لقاء الأحبة.. وقدوم جعفر والمهاجرين

   

صفحة :279-306  

لقاء الأحبة.. وقدوم جعفر والمهاجرين

قدوم جعفر من الحبشة:

كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» قبل مسيره إلى خيبر، أرسل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، عظيم الحبشة، وطلب منه أن يحمل إليه جعفراً وأصحابه. فجهز النجاشي جعفراً وأصحابه بجهاز حسن، وأولاهم بكسوة، وحملهم في سفينتين([1])، وكانوا ستة عشر نفراً، سوى من توفي، أو رجع قبل ذلك([2]).

وأرسل النجاشي معهم ابن أخيه إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليخدمه([3]).

ولما فتح الله خيبر, وقدم جعفر بن أبي طالب «عليه السلام» من الحبشة: بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» مولاه أبا رافع، يتلقاه([4]).

ولما رآه قام إليه واستقبله اثنتي عشر خطوة([5])، ضمه النبي «صلى الله عليه وآله» إلى صدره, وقبل ما بين عينيه, وقال:

لا أدري بأيهما أنا أشد فرحاً (أو أسرّ، أو أشد سروراً) بفتح خيبر؟! أو بقدوم جعفر؟!([6]).

وفي نص آخر: أنه «صلى الله عليه وآله» استقبله اثنتي عشرة خطوة، وقبَّل ما بين عينيه، وبكى وقال: ما أدري بأيهما أنا أشد (سروراً) فرحاً, بقدومك يا جعفر, أم بفتح الله على أخيك خيبر، وبكى فرحاً برؤيته([7]).

بل جاء في رواية أبي هاشم الجعفري عن الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر «عليهم السلام» قال: لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة تلقاه رسول الله «صلى الله عليه وآله» على غلوة من معرسه بخيبر([8]).

فلما رآه جعفر أسرع إليه هرولة، فاعتنقه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وحادثه شيئاً، ثم ركب العضباء، وأردفه، فلما انبعثت بهما الراحلة أقبل عليه، فقال: يا جعفر يا أخ، ألا أحبوك؟ ألا أعطيك؟ ألا أصطفيك؟

قال: فظن الناس أنه يعطي جعفراً عظيماً من المال.

قال: وذلك لما فتح الله على نبيه خيبر، وغنمه أرضها وأموالها وأهلها.

فقال جعفر: بلى فداك أبي وأمي، فعلمه صلاة التسبيح([9]). وهي المعروفة بصلاة جعفر.

وفي رواية: أن جعفراً لما رأى النبي «صلى الله عليه وآله» حجل (أي صار يمشي على رجل واحدة)، إعظاماً منه لرسول الله «صلى الله عليه وآله»([10]).

الوفد القادم مع جعفر:

وقدم مع جعفر سبعون رجلاً عليهم ثياب الصوف، من أهل الصوامع، منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمانية روميون من أهل الشام, وقيل: ثمانون رجلاً, منهم ثمانية روميون, وقيل: ثمانون رجلاً, أربعون من أهل نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية روميون.

فقرأ عليهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» سورة (يس), فبكوا, وأسلموا, وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى!!

ولعلهم هم الذين يقال: إنه «صلى الله عليه وآله» قام يخدمهم بنفسه.

فقال له أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.

فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين([11]).

ونقول:

إن لنا هنا وقفات، هي التالية:

ألف: فتح خيبر وقدوم جعفر, مترابطان:

روي عن الإمام الصادق «عليه السلام»، أنه قال: ما مر بالنبي «صلى الله عليه وآله» يوم كان أشد عليه من يوم خيبر، وذلك أن العرب تباغت عليه([12]). وقد بلغ جمعهم أربعة عشر ألف مقاتل.

لقد كان فتح خيبر أمراً مهماً للغاية، لما كان له من تأثير بالغ في بعث اليأس في قلوب كل القوى المناوئة للإسلام في الجزيرة العربية كلها..

وكان له أيضاً تأثيره القوي في اقتناع قريش بأن عليها أن تحرص على تنفيذ بنود عهد الحديبية, فلا مجال للتعلل, ولا لاختلاق العراقيل, فقد تضاعفت قوة المسلمين عمَّا كانت عليه, إنْ من الناحية الإقتصادية, أو من الناحية العددية, أو لجهة زيادة التحالفات, أو ازدياد النفوذ، والقوة السياسية في المنطقة بأسرها..

كما أن المسلمين قد تخلصوا من عدو يملك خبرة في إثارة الفتن, وفي إثارة الشبهات والشكوك لدى ضعفاء النفوس, أو الذين لا يملكون القدر الكافي من المعرفة والوعي الديني والسياسي, وما إلى ذلك..

وبفتح خيبر أصبح بالإمكان التفرغ لتركيز المعرفة الدينية في نفوس الناس, والعمل على تصدير هذه المعرفة لسائر الأقطار.. وفقاً للمتغيرات التي سوف تأتي بها الرسائل التي بعث بها رسول الله «صلى الله عليه وآله» لملوك الأرض..

كما أنه بذلك: تكون معظم المفردات المطلوبة لبدء تدفق الناس على الإسلام قد توفرت، وأصبح من الضروري الإستعداد لاستقبال عشرات الألوف، الذين سوف يعلنون دخولهم في هذا الدين بين لحظة وأخرى, بمجرد استكمال بعض العناصر التي ليست أساسية, بل يمكن تصنيفها في عداد الأمور الإجرائية, التي تزيل بقايا المخاوف, بزوال ما تبقى من هيبة قوى الشرك والكفر في المنطقة بأسرها..

وكل ذلك يشير: إلى قيمة منجزات حرب خيبر, ودورها في إيصال الأوضاع إلى هذا الحد, وكان قدوم جعفر, ومن معه من أرض الحبشة هو التعبير الواضح عن هذه المرحلة، وعن آثار هذا الحسم العسكري العظيم..

ب: قدوم جعفر قيمة لا تضاهى:

وقد اعتبر رسول الله «صلى الله عليه وآله» نفس قدوم جعفر, هو الأمر الذي لا يضاهى من حيث أهميته وقيمته, وهو الموجب لفرحه «صلى الله عليه وآله» بدرجة فرحه بفتح خيبر، أو يزيد..

ونفس القدوم هو المفرح للنبي «صلى الله عليه وآله»، ولذلك لم يذكر أن سلامة جعفر مثلاً, هي سبب سروره، ولا أشار لأي شيء آخر..

كما أنه «صلى الله عليه وآله» لم يشر: إلى الذين كانوا مع جعفر في الحبشة, وقدموا معه..

فمجرد قدوم هذا الإنسان يوازي فتح خيبر، أو هو أعظم وأهم من ذلك عند الله ورسوله.. مع أن ذلك الفتح قد استوجب جهداً وجهاداً, وقُدِّم فيه شهداء!! كما أنه أعطى تلك النتائج العظيمة التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة..

وهذا يدلنا على: أن القيمة ـ كل القيمة ـ هي لجعفر من حيث هو إنسان إلهي خالص، لا لقرابته النسبية وكونه ابن عم الرسول «صلى الله عليه وآله»، ولا لفروسيته وشجاعته في الحرب، ولا لأي شيء من المزايا التي تطلب في هذه الحياة الدنيا..

والدليل على ذلك: أن الرسول «صلى الله عليه وآله» لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى, ولم يكن ليبخس الناس أشياءهم, فيحكم بأن: استشهاد الشهداء، وتحقيق انتصار بهذا الحجم العظيم؛ أدنى قيمة أو يساوي في قيمته قدوم جعفر، لمجرد كونه ابن عمه، أو لكونه شجاعاً، أو صديقاً، أو نحو ذلك.. بل هو تعبير عن ميزان القيمة عند الله تعالى، ووفقاً للمعايير الإلهية الصحيحة..

ولا نجد في جعفر أية خصوصية توجب منحه هذا الوسام, إلا أنه ذلك الإنسان الإلهي, الذي جسد حقائق الإسلام في عمق وجوده وذاته، لتصبح تلك الحقائق عقله، ووعيه, وخلقه, وحركته وموقفه, ويصبح كل وجوده فانياً في الإسلام, ويصبح كل الإسلام متجسداً فيه..

ج: عودة ظفر:

ومع غض النظر عن ذلك كله نقول:

لا شك في أن جعفراً قد عاد ظافراً من بلاد كانت تدين بالنصرانية، حيث استطاع أن يترك فيها أعظم الأثر حين أقنع ملك تلك البلاد بالدخول في الإسلام. ولا شك أيضاً في أن إقناع ملك ـ يملك درجة عالية ومتميزة من المعرفة والبصر بالأمور تخوله أن يسوس أمة بأسرها ـ بأن يدخل في دين جديد يتعرض في تعاليمه وأحكامه لكل تفاصيل حياته وسلوكه، وربما يؤثر على ما يتمتع به من امتيازات.

نعم، إن اعتناقه لدين له هذه المواصفات يعتبر إنجازاً عظيماً، إذا قورن بما جرى لنفس النبي «صلى الله عليه وآله» الذي جاء بهذا الدين مع قومه وعشيرته، وفي نفس بلده..

وقد تزامن قدوم جعفر مع انتصار عظيم جداً على أتباع ديانة أخرى كانت تشكل نموذجاً يحتذى بعند بعض العرب، بل كثير منهم كقوة حضارية وإقتصادية وثقافية، دفعهم إستكبارهم وحبهم للدنيا إلى إنكار المسلمات، والتعالي والإستكبار عن قبول الواضحات، وشن حرب مدمرة وباغية، فأبار الله تعالى كيدهم، وأسقط بغيهم، ودارت الدوائر عليهم.

د: أم بفتح الله على يد أخيك:

إن الرواية المتداولة هي تلك التي تقول: «ما أدري بأيهما أنا أسرّ، بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر»؟!

ولكن الرواية الأخرى, تقول: «بقدومك يا جعفر, أم بفتح الله على يد أخيك خيبر»؟!

ونرى أن هذه الرواية: تضمنت خصوصيات هامة جداً, قد يكون هناك من الرواة من لا يحب لفت النظر إليها, ولذلك اختصر الكلام, وأبعد تلك اللطائف والمعاني عن دائرة التداول.

ونذكر من هذه اللطائف ما يلي:

1 ـ إنه «صلى الله عليه وآله» قد نسب الفتح إلى الله تعالى مباشرة. وفي ذلك إعلان بالمزيد من التكريم لعلي «عليه السلام»، الذي استحق أن ينال شرف تجسيد الإرادة الإلهية, وإجرائها بكل عزم، وحزم، وقوة, واندفاع..

2 ـ إن توجيه الخطاب إلى جعفر لهو أمر يسعده, ويبهجه ويلذه, ويعطيه نفحة من السكينة والرضا, والإعتزاز بهذا التكريم الإلهي له..

3 ـ إن ذكر أخوَّة علي «عليه السلام» لجعفر, سوف يثير فيه أيضاً شعوراً آخر بالرضا والبهجة, والسعادة, لما يتضمنه من الإلماح إلى أن له شراكة في فتح خيبر أيضاً، وفي الرعاية الإلهية أيضاً، من خلال رابطة الأخوة القائمة بينه وبين علي «عليه السلام»، الذي فتح الله تعالى خيبر على يديه..

4 ـ إن نفس تكريس حقيقة أن يكون الفتح على يد علي «عليه السلام», وحرمان كل الآخرين من هذا الشرف العظيم، يعد خدمة عظيمة لهذا الدين, لأن الفتح الإلهي لا يكون على يد من يريد أن يستفيد من هذا الفتح في احتكار الإمتيازات لنفسه أو لفريقه, أو من يريد أن يحقق هذا الفتح, ولو بقيمة أن يظلم الناس, أو أن يتخذ منه ذريعة للإستطالة عليهم, وإذلالهم, أو من أجل تكريس واقع يأمر الله تعالى بنقضه وتغييره..

بل الفتح الذي تصح نسبته إلى الله تعالى هو ذلك الذي يكون بيد الأولياء والأصفياء، والأتقياء المخلصين, الذين يريدون وجهه في كل فعل، وقول، وموقف.

هـ: حقيقة لا بد من الجهر بها:

وبعد.. فإن من يدرس الوقائع التي مرت في تاريخ الإسلام، وبالتحديد في عصر رسول الله «صلى الله عليه وآله» يجد: أن المفاصل الأساسية، والمواقف المصيرية لهذا الدين قد أنجزت على يد خصوص هذا النوع الفريد من الناس، وبالتحديد على يد أهل البيت النبوي الطاهر، وعلى رأسهم أمير المؤمنين «عليه السلام»..

ويبقى سائر الناس في حشودهم، وفي عديدهم مجرد كثرات، ليس لها إلا أدوار هامشية، وغير ذات أهمية، حتى إذا أزف وقت تحقيق الإنجاز الكبير، تجدهم يغادرون الساحة، مع حفظ ماء الوجه أحياناً، وبدون ذلك أحياناً أخرى..

فغزوة بدر مفصل أساسي وحساس، كان العبء الأكبر فيها يقع على كاهل علي «عليه السلام» بالدرجة الأولى، ثم من معه من بني هاشم، مثل حمزة، وغيره من أبناء عبد المطلب..

وفي أُحد يكون ثمة كثرة وعديد، ولكنها تنسحب من الساحة بخفة، وذل، ولا تعود العزة لها إلا بسيف علي «عليه السلام».

 وهكذا جرى في غزوة بني قريظة، وخيبر، وفي الخندق، وحنين، وفي ذات السلاسل.. وفي غير ذلك من المواقف.. التي تظهر فيها التبجحات والإستعراضات للكثرة التي لا تلبث أن تسقط أمام التحدي، ثم يكون سيف علي «عليه السلام» هو المنقذ والمخلص..

وفي غير حالات الحرب أيضاً تبقى المفاصل الحساسة والأساسية رهينة بتضحيات وجهاد وجهود علي «عليه السلام»، بالإضافة إلى دفاعه عن الدين بعلومه، وبذل معارفه، وظهور حجته على كل أعداء الإسلام، والمشككين فيه.

ومن نماذج ذلك أيضاً: فداء علي «عليه السلام» للنبي «صلى الله عليه وآله»، في شعب أبي طالب، وفي المبيت على الفراش ليلة الغار، ومواقفه في الحديبية، وفي تبليغ سورة براءة، وفي مختلف المواقف.. فهو الحامي، والمنقذ، والمضحي في سبيل الله، والمطيع لله ولرسوله..

وكانت احتجاجاته على أهل الملل والنحل بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وحله للمعضلات العلمية، والفقهية، والسياسية، وغير ذلك، دليل صدق على إخلاص علي «عليه السلام»، وصحة جهاده.

وتبقى الكثرة هي التي تستفيد، وتستغل الظروف، بل وتظلم أهل الحق، والخير، وتغتصب حقوقهم باسم الدين. ويكون هؤلاء هم العبء الثقيل، والسيف الصقيل، والعدو في صورة الصديق والخليل، الذي يشغل المخلصين بمؤامراته، وبالأجواء المسمومة التي يثيرها، وبالمتاعب والمشكلات التي يتسبب بها. فإنا لله وإنا إليه راجعون..

و: رشحة من أخلاقيات الإسلام:

وفي قيام الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» بنفسه لخدمة الوفد القادم من الحبشة تجسيد عملي لأخلاقيات الإسلام، التي تفرض على الإنسان المؤمن عرفان الجميل لأهله، وإعطاء كل ذي حق حقه..

وكان يكفي أن يقوم بعض رجالات المسلمين بإكرام ذلك الوفد، وإظهار المزيد من الحفاوة به.. ولكن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أراد أن يعرف الناس: أن القضية أسمى من أن تكون مجرد مبادلة موقف بموقف، وفق ما تقتضيه المصالح، والظروف؛ بل هي حالة حقيقية، تدخل في عمق الروح، وفي تكوين الذات، لتصبح جزءاً من الكيان، وحقيقة كامنة في حنايا وجوده الإنساني..

وليصبح ذلك درساً حقيقياً في الدور الذي يجب أن تضطلع به القيم والمثل العليا في حياة البشر، من حيث هيمنتها على الفكر، وعلى المشاعر، وعلى الوجدان، والضمير الإنساني..

فإن هذه القيم ليست مجرد وسائل وأدوات توصل إلى الغايات والأهداف، بل هي وعي وخلق إنساني، متمازج مع الحقيقة الإنسانية، ومرتبط بالواقع الإيماني في العمق..

هجرتان لمهاجري الحبشة:

قال أبو موسى الأشعري: ودخلت أسماء بنت عميس، وهي في من قدم معنا يومئذٍ على حفصة زوج رسول الله «صلى الله عليه وآله» زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟

فقالت: أسماء بنت عميس.

فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، نحن أحق برسول الله «صلى الله عليه وآله».

قال: فغضبت، وقالت: كلا والله يا عمر، كنتم مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» يطعم جياعكم، ويعلم جاهلكم، وكنا في دار (أو أرض) البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله.

وأيم الله لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله «صلى الله عليه وآله» وأساله، والله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد على ذلك.

فلما جاء رسول الله «صلى الله عليه وآله» قالت: يا نبي الله!! إن رجالاً يفخرون علينا، ويزعمون: أنَّا لسنا من المهاجرين الأولين.

فقال: «من يقول ذلك»؟

قلت: إن عمر قال: كذا وكذا.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «ما قلت له»؟

قالت: قلت له: كذا وكذا.

قال: «ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم ـ أهل السفينة ـ هجرتان».

قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحابه يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم أفرح، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله «صلى الله عليه وآله».

قال أبو بريدة: قالت أسماء: ولقد رأيت أبا موسى، وإنه ليستعيد هذا الحديث مني، وقال: لكم الهجرة مرتين([13]).

ونقول:

1 ـ مما لا شك فيه: أن عمر بن الخطاب كان يعلم بأن الذين هاجروا إلى الحبشة، قد تركوا أوطانهم، وأهليهم، وأموالهم، وأحباءهم وهاجروا إلى الله تعالى فراراً بدينهم، إلى بلاد الغربة، حيث لا يعلمون ما سوف يواجههم فيها من مصائب وبلايا، ونكبات ورزايا..

وكان يعلم أيضاً: أنهم لم يعودوا إلى بلادهم، وأوطانهم، وبيوتهم، وعشائرهم، بل عادوا إلى بلاد أخرى، ليواصلوا جهادهم ضد أعداء الله، معتصمين بالصبر، وبالتوكل عليه.

فما معنى أن يثبت لنفسه امتيازاً على أولئك الذين قضوا حوالي خمس عشرة سنة في بلاد الغربة؟!. وكيف يكون قد سبقهم إلى الهجرة؟!..

2 ـ لماذا يعمد عمر إلى أسماء بنت عميس ليواجهها بهذا الكلام؟ ويترك جعفر بن أبي طالب نفسه، فلا يقول له ذلك؟!..

أم أنه كان يخشى من أن يُسْمِعَه جعفر الجواب الشافي والكافي، ويسرع في إبطال خطته، التي يريد من خلالها أن يتوصل إلى بعض الأهداف الحساسة؟..

أما أسماء فقد يوهم حالها: أنها غير قادرة على دفع هذه الشبهة، وذلك يهيئ لهذه الشبهة سبيل الإنتشار، ويترتب على ذلك ما يتوخاه لها من نتائج وآثار!!

3 ـ ألا ترى معي: أن هذا الرجل يريد أن يثير الشبهة حول الدلالات الحاسمة لموقف رسول الله «صلى الله عليه وآله» من جعفر زوج أسماء، بعد أن سمع النبي «صلى الله عليه وآله» يعتبر قدومه موازياً لفتح الله تعالى خيبر، على يد أخيه علي «عليه السلام»؟!..

4 ـ كما أنه يريد أن يضعف موقف، ويقلل من أهمية شخص يتوسم فيه أن يكون النصير والعضد القوي لعلي «عليه السلام»، ذلك الذي يخطط عمر بن الخطاب وحزبه للإستيلاء على حقه في الخلافة بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

5 ـ إن إجابة أسماء له أوضحت: أنها كانت تتهم الذين يتبجحون ببقائهم مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأن بعضهم ربما لا يكون مخلصاً في اتباعه له «صلى الله عليه وآله»، بل كان يجري وراء الحصول على شيء من حطام الدنيا.

ولعل ما يشير إلى ذلك أنها صرحت بأن بعض هؤلاء كان يبحث عن الطعام والغنائم وغير ذلك من المنافع، التي هيأها لهم قربهم من النبي «صلى الله عليه وآله».

ولذلك قالت له: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يطعم جائعهم، ويعلم جاهلهم..

وأما الذين لا مجال للشك في إخلاصهم، فهم الذين لم يكونوا يتوقعون شيئاً من ذلك، وهم أولئك الذين كانوا في أرض البعداء البغضاء في الحبشة، ولا غاية لهم إلا رضا الله تعالى، ورضا رسوله «صلى الله عليه وآله»..

بل إن بعض هؤلاء قد مارس أبشع أنواع الجرائم في سياق غصبه لمقامات جعلها الله تعالى لأهلها ولم يكن اولئك الغاصبون من أهلها.

6 ـ ولعل أسماء قد شعرت: بأن وراء الأكمة ما وراءها، فإن هذا الموقف من عمر لم يكن بلا سبب، فآثرت أن تطلع النبي «صلى الله عليه وآله» عليه، لتشارك في إفشال أمرٍ ربما يكون قد بُيِّتَ بليل..

7 ـ واللافت هنا: حلفها لعمر: أنها سوف تكون في نقلها لرسول الله «صلى الله عليه وآله» غاية في الدقة، ربما لتضيع على المتضررين من ذلك فرصة التشكيك في سلامة النقل، ليجدوا من خلال هذا التشكيك السبيل إلى إبطال تبعات هذا التصرف. ولعلهم يتمكنون من مواصلة مشروعهم، الذي أرادوا لهذه المبادرة أن تكون إحدى خطواتهم إليه.

8 ـ ويأتي موقف الرسول «صلى الله عليه وآله» الحازم والحاسم، الذي يقطع الطريق على أي تأويل، ويسد على الآخرين منافذ التخلص والتملص من آثار هذه الفضيحة..

بل إن ما قاله الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» قد أكد على عظمة جعفر، وقذف بمناوئيه بعيداً عن ساحة الكرامة، ليعيشوا في ظلمات الفشل والحسرة، والندامة..

9 ـ ولا ندري إن كان عمر بن الخطاب هو المصدر الأساس لمقولة: «سبقناكم بالهجرة»، إذ أظهرت النصوص: أنه كان هناك فريق كامل يتبنى هذه الفكرة، ويروج لها، ويشيعها، حيث ستأتي الرواية عن أبي موسى الأشعري، لتقول: «فكان أناس يقولون لنا (يعني أصحاب السفينة): سبقناكم بالهجرة»([14]).

الأشعريون.. هم المحور!!

روي عن أبي موسى الأشعري، قال: لما بلغنا مخرج النبي «صلى الله عليه وآله» ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وإخوان لي، أنا أصغرهم، أحدهم أبو رُهم، والآخر أبو بردة؛ إما قال: في بضع، وإما قال: في ثلاثة أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي.

فركبنا سفينة ـ قال ابن مندة: حتى جئنا مكة ـ ثم خرجنا في بر حتى أتينا المدينة ـ فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده.

فقال جعفر: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعثنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا.

فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا رسول الله «صلى الله عليه وآله» حين فتح خيبر، قال: فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئاً إلا من شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معنا،

وذكر البيهقي: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» سأل الصحابة أن يشركوهم، ففعلوا ذلك([15])، انتهى.

قال: فكان أناس يقولون لنا ـ يعني أصحاب السفينة ـ: سبقناكم بالهجرة.

وقبل قدومهم، قال «صلى الله عليه وآله»: يقدم عليكم قوم هم أرق منكم قلوباً. فقدم الأشعريون، وذكر أنهم عند مجيئهم صاروا يقولون: غداً نلقى الأحبة، محمداً وحزبه([16]).

ونقول:

إن لنا ههنا وقفات هي التالية:

1 ـ رقة قلوب الأشعريين:

إن الحديث عن رقة قلوب الأشعريين قد روي بنحو آخر، وهو: أنه «صلى الله عليه وآله» قال في حقهم: أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوباً، وأرق أفئدة. الفقه يمان، والحكمة يمانية([17]).

فأي القولين هو الصحيح؟!

أم أن الشك لا بد أن يسري إلى كلا هذين القولين؟!

مع ملاحظة: أن هذا النص الثاني قد وصفهم بضعف القلوب، لا برقتها، وليس في هذا الوصف مدح لهم كما هو ظاهر.

2 ـ إشراكهم في الغنيمة:

صرحوا: بأن الدوسيين قد وصلوا إلى خيبر أيضاً حين فرغ النبي «صلى الله عليه وآله» من حصن النطاة، فإن كانوا قد اعتزلوا القتال، فلماذا اعتزلوه؟

ولماذا يعطيهم النبي «صلى الله عليه وآله» من الغنائم؟

وإن كانوا قد شاركوا في فتح سائر الحصون، فيستحقون من الغنائم مثل ما يستحقه الآخرون.. ولا يحتاج «صلى الله عليه وآله» إلى استئذان المسلمين بإشراكهم في الغنيمة..

وإذا كان «صلى الله عليه وآله» قد أعطاهم من حصني الوطيح والسلالم، فإنه لم يكن بحاجة إلى الإستئذان من أحد من المسلمين فيهما أيضاً، لأنهما كانا خالصين له «صلى الله عليه وآله».

وقد ذكر موسى بن عقبة: أنه «صلى الله عليه وآله» أحذى الأشعريين والدوسيين من الوطيح والسلالم، اللذين فتحا صلحاً «وتكون مشاورة رسول الله «صلى الله عليه وآله» في إعطائهم، ليست استنزالاً لهم عن شيء من حقهم، وإنما هي المشورة العامة»([18])، لأن ما يفتح صلحاً يكون خاصاً وخالصاً لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، فإن أعطى منه أحداً شيئاً فيكون قد أعطاه من ماله، لا من مال المسلمين..

ولو فرضنا: أنه «صلى الله عليه وآله» قد أعطاهم من النطاة والشق، من الأرض فقط، فلا إشكال أيضاً، لأن ذلك للمسلمين جميعاً، ولا يحتاج إلى إذن أحد في ذلك..

ولعلهم أضافوا: مقولة الإستئذان ليصححوا ما يذهبون إليه: من أن ما يؤخذ بالحرب فهو لخصوص الغانمين، سواء أكان أرضاً، أم مالاً منقولاً، أم نخلاً وشجراً..

قسم لجعفر وأصحابه:

والذي نعتقده: هو أن النبي «صلى الله عليه وآله» إنما قسم لجعفر وأصحابه دون كل من عداهم.

ويوضح ذلك: ما رواه ابن سعد عن أبي موسى الأشعري نفسه، فقد قال: «قال: فما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب السفينة، جعفر وأصحابه قسم لهم معهم، وقال: لكم الهجرة مرتين: هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليّ»([19]).

وروى ابن إسحاق عن أسماء بنت عميس، والمسعودي عن الحكم بن عتيبة: أن جعفراً وأصحابه قد قدموا من أرض الحبشة، بعد فتح خيبر، فقسم لهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» في خيبر([20]). ولعله «صلى الله عليه وآله» أعطى أحد الأشعريين والدوسيين شيئاً من ذلك تفضلاً منه وتكرماً، ولكنه لم يقسم لهم، وإنما قسم لخصوص جعفر وأصحابه كما ذكرنا.

 3 ـ منافسون لمهاجري الحبشة:

وقد لاحظنا على الروايات المتقدمة: أن ثمة رغبة قوية في إيجاد منافسين لأصحاب السفينة، وهم جعفر رضوان الله تعالى عليه وأصحابه..

ونحن نوجز مؤاخذاتنا هذه في ضمن أسئلة لا تجد لها أجوبة مقنعة، فنقول:

زعم أبو موسى الأشعري: أن سفينتهم التي جاءت بهم من اليمن قد ألقتهم إلى النجاشي بالحبشة، فوافقوا جعفراً وأصحابه عنده، وأن جعفراً طلب منهم أن يقيموا معهم، فأقاموا حتى قدموا جميعاً، فوافقوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقد فتح خيبراً.. فأسهم «صلى الله عليه وآله» لهم، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر إلا لأصحاب سفينتهم مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم.

فلم نفهم السبب فيما فعلته تلك السفينة العجيبة بهم، حيث إنهم أرادوها أن تأخذهم إلى الحجاز، فأخذتهم إلى الحبشة!!

فهل أرادت أن تفرض عليهم رحلة سياحية لم يكونوا ليقوموا بها باختيارهم؟!

أو أن أصحابها لا يعرفون الخرائط البحرية، واليمين من اليسار، ولا يفرقون بين الحجاز والحبشة، بسبب دوار كان ألمَّ بهم، وأفقدهم القدرة على التركيز، وعلى التمييز؟!

وهل كان النجاشي بانتظارهم على ساحل البحر؟!

أم أنهم هم الذين سألوا عنه، وقصدوه إلى بلده، وإلى دياره؟! وسألوا الناس عنه وعن جعفر؟!

ولقائل أن يقول: إن عبارة :«ركبنا سفينته حتى جئنا مكة، ثم خرجنا في بر حتى أتينا المدينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي»، ليس فيها إشكال، ولا يرد عليها سؤال: كيف أن سفينتهم أوصلتهم إلى مكة، ثم ساروا براً حتى وصلوا إلى المدينة؟!

فما معنى: عودة السفينة إلى الظهور لتأخذهم على غفلة منهم إلى الحبشة؟!

وذلك لأن الناقل قد مزج بين الروايات المختلفة، وكان يورد نصاً ثم أقحم نصاً آخر، ثم عاد إلى النص الأول.

ولكن ذلك وإن كان يمكن أن يكون مقنعاً ومقبولاً في رد ذلك الإشكال المذكور آنفاً، ولكنه لا يدفع شيئاً من التساؤلات التي سيأتي شطر منها أيضاً، كما أنه لا يجعل قائمة التساؤلات تنتهي عند هذا الحد، خصوصاً، وأن أبا موسى قد جعل جعفراً وأصحابه تابعين له ولأصحابه، حتى قال: «قسم لهم معنا». وكأن هذا التكريم كان لخصوص أبي موسى وأصحابه.

4 ـ لم تصل سفينتهم إلى الحبشة:

ويظهر من العسقلاني: أن أبا موسى وأصحابه لم يصلوا إلى الحبشة، فقد قال عن أبي موسى: «صادفت سفينته سفينة جعفر بن أبي طالب، فقدموا جميعاً»([21]).

وهذا معناه: أنهم التقوا في الطريق، وأن سفينة جعفر وأصحابه غير سفينة أبي موسى وأصحابه، فما معنى جعلهما سفينة واحدة، والحديث عنهم جميعاً بأسلوب واحد؟!

5 ـ أبو موسى يعترف:

وثمة نص آخر يدل: على أن أبا موسى لا ربط له بأهل السفينة، وهو ما تقدم في قضية الصدام الذي جرى بين أسماء بنت عميس وعمر بن الخطاب، حيث إنها بعد أن اشتكت لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، وجاء الموقف النبوي مؤيداً مسدداً لها، قالت: «..ولقد رأيت أبا موسى، وإنه ليستعيد هذا الحديث مني، وقال: لكم الهجرة مرتين»!!([22]).

6 ـ لم يقسم لمن غاب إلا لجابر:

وبعد.. فقد قال أبو موسى الأشعري: «فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئاً إلا من شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا..».

مع أنهم مجمعون: على أنه «صلى الله عليه وآله» قد أسهم لجابر بن عبد الله الأنصاري، وكان غائباً عن خيبر([23]).

زواج النبي بأم حبيبة:

وكان من جملة من قدم معهم من بلاد الحبشة أم حبيبة بنت أبي سفيان. فإنها كانت ممن هاجر الهجرة الثانية للحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش، فارتد عن الإسلام هناك وتنصر، ومات على ذلك، وبقيت هي على إسلامها. وقد أرسل «صلى الله عليه وآله» عمرو بن أمية الضمري في المحرم افتتاح سنة سبع إلى النجاشي ليتزوجها منه «صلى الله عليه وآله».

قالت أم حبيبة: رأيت في المنام، كأن قائلاً يقول لي: يا أم المؤمنين، ففزعت، فأولتها: بأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يتزوجني.

قالت: فما شعرت إلا وقد دخلت عليَّ جارية النجاشي، فقالت لي: إن الملك يقول لك: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتب إليه أن يزوجك منه، ويقول لك: وكِّلي من يزوجك.

فأعطتها بعض الأموال لبشارتها هذه، ثم أرسلت بالوكالة إلى خالد بن سعيد.

فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين فحضروا، وخطب النجاشي رضي الله عنه، فقال:

الحمد لله الملك القدوس، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنه الذي بشَّر به عيسى بن مريم «عليه السلام».

أما بعد.. فإن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتب إلي: أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبنا إلى ما دعا إليه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد أصدقها أربع مائة دينار.

وفي لفظ: أربع مائة مثقال ذهب.

وسكب الدنانير بين يدي القوم.

فتكلم خالد بن سعيد بن العاص، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله ﴿بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ([24]).

أما بعد.. فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وزوَّجته أم حبيبة بنت أبي سفيان. فبارك الله لرسول الله «صلى الله عليه وآله».

ودفع النجاشي الدنانير لخالد بن سعيد، فقبضها منه.

وقيل: إنه أنقدها لها النجاشي على يد جاريته التي بشرتها، فلما جاءتها بتلك الدنانير أعطتها خمسين ديناراً.

ثم لما أرادوا أن يقوموا بعد العقد، قال لهم النجاشي: اجلسوا، فإن من سنن الأنبياء «عليهم الصلاة والسلام» إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام، فأكلوا ثم تفرقوا.

قالت أم حبيبة: فلما كان من الغد جاءتني جارية النجاشي فردت عليَّ جميع ما أعطيتها، وقالت: إن الملك عزم علي أن لا أرزأك شيئاً. وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر.

فجاءت بورس وعنبر وزباد كثير.

قالت: حاجتي إليك: أن تقرئي رسول الله «صلى الله عليه وآله» مني السلام، وتعلميه أني قد اتبعت دينه.

وكانت كلما دخلت عليَّ تقول: لا تنسي حاجتي إليك. ثم أرسل النجاشي أم حبيبة مع شرحبيل بن حسنة([25]).

ونقول:

إن ههنا وقفات، كما يلي:

حتى بنت أبي سفيان:

إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يرعى كل من أعلن إسلامه، حتى لو كان بعيداً عنه مئات الأميال.. وحتى لو كان امرأة، وكانت هذه المرأة هي بنت أبي سفيان الذي لم يزل يسعى في سفك دمه «صلى الله عليه وآله» بكل حيلة ووسيلة.

مهر أم حبيبة:

ذكر النص المتقدم: أن النجاشي قد ساق إلى أم حبيبة أربع مائة دينار أو أربع مائة مثقال من الذهب..

ونقول:

إن الصحيح هو الأول، فقد روي عن الإمام الباقر «عليه السلام» أنه قال: أتدري من أين صار مهور النساء أربعة آلاف؟

قلت: لا.

فقال: إن أم حبيبة بنت أبي سفيان كانت في الحبشة. فخطبها النبي «صلى الله عليه وآله»، وساق إليها عنه النجاشي أربعة آلاف درهم([26]).

أم حبيبة لم تكن في مستوى الحدث:

وقد كان المفروض بأم حبيبة، التي شرفها رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بأن جعلها أماً للمؤمنين: أن تكون عند حسن ظنه «صلى الله عليه وآله» بها، وأن تحفظه في قرباه، وفي أهدافه، وفي كل ما يحب..

ولكن التاريخ يحدثنا عنها بما لم نكن نتوقعه، فإنها انساقت بعد وفاته «صلى الله عليه وآله» بالإتجاه الآخر، فقد ذكروا:

1 ـ أنها بعثت بقميص عثمان مخضباً بدمائه مع النعمان بن بشير إلى أخيها معاوية([27]).

2 ـ لما بلغها قتل محمد بن أبي بكر وإحراقه شوت كبشاً، وبعثت به إلى عائشة، تشفياً بقتله «رحمه الله»، بطلب دم عثمان.

فقالت عائشة: قاتل الله ابنة العاهرة. والله لا أكلت شواء أبداً([28]).

3 ـ وحين نزل قوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ..([29]) أي تعتزل. كان ممن عزل أم حبيبة([30]).

مع من قدمت أم حبيبة؟!

قد يقال: بوجود تناقض بين ما روي: من أن أم حبيبة قدمت في سفينة جعفر وأصحابه.. وبين نفس ذلك النص الذي يعود، فيقول: إن النجاشي قد أرسلها مع شرحبيل بن حسنة..

ويجاب بأن المراد: أنها وإن كانت في السفينة، لكن النجاشي جعل مسؤولية رعايتها، وتلبية حاجاتها على عاتق شرحبيل..


([1]) راجع: الطبقات الكبرى ج1 ص208 و 259 وج4 ص349 والبحار ج21 ص23 ومكاتيب الرسول ج2 ص445 و 450 وتاريخ مدينة دمشق ج45 ص430 وإعلام الورى ج1 ص210 وميزان الحكمة ج4 ص3427 والبداية والنهاية ج4 ص206 وسبل الهدى ج11 ص365.

([2]) عن السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص8 والبداية والنهاية ج4 ص206 و 207 وعن تاريخ الأمم والملوك ج2 ص79 وموسوعة التاريخ الإسلامي ج1 ص589 وعن عيون الأثر ج2 ص145 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص391.

([3]) البداية والنهاية ج3 ص78 و (ط دار إحياء التراث العربي) ج33 ص99 وج5 ص356 والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص30 وج4 ص658 وسبل الهدى والرشاد ج11 ص415.

([4]) شرح النهج للمعتزلي ج19 ص133 والفايق في غريب الحديث للزمخشري ج1 ص225 وغريب الحديث لابن قتيبة ج1 ص335.

([5]) الخصال ج2 ص484 وعيون أخبار الرضا ج2 ص231 والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج12 ص226 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص559 والبحار ج21 ص24.

([6]) السيرة النبوية لابن هشام (ط مكتبة الخيرية ـ مصر) ج3 ص199 والسيرة الحلبية ج3 ص48 و 49 والمقنع للصدوق ص139 والهداية للصدوق ص153 ومنتهى المطلب (ط.ق) ج1 ص359 والذكرى ص249 وروض الجنان ص327 ص327 ومدارك الأحكام ج4 ص206 وذخيرة المعاد ج2 ص349 والحدائق الناضرة ج10 ص498 وجواهر الكلام ج12 ص200 ومصباح الفقيه ج2 ق2 ص523 والعروة الوثقى (ط.ق) ج2 ص105 و (ط.ج) ج3 ص404 وكتاب الصلاة ج7 ص356 والمبسوط للسرخسي ج10 ص23 والخصال ص77 وتهذيب الأحكام ج3 ص186 والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج8 ص50 و 52 و (ط دار الإسلامية) ج5 ص195 و 197 ومستدرك الوسائل ج6 ص227 والمسترشد للطبري ص333 ومقاتل الطالبيين ص6 وشرح الأخبار ج3 ص204 وذخائر العقبى ص214 والأربعون حديثاً للشهيد الأول ص53 وعمدة الطـالب لابن عنبـة ص35 والبحـار ج18    = = ص413 وج21 ص23 و 63 وج39 ص207 وج88 ص206 و 208 و 211 وشجرة طوبى ج2 ص297 والمستدرك ج3 ص208 و 211 ومجمع الزوائد ج6 ص30 وج9 ص419 والمصنف لابن أبي شيبة ج7 ص516 وشرح معاني الآثار ج4 ص281 والأحاديث الطوال ص45 والمعجم الكبير ج2 ص108 و 111 ونصب الراية ج6 ص152 و 153 وكنز العمال ج11 ص665 و 666 وج13 ص323 وتفسير مجمع البيان ج3 ص401 ومنتقى الجمان ج2 ص272 والدرجات الرفيعة ص69 و 74 وتهذيب المقال ج4 ص187 والطبقات الكبرى ج4 ص35 والثقات ج2 ص18 وتهذيب الكمال ج5 ص53 وسير أعلام النبلاء ج1 ص213 و 437 وتهذيب التهذيب ج2 ص84 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص56 والتنبيه والإشراف ص223 والبداية والنهاية ج3 ص91 و 98 والبداية والنهاية ج4 ص234 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص40 وموسوعة التاريخ الإسلامي ج2 ص216 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص818 وبشارة المصطفى ص163 وإعلام الورى بأعلام الهدى ج1 ص210 وقصص الأنبياء للراوندي ص345 وكشف الغمة ج1 ص383 والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص16 و 30 وج3 ص390 و 391 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص136 وج11 ص106 و 107 وينابيع المودة ج1 ص468 واللمعة البيضاء ص295.

([7]) راجع: البحار ج21 ص24 والخصال ص484 وعيون أخبار الرضا ج2 ص231 والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج12 ص226و (ط دار الإسلامية) ج8 ص595.

([8]) أي: تلقاه مقدار غلوة سهم من موضع نزوله «صلى الله عليه وآله» راجع: البحار ج88 ص193 ودرر الأخبار ص630 ومستدرك الوسائل ج6 ص225.

([9]) البحار ج88 ص193 عن جمال الأسبوع، ومستدرك الوسائل ج6 ص225 ودرر الأخبار ص620.

([10]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص136 وج11 ص107 ودلائل النبوة ج4 ص246 البحار ج21 ص23 وراجع: ذخائر العقبى ص214 والمعجم الأوسط ج6 ص234 وكنز العمال ج13 ص322 والدرجات الرفيعة ص70 وضعفاء العقيلي ج4 ص257 وميزان الإعتدال ج4 ص276 وعن البداية والنهاية ج4 ص235 وإعلام الورى ج1 ص210 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص391.

([11]) راجع: السيرة الحلبية ج3 ص49 وراجع: السيرة النبوية لابن كثير ج2 ص31 وعن عيون الأثر ج2 ص425 ومكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص111 و 112 والأحاديث الطوال للطبراني ص64 والبداية والنهاية ج2 ص76 و (ط دار إحياء التراث) ج3 ص99 والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ج1 ص127.

([12]) علل الشرائع ج2 ص172 والبحار ج21 ص13 و 180 .

([13]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص136 ودلائل النبوة ج4 ص246 والبداية والنهاية ج4 ص306 وراجع: ص205 عن البخاري، والسيرة الحلبية ج3 ص48 و 49 وراجع: الأوائل ج1 ص314 وصحيح البخاري (ط سنة 1309 هـ) ج3 ص35 وصحيح مسلم ج7 ص172 وكنز العمال ج22 ص206 عن أبي نعيم، والطيالسي، وفتح الباري ج7 ص372 ومسند أحمد ج4 ص395 و 412 وحياة الصحابة ج1 ص361.

([14]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص135 ومصادر أخرى ستأتي في الهامش التالي، فانتظر.

([15]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص135 عن الشيخين، والإسماعيلي، وابن سعد، وابن حبان، وابن مندة، وفي هامشه: عن البخاري ج7 ص553 (4230)، وعن مسلم ج3 ص1946 و 1947 حديث (169/2502)، والبيهقي في الدلائل ج4 ص244، وانظر السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص359 والمغازي للواقدي ج2 ص683. وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص47 و 48 والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص14 و 7 و 9 والبداية والنهاية ج3 ص71 و 67 و 69 و 205 عن ابن إسحاق، وأحمد، وأبي نعيم في الدلائل، وفتح الباري ج7 ص143 ومجمع الزوائد ج6 ص24 عن الطبراني، وحلية الأولياء ج1 ص114.

([16]) السيرة الحلبية ج3 ص48 وفضائل الصحابة ص73 وراجع: مسند أحمد ج3 ص543 وزاد المعاد ج1 ص1364 مسند أبي يعلى ج6 ص454 وصحيح ابن حبان ج16 ص 165 وموارد الظمآن ص 526 والطبقات الكبرى ج1 ص348 والسنن الكبرى للنسائي ج5 ص92 و 93 وتهذيب الكمال ج15 ص450 وسير أعلام النبلاء ج2 ص384 والإصابة ص214 وسبل الهدى والرشاد ج6 ص273.

([17]) السيرة الحلبية ج3 ص48 وراجع: مسند أحمد ج2 ص502 و541 وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج5 ص122 وصحيح مسلم ج1 ص52 وسنن الترمذي ج5 ص383 وشرح مسلم ج2 ص30 والديباج على مسلم ج1 ص69 وتحفة الأحوذي ج6 ص423 ومسند الشاميين ج4 ص284 والجامع الصغير ج1 ص16 وكنز العمال ج12 ص48 والجامع لأحكام القرآن ج2 ص230 والبداية والنهاية ج5 ص81 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص 134.

([18]) راجع: السيرة الحلبية ج3 ص47 وعن عيون الأثر ج2 ص154 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص143.

([19]) الطبقات الكبرى ج4 ص106 ونيل الأوطار ج8 ص122 وذخائر العقبى ص213 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص243 وصحيح البخارى ج4 ص55 وعن صحيح مسلم ج7 ص172 والسنن الكبرى ج6 ص333 وعن فتح الباري ج6 ص171 وج7 ص372 و 373 والمنتقى من السنن المسندة ص274 ونصب الراية ج4 ص266 وتاريخ مدينة دمشق ج32 ص29 و 32 وسير أعلام النبلاء ج2 ص382 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص135 ومرقاة المفاتيح ج7 ص604 وأسد الغابة ج4 ص81.

([20]) الطبقات الكبرى ج4ص35 وسبل الهدى والرشاد ج11 ص110.

([21]) الإصابة ج2 ص359.

([22]) تقدمت مصادر ذلك.

([23]) قد تقدمت مصادر ذلك فلا نعيد.

([24]) الآية 9 من سورة الصف.

([25]) السيرة الحلبية ج3 ص49 و 50 وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج69 ص144 وسبل الهدى والرشاد ج11 ص195 والمنتخب من ذيل المذيل ص98 وزوجات النبي لسعيد أيوب عن الحاكم في المستدرك ج4 ص21 والإستيعاب ج4 ص44 والإصابة ج4 ص305 والطبقات الكبرى ج7 ص97.

([26]) الكافي ج5 ص382 وقاموس الرجال ج10 ص390 عنه وفقه الصادق للروحاني ج22 ص142 والوسائل (ط آل البيت) ج21 ص347 و (ط الإسلامية) ج15 ص7.

([27]) مروج الذهب (ط دار الأندلس) ج2 ص353 وأنساب الأشراف للبلاذري ص291 وتاريخ مدينة دمشق ج24 ص282.

([28]) تذكرة الخواص ص107 وحول عدم أكل عائشة للشواء راجع: أنساب الأشـراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص291 وأحـاديث أم المؤمنين عائشـة للعسكري عن تذكرة خواص الأمة (ط النجف) ص114 وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج49 ص427.

([29]) الآية 51 من سورة الأحزاب.

([30]) أنساب الأشراف للبلاذري ج1 ص467 وقاموس الرجال ج10 ص391 عنه، والموسوعة الفقهية الميسرة للشيخ محمد علي الأنصاري ج1 ص359 والبحر الرائق ج3 لابن نجيم المصري ص383 وفتح الباري ج9 ص93 والمصنف لابن أبي شيبة ج3 ص329 وتفسير القرآن للصنعاني ج3 ص120 وجامع البيان ج22 ص31 وأحكام القرآن للجصاص ج3 ص48 والدر المنثور ج5 ص210 و 211 وعن فتح القدير ج4 ص295 وعن كتاب المحبر ص92.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان