ملحق

   

صفحة :332-336   

كيف جرت الأمور؟!

وإذا جاز لنا أن نقدم تصوراً محتملاً، ومعقولاً، وربما مقبولاً لما جرت عليه الأمور في أحداث مؤتة.. فإننا نقول:

لعل النبي «صلى الله عليه وآله» قد رأى في طريقة تعامل قيصر مع رسله حين أرسل إليه يدعوه للإسلام، ما يشير إلى طبيعة تفكيره، ويشي بحقيقة الأساليب والسبل التي ينتهجها..

ثم جاء انتصار هرقل على ملك فارس، ونذر أن يمشي إلى بيت المقدس..

وكانت مئات الألوف من العساكر ترافقه في مسيره ذاك، ورأى نفسه، وعساكره على مقربة من مركز انطلاقة النبي «صلى الله عليه وآله» في رسالته، وهو الإنسان الذي لا مجال لإهمال أمره، فضلاً عن نسيانه أو تناسيه. ففكر في أن يعطف بجيوشه عليه لينهي أمره، ولينام قرير العين فارغ البال، لا يرى في الأفق أي شيء يخافه أو يخشاه، لا في قريب الأيام، ولا في بعيدها..

فعرف النبي «صلى الله عليه وآله» بالأمر، فأرسل في العرب ينذرهم بالخطر، ويستنفرهم إلى الشام([1]).

فاجتمع له منهم ثلاثة آلاف رجل، مع أن المسلمين لم يزيدوا على ألف وخمسمئة، أو أزيد بقليل كما ظهر في الحديبية وخيبر.. مما يعني أن الذين استجابوا لاستنفاره كان فيهم المسلم وغير المسلم، لأنهم عرفوا أن الخطب داهم، وأن المصيبة سوف تعم الجميع..

فكان خطة رسول الله «صلى الله عليه وآله» تقضي بالمقاومة، حتى استشهاد القادة. ثم تتواصل الحرب ويصمد جيش المسلمين، ولو ساعة واحدة ليدرك قادة جيش الروم ـ وعلى رأسهم ذلك الملك المجرب والخبير بالأمور ـ أن الحرب مع هؤلاء لا نهاية لها.. بدليل أن قتل القادة لا يحسم المعركة معهم، بل ربما يزيدها تأججاً وتوهجاً، فلابد من حساب الأمور بطريقة أخرى تحمل في طياتها، التراجع وإيقاف الحرب، وإعادة النظر في أمر هذا الدين، ودراسة تعاليمه وحقائقه، بل ربما يفكر هرقل بإفساح المجال لهذا الدين لينتشر في بلاده، ولو برجاء أن يكون هو المستفيد من هذه القوة والشوكة، التي رأى نماذج رائعة منها في مؤتة.

أي أن من جملة ما أراده «صلى الله عليه وآله» هو أن يفاجئهم بحقيقة أنه حتى قتل القادة لا ينهي الحرب، بل هي تستمر إلى آخر شخص قادر على حمل السلاح من المسلمين، وهذا معناه: أن الخسائر التي لابد أن يمنى بها من يقاتل هذا النوع من الناس لا مجال للتكهن لا بحجمها ولا بمستواها، وهذا يعطي انطباعاً مفاده: أن ما يحارب هؤلاء الرجال من أجله ليس أمراً دنيوياً يرضون إذا أخذوه، أو يسخطون إذا فقدوه، بل القضية أبعد من ذلك بكثير.

وبذلك يكون ما جرى في مؤتة، ومن خلال صبر ساعة قد حقق أعظم إنجاز عرفه تاريخ البشرية، وذلك بدخول الإسلام بأيسر السبل إلى أعظم الإمبراطوريات وأقواها.

وبذلك أيضاً: يتغير وجه التاريخ، ويتحول مسار حركة الأمم.. ولكن خالداً قد ضيع ذلك كله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم إن التاريخ يعيد نفسه، حين يتم نقض خطة النبي «صلى الله عليه وآله» في حرب أخرى، جاءت متتمة لحرب مؤتة. وتريد أن تستدرك ما ضيعه المنهزمون فيها.. وذلك حين جهز النبي «صلى الله عليه وآله» أسامة بن زيد، ليقود جيشاً إلى مؤتة نفسها، حيث استشهد أبوه الذي كان أحد القادة الثلاثة في تلك السرية.

وإذ بأناس آخرين ينبرون أيضاً ليضيعوا على الأمة، وعلى النبي «صلى الله عليه وآله» الفرصة، ويتم على أيديهم إفشال خطته، وتذهب جهوده أدراج الرياح.

ولا نكاد نشك في أن النتائج التي كان يتوخاها «صلى الله عليه وآله» من هذه السرية كانت تداني في خطورتها، وفي أهميتها ونفعها للإسلام ما كان يتوخاه من سرية مؤتة بالذات..

مع ملاحظة: أن هذا الفريق قد استعمل نفس الأسلوب الذي استُعْمِل في مؤتة، فقد طعنوا في قيادة أسامة، كما طعنوا في أمارة أبيه زيد من قبل..

وقد بلغ من إصرارهم على عصيان امر رسول الله «صلى الله عليه وآله» أنهم لم يكترثوا حتى باللعن الذي سجله رسول الله «صلى الله عليه وآله» على من يتخلف عن جيش أسامة..

وهذا اللعن يشير أيضاً: إلى مدى أهمية وخطورة هذا الأمر بالنسبة إليه «صلى الله عليه وآله»، وبالنسبة لأمة الإسلام بصورة عامة..


([1]) كما دلت عليه النصوص التي ذكرت: أنه «صلى الله عليه وآله» أرسل عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الشام (سبل الهدى والرشاد ج6 ص167)، وهو ما ذكر ابن إسحاق أنه حصل قبل مؤتة، فراجع: سبل الهدى والرشاد ج6 ص172 وتاريخ الخميس ج2 ص75.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان