هجرة
العباس..
وإسلام
ابن الحارث وابن أبي سلمة
إسلام
العباس وهجرته:
وقدم العباس على رسول الله «صلى الله عليه وآله»
بعياله مسلماً مهاجراً.
قال ابن هشام: لقيه بالجحفة([1]).
وقيل: بذي الحليفة،
وأرسل
أهله وثقله
إلى المدينة، ورجع مع رسول الله
«صلى
الله عليه وآله» إلى مكة([2]).
وعند الواقدي: لقيه بالسقيا هو ومخرمة
بن نوفل، فدخل العباس، فلم يخرج حتى رأى رسول الله
«صلى
الله عليه وآله». وكان ينزل
معه
في
كل منزل حتى دخل مكة([3]).
قال البلاذري: وقال رسول الله
«صلى
الله عليه وآله» :
«هجرتك
يا عم آخر هجرة، كما أن نبوتي
آخر نبوة»([4]).
ولكننا نجد في مقابل ذلك من يقول عن العباس:
«الصحيح:
أنه منذ يوم بدر كان بالمدينة»([5]).
وقالوا: إن العباس خرج يتلقى رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»، ومعه أبو سفيان بن الحارث، وعبد الله بن أبي
أمية، وقد تلقاه بثنية العقاب، ورسول الله
«صلى
الله عليه وآله» في قبته، وعلى حرسه زياد بن أسيد، فاستقبلهم
زياد، فقال: أما أنت يا أبا الفضل فامض
إلى القبة، وأما أنتما فارجعا.
فمضى
العباس حتى دخل على رسول الله
«صلى
الله عليه وآله» فسلم عليه، وقال: بأبي أنت وأمي، هذا
ابن
عمك قد جاء تائباً، وابن
عمتك.
قال: لا حاجة لي فيهما، إن ابن عمي انتهك عرضي،
وأما ابن عمتي فهو الذي يقول بمكة:
{لَن
نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً}([6]).
فلما خرج العباس كلمته أم سلمة، وقالت: بأبي أنت
وأمي،
ابن
عمك قد جاء تائباً، لا يكون أشقى الناس بك، وأخي إبن عمتك وصهرك،
فلا يكونن شقياً بك.
ونادى أبو سفيان بن الحارث النبي «صلى الله عليه
وآله»: كن لنا كما قال العبد الصالح:
{لاَ
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}
فدعاه
وقبل منه،
ودعا عبد الله بن أبي أمية، فقبل منه([7]).
كان أبو سفيان بن الحارث أخا النبي «صلى الله عليه
وآله» من الرضاعة، أرضعته حليمة السعدية أياماً، وكان لا يفارق
النبي «صلى الله عليه وآله» قبل النبوة. وكان له ترباً.
وكان عبد الله بن أبي أمية أخاً
لأم سلمة،
وهو
ابن
عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله
«صلى
الله عليه وآله».
وكان هذان الرجلان من أكبر القائمين عليه، ومن أشد
الناس إذاية له
«صلى
الله عليه وآله».
فقدما على رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»
بنبق العقاب،
أو بالأبواء،
فالتمسا الدخول عليه
«صلى
الله عليه وآله» فأعرض عنهما.
فكلمته أم سلمة فيهما، وقالت له: لا يكون ابن عمك،
وابن عمتك أشقى الناس بك.
فقال «صلى الله عليه وآله»: «لا حاجة لي بهما.
أما
ابن
عمي، فهتك عرضي.
وأما
ابن
عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال».
(أي
أنه كان قد قال له:
إنه
لا يؤمن به إلا إذا عرج بسلم إلى السماء، وهو ينظر إليه، ثم يأتيه
بصك، وأربعة من الملائكة يشهدون له:
أن الله أرسله([8])).
فلما خرج الخبر، قال أبو سفيان: ليأذنن لي أو لآخذن
بيد
ابني
هذا، ثم لنذهبن
في الأرض حتى نموت جوعاً وعطشاً.
فلما بلغ ذلك رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه، وأسلما([9]).
وقيل:
إن علياً
«عليه
السلام»
قال لأبي سفيان: ائت رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف:
{..تَاللهِ
لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}؛
فإنه
«صلى الله
عليه وآله»
لا يرضى بأن يكون أحد أحسن قولاً منه، ففعل، فقال
«صلى الله
عليه وآله»:
{لاَ
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}([10]).
وكان أبو سفيان قد عادى النبي
«صلى الله
عليه وآله»
نحو عشرين سنة، يهجوه، ولم يتخلف عن قتاله([11]).
وقال الواقدي:
فلما خرج
رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
إلى فتح مكة استقبل عبد الله بن أبي أمية، فسلم على رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
فلم يرد عليه السلام، فأعرض عنه ولم يجبه بشيء.
وكانت أخته أم سلمة مع رسول الله صلى الله عليه
وآله، فدخل إليها فقال: يا أختي! إن رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
قد قبل إسلام الناس كلهم ورد إسلامي، فليس يقبلني كما قبل غيري.
فلما دخل رسول الله صلى «صلى الله عليه وآله» على
أم سلمة قالت:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله! سعد بك جميع الناس إلا أخي من بين
قريش والعرب، رددت إسلامه، وقبلت إسلام الناس كلهم.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «يا
أم سلمة، إن أخاك كذَّبني تكذيباً لم يكذبني أحد من الناس، هو الذي
قال لي: {وَقَالُواْ
لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً}
إلى قوله: {كِتَاباً
نَّقْرَؤُهُ}([12]).
قالت أم سلمة:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله ألم تقل: إن الإسلام يجب ما كان قبله؟
قال:
نعم.
فقبل رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
إسلامه
([13]).
ولم يزل أبو سفيان عشرين سنة عدواً لرسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
يهجو المسلمين ويهجونه، ولا يتخلف عن موضع تسير فيه قريش لقتال
رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
ثم إن الله ألقى في قلبه الإسلام.
قال أبو سفيان: فقلت من أصحب؟! ومع من أكون؟! قد
ضرب الإسلام بجرانه، فجئت زوجتي وولدي فقلت: تهيأوا للخروج، فقد
أظل قدوم محمد.
قالوا:
قد آن لك أن تبصر أن العرب والعجم قد تبعت محمداً، وأنت موضع في
عداوته، وكنت أولى الناس بنصره.
فقلت لغلامي مذكور:
عجل بأبعرة وفرس.
قال:
ثم سرنا حتى نزلنا الأبواء، وقد نزلت مقدمة رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
الأبواء، فتنكرت، وخفت أن أقتل.
وكان رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
قد نذر دمي، فخرجت على قدمي نحواً من ميل وأقبل الناس رسلاً رسلاً،
فتنحيت فرقاً من أصحابه، فلما طلع في موكبه تصديت له تلقاء وجهه،
فلما ملأ عينيه مني أعرض عني بوجهه إلى الناحية الأخرى.
فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى، فأعرض عني مراراً،
فأخذني ما قرب وما بعد، وقلت: أنا مقتول قبل أن أصل إليه.
وأتذكر بره ورحمه فيمسك ذلك مني. وقد كنت لا أشك أن
رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأصحابه سيفرحون بإسلامي فرحاً
شديداً لقرابتي منه.
فلما رأى المسلمون إعراض رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
عني أعرضوا عني جميعاً، فلقيني ابن أبي قحافة معرضاً عني.
ونظرت إلى عمر يغري بي رجلاً من الأنصار، فقال لي:
يا عدو الله، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
وتؤذي أصحابه، قد بلغت مشارق الأرض ومغاربها في عداوته.
فرددت بعض الرد عن نفسي، واستطال علي ورفع صوته حتى
جعلني في مثل الحرجة من الناس يسرون بما يفعل بي.
قال:
فدخلت على عمي العباس، فقلت: يا عم، قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
بإسلامي لقرابتي وشرفي، وقد كان منه ما رأيت، فكلمه
فيَّ ليرضى عني.
قال:
لا والله، لا أكلمه كلمةً أبداً بعد الذي رأيت منه.
فقلت:
يا عمِّي إلى من تكلني؟
قال:
هو ذاك.
قال:
فلقيت علياً رحمة الله عليه، فكلمته، فقال لي مثل ذلك.
قال أبو سفيان:
فخرجت، فجلست على باب منزل رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
حتى خرج إلى الجحفة وهو لا يكلمني ولا أحد من المسلمين. وجعلت لا
ينزل منزلاً إلا أنا على بابه، ومعي ابني جعفر قائم، فلا يراني إلا
أعرض عني.
فخرجت على هذه الحال حتى شهدت معه فتح مكة، وأنا في
خيله التي تلازمه حتى هبط من أذاخر، حتى نزل الأبطح، فدنوت من باب
قبته فنظر إلي نظراً هو ألين من ذلك النظر الأول، قد رجوت أن
يبتسم، ودخل عليه نساء بني عبد المطلب، ودخلت معهن زوجتي فرقَّقته
عليّ.
وخرج إلى المسجد وأنا بين يديه لا أفارقه على حال،
حتى خرج إلى هوازن، فخرجت معه وقد جمعت العرب جمعاً لم تجمع مثله
قط.
وخرجوا بالنساء والذرية والماشية، فلما لقيتهم قلت:
اليوم يرى أثري إن شاء الله. فلما لقيناهم حملوا الحملة التي ذكر
الله: {ثُمَّ
وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}([14]).
وثبت رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
على بغلته الشهباء، وجرد سيفه.
فاقتحمت عن فرسي وبيدي السيف صلتاً، قد كسرت جفنه،
والله يعلم أني أريد الموت دونه، وهو ينظر إلي، فأخذ العباس بن عبد
المطلب بلجام البغلة، فأخذت بالجانب الآخر، فقال: من هذا؟
فقال العباس:
أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث! فارض عنه، أي رسول الله!
قال:
قد فعلت، فغفر الله كلَّ عداوة عادانيها!
فأُقَبِّلُ رجله في الركاب، ثم التفت إلي، فقال:
أخي لعمري! ثم أمر العباس، فقال: ناد يا أصحاب سورة البقرة! يا
أصحاب السمرة يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار! يا للخزرج!
فأجابوا:
لبيك داعي الله!
وكروا كرة رجل واحد، قد حطموا الجفون، وشرَّعوا
الرماح، وخفضوا عوالي الأسنة، وأرقلوا إرقال الفحول، فرأيتني وإني
لأخاف على رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
شروع رماحهم حتى أحدقوا برسول الله
«صلى الله عليه وآله».
وقال لي رسول الله «صلى الله عليه وآله»:
تقدم فضارب القوم.
فحملت حملة أزلتهم عن موضعهم، وتبعني رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
قدماً في نحور القوم، ما يألو ما تقدم، فما قامت لهم قائمة حتى
طردتهم قدر فرسخ، وتفرقوا في كل وجه.
وبعث رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
نفراً من أصحابه على الطلب، فبعث خالد بن الوليد على وجهٍ، وبعث
عمرو بن العاص في وجه، وبعث أبا عامر الأشعري إلى عسكر بأوطاس،
فقُتل، وقُتل أبو موسى قاتله([15]).
ونقول:
إن لنا وقفات عديدة مع هذه النصوص كلها، ونجمل ذلك
على النحو التالي:
وقد صرحت الروايات المتقدمة:
أن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
قد قال للعباس:
«هجرتك
يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة»([16]).
ونقول:
إننا نسجل هنا الملاحظات التالية:
ألف:
لماذا اعتبر
«صلى الله
عليه وآله»
هجرة العباس آخر هجرة، ولم يعتبر هجرة عبد الله بن أبي أمية آخر
هجرة؟!
أو لماذا لا يعتبر هجرة أبي سفيان بن الحارث آخر
هجرة؟!
بل لقد كان الأولى اعتبار هجرة هؤلاء جميعاً آخر
هجرة..
وقد يقال في الجواب عن ذلك:
إن العباس كان في مكة مسلماً، ولم يهاجر إلا حين الفتح، أما هؤلاء
فقد كانوا على الكفر، وإنما جاؤوا إلى رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
في هذا الوقت لكي يسلموا، وكان بعضهم قد أهدر النبي
«صلى الله
عليه وآله»
دمه. وإنما يصح إطلاق كلمة المهاجر على من أسلم وآمن، ثم هاجر.. لا
على من لم يسلم أصلاً، ولكنه يَعِدُ بأن يسلم حين يلقى النبي
«صلى الله عليه وآله»..
غير أن صحة هذا الجواب تتوقف على ثبوت إسلام العباس
قبل يوم الفتح، ودون ذلك خرط القتاد، لا سيما مع ما سيأتي من وجود
رواية صحيحة مصرحة بكونه من الطلقاء.
ب: إننا لم
نعرف ماذا كان مصير مخرمة بن نوفل، فإنه لم يدخل على رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، فإن كان قد أسلم فلماذا لم يذكروا لنا ذلك؟!
وإن كان لم يسلم، فهل تركوه؟ أم أسروه؟!
ج:
إن حديث هجرة العباس في هذا الوقت موضع شك:
أولاً:
لما تقدم من أن ثمة من يقول عن العباس:
«الصحيح:
أنه منذ يوم بدر كان في المدينة».
وإن كانت النصوص والوقائع لا تساعد على قبول هذا القول..
ثانياً:
قد عرفت الخلاف في المكان الذي التقى فيه العباس بالنبي
«صلى الله
عليه وآله»،
فهل لقيه بالسقيا وهي تبعد عن المدينة أربعة أيام؟!
أم لقيه بالجحفة، وهي تبعد عن مكة أربع مراحل ونصف
مرحلة، كما تقدم؟!
أم لقيه في ثنية العقاب؟!
أم في الجحفة؟!
أم في ذي الحليفة؟!
وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى..
ثالثاً:
إن كلام المعتزلي يشير إلى أن آخر من هاجر هو نعيم بن مسعود، وليس
العباس.
فقد ذكر:
أن العباس شفع في نعيم بن مسعود: أن يستثنيه النبي
«صلى الله
عليه وآله»
من قوله:
«لا
هجرة بعد الفتح»،
فاستثناه، فراجع([17]).
رابعاً:
ما معنى مقارنة هجرة العباس بالنبوة الخاتمة؟! فإن للنبوة الخاتمة
فضلها على سائر النبوات، ولم يكن لهجرة العباس أي فضل على غيرها من
الهجرات، بل كانت تلك الهجرات أفضل عند الله تعالى، ولا سيما هجرة
رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
وهجرة أمير المؤمنين
«عليه
السلام».
وقد كان
«عليه
السلام»
يذكر سبقه إلى الهجرة في جملة فضائله وكراماته التي منَّ الله
تعالى عليه بها([18]).
خامساً:
إنهم يقولون: إن العباس خرج يتلقى النبي
«صلى الله
عليه وآله»،
ومعه عبد الله بن أبي أمية، وأبو سفيان، وقد تلقاه بثنية العقاب
حسبما تقدم.
وهذا معناه:
أنه لم يخرج مهاجراً، وإنما خرج متلقياً.. وإن كان لنا كلام حتى
بالنسبة لهذا المقدار أيضاً، ونظن أنه قد خرج يتنسم الأخبار ففوجئ
بجيوش الإسلام فاستسلم كما سنرى.
سادساً:
روي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن علي
بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن سدير، قال:
«كنا
عند أبي جعفر
«عليه
السلام»،
فذكرنا ما أحدث الناس بعد نبيهم
«صلى الله
عليه وآله»،
واستذلالهم أمير المؤمنين
«عليه
السلام»،
فقال رجل من القوم: أصلحك الله، فأين كان عز بني هاشم وما كانوا
فيه من العدد؟!
فقال أبو جعفر «عليه السلام»:
ومن كان بقي من بني هاشم؟ إنما كان جعفر وحمزة فمضيا، وبقي معه
رجلان ضعيفان ذليلان، حديثا عهد بالإسلام: عباس، وعقيل. وكانا من
الطلقاء.
أما والله، لو أن حمزة وجعفراً كانا بحضرتهما، ما
وصلا إلى ما وصلا إليه، ولو كانا شاهديهما لأتلفا نفسيهما»([19]).
وقد وصف السيد الخوئي
«رحمه
الله»
سند هذه الرواية بالصحة([20]).
ووصفه العلامة المجلسي بالحسن، ولكنه فسر كلمة:
«كانا
من الطلقاء»
ـ تبعاً للمازندراني ـ بقوله: أي أطلقهما النبي
«صلى الله عليه وآله»
في غزاة بدر، بعد أسرهما، وأخذ الفداء منهما([21]).
وهذا الكلام خلاف الظاهر:
فإن كلمة «الطلقاء» اصطلاح خاص، منتزع من كلمة رسول الله «صلى الله
عليه وآله» لأهل مكة يوم الفتح: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». وهو مؤيد
بشواهد أخرى تدل على أن العباس لم يهاجر.
فإن إسلام العباس وعقيل في بدر فلا مجال لإثباته،
فيبقى في دائرة الظنون والحدسيات، فراجع ما ذكرناه في غزوة بدر
وغيرها.
قد ذكرت الروايات:
أن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
قال: لا هجرة بعد الفتح.
وذكروا:
أن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
استثنى نعيم بن مسعود من هذا الإطلاق.
ولكن ذلك غير صحيح:
فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة، كما نص عليه أمير المؤمنين
«عليه
السلام»،
فقد روي أنه قال في خطبة له:
«والهجرة
قائمة على حدها الأول. ما كان لله في أهل الأرض حاجة من مستسرِّ
الأمة ومعلنها، لا يقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة في
الأرض، فمن عرفها وأقر بها فهو مهاجر
ولا يقع اسم الإستضعاف على من بلغته الحجة، فسمعتها
أذنه، ووعاها قلبه، إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا عبد امتحن
الله قلبه للإيمان، ولا تعي حديثنا إلا صدور أمينة، وأحلام رزينة..»([22]).
فهذا النص يدل على أنه
«عليه
السلام»
يريد أن ينفي ما يزعمونه من انتفاء الهجرة، وهو الزعم الذي أيدوه
بما نسبوه إلى رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»:
لا هجرة بعد الفتح.
وقد قرر «عليه السلام»:
أن الهجرة باقية لم تنقطع..
وأما ما ذكره أمير المؤمنين «عليه السلام» لمعاوية:
من أن الهجرة قد انقطعت يوم أسر أخوه، فيمكن أن يكون
«عليه
السلام»
قد أورده وفق مزاعم معاوية وأضرابه، من أن الهجرة قد انقطعت بفتح
مكة.
هذا، وقد وقع الملتزمون بأنه لا هجرة بعد الفتح في
حيص بيص في توجيه كلام علي
«عليه
السلام»
هذا. ويظهر ذلك جلياً مما نقله العلامة المجلسي عن ابن الأثير وابن
أبي الحديد المعتزلي وغيرهما، فقد قال في شرحه للكلام السابق ما
ملخصه:
أصل الهجرة المأمور بها الخروج من دار الحرب إلى
دار الإسلام.
وقال في النهاية فيه: لا هجرة بعد الفتح،
ولكن جهاد ونية.
وفي حديث آخر: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة.
والهجرة هجرتان:
إحداهما: التي
وعد الله عليها الجنة في قوله:
{إِنَّ
اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم
بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}([23])،
فكان الرجل يأتي النبي «صلى الله عليه وآله» ويدع أهله وماله لا
يرجع في شيء
منه، وينقطع بنفسه إلى مهاجره.
وكان النبي «صلى الله عليه وآله» يكره أن يموت
الرجل بالأرض
التي هاجر منها، فمن ثم قال:
«لكن البائس سعد بن خولة»،
يرثي له أن مات بمكة.
وقال حين قدم مكة: «اللهم لا تجعل منايانا بها»،
فلما فتحت مكة صارت دار إسلام كالمدينة، وانقطعت الهجرة.
والهجرة الثانية: من هاجر من الأعراب
وغزا مع المسلمين، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة الأولى،
فهو مهاجر.
وليس بداخل في فضل من هاجر تلك الهجرة، وهو المراد بقوله:
«لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة».
فهذا وجه الجمع بين الحديثين.
وإذا
أُطلق
في الحديث ذكر الهجرتين،
فإنما
يراد بهما:
هجرة الحبشة،
وهجرة المدينة،
انتهى
كلام ابن الأثير.
وقال ابن أبي الحديد: هذا كلام من أسرار الوصية
يختص به علي «عليه
السلام»،
لأن
الناس يروون أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال:
«لا هجرة بعد الفتح»،
فشفَّع([24])
عمه العباس في نعيم بن مسعود الأشجعي
أن يستثنيه،
فاستثناه.
وهذه الهجرة التي أشار إليها أمير المؤمنين «عليه
السلام»
ليست تلك،
بل هي الهجرة إلى الإمام.
وقال بعض الأصحاب: تجب المهاجرة عن بلد الشرك على
من يضعف عن إظهار شعائر الإسلام
مع المكنة.
ويستحب للقادر على إظهارها، تحرزاً
عن تكثير سواد المشركين.
والمراد بها: الأمور
التي تختص بالإسلام،
كالأذان
والإقامة،
وصوم شهر رمضان، وغير ذلك.
وألحق بعضهم ببلاد الشرك بلاد الخلاف التي لا يتمكن
فيها المؤمن من إقامة شعائر الإيمان
مع الإمكان.
ولو تعذرت الهجرة لمرض أو عدم نفقة أو غير ذلك فلا
حرج،
لقوله تعالى:
{إِلاَّ
المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ
يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَـئِكَ
عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً
غَفُوراً}([25]).
إلى أن قال: «لا يقع اسم الهجرة الخ..».
أي يشترط في صدق الهجرة معرفة الإمام
والإقرار
به.
والمراد بقوله: «فمن عرفها الخ..
»،
أنه مهاجر بشرط الخروج إلى الإمام،
والسفر إليه، أو المراد بالمعرفة:
المعرفة المستندة إلى المشاهدة والعيان.
ويحتمل أن يكون المراد: أن مجرد معرفة الإمام
والإقرار
بوجوب اتباعه كاف في إطلاق اسم الهجرة،
كما هو ظاهر الجزء الأخير
من الكلام.
ويدل عليه: بعض أخبارنا، فمعرفة الإمام
والإقرار
به في زمانه قائم مقام الهجرة المطلوبة في زمان الرسول «صلى
الله عليه وآله».
وقال بعض الإصحاب: الهجرة في زمان الغيبة سكنى الأمصار،
لأنها
تقابل البادية مسكن الأعراب،
والأمصار
أقرب إلى تحصيل الكمالات من القرى والبوادي،
فإن
الغالب على أهلها الجفاء والغلظة، والبعد عن العلوم والكمالات،
كما روي عن النبي «صلى
الله عليه وآله»:
«أن
الجفاء والقسوة في (الفدادين)([26])»([27]).
وقيل: هي
الخروج إلى طلب العلوم،
فيعم الخروج عن القرى والبوادي، والخروج عن بلد لا يمكن فيه طلب
العلم([28]).
وفي جميع الأحوال نقول:
إن هذه التأويلات
والتقسيمات تبرعية، ليس لها مبرر سوى أنهم يعتقدون بصحة حديث: لا
هجرة بعد الفتح.
ولكن ما ورد في خطبة أمير المؤمنين «عليه السلام»
يضع علامة استفهام كبيرة حول صحة هذه الكلمة المنسوبة إلى النبي
«صلى الله عليه وآله».
مع ملاحظة:
أن المطلوب كان هو الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإيمان، حفظاً
لإيمان الناس، ولا مبرر للطلب من الناس الهجرة من بلاد الإيمان إلى
بلاد أخرى حتى لو كانت من بلاد الإيمان أيضاً..
وقد يقال:
إن حديث: لا هجرة بعد الفتح ثابت بدليل: أنه حلف رجل بخراسان
بالطلاق إن كان معاوية من أصحاب رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»،
فأفتى الفقهاء بطلاقها.
فسئل الرضا «عليه السلام» عن ذلك، فأفتى:
أنها لا تطلق.
فكتب الفقهاء رقعة أنفذوها إليه، يسألونه عن ذلك،
فوقع في رقعتهم:
قلت: هذا من روايتكم، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»
قال لمسلمة الفتح، وقد كثروا عليه: أنتم خير، وأصحابي خير، ولا
هجرة بعد الفتح([29]).
فأبطل الهجرة ولم يجعل هؤلاء أصحاباً له، فرجعوا
إلى قوله([30]).
فحكم الإمام الرضا
«عليه
السلام»
بعدم صحة الطلاق استناداً إلى هذا الحديث، يدل على ثبوته، فلا معنى
للتشكيك به أو إنكاره.
غير أننا نقول:
إننا لا نريد أن نتكلم في سند هذا الحديث نقضاً
وإبراماً، إذ يكفينا القول: بأن حكم الإمام الرضا
«عليه
السلام»
لا يدل على صحة حديث انقطاع الهجرة بالفتح، لأنه جارٍ على قاعدة:
ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.
ويشير إلى ذلك قوله «عليه السلام»: «قلت:
هذا من روايتكم عن أبي سعيد الخ..»،
فإن هذا القول لو كان ثابتاً عنده وعندهم، لكان الأولى أن يقول:
«قلت:
هذا من الحديث الثابت عن رسول الله».
وأما حكم الإمام «عليه السلام»:
بأن معاوية ليس من الصحابة، فيتلخص في أن كلام النبي «صلى الله
عليه وآله» قد تضمن جعل مسلمة الفتح في مقابل أصحابه، فدل ذلك على
أنهم ليسوا منهم، وقد كان معاوية من مسلمة الفتح، فهو إذن ليس من
أصحابه «صلى الله عليه وآله».
وبعد..
فإننا كما نشكك بقوة في ان يكون العباس قد خرج مهاجراً، لوجود
الرواية الصحيحة سنداً، والمصرحة بكونه من الطلقاء، بالإضافة إلى
قرائن أخرى، فإننا نشك أيضاً: في دقة التعبير الذي ورد في نصوص
أخرى، من أنه خرج يتلقى رسول الله
«صلى الله
عليه وآله».
وسبب شكنا في ذلك هو الأمور التالية:
1 ـ
إن العباس لم يكن يعلم بقدوم رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
إلى مكة، بل إن الجيش القادم نفسه لم يكن يعلم بحقيقة مقصد رسول
الله
«صلى الله
عليه وآله».
وقد أوضحنا ذلك أكثر من مرة.
2 ـ
إن الاختلاف في المكان الذي التقى فيه رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
يؤكد شكنا في نوايا الرواة لهذا الأمر..
3 ـ
إن تلك الرواية الصحيحة السند التي اعتبرته من الطلقاء، تؤكد على
أنه إنما أسلم تحت وطأة الخوف من هذا الجيش القادم، ولم يسلم
طوعاً، ومن يكون من الطلقاء لا يخرج لتلقي رسول الله
«صلى الله
عليه وآله».
فالظاهر هو:
أنه قد جرى للعباس مثلما جرى لأبي سفيان وبديل بن ورقاء وغيرهما.
أي أنه إنما خرج يتنسم الأخبار.. فأبعد عن مكة أكثر من أبي سفيان،
فواجه الجيش العظيم القادم، فاضطر إلى الاستسلام، وإظهار الإسلام،
ثم عاد مع ذلك الجيش إلى مكة، ولقي أبا سفيان ومن معه في الطريق،
وكان ما كان مما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وقد ذكرت النصوص المتقدمة مواضع مختلفة ادَّعت أن
العباس لقي النبي
«صلى الله
عليه وآله»
فيها.
ففي بعضها:
أنه لقيه بالأبواء..
وفي بعضها:
أنه لقيه بالجحفة.
وقيل:
بذي الحليفة.
وقيل:
بالسقيا.
وقيل:
بثنية العقاب.
والأبواء بالنسبة للآتي من المدينة إلى مكة تقع قبل
الجحفة مما يلي الجحفة بثلاثة وعشرين ميلاً([31]).
فتكون على بعد خمسة أيام من المدينة.
والجحفة تقع على أربع مراحل ونصف من جهة مكة، وتبعد
خمس مراحل وثلثي مرحلة من المدينة (أو ست مراحل)([32]).
وذو الحليفة يبعد عن المدينة ستة أميال أو سبعة([33]).
وأما السقيا، فهي على نحو أربعة أيام من المدينة،
وهي بالنسبة للآتي من المدينة إلى مكة، قبل الأبواء بأحد عشر ميلاً([34]).
أما ذكر ثنية العقاب فهو غلط، لأن ثنية العقاب قرب
غوطة دمشق([35])
وليست بين مكة والمدينة.
وبعدما تقدم نقول:
لا بد من تحديد الموضع الذي التقى فيه النبي
«صلى الله
عليه وآله»
بالعباس، وبأبي سفيان بن الحارث، وعبد الله بن أبي أمية إذ لا يمكن
أن يلتقي به في جميع هذه المواضع المتباعدة عن بعضها البعض بما قد
يصل إلى عشرات الأميال.
إننا نلمح اختلافاً وتناقضاً في قصة عبد الله بن
أبي أمية، وأبي سفيان بن الحارث.
وهذا يشير إلى:
أن ثمة تصرفاً، بل تعمداً للكذب في النصوص، باستثناء واحدة من
الروايات، قد يمكن للباحث تحديدها، وقد لا يمكن..
وعلى سبيل المثال لا الحصر نقول: هناك رواية تقول:
إن العباس قد كلم النبي «صلى الله عليه وآله» بشأن عبد الله بن
أمية، وأبي سفيان بن الحارث..
لكن رواية أخرى تصرح:
بأن العباس رفض أن يكلم النبي
«صلى الله
عليه وآله»
بشأن ابن أبي أمية، رغم أن ابن أبي أمية قد طلب من العباس ذلك..
وهناك رواية تقول:
إنه لما كلمت أم سلمة رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
قبل منها ورضي عنه، ودعاه وقبل توبته..
لكن رواية أخرى تقول:
إنه لم يرض عنه، ولم يقبل منه، رغم ملازمته له، إلى أن جرى ما جرى
في حرب حنين.
النبي
لا يرد السلام ولا يقبل التوبة:
ومن الأمور التي تثير أكثر من سؤال:
ما زعمته بعض الروايات المتقدمة، من أن عبد الله بن ابي أمية سلم
على رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
فلم يرد عليه السلام، وأعرض عنه، ولم يجبه بشيء..
كما أنها صرحت: بأنهم أخبروه بأنه قد جاء تائباً.
ولكنه «صلى الله عليه وآله» أعرض عنه، وخشي عبد الله أن يقتل، فشكى
ذلك إلى أخته أم سلمة..
ونقول:
1 ـ
إننا نشك في صحة ذلك، إذ لم نعهد من أخلاق الرسول الكريم
«صلى الله
عليه وآله»
أن يسلِّم عليه أحد، ثم لا يجيبه.
كيف، وقد أنزل الله تعالى في كتابه الكريم:
{وَإِذَا
حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا..}؟!([36]).
2 ـ
إن نفس مجيء هؤلاء إلى رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
مستسلمين، تائبين ـ كما صرحت به الرواية ـ ملتمسين منه أن يقبلهم
يجعلهم مصداقاً لقوله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ
الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ..}([37]).
3 ـ إن
المفروض: كما صرح به العباس وأم سلمة لرسول الله «صلى الله عليه
وآله»: أن هذا المذنب قد جاء تائباً.. ولا نجد مبرراً لعدم قبول
توبته.. وقد قال تعالى:
{وَهُوَ
الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ
السَّيِّئَاتِ..}([38]).
وأصرح من ذلك قوله تعالى:
{وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ
اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ
تَوَّاباً رَّحِيماً..}([39]).
وهؤلاء قد ظلموا أنفسهم، وقد جاؤوا النبي «صلى الله
عليه وآله» تائبين مستغفرين.. فلماذا يعرض عنهم، ويرفض إجابة
طلبهم، وقبول توبتهم؟!
فكيف إذا أخذنا بالرواية التي أكدت على إصرار عبد
الله بن أبي أمية على الفوز برضى رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
واستمر ملازماً للنبي
«صلى الله
عليه وآله»
ملتمساً رضاه إلى أن صار إلى حنين، وخاض تلك الحرب، وواجه الأهوال
فيها([40]).
وماذا نصنع بالكثير الكثير من الآيات والروايات
الشريفة التي تأمر بالعفو، وتبشر الناس بقبول توبة التائبين..
إلا أن يدَّعى:
أنه
«صلى الله
عليه وآله»
قد أراد أن يظهر صدق ذلك الرجل فيما يدَّعيه من التوبة، ليقطع دابر
الإشاعات المغرضة التي ربما تثار حول سبب العفو، وأنه هو القرابة
التي كانت لابن الحارث أو لابن أبي أمية، وأنها إنما قبلت منهما
لأنها كانت توبة نصوحاً، لا لأجل القرابة.
ولكن لو صحت هذه الدعوى لكان يجب أن يعامل العباس
بنفس هذه المعاملة، ليثبت أن قبوله لا لأجل قرابته من رسول الله
«صلى الله عليه وآله».
وأما بالنسبة للسؤال عن كيفية وصول الذين أهدر
النبي «صلى الله عليه وآله» دمهم إليه، فيجاب:
بأن طرق الوقاية من الأذى متيسرة لهم، ويكفي أن
يحتمي بأحد المسلمين، ويأتي معه، كما فعل عثمان بالنسبة لعبد الله
بن سعد بن أبي سرح.
وحينما كلَّم العباس رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
بشأن أبي سفيان بن الحارث وابن أبي أمية قد ركَّز على أن هذا ابن
عم النبي
«صلى الله
عليه وآله»،
وذاك ابن عمته.. ظناً منه أن القربى النسبية وحدها تكفي للتجاوز عن
ذنب ذينك الرجلين..
ولكن الحقيقة هي:
أن الإساءة تختلف في طبيعتها وفي أحكامها. فإن كانت إساءة للشخص،
كان للصفح عنها، ولمراعاة القربى الرحمية فيها مجال، بل لا مجال
لسوى ذلك من نبي كريم لم يزل يحث الناس على صلة القربى، والصفح عن
المسيئين..
وإن كانت الإساءة منهما للدين، وللأمة ، وتمثل جرأة
عظيمة على الله تبارك وتعالى، فلا يحق لرسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
أن يصفح عن مرتكب ذلك، إذا لم يكن الندم والتوبة من نفس هذ الذنب
العظيم.. ولم يظهر من أولئك التائبين ولا من الطالبين للصفح عنهم،
أن هذا هو ما جاؤوا من أجله.
بل الذي ظهر هو:
أنهم يريدون استجلاب رضى شخص رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
بهدف إصلاح العلاقة معه كشخص، من أجل حفظ نفوسهم ومصالحهم، وبغض
النظر عن أي شيء آخر.
فجاء الرفض النبوي لقبولهما، منسجماً مع طبيعة
ذنبهما، وموجهاً لحقيقة ما يطلب منهما، حيث لم يظهر منهما ما يدل
على الرغبة في إصلاح علاقتهما بالله سبحانه، والإعتراف بخطأهما في
ممارساتهما التي كانت تهدف إلى إضعاف دين الله، وزعزعة يقين الناس
بهذا الدين.
وقد أشار النبي
«صلى الله
عليه وآله»
إلى هذه الحقيقة حين أعلن عن سبب موقفه منهما، وهو: أن أحدهما قد
هتك عرضه، لأنه كان يهجوه، ويظهر الإستهانة به، ويصغِّر من شأنه
كشخص، توصلاً لإسقاط هيبته، وإضعاف دعوته وتكذيب نبوته.
كما أن الآخر قد اقترح عليه اقتراحات تهدف هي
الأخرى إلى تكذيبه في نبوته، من حيث إنها تدخل الشبهة على الضعفاء،
وتجعلهم يصدقون المقولة الباطلة في لزوم كون النبي
«صلى الله
عليه وآله»
من غير البشر.
أي أنه يريد أن يفهم الناس:
أن من يرقى إلى السماء، ويفعل تلك الخوارق لا يمكن أن يكون بشراً..
وعلى هذا الأساس:
إن استجاب النبي
«صلى الله
عليه وآله»
لتلك المطالب، فإما أن يكون ليس من جنس البشر، أو يكون ساحراً
كذاباً، والعياذ بالله.. وإن لم يستجب لها ظهر أنه ليس صادقاً في
ادِّعائه النبوة.
مع أنه لو جاء بكتاب يقرؤونه ونحو ذلك لفتح لهم باب
الجدال بالباطل والتكذيب والاتهام على مصراعيه..
وبذلك تكون الشبهة قد دخلت على الناس في جميع
الأحوال.. وهذه جريمة كبرى، وجرأة عظيمة على الله سبحانه وتعالى
وعلى رسوله، وعلى دينه..
ولذلك جاءه الرد الإلهي، ليؤكد بشرية الرسول
«صلى الله
عليه وآله»:
{..قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}([41]).
مع العلم:
بأن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
كان قد فعل من المعجزات ما يكفي لإسقاط جميع هذه المطالب، فقد عُرج
به إلى السماء، وأثبت لهم صدق ذلك بما أخبرهم به من أمور حصلت
لقافلتهم.. وقد نبع لهم الماء من بين أصابعه، كما أنه قد جاءهم
بكتاب قد عجزوا عن مجاراته، وعن الإتيان بسورة من مثله، ولو بمقدار
سورة الكوثر..
وقد ظهر بذلك كله:
أن ذنب عبد الله بن أبي أمية كان عظيماً في حق الدين والرسالة،
وكان جرأة على الله تبارك وتعالى، وليس أمراً شخصياً ليصح الصفح
عنه لمجرد القرابة والرحم..
ولكن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
قد استجاب وأنعم بالرضا حين عملوا بمشورة علي
«عليه
السلام»،
بأن يقولوا للنبي
«صلى الله
عليه وآله»
ما قاله إخوة يوسف
«عليه
السلام»:
{تَاللهِ
لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}([42]).
وذلك لأن هذه المبادرة تعني أمرين:
أحدهما:
الاعتراف بالخطأ في اختيار الخط والنهج الذي كانوا عليه، لا الخطأ
في الممارسة الجزئية تجاه شخص بعينه، وقد ظهر هذا من خلال ربط هذا
الخطأ ـ على سبيل المقابلة ـ بالفقرة الأولى المتضمنة لبعثة الله
تعالى له بالنبوة، والإعتراف بصدقه
«صلى الله
عليه وآله».
الثاني:
الإقرار بنبوته
«صلى الله
عليه وآله»،
وأنه سبحانه هو الذي أرسله، وآثره بهذا الأمر دون سائر البشر..
وهذا هو الذي يصلح ما أفسدوه، ويبطل كيدهم، ويكسر
شوكتهم، وتكون كلمة الباطل هي السفلى، وكلمة الله هي العليا..
وبعد.. فقد قال الله تعالى:
{وَقُل
لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}([43]).
وقال عز وجل:
{وَأَحْسِن
كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ}([44]).
فالتوجيه الإلهي للناس كلهم يقضي بإلزامهم باختيار
الأحسن من القول والفعل، وهذا يحتم عليهم معرفة الأمور، والتمييز
بين حسنها وقبيحها، ثم الوقوف على الحسن والأحسن منها.
والنبي
«صلى الله
عليه وآله»
هو أولى الناس بالالتزام بالتوجيه الإلهي، بحيث لا يرضى إلا أن
يختار أحسن القول، وأحسن الفعل؛ ليكون ذلك هو طبيعته وسجيته، وهو
الذي يفيد في رسم أجمل صورة للحياة، ويعطيها معناها اللائق بها،
الذي أراده الله تعالى لها.
وقد كان علي
«عليه
السلام»
يريد ان يعرِّف الناس على هذه الحقيقة، ولا سيما من كان يجحد
ويعاند..
وقد نَلْمَح في رواية الواقدي العديد من القرائن
التي تضعف من درجة الإعتماد عليها، فإضافة إلى ما تقدم من شكنا في
صحة ما ورد فيها، من عدم جواب النبي
«صلى الله
عليه وآله»
لابن أبي أمية حينما سلم عليه نشير إلى الأمور التالية:
إن من دلائل وضع الرواية المشار إليها: أنها تضمنت
اعتراض أم سلمة على رسول الله «صلى الله عليه وآله»
بشمول
قاعدة: الإسلام يجب ما قبله لهذه الموارد.
ثم تسليمه
«صلى الله عليه وآله» بصحة اعتراضها.
إذ لا يمكن أن يغفل النبي
«صلى الله
عليه وآله»
عن قرار أو حكم إلهي ثابت، فكيف إذا كان هو الذي جاء بتشريعه، وصدر
عنه مباشرة، ثم تذكِّره به امرأة، أو تكون هي المرشدة له في تطبيقه
الصحيح!!
ويزيد في بشاعة هذا الأمر أن هذا الحكم أو القرار
له ارتباط بنحو أو بآخر بحقوق الناس، وبمصائرهم، أو بكراماتهم
ومواقعهم في الدنيا والآخرة.
إذ من البديهي:
أن خطأه
«صلى الله
عليه وآله»
أو غفلته، ينافيان عصمته، ويضعان نبوته وأهليته لها أمام ألف سؤال
وسؤال.
ولا نجد حرجاً في تقرير أن لدينا بعض الريب فيما
ذكرته الرواية: من أن الله ألقى الإسلام في قلب أبي سفيان بن
الحارث..
فإنه هو نفسه يتابع الحديث ليدلل فيه:
على أن خروجه إلى رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
لم يكن رغبة منه بالإسلام، بل كان خوفاً من القتل بعد أن أهدر
النبي
«صلى الله
عليه وآله»
دمه، وقد ضاقت عليه الدنيا، ولم يعد يجد أحداً يصحبه، أو يكون معه
بعد أن ضرب الإسلام بجرانه.
وقد زعمت الرواية المتقدمة:
أن ابا سفيان بن الحارث قال لزوجته وولده: تهيأوا للخروج، فقد أظل
قدوم محمد عليكم..
ونحن نشك كثيراً في صحة ذلك، فإن أحداً من أهل مكة
لم يكن يعلم بقدوم رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
بل من أهل المدينة أنفسهم، حتى ذلك الجيش العرمرم الذي كان مع رسول
الله
«صلى الله
عليه وآله»
لم يكن يعرف مقصد النبي
«صلى الله
عليه وآله»،
حتى بلغ مشارف مكة، حسبما أوضحناه فيما سبق، فمن أين علم أبو سفيان
بن الحارث بقدومه
«صلى الله
عليه وآله»
ليخبر زوجته وولده بذلك؟!
ولعل الصحيح هو:
أن هذا الرجل كان يعيش حالة من الرعب، بسبب هدر دمه من قبل رسول
الله
«صلى الله
عليه وآله»،
فكان يتوقع القتل عند رؤية أي إنسان يحتمل أن يكون من المسلمين.
وقد صرحت الرواية:
بأنه قد أظهر خوفه من القتل مرات عديدة، فخرج يطلب الأمان لنفسه من
رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
متوسلاً إليه بقرابته منه، ظناً منه أن رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
يتأثر بذلك، حتى على حساب دينه، وإسلامه، فالتقى برسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
وجرى له معه ما تذكره الروايات التي تقدمت.
وقد زعمت الرواية:
أن أبا سفيان بن الحارث يقول: إنه كان على يقين بأن المسلمين
سيفرحون بإسلامه فرحاً شديداً، لقرابته من النبي
«صلى الله
عليه وآله»..
وأنه كان يرجو أن يفرح رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
بإسلامه لقرابته وشرفه..
ونقول:
إنه سواء أكان هذا الكلام صحيحاً، أو كان راويه قد
افتراه كله أو بعضه، فإنه يعبر عن طبيعة تفكير قائله، وعن المفاهيم
والإنطباعات التي يعيشها في نفسه.. حتى إنه ليظن أن ما يفرح النبي
«صلى الله
عليه وآله»
والمسلمين بإسلام أبي سفيان بن الحارث هو مجرد قرابته منه
«صلى الله
عليه وآله»،
وشرفه في قومه، وليس هو نجاة هذا الرجل من غضب الله تعالى، وخروجه
من ذل معصيته إلى عز طاعته جل وعلا..
إنه يفكر كما يفكر الجاهلون، وينطلق من معاييرهم
ومفاهيمهم، مع أن الإسلام لم يقم وزناً لقرابة أبي لهب، ولا لشرفه
في قومه، وأنزل فيه سورة قرآنية خالدة تذكر الناس بخزيه إلى يوم
القيامة..
ولسنا بحاجة إلى التذكير بما ورد في القرآن عن ابن
نوح، وعن زوجتي نوح ولوط..
وأما فيما يرتبط ببطولات أبي سفيان بن الحارث التي
يدَّعيها لنفسه في معركة حنين، فسيأتي في حينه أنها لا يمكن أن
تصح، وسنرى أن الناس كلهم قد فروا في تلك الغزوة باستثناء علي
«عليه
السلام»..
فلا حاجة لاستباق الأمور.. لكننا نقول:
إنه يكفي للحكم على هذه الرواية بالكذب والوضع:
أنها تدَّعي أن أبا سفيان بن الحارث قد طرد جيش الأعداء في حنين
قدر فرسخ، وتفرقوا في كل وجه..
ومن أمارات سوء النوايا في هذه الرواية أيضا:
أنها تزعم: أن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
أمر العباس بأن ينادي: يا للمهاجرين! يا للأنصار! يا للخزرج!
فأجابوا..
فإن الاقتصار على ذكر الخزرج من فئة الأنصار، وعدم
نداء الأوس مما لا يمكن قبوله من النبي الأعظم
«صلى الله
عليه وآله»،
لأن هذا الأمر من شأنه أن يُحْدِثَ أسوأ الأثر في نفوس وفي مواقف
قبيلة الأوس، التي كانت قبل مجيء النبي
«صلى الله
عليه وآله»
تتصاول مع الخزرج تصاول الفحلين، على حد تعبير النصوص التاريخية..
وذكرت الرواية المتقدمة أيضاً:
أنه
«صلى الله
عليه وآله»
لما رأى أبا سفيان مجرداً سيفه في حنين وقد أخذ بلجام بغلة النبي
«صلى الله عليه وآله»
قال لعمه العباس: من هذا؟!
قال أبو سفيان:
فذهبت أكشف المغفر.
فقال العباس:
أخوك، وابن عمك، أبو سفيان بن الحارث، فارض عنه، أي رسول الله!!
قال:
قد فعلت.
فإن من غير المعقول أن لا يعرفه النبي
«صلى الله
عليه وآله»
ويعرفه العباس، مع أنه كان من رفقاء الصبا، كما أنه لم يزل منذ لقي
رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
في الأبواء يتعرض له، يلازمه، ويسعى لاسترضائه، ورسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
يعرض عنه كما صرح أبو سفيان نفسه في الرواية المشار إليها..
وقد ذكرت تلك الرواية:
أن عمر بن الخطاب قد أغرى أنصارياً بقتل أبي سفيان بن الحارث..
والسؤال هو:
إن هذا الإغراء قد يحصل وفق سياق رواية الواقدي، التي هي موضع
البحث، وقد يحصل أيضاً وفق سياق باقي الروايات، وفي جميع الأحوال
نقول:
لماذا يغري عمر بخصوص أبي سفيان بن الحارث ابن عم
النبي
«صلى الله
عليه وآله»،
ولا يغري بعبد الله بن أبي أمية الذي أهدر النبي
«صلى الله
عليه وآله»
دمه، أو
بحكيم بن حزام، أو ببديل بن ورقاء؟ ألم يكن أبو سفيان من أقارب
النبي
«صلى الله
عليه وآله»
كما كان العباس من أقاربه؟