح به علة المبطلين، وأزال التظني والشبهات في الغابرين. كلا بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون([16]).

وخلاصة القول:

إن الخلافة عن الرسول «صلى الله عليه وآله» تعني: أخذ موقعه، والتصدي لمهماته، التي هي تعليم الأمة دينها، وتربيتها تربية صحيحة وصالحة، وتدبير أمورها وقيادتها إلى شاطئ الأمان، وحفظها من أعدائها، وقيادة جيوشها، والقضاء والحكم فيما اختلفوا فيه، بحكم الله ورسوله.. وما إلى ذلك..

فإذا كان من يجلسون في موقعه، وينتحلون مقامه، لا يعرفون هذه الأحكام البديهية، فكيف استحقوا إمامة الأمة.. وكيف يعلِّمونها أحكام الدين، وشرائع الإسلام، وفيها ما هو دقيق وعميق، ولا يعرفه إلا الأقلون، وكان مما يقل الإبتلاء به، وهو بعيد عن التداول؟!

وإذا كانوا لا يعرفون هذه الآيات القرآنية، التي يعرفها حتى الصبيان، فكيف يعلِّمون الناس القرآن، ويستخرجون لهم دقائقه وحقائقه؟!

وإذا كانوا بعد التعليم والبيان من قبل الزهراء «عليها السلام» في خطبتها هذه بالذات، قد عجزوا عن التعلم، فكيف يمكن لهم التصدي لشرح معاني القرآن، واستكناه أسراره؟!

وإذا كانوا قد عرفوا وأصروا على مخالفة أمر الله تعالى، فأين هي عدالتهم اللازمة لهم في أبسط الأشياء، والمطلوب توفرها في كل مسلم ومؤمن، فضلاً عمن يتبوأ منصب خلافة رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!

وأين هي الأمانة على دين الله، وعلى أموال المسلمين، وعلى مصالحهم وشؤونهم؟!

وإذا كانوا هم الذين يظلمون الناس في أحكامهم القضائية، فكيف نتوقع منهم أن يحكموا بالعدل في سائر أفراد الأمة؟!

وإذا كانوا هم الطرف في الدعوى، والسبب في المشكلات، فكيف يكونون هم الحكام والقضاة فيها؟!

وإذا كانوا يضربون طرف الدعوى ويظلمونه قبل إدلائه بالحجة، وقبل سماعها منه، فكيف نتوقع أن يجرؤ على الإدلاء بحجته، ويقدم أدلته؟!

وإذا كان هذا الظلم يجري على أقدس إنسان على وجه الأرض، وهو بنت رسول الله «صلى الله عليه وآله»، والتي يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، فكيف يكون حال الناس العاديين الذين لا قداسة ولا موقع لهم، ولم يخبر النبي «صلى الله عليه وآله» عنهم بأن الله يرضى لرضاهم، أو يغضب لغضبهم؟!..

وإذا كانوا قد فعلوا ذلك لجهلهم بأحكام القضاء، فكيف صح أن يتصدوا لهذا المقام الذي هو للعارف بالقضاء؟!

وإذا كانوا قد فعلوا ذلك تجاهلاً وتعمداً لترك ما يجب عليهم، فأين هي العدالة في القاضي؟ أليس اشتراطها فيه من أبده البديهيات، وأوضح الواضحات؟!

فقضية فدك إذن أوضحت: أن هؤلاء يفقدون الشرائط الأساسية للإمامة والخلافة، ولا يصلحون لتولي شؤون دجاجة، فضلاً عن أن يكون لهم الحق في الولاية على أحد من البشر، حتى على أولادهم، فكيف يتولون شؤون الأمة بأسرها؟! وتكون قيمة ذلك هذا العدوان الظاهر السافر!!

واللافت هنا: أن هذه الشرائط التي يفقدونها ليست شرائط معقدة، ولا يحتاج الإلتفات إليها، وإدراك صحتها، ولزوم توفرها إلى دراسة وتعمق، ولا إلى أدلة وبراهين، وثقافة ومعارف.

بل يكفي لإدراك لزومها في الحاكم، وكذلك لمعرفة فعلية وجودها فيمن يدَّعيها، إلى أدنى التفات من أي إنسان، حتى لو كان غير مسلم، وغير موحِّد أيضاً؛ لأن من البديهيات الأولية لدى البشر أن من يتصدى لإنجاز أمر، فلا بد أن يملك القدرة والخبرة الكافية فيه..

وهو ما نسميه هنا بعلم الشريعة. ولا بد أيضاً أن يكون أميناً على ما اؤتمن عليه، فلا يحيف، ولا يخون، ولا يظلم فيه..

وأخيراً: نقول:

لنفترض: أن الإنسان قد يسهو عن بعض الأحكام حتى البديهية، وقد يصدر حكماً جائراً أحياناً بسبب غفلة، أو نزوة هوى عرضت، ولكن حين يعود إلى نفسه، ويتهيأ له من ينقذه من غفلته، ويجد الواعظ القريب، والمؤدب اللبيب الذي خالف هواه، وامتثل أوامر مولاه، فإنه يثوب إلى رشده، ويستيقظ من غفلته، ويتوب إلى ربه..

ولا يضر ذلك في صفة العدالة، ولو كان يضر بها، فإن عودته إلى الطريق المستقيم تصلح ما فسد، وتعيد الأمور إلى نصابها..

ولكن هؤلاء القوم ليس فقط لم يستيقظوا، بل هم أصروا على اتباع الهوى بعد البيانات الواضحة، والحجج اللائحة، والتربية الصالحة، ولم يراعوا أية حرمة، ولم يقفوا عند أي حد حتى حدود المراعاة العرفية، والمجاملات العادية، وهذا خلل أخلاقي كبير، لا يبقي مجالاً لإغماض النظر عن الخطأ العارض.

بل هو خطأ مفروض ومحمي بشريعة الغاب، وبقانون القوة الغاشمة، والقهر والظلم..

الأمر الذي يشير: إلى أن عنصر الأخلاق مفقود أيضاً، وهو عنصر هام وضروري للناس جميعاً، فكيف بمن يكون من جملة وظائفه تطهير النفوس، وتربية الأمة على الأخلاق الحميدة، وغرس الفضائل في النفوس، وهدايتها نحو كمالاتها؟!..

فإن هؤلاء يدَّعون: أنهم يستحقون أن يكونوا في موقع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأن يقوموا بوظائفه، ويضطلعوا بمهماته.

وقد بين الله سبحانه طرفاً من وظائف النبي «صلى الله عليه وآله»، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ([17]).

وبذلك تكون فدك قد حسمت الأمور، وكشفت الحقيقة ـ كل الحقيقة ـ للبشر جميعاً، وبمختلف فئاتهم وطبقاتهم، ومذاهبهم، وأديانهم. ويبقى الباب مفتوحاً أمام الناس كلهم، ليعرفوا الظالم من المظلوم، والمحق من المبطل، والمحسن من المسيء، حتى لو لم تكن هناك نصوص، أو كانت، وادَّعوا أنهم لا يؤمنون بها، ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾([18])، والحاقدون، والحاسدون.


([1]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص138 و 139 والسيرة الحلبية ج3 ص50 وراجع: تاريخ الخميس ج2 ص58 والمغازي للواقدي ج2 ص707.

([2]) تاريخ الخميس ج2 ص58.

([3]) تاريخ الخميس ج2 ص58.

([4]) راجع: البحار ج21 ص6 وتفسير مجمع البيان ج9 ص203 وتفسير الميزان ج18 ص298 وتفسير البغوي، تفسير سورة الفتح. وتفسير الثعلبي تفسير سورة الفتح الآية 10، والتنبيه والإشراف ص224 واللمعة البيضاء ص786 وتاريخ خليفة بن خياط ص50 وعن تاريخ الأمم والملوك ج2 ص302 و 303 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص800.

([5]) السيرة الحلبية ج3 ص50 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص138.

([6]) السيرة الحلبية ج3 ص50.

([7]) الآية 67 من سورة المائدة.

([8]) الإيضاح ص359 وتذكرة الخواص ص62 وسر العالمين ص21 وصحيح البخاري ج3 ص60 وج4 ص5 و173 وج1 ص21 و22 وج2 ص115 والمصنف للصنعاني ج6 ص57 وج10 ص361، وراجع: ج5 ص438 والإرشاد للمفيد ص107 والبحار ج22 ص498 وراجع: الغيبة للنعماني ص81 و 82 وعمدة القاري ج14 ص298 وفتح الباري ج8 ص101 و 102 والبداية والنهاية ج5 ص227 والبدء والتاريخ ج5 ص59 والملل والنحل ج1 ص22 والطبقات الكبرى ج2 ص244 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص192 و 193 والكامل في التاريخ ج2 ص320 وأنساب الأشراف ج1 ص562 وشرح النهج للمعتزلي ج6 ص51 وتاريخ الخميس ج2 ص164 وصحيح مسلم ج5 ص75 ومسند أحمد ج1 ص324 و 325 و 355 والسيرة الحلبية ج3 ص344 ونهج الحق ص273 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص62. وحق اليقين ج1 ص181 و 182 ودلائل الصدق ج3 ق1 ص63 ـ 70 والصراط المستقيم ج3 ص3 و 6 والمراجعات ص353 والنص والإجتهاد ص149 و 163.

([9]) الآية 16 من سورة النمل.

([10]) الآيتان 5 و 6 من سورة الأحزاب.

([11]) الآية 75 من سورة الأنفال.

([12]) الآية 11 من سورة النساء.

([13]) الآية 180 من سورة البقرة.

([14]) الآيتان 5 و 6 من سورة الأحزاب.

([15]) الآية 16 من سورة النمل.

([16]) الإحتجاج ص131 ـ 149 والبحار ج29 ص220 ـ 235 ومواقف الشيعة للأحمدي ج1 ص459 ـ 468 وبيت الأحزان ص141 ـ 151 والأنوار العلوية ص293 ـ 301 واللمعة البيضاء ص694 ومجمع النورين ص127 ـ 134.

([17]) الآية 2 من سورة الجمعة.

([18]) الآية 32 من سورة التوبة.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان