القـتــال
فـي مــكـة
وقالوا:
إن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمر،
دعوا إلى قتال رسول الله «صلى الله عليه وآله» وجمعوا أناساً بالخندمة
(وهو جبل بمكة)، وضوى إليهم ناس من قريش، وناس من بني بكر، وهذيل،
ولبسوا السلاح، يقسمون بالله لا يدخلها محمد عنوة أبداً.
وكان رجل من بني الديل، يقال له:
جماش بن قيس بن خالد، لما سمع بدخول رسول الله «صلى
الله عليه وآله» جعل يصلح سلاحه.
فقالت له امرأته (وكانت قد أسلمت
سراً):
لمن تعدُّ هذا؟
قال:
لمحمد وأصحابه.
قالت:
والله، ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء.
قال:
والله إني لأرجو أن أُخدمك بعضهم، فإنك محتاجة إليه.
قالت:
ويلك، لا تفعل، ولا تقاتل محمداً. والله ليضلن عنك رأيك
لو قد رأيت محمداً، وأصحابه.
قال:
سترين. ثم قال:
إن يـقـبلوا اليـوم فـما لي عـلــة
هـذا ســـلاح كــامــل وألَّـــــه
وذو غـراريـن سـريـع الـسـلـه
ثم شهد الخندمة مع صفوان، وسهيل بن عمرو، وعكرمة، فلما
دخل خالد بن الوليد من حيث أمره رسول الله «صلى الله عليه وآله» وجد
الجمع المذكور، فمنعوه الدخول، وشهروا له السلاح، ورموه بالنبل،
وقالوا: لا تدخلها عنوة.
فصاح في أصحابه، فقاتلهم، وقُتِل منهم أربعة وعشرون
رجلاً من قريش، وأربعة من هذيل([1]).
وقالوا:
أصيب من المشركين قريب من اثني عشر أو ثلاثة عشر، وانهزموا أقبح
الانهزام، حتى قتلوا بالحزوَّرة، وهم مولون في كل وجه. وانطلقت طائفة
منهم فوق رؤوس الجبال، وأتبعهم المسلمون([2]).
وجعل خالد يتمثل بهذه الأبيات، وهو يقاتل خارجة بن
خويلد الكلبي:
إذا
مـا رســول الله فينـا رأيـتــه كلجـة بـحـر نـال
فيهـا سريـرها
إذا مـا ارتـديـنـا الفارسية فوقها رديـنـيـة يهـدي
الاصـم خريرها
رأيـنـا رسـول الله فـيـنـا محمداً لهـا ناصـراً عـزت وعز
نصيرها([3])
وكان شعار المهاجرين من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه
وآله» يوم فتح مكة، وحنين، والطائف: يا بني عبد الرحمن. وشعار الخزرج:
يا بني عبد الله.، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله([4]).
وجعل أبو سفيان بن حرب وحكيم بن
حزام يصيحان:
يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟! من دخل داره فهو
آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، فجعل الناس يقتحمون الدور، ويغلقون
عليهم، ويطرحون السلاح في الطرق، حتى يأخذه المسلمون([5]).
ورجع جماش منهزماً حتى انتهى إلى بيته، فدقه، ففتحت له
امرأته، فدخل وقد ذهبت روحه، فقالت له: أين الخادم الذي وعدتني؟ ما زلت
منتظرة لك منذ اليوم ـ تسخر منه.
فقال:
دعي هذا عنك، واغلقي عليَّ بابي، ثم قال:
إنـك لـو شهـدت يوم الخندمــة
إذ فـر صـفـوان وفـر عكــرمــة
وأبـو يـزيـد كالعجوز المؤتمـــة واسـتـقبلتهـم
بالسيوف المسلمة
يقطعن كل سـاعـد وجمـجـمـه ضـربـاً فـلا تسمـع إلا الغمغمـة
لهم نـهـيـت خلفـنـا وهمهـمـه لم تنطـقي في اللـوم أدنى
كـلـمة([6])
وأقبل الزبير بمن معه من المسلمين حتى انتهى إلى الحجون،
فغرز الراية عند منزل رسول الله «صلى الله عليه وآله».
ولم يقتل من المسلمين إلا رجلان من أصحاب الزبير، أخطآ
الطريق، فسلكا غيره فقتلا. وهما كرز بن جابر الفهري، وحبيش الكعبي([7]).
وزعم بعضهم:
أنهما كانا مع خالد بن الوليد فشذّا عنه فقتلا([8]).
ومضى رسول الله «صلى الله عليه وآله» فدخل مكة من
أذاخر، فلما ظهر على أذاخر، نظر إلى البارقة([9])
مع فضض([10])
المشركين، فقال: «ما هذه البارقة؟! ألم أنهَ عن القتال»؟
قالوا:
يا رسول الله، خالد بن الوليد قوتل ولو لم يقاتَل ما قاتل، وما كان يا
رسول الله ليعصيك، ولا يخالف أمرك.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
«قضاء الله خير»([11]).
وصرح الدياربكري:
بأن المهاجرين هم الذين قالوا له «صلى الله عليه وآله»: نظن أن خالداً
قوتل، وبُدئ بالقتال، فلم يكن بد أن يقاتل من قاتله([12]).
وفي المنتقى:
وكل الجنود لم يلقوا جنوداً غير خالد([13]).
وعن أبي هريرة قال:
لما كان يوم فتح مكة، وبشت([14])
قريش أوباشاً لها وأتباعاً، فقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا
معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فرآني رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، فقال: «يا أبا هريرة».
قلت:
لبيك.
قال:
«اهتف بالأنصار، ولا يأتيني إلا أنصاري».
قال:
ففعلت ما أمرني به، فأتوه، فقال: «انظروا قريشاً وأوباشهم فاحصدوهم
حصداً» (حتى توافوني بالصفا. أي دخلوا من أعلى مكة)([15])
ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى.
فانطلقنا فما أحد يوجه إلينا شيئاً، وما منا أحد يريد
أحداً منهم إلا أخذه. (أو قال: فما نشاء نقتل أحداً منهم إلا قتلناه)
([16]).
فجاء أبو سفيان بن حرب، فقال:
يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن».
فألقى الناس سلاحهم([17]).
وقالوا:
ووجه «صلى الله عليه وآله» اللوم على خالد، وقال له: قاتلت، وقد نهيت
عن القتال؟!
قال:
هم يا رسول الله بدأونا بالقتال، ورمونا بالنبل، ووضعوا
فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام وأن يدخلوا فيما
دخل فيه الناس، فأبوا، حتى إذا لم أجد بداً من أن أقاتلهم قاتلتهم،
فظفرنا الله بهم، فهربوا في كل وجه.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
كف عن الطلب.
قال:
قد فعلت.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
قضاء الله خير.
وقال «صلى الله عليه وآله»:
كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر، فحبطوهم ساعة، وهي
الساعة التي أحلت لرسول الله «صلى الله عليه وآله»([18]).
وكان «صلى الله عليه وآله» نهى أن يقتل من خزاعة أحد([19]).
قال الدياربكري:
«أما خالد بن الوليد فدخل من الليط أسفل مكة، فلقيه
قريش وبنو بكر والأحابيش، فقاتلوه، فقتل منهم قريباً من عشرين رجلاً،
ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا، وقتلوا بالحزوَّرة، حتى بلغ قتلهم
باب المسجد، وهرب فضيضهم حتى دخلوا الدور، وارتفعت طائفة منهم على
الجبال، واتبعهم المسلمون بالسيوف، وهربت طائفة منهم إلى البحر، وإلى
صوب اليمن»([20]).
وروى الطبراني عن ابن عباس:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» خطب فقال: إن الله عز وجل حرم هذا
البلد([21]).
فبينما هو كذلك قيل: هذا خالد يقتل.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
قم يا فلان.. الى آخر الحديث التالي..
وقال الدياربكري:
دخل رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقدم خالد بن الوليد، فأنالهم
شيئاً من قتل، فجاء رجل من قريش، فقال: يا رسول الله، هذا خالد بن
الوليد قد أسرع في القتل.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»
لرجل من الأنصار عنده:
يا فلان.
قال:
لبيك يا رسول الله.
قال:
ائت خالد بن الوليد، قل له: إن رسول الله يامرك أن لا تقتل بمكة أحداً.
فجاء الأنصاري، فقال:
يا خالد إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يأمرك أن تقتل من لقيت.
فاندفع خالد فقتل سبعين رجلاً من مكة.
فجاء إلى النبي «صلى الله عليه
وآله» رجل من قريش، فقال:
يا رسول الله، هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم.
قال:
ولم؟!
قال:
هذا خالد لا يلقى أحداً من الناس إلا قتله.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»:
ادع لي خالداً.
فلما أتى إليه خالد، قال:
يا خالد، ألم أرسل إليك أن لا تقتل أحداً؟!
قال:
بل أرسلت إلي أن أقتل من قدرت عليه.
قال:
ادع لي الأنصاري.
فدعاه له، فقال:
ألم آمرك أن تأمر خالداً أن لا يقتل أحداً؟!
قال:
بلى. ولكنك أردت أمراً وأراد الله غيره، فكان ما أراد الله..
فسكت «صلى الله عليه وآله»، ولم يقل للأنصاري شيئاً،
وقال: يا خالد!
قال:
لبيك، يا رسول الله!
قال:
لا تقتل أحداً.
قال:
لا([22]).
ونقول أخيراً:
روى الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، والقاساني
جميعاً عن الأصفهاني، عن المنقري، عن فضيل بن عياض، عن أبي عبد الله
«عليه السلام»
قال: إن رسول الله
«صلى الله عليه وآله» يوم فتح مكة لم يسبِ لهم ذرية،
وقال: من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن([23]).
ولنا مع ما ذكر العديد من الوقفات، وإليك بعضها:
الخندمة:
جبل معروف بمكة، يقع خلف جبل أبي قبيس، ويمتد منه إلى المُعَلَّاة على
طول شعب علي، وشعب عامر.
فلو صح ما زعموه:
من أن جماعة من أهل مكة قد تصدوا لخالد، فنقول:
1 ـ
المفروض هو: أن يواجههم خالد بما يردعهم، ويبطل حركتهم،
ومقاومتهم. وأما أن يلاحقهم بعد هزيمتهم إلى الحزوَّرة، ثم يمتد قتلهم
حتى باب المسجد، وإلى الجبال، حتى يضطر بعضهم إلى الهرب إلى البحر،
وإلى صوب اليمن.. فهذا لا مبرر له على الإطلاق..
2 ـ
إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان قد نهى خالداً
عن القتال. ولامه على فعله هذا ، وقال له: لم قاتلت،وقد نهيت عن
القتال؟!
فاعتذر له:
بأنهم هم بدأوا بالقتال..
ولكنه عذر غير مقبول، إذ إن بدأهم له بالقتال لا يمنعه
من أن يراجع رسول الله «صلى الله عليه وآله» في أمرهم..
3 ـ
إن ظاهر الكلام الذي جرى بين رسول الله «صلى الله عليه
وآله» وبين خالد يدل على أن خالداً كان لا يزال يلاحقهم ويطلبهم
ليقتلهم حتى تلك اللحظة، ولذلك قال له النبي «صلى الله عليه وآله»: كف
عن الطلب.
واحتمال بعض الإخوة أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد
قال له ذلك، لاعتقاده ـ ولو على ظاهر الأمر ـ باستمراره في طلب أهل مكة
ليقتلهم إلى تلك اللحظة لا مجال لقبوله. فإن الأمر بالكف عن الشيء
ظاهر بأنه مستمر في فعله، ويطلب منه الكف عنه، كما أنه لا مجال للقول
بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد اعتقد بذلك ـ بأنه لا يزال يطلبهم ـ
فنهى خالداً عن ذلك، مع كون اعتقاده «صلى الله عليه وآله» مخالفاً
للواقع.. فإن ما يعتقده النبي «صلى الله عليه وآله» هو عين ما يحصل
ويجري.
ولا يمكن أن يعتقد بما هو خطأ. كما أن احتمال أن يكون
«صلى الله عليه وآله» قد علم بأن خالداً قد كف عن طلبهم، لكنه أمره
بالكف كي لا يكون ترك الأمر به ذريعة لخالد في استئناف الطلب.. مرفوض
أيضاً، إذ كان ينبغي أن يقول له: لا تطلبهم بعد الآن، لا أن يقول له:
كف عن الطلب الذي قلنا: إن ظاهره هو أنه كان لا يزال يطلبهم فعلاً كما
أوضحنا..
4 ـ
ما معنى قول خالد: إنه دعاهم إلى الإسلام، وأن يدخلوا
فيما دخل فيه الناس؟! هل كان هذا من المهمات التي أوكلت إليه أيضاً؟!.
5 ـ
إذا كان أبو سفيان زعيم مكة يأمر الناس بالإستسلام، فما
معنى أن يبادر أوباش من الناس لقتال هذه الألوف التي جاءتهم على حين
غفلة منهم؟!
وهل يمكن أن يفكر أوباش من الناس بإحراز أي نصر على
عشرة آلاف مقاتل؟! وهم على غير استعداد، ولا سيما مع ذلك النداء الذي
صدر لهم من أهم زعيم في مكة، ومعه بديل بن ورقاء الزعيم الخزاعي، وحكيم
بن حزام، وهو زعيم أيضاً في قريش، فضلاً عن العباس؟!
والأعجب من ذلك:
أن بعض النصوص المتقدمة تعطي: أن خالداً كان لا يزال يلاحق الفارين في
الجبال، والشعاب، حتى حين طلبه النبي «صلى الله عليه وآله»، وطالبه بما
فعل؛ فقد قال له «صلى الله عليه وآله»: أوقف الطلب.
ونعتقد:
أن هذا التصرف من خالد يتضمن جرأة غير عادية.. فإنه بالرغم من إقدامه
على مخالفة نهي النبي «صلى الله عليه وآله» عن القتال، ورغم إحساسه
بتغيظ النبي «صلى الله عليه وآله» مما يجري، وإحضاره للمساءلة، يتابع
نشاطه العسكري المخالف لإرادة وتوجيهات رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، ليحقق أكبر قدر ممكن من أهدافه التي توخاها من مباشرة ذلك
القتال.. وكأنه يرى أن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يعلم بحقيقة ما
يجري من خلال إعلام الله تعالى له!!
ثم إننا لا نكاد نحتمل صحة ما زعموه من أنه «صلى الله
عليه وآله» قد طلب من جيشه أن يكفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر، وذلك
لما يلي:
1 ـ
لقد كانت سياسة رسول الله «صلى الله عليه وآله» في دخول
مكة هي أن يدخلها بعنفوان يضع حداً لاستكبار المستكبرين فيها ويمنعهم
من التفكير بالمقاومة، مع حرص شديد وتصميم أكيد على عدم إراقة أي نقطة
دم فيها، وذلك حفاظاً منه على حرمة بيت الله وحرمه.. فكيف يمكن أن
نتصوره يسمح لخزاعة بأن تنفذ مذبحة في بني بكر في نفس حرم الله وفي
جوار بيته؟!
2 ـ
إن السماح لخزاعة بالفتك ببني بكر ينافي الأمان الذي
أعطاه النبي «صلى الله عليه وآله» لأهل مكة، حيث لم يستثن منه بني
بكر..
3 ـ
من هم الخزاعيون الذين سمح لهم النبي «صلى الله عليه
وآله» بقتل بني بكر؟ هل هم خزاعيو مكة، أم خزاعيون جاؤوا معه؟
4 ـ
لماذا سمح لخزاعة بقتل بني بكر، ولم يسمح لها بقتل
قريش، التي شاركت بني بكر في المجزرة التي ارتكبت في حق الخزاعيين..
وقريش هي التي أرسلت زعيمها أبا سفيان إلى المدينة ليدلس الأمر على
المسلمين، ويضيع دماء المظلومين!!
5 ـ
لقد أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأن ينادى في
الناس: من ألقى سلاحه فهو آمن، أو دخل بيته، أو كان تحت راية أبي رويحة
الخ.. فهل سمع هؤلاء الناس هذا النداء، وأصروا على القتال وحمل
السلاح؟!
وإذا كانوا أصروا على ذلك، فلماذا يهربون إلى البحر
وإلى اليمن؟!
وإذا كانوا قد ألقوا سلاحهم، فلماذا يلاحقونهم بالقتل
إلى الحزوَّرة، والمسجد، وإلى البحر، أو إلى اليمن؟!
وأغرب من ذلك كله، ما زعمه أبو
هريرة:
من أنه «صلى الله عليه وآله» طلب منه أن يهتف بالأنصار، ولا يأتيه إلا
أنصاري، فجاؤوه، فأمرهم أن يحصدوا قريشاً وأوباشهم حصداً، ثم قال بيديه
إحداهما على الأخرى.
قال أبو هريرة:
فما نشاء نقتل أحداً منهم إلا قتلناه.
ونحن لا نشك في أن هذا من المكذوبات المتناهية في
الجرأة والوقاحة.
فأولاً:
إن هذا لا يتلاءم مع إعلانه «صلى الله عليه وآله» بالأمان لكل من دخل
داره وأغلق بابه، ودخل المسجد، ودار أبي سفيان، وابن حزام، ومن يلتجي
إلى راية أبي رويحة، ومن ألقى سلاحه، فهل يريد منهم أن يلقوا سلاحهم
ليحصدهم الأنصار حصداً؟!
أو هل كان النبي «صلى الله عليه وآله» غادراً؟! والعياذ
بالله. أو هل كان قاسياً إلى هذا الحد؟!
ثانياً:
لم نسمع أن الأنصار فتكوا بقريش، أو قتلوا منهم، بل سمعنا أن خالداً
فعل ذلك، وخالد من المهاجرين، ولم يكن الأنصار معه، بل كان معه بنو
سليم.
ثالثاً:
هل صحيح أن النبي الكريم، والوَصول، والرحيم والحليم كان يتعامل وفق
المنطق القبائلي والعشائري والعنصري، فيحرض الأنصار على قريش،
وأوباشها، حيث يطلب أن لا يأتيه إلا أنصاريّ؟!
وما معنى:
أن يأمرهم بالإطباق على قريش كما تطبق إحدى اليدين على الأخرى؟!
رابعاً:
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يُقتل أحد من الذين حرضوا على قتل
خزاعة، مثل صفوان، وعكرمة، وسهيل بن عمرو؟! وكيف أفلتوا من يد الأنصار؟
وكيف يلوم «صلى الله عليه وآله» خالداً على ما فعل؟! ولماذا يسأله عن
ذلك؟! أو لماذا يسأل عن شأن تلك البارقة التي رآها؟! ألم يكن هو الذي
أمر بها وأثارها؟! كما يزعمون!!
لقد صرحت بعض النصوص:
بأن المهاجرين أجابوا النبي «صلى الله عليه وآله» بأنهم يظنون أن
خالداً قوتل.
وهذا معناه:
أنهم لم يحضروا ما جرى، ولا تحققوا منه بأي من وسائل التحقق، بل أطلقوا
كلامهم على سبيل التخمين والحدس.
والسؤال هو:
إذا كان المهاجرون لا يعرفون أزيد مما يعرفه أي إنسان
آخر لم يحضر الواقعة، فلماذا يتصدون للدفاع عن خالد؟! ولماذا لم يجب
النبي «صلى الله عليه وآله» أحد من غير المهاجرين؟!
بل إن قوله «صلى الله عليه وآله»:
ألم أنهَ عن القتال؟ يعطي: أنه كان قد رتب الأمور بنحو
ينمع أهل مكة من أن يفكروا في أي حركة قتالية، فإن كان ثمة من قتال،
فهو يتوقع أن يكون مصدره أولئك الذين نهاهم عنه.
ومعنى ذلك:
أنه سيكون قتالاً عدوانياً، قد عصي فيه أمر رسول الله، وخولفت به
تعليماته..
وأما قولهم عن خالد:
وما كان ليعصيك، ولا يخالف أمرك، فهو غير ظاهر الوجه، فإن خالداً كان
حديث عهد بالإسلام، ولم يتعمق الإيمان بعد في داخل نفسه، ولا ظهرت
دلائل انقياده التام لرسول الله «صلى الله عليه وآله».
وقد أظهرت الوقائع اللاحقة:
أنه كان من أعظم الناس جرأة على مخالفة أوامر الله ورسوله، فراجع ما
صنع ببني جذيمة في عهد النبي «صلى الله عليه وآله»، ثم ما صنعه بعد ذلك
بمالك بن نويرة، حيث قتله، وزنى بزوجته في نفس ليلة قتله، كما ألمحنا
إليه أكثر من مرة.
ويبقى السؤال يراود ذهن كل عاقل عن السر في أن جميع تلك
الحشود التي دخلت مكة، وهي أكثر من عشرة أضعاف التسع مائة الذين كانوا
بقيادة خالد، لم تواجه أية مشكلة، ولم يلقوا أي مسلح. ألا يضع ذلك
علامة استفهام على زعمهم القائل: إن هذه الثلة اليسيرة وقفت لتتحدى
الذي يرفده عشرة أضعافه من المقاتلين الذين يتدفقون على مكة من كل
جهة؟!
ولا يمكننا أن نقتنع بأن النبي الكريم
«صلى الله عليه وآله»
قد أنحى باللائمة على قضاء الله تعالى، واعتبره هو
المسؤول عما جرى في أمر عصي الله فيه بمخالفة أمر رسوله
«صلى الله عليه وآله»..
وقد تضمنت هذه المعصية:
هتك حرمة الحرم، وقتل أناس كان رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
قد أعطاهم الأمان..
وهل يصح وصف ذلك كله:
بأنه خير، وبأنه قضاء من الله، الذي يريد أن يوحي بأنه تعالى هو الذي
فعله، أو أنه هو الذي قضاه على الأقل؟!
ولم يقتصر الأمر على مجرد مهاجمة أولئك الناس، بل تجاوز
ذلك إلى ملاحقتهم حتى قتلوا على باب المسجد، واتبعوهم إلى الجبال، بل
لقد اضطروا الى الهرب إلى البحر، وإلى التفكير بالهرب إلى اليمن..
وقد كان من الوضوح بمكان:
أن المقاومة لهجوم خالد وصحبه كانت في غاية الضعف، كما تشير إليه رواية
أبي هريرة، التي يقول فيها:
«فما
نشاء أن نقتل أحداً منهم إلا قتلناه..».
بل ذكر أبو هريرة في روايته المتقدمة ما يدل على أن
الذين قصدوهم بالقتل لم يقاوموا أصلاً، فقد قال:
«فانطلقنا
فما أحد يوجه إلينا شيئاً، وما منا أحد يريد أحداً منهم إلا أخذه..».
فكيف يصح بعد هذا أن يقال:
إن المشركين كانوا هم البادئين بالقتال؟!
بل إن الرواية التي ذكرت:
أن ذلك الأنصاري قد أبلغ خالداً بعكس ما أمره رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
لهي خير دليل على أن المبادرة لقتل الناس في مكة كانت
من خالد نفسه..
ولكنهم عوضاً من تقبيح فعل خالد، برؤوه من جرمه وألقوا
المسؤولية على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، واتهموه بذلك الفعل
القبيح، الذي ظهر قبحه من نفس نهي النبي «صلى الله عليه وآله» للمسلمين
عن فعله..
لم يسبِ
لقريش ذرية:
وحين نقرأ في تلك الرواية المتقدمة عن أبي عبد الله
الصادق
«عليه
السلام»
حول ما يرتبط بسيرة علي
«عليه السلام»
في أهل الجمل:
«كانت
السيرة فيهم من أمير المؤمنين علي
«عليه السلام»
ما كان من رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
في أهل مكة يوم فتح مكة، فإنه لم يسب لهم ذرية، وقال: من أغلق بابه فهو
آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، الخ..»([24]).
فقد دلت هذه الرواية:
على أن سياسته «صلى الله عليه وآله» في أهل مكة يوم الفتح هي الكف
عنهم، وهذا لا يتلاءم أبداً مع دعواهم أنه قال للأنصار: «احصدوهم
حصداً» كما أن ذلك يدل على أن مكة قد فتحت عنوة، لا صلحاً.
وعن قصة ذلك الأنصاري الذي زعمت
الرواية:
أنه لم يكن أميناً في إبلاغ أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى
خالد.. نقول:
إن لنا على تلك الرواية ملاحظات عديدة هي:
1 ـ
لماذا لم يعاقب النبي «صلى الله عليه وآله» ذلك
الأنصاري على فعله الذي أدى إلى إزهاق أرواح كان النبي «صلى الله عليه
وآله» الذي لا ينطق عن الهوى يريد حفظها؟!
كما أنه قد كان سبباً في سل السيوف، وإراقة الدماء في
حرم الله تعالى، وفي جوار بيته، وإنما اكتفى «صلى الله عليه وآله»
بالسكوت، فلم يوجه لذلك الكاذب على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ولو
كلمة تأنيب أو تخطئة على أقل تقدير، وقد كان من المناسب جداً أن
يذكِّره بقوله «صلى الله عليه وآله»: فمن كذب عليَّ عامداً متعمداً
فليتبوأ مقعده من النار([25]).
2 ـ
إن ما فعله ذلك الأنصاري، من شأنه أن يجرِّئ الناس على
مخالفة أمر النبي «صلى الله عليه وآله»، وتبديل أوامره ونواهيه
بأضدادها.. وذلك يفتح الباب أمام مفاسد كبيرة وخطيرة.
3 ـ
قد رأينا: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد تبرأ
مما صنعه خالد ببني جذيمة، فلماذا لم يتبرأ من الكاذب، ومن الكذب الذي
نسبه ذلك الأنصاري إليه؟! والذي أدى إلى سفك الدماء في حرم الله تعالى،
وكان «صلى الله عليه وآله» يريد حفظها.
4 ـ
واللافت هنا: أن هذا الأنصاري الذي تسبب بإزهاق أرواح
العشرات من الناس في حرم الله تعالى، لم يستطع التاريخ أن يفصح لنا عن
اسمه، أو عن اسم قبيلته على الأقل، بل اكتفى بوصفه بأنه «أنصاري».
5 ـ
ويزيد الأمر إبهاماً، وإثارة للشبهة: أن هذه الرواية قد
ذكرت رقماً يزيد على ضِعْفِ العدد الذي ذكرته سائر الروايات.. لأنها
تقول: إن الذين قتلوا بسبب كذبة هذا الأنصاري هم سبعون رجلاً.
6 ـ
هل نستطيع أن نفهم ما جرى على أن هذا النوع من الروايات
يقصد به الطعن في الأنصار، وإظهار أنهم قد ظلموا قريشاً وأهل مكة،
وتعاملوا معهم من منطلق الحقد والضغينة؟!
فكل ما يجري على الأنصار بعد ذلك ـ كما حصل في وقعة
الحرة، وسواها ـ يصبح مبرراً، وتقل بشاعته، ولا يعود مستهجناً.
والغريب في الأمر:
أن يستدل ذلك الأنصاري على رسول الله «صلى الله عليه وآله» بقوله: أردت
أمراً، وأراد الله غيره، وذلك:
1 ـ
لأن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يمكن أن يريد أمراً
يخالف ما يريده الله تبارك وتعالى، فهو لا يريد إلا ما يرضي ربه، ولا
يفعل ولا يقول إلا ما أذن الله تعالى له بفعله وقوله، على قاعدة:
{وَمَا
يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}([26]).
وهو «صلى الله عليه وآله» مسدد من الله، ومؤيد
بتأييداته.
2 ـ
ثم إن قتل الناس في حرم الله لم يرده الله تعالى بلا
ريب، فلا يصح نسبته إليه، بل أراده أولئك العصاة لأوامر رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، والكاذبون عليه، الذين توعدهم الله بالعذاب الأليم في
نار جهنم.
3 ـ
ولو فرضنا: أن ذلك الأنصاري أصاب في استدلاله هذا، لكان
ينبغي أن يلتفت رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى هذا الدليل قبل كل
أحد، ولكان ذلك يمنع النبي «صلى الله عليه وآله» من توجيه الأسئلة
لخالد حول ما اقترف، ومن مطالبة الأنصاري بمبرراته التي استند إليها
فيما فعل..
4 ـ
هل سكت النبي «صلى الله عليه وآله» حين قال له الأنصاري
ذلك عن قناعة بما قاله هذا الكاذب على الرسول «صلى الله عليه وآله»، أم
أن سكوته كان لأجل عجزه عن مواجهة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل؟! أم
أن ذلك السكوت كان احتجاجياً، يريد به الإعراض عن ذلك الكاذب، والدلالة
على عدم جدوى النقاش معه في هذا الأمر؟! بل قد تكون مواصلة النقاش معه
فيه مضرة، ولها آثار سلبية على المسلمين، وربما على غيرهم أيضاً..
قد يقال:
إن الإحتمال الأول هو الأوفر حظاً من بين سائر
الإحتمالات.
ولكننا نقول:
إن هذا الإحتمال هو الأسوأ والأكثر ضرراً من حيث إنه
يشير إلى غفلة النبي «صلى الله عليه وآله» عن أمر يعرفه سائر الناس
العاديين.. كما إنه يشير إلى جهل النبي «صلى الله عليه وآله» حتى بمثل
هذا الأمر البديهي.
وإذا كان النبي «صلى الله عليه وآلـه» لا يصدر ولا
يـورد، ولا يأمر ولا ينهى إلا وفق ما يريده الله تعـالى، فإن الأمر
يصبح أكثر إشكالاً، لأنه يؤدي إلى نسبة هذه العظائم إليه سبحانـه،
تعالى الله عما يقوله الجاهلون علواً كبيراً.
وقد صرحت النصوص التي ذكرناها:
بأنه «صلى الله عليه وآله» نهى أن يقتل من خزاعة أحد.
ونقول:
قد يقال:
إن النبي «صلى الله عليه وآله» نهى عن القتال والقتل مطلقاً، سواء
لخزاعة أو لغيرها.. وأعطى الأمان لجميع أهل مكة باستثناء أشخاص
بأعيانهم، سيأتي الحديث عنهم؛ لأنهم قد ارتكبوا جرائم لا مجال للعفو
عنها.. فلا خصوصية لخزاعة هنا، ولا معنى لحصر الكلام فيها.
ويمكن أن يجاب:
بأنه «صلى الله عليه وآله» قد عمم الأمان ليشمل خزاعة وجميع أهل مكة،
ثم خص خزاعة بالذكر، لأنها كانت داخلة في عقد النبي «صلى الله عليه
وآله» وعهده، كما ظهر مما جرى في الحديبية.. فلهم أمان الحلف، بالإضافة
إلى الأمان الذي يشملهم مع أهل مكة..
فخزاعة:
لا يصح قتال أحد منها حتى لو بادر إلى حمل السلاح والقتال، فيجب مراعاة
حاله، وتحاشي قتله، ومراجعة النبي «صلى الله عليه وآله» في أمره، لأن
لخزاعة أحكاماً تختلف عن أحكام سائر مشركي مكة المحاربين، وقد اصبحوا
الآن أسرى في أيدي المسلمين، يحكم فيهم النبي «صلى الله عليه وآله» بما
يقتضيه حالهم..
وأما خزاعة:
فليسوا محاربين كمشركي مكة، بل هم حلفاء، ولهم عهد وعقد.
وحتى لو اتفق ووقع القتل على أحد منهم، ولو عن غير قصد،
فلعلهم ممن تشملهم أحكام الديات أيضاً.
روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن
محمد بن أبي نصر، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله «عليه السلام»
قال:
شعارنا:
«يا محمد، يا محمد».
وشعارنا يوم بدر:
«يا نصر الله إقترب، إقترب».
وشعار المسلمين يوم أحد:
«يا نصر الله إقترب».
ويوم بني النضير:
«يا روح القدس أرح».
ويوم بني قينقاع:
«يا ربنا لا يغلبنك».
ويوم الطائف:
«يا رضوان».
وشعار يوم حنين:
«يا بني عبد الله، [يا بني عبد الله]».
ويوم الأحزاب:
«حم، لا يبصرون (أو لا ينصرون)».
ويوم بني قريظة:
«يا سلام أسلمهم».
ويوم المريسيع، وهو يوم بني
المصطلق:
«ألا إلى الله الأمر».
ويوم الحديبية:
«ألا لعنة الله على الظالمين».
ويوم خيبر، يوم القموص:
«يا علي آتهم من علٍ».
ويوم الفتح:
«نحن عباد الله حقاً حقاً».
ويوم تبوك:
«يا أحد يا صمد».
ويوم بني الملوح:
«أمت، أمت».
ويوم صفين:
«يا نصر الله».
وشعار الحسين «عليه السلام»:
«يا محمد».
وشعارنا:
«يا محمد»([27]).
وسند الحديث صحيح.
وروي أيضاً:
أن شعار المسلمين يوم بدر:
«يا منصور أمت».
وشعار يوم أحد للمهاجرين:
«يا بني عبد الله، يا بني عبد الرحمن».
وللأوس:
«يا بني عبد الله»([28]).
ونقول:
كنا قبل سنوات قد كتبنا بحثاً حول «نقش الخواتيم لدى
الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم»..
وقد بدا واضحاً:
أن ما كانوا ينقشونه عليها متوافق مع طبيعة المرحلة
التي يمرون بها، والتحديات التي تواجههم.
وهذه العبارات المختارة لتكون شعاراً في هذه الحرب أو
تلك تشير إلى نفس هذا الأمر، وتؤكد على هذه الحقيقة..
ولو أردنا أن نشرح هذا التوافق والإنسجام فيما بين
الشعار وبين ما يراد له أن يدل عليه ويشير إليه لاحتجنا إلى عشرات
الصفحات، ولكان علينا أن ندَّخر المزيد من الوقت والجهد في إيضاح هذه
المعاني وبيان هذه الدلالات.
فلا محيص لنا عن الإكتفاء هنا بلمحة عابرة عن بعض ما
يرمي إليه الشعار الذي اختير ليوم فتح مكة فقط، وهو:
«نحن عباد الله حقاً حقاً»، فنقول:
يتضح بعض ما نريد الإلماح إليه كما يلي:
1 ـ
لقد كان مشركو مكة وجبابرتها، وعتاتها، ورموز الظلم
والكيد والتعدي على حرمات الله فيها، يحاربون الله ورسوله، ويهتكون
حرمة بيت الله، وينتهكون حرمة الحرم. ثم هم يدَّعون أنهم سدنة البيت،
وأولياؤه، وحماة الحرم وأبناؤه.
وقد رد الله تعالى ذلك عليهم، فقال:
{وَمَا
لهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ
الحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ
المُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}([29]).
ولنا حول موضوع البيت وولايته حديث ذكرناه في كتابنا
«دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام»، ولعلنا نحتاج لإيراد موجز عنه
فيما يأتي من مطالب إن شاء الله تعالى..
2 ـ
إن الكعبة بيت الله، والحرم المكي حرم الله، ولا بد من
أن تتجلى في هذه الأماكن المقدسة، والمشاعر المعظمة عبودية الإنسان
لربه بكل أبعادها، ومختلف تجلياتها.
وخير من يجسد هذه العبودية هم المؤمنون بالله الواحد
الأحد، الفرد الصمد، ولا يشركون به شيئاً، فإن الشرك ينقص من مقام
العبودية هذا.. بل هو يصرفها إلى غير الله تبارك وتعالى إلى حد التمحض
في ذلك الغير..
ولأجل ذلك اختار «صلى الله عليه وآله» بيان هذه
الحقيقة، وإسقاط هذه المغالطة التي يمارسها المدَّعون لها كذباً
وزوراً..
3 ـ
إن اختيار العبودية لتكون أول مفهوم يطرح في هذه
المناسبة يؤكد على أن هذا الفتح العظيم لم يخرج هؤلاء الفاتحين عن حالة
التوازن، ولم يدفعهم للتصرف بكبرياء، ولم يوجب لديهم حالة من الغرور
والادِّعاء لأنفسهم فوق ما تمكله من قدرات. بل زادهم ذلك تواضعاً،
وخضوعاً له، واستسلاماً لإرادته ومشيئته تعالى، تماماً كما يستسلم كل
عبد لسيده، وليس لأهوائهم ونزواتهم.
4 ـ
إن هذا يعطي الآخرين الذين اساؤوا وآذوا نفحة من الشعور
بالطمأنينة، وبالأمل والسكينة، من حيث أنهم سيفهمون أن القرار بشأنهم
لن يكون عشوائياً، تتحكم فيه النزوات، والأهواء والعصبيات، بل هو قرار
إلهي، وحكم رباني.. فإذا أصلحوا علاقتهم بالله، وتابوا وعادوا إلى
الالتزام بأوامره وزواجره، وإذا اعتقدوا: أنه غفور رحيم، وقوي عزيز،
وأنه الغفور التواب و.. و.. فإن بإمكانهم أن يأملوا قبول توبتهم،
والنظر إليهم بعين الرحمة والمغفرة..
فيكون نفس هذا الشعار الذي نادى به المسلمون في فتح مكة
دعوة لأهلها إلى قبول الحق، والدخول في دين الله والتوبة والإستغفار،
وطلب الرحمة..
كما إنه شعار يتضمن إنذاراً لهم بضرورة التخلي عن
المكابرة والجحود.. لأن ذلك سوف يعرضهم لغضب الله وسخطه، وستجري عليهم
وفيهم أحكامه وشرائعه، وفق سنن العدل، وعلى أساس قاعدة:
{أَحْصَاهُ
اللهُ وَنَسُوهُ..}([30]).
وقاعدة:
{فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}([31]).
وقد زعموا:
أن مكة فتحت صلحاً، وبه قال الشافعي([32]).
فلما واجههم ما أثبته التاريخ من قتل خالد ثمانية
وعشرين رجلاً من قريش وهذيل كما ذكرته الروايات أو سبعين من أهل مكة
كما في رواية أخرى قالوا: إن هذه المقاتلة التي وقعت لخالد لا تنافي
كون مكة فتحت صلحاً، لأنه صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة.
وأما قوله:
«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن
ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن،
ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن» فهو من زيادة الإحتياط لهم في
الأمان.
وقوله:
احصدوهم حصداً محمول على من أظهر من الكفار القتال، ولم يقع قتال، ومن
ثم قتل خالد من قاتل من الكفار.
وإرادة علي كرم الله وجهه قتل الرجلين اللذين أمنتهما
أخته أم هانىء كما سيأتي لعله تأول فيهما شيئاً، أو جرى منهما قتال له.
وتأمين أم هانىء لهما، من تأكيد الأمان الذي وقع
للعموم.
فلا حجة في كل ما ذكر على أن مكة فتحت عنوة كما قاله
الجمهور.
وقيل:
أعلاها فتح صلحاً: أي الذي سلكه أبو هريرة والأنصار، لعدم وجود
المقاتلة فيه، وأسفلها الذي سلكه خالد فتح عنوة لوجود المقاتلة فيه([33]).
ونقول:
إن ذلك غير صحيح، بل فتحت عنوة، ونستند في ذلك إلى ما
يلي:
أولاً:
إن نفس إعطاء الأمان لأهل مكة، إن دخلوا المسجد، أو
بيوتهم، أو غير ذلك يدل على أنهم قد قهروا بدخول النبي «صلى الله عليه
وآله» بلدهم، وأن معارضتهم سوف تنتهي إلى استرجاع هذا الأمان، واستمرار
حالة الحرب.
ثانياً:
قول رسول الله «صلى الله عليه وآله» لأهل مكة: ما ترون أني صانع بكم؟!
قالوا:
أخ كريم، وابن أخ كريم.
قال:
اذهبوا فأنتم الطلقاء.
فإن قوله:
ما ترون أني صانع بكم يدل على أنه هو الذي يقرر مصيرهم، ويصنع بهم ما
يشاء، بعد أن أصبحوا في يده بعد الفتح. ولو كان ثمة صلح، فإن بنود
الصلح وشروطه هي التي تحدد ذلك، ولا يبقى لأحد طرفي الصلح أي خيار في
مصير الطرف الآخر..
ثالثاً:
لم يرد في أي نص تاريخي: أن ثمة صلحاً بين النبي وبين أحد من أهل مكة،
فالقول بحصول شيء من ذلك ما هو إلا تخرص ورجم بالغيب.
رابعاً:
إن اعتبارهم طلقاء في قوله «صلى الله عليه وآله»: اذهبوا فأنتم
الطلقاء، يدل على أنه قد أسرهم، ثم أطلق سراحهم، فإن الطليق هو الأسير
إذا أُطلق ولم يُسترق([34]).
خامساً:
إن مما يشير إلى ذلك أيضاً: ما رواه الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى
بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثمالي قال: قلت
لعلي بن الحسين «صلوات الله عليهما»: إن علياً «عليه السلام» سار في
أهل القبلة بخلاف سيرة رسول الله «صلى الله عليه وآله» في أهل الشرك.
قال:
فغضب ثم جلس، ثم قال: سار والله فيهم بسيرة رسول الله «صلى الله عليه
وآله» يوم الفتح، إن علياً «عليه السلام» كتب إلى مالك وهو على مقدمته
يوم البصرة بأن لا يطعن في غير مقبل، ولا يقتل مدبراً، ولا يجهز على
جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن([35]).
وعلي «عليه السلام» إنما انتهى إلى هذه النتيجة بعد أن
انتصر عليهم في ساحات القتال والنزال، وأصبحوا في يده، وكذلك الحال
بالنسبة لرسول الله «صلى الله عليه وآله»..
1 ـ بالنسبة للاستدلالات المذكورة
آنفاً نقول:
قد استدل القائلون بفتح مكة صلحاً:
بأن ما جرى في مر الظهران يعتبر صلحاً.
ونقول:
أولاً:
قد ذكرنا فيما تقدم: أن أبا سفيان قد اعتقل من قبل
أولئك الذين أرسلهم النبي «صلى الله عليه وآله»، وحدد لهم مكانه بدقة..
ولم يذكر التاريخ ولو كلمة واحدة عن أية مفاوضات جرت بين أبي سفيان
وبين رسول الله «صلى الله عليه وآله» حول دخول مكة عنوة أو صلحاً، أو
عدم دخولها.
ثانياً:
إن أبا سفيان بعد أن أعلن إسلامه، لم يكن يصح أن يعتبر
نفسه مسلماً، ثم أن يعتقد بأن له الحق في أن يصالح رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، أو أن يفاوضه في شأن مكة، أو في شأن غيرها..
ثالثاً:
إن إهدار دم جماعة ممن ارتكبوا جرائم في حق الدين
وأهله، ما هو إلا قرار نبوي خالص، وقد كانت هند بنت عتبة زوجة أبي
سفيان في جملة الذين أهدر النبي «صلى الله عليه وآله» دمهم. ولم يكن
أبو سفيان ليرضى بقتل زوجته، أو بقتل عكرمة بن أبي جهل، أو صفوان بن
أمية وغيرهم، بل هو ينقض ألف صلح وعقد وعهد من أجل حفظهم، فكيف يعقد
صلحاً تكون نتيجته قتل كثير من أصفيائه وأحبته؟!
2 ـ بالنسبة للتأويلات التي ذكروها نقول:
ألف:
ادَّعى القائل بفتح مكة صلحاً: بأن الأمان الذي أعطاه
«صلى الله عليه وآله» لمن دخل المسجد، أو دار أبي سفيان، أو أغلق بابه،
أو ألقى سلاحه، أو لجأ إلى راية أبي رويحة.. قد أعطي لهم زيادة في
الإحتياط.
وهو كلام غير دقيق.
فأولاً:
إن معنى هذا الأمان هو أن من لم يفعل ذلك، فلا أمان له،
وسيكون التعامل معه على أنه محارب، يجوز قتله وأسره، ويحل ماله.
ثانياً:
لو كان الأمان قد أعطي زيادة في الإحتياط، لكان من
الضروري أن ينادى بالأمان العام أولاً، ثم يخصص ذلك ويقول: وخصوصاً من
دخل المسجد، أو ألقى سلاحه، أو أو الخ.. مع أن ذلك لم يحصل، إذ لم يناد
أحد بشيء من ذلك.
ب:
وزعموا: أن ما نسب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» من
أنه قال للأنصار: احصدوهم حصداً، محمول على من أظهر من الكفار القتال،
ولم يقع قتال.. ولذلك قتل خالد من قاتله من الكفار.
ونقول:
إننا وإن كنا قد ناقشنا النص المذكور بما دل على عدم
صحته، غير أننا نزيد هنا:
أولاً:
إن هذا الحمل تبرعي، ليس في النص المذكور أية إشارة
إليه.
ثانياً:
إن النصوص تشير إلى أن من قتلهم خالد لم يكونوا قد
أظهروا القتال حسبما تقدم.
ثالثاً:
لقد كان الأولى بهؤلاء أن يقفوا عند عبارة «احصدوهم
حصداً»، ليؤكدوا كذبها من حيث إنها لا تتناسب مع النهج النبوي، والسلوك
الإيماني.. وقد عرفنا أن النبي «صلى الله عليه وآله» كانت تذهب نفسه
حسرات على قومه، وكان يدعو لهم بالهداية، حتى وهم يقاتلونه.
ولم يكن يريد سحقهم واستئصالهم، بل كان كل همه «صلى
الله عليه وآله» منصرفاً إلى كسر شوكتهم، وإسقاط مقاومتهم، ثم العمل
على إقناعهم بالإسلام، ثم إيصال الإسلام إلى كل من لهم به صلة نسب، أو
مصلحة، أو صداقة، أو غيرها..
ج:
وذكروا: أن سعي علي «عليه السلام» لقتل الرجلين اللذين
اجارتهما أم هاني، لعله لأجل أنه تأول بهما شيئاً، أو جرى منهما قتال.
وتأمين أم هاني لهم من تأكيد الأمان الذي جرى للعموم..
ونقول:
سيأتي الحديث عن هذه القضية عن قريب، ونكتفي هنا بما
يلي:
أولاً:
صرح الحلبي: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان قد
أهدر دم هذين الرجلين اللذين أجارتهما، وهما: الحارث بن هشام، وزهير بن
أبي أمية([36]).
فلم يكن علي «عليه السلام» متأولاً في أمرهما شيئاً خلاف ما نص عليه
رسول الله «صلى الله عليه وآله».
ثانياً:
ما زعمه: من أن تأمين أم هاني لهما قد جاء تأكيداً
للأمان العام، لا يصح، إذ لماذا لا تحتج أم هاني على علي «عليه السلام»
بذلك الأمان العام لتحرجه به، بلا حاجة إلى أن تشتكيه إلى النبي «صلى
الله عليه وآله»؟!
يضاف إلى ذلك:
أنه لا يوجد أي نص يشير إلى وجود ذلك الأمان العام
المزعوم، بل قد تقدم أن تحديد النبي «صلى الله عليه وآله» المسجد، ودار
أبي سفيان و.. و.. لتكون مواضع الأمان، ينفي وجود أمان عام.
قالوا:
«واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر، دخلوا في أسفل مكة، وأخطأوا الطريق،
فقتلوا»([37]).
ونقول:
إنه يبدو لنا:
أن هذه النصوص، وأمثالها تشتمل على نوع من التضليل، وذلك:
أولاً:
لأن الذي دخل من أسفل مكة هو خالد بن الوليد([38])،
وخالد هو الذي قاتل أهل مكة حين دخل، وقتل منهم العشرات، فإذا كان
هؤلاء الثلاثة قد قتلوا في أسفل مكة، فهذا يعني: أنهم قتلوا مع خالد
بالذات، حين دافعه أهل مكة عن أنفسهم، إذ لا يعقل أن يقتل منهم ما يقرب
من ثلاثين قتيلاً، ويلاحقهم خالد ومن معه إلى المسجد، وإلى الجبال، بل
لقد هرب بعضهم إلى جهة اليمن كما تقدم، ثم لا تكون منهم أية مقاومة،
ولا يُقتل ولا يُجرح أحد ممن كان مع خالد.
والذي نراه هو:
أن ثمة تزويراً رخيصاً يهدف إلى إيقاع الناس في الغلط والاشتباه، فإن
محبي خالد بعد أن ظهر لهم أن خالداً قد خالف أمر رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، وقتل من قتل من الناس بغير رضا ولا رخصة منه «صلى الله
عليه وآله»، بل مع وجود منعه ونهيه.. خافوا أن يجعل قتل هؤلاء الثلاثة
على عهدة خالد، وبتسبيب منه.. فأبعدوهم عنه.
ثم رووا:
أنه دخل من أعلى مكة، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» دخل من أسفلها
حسبما تقدم، لكي تتعارض الروايات، ويأتي أهل الخير ليجمعوا بينها، بما
يبعد الشبهة عن خالد، أو يوجب الشبهة في حقيقة ما ارتكبه، أو ما كان
سبباً فيه.
ثانياً:
إننا لا نرى مبرراً لضلال هؤلاء الثلاثة لطريقهم، ولا لقتلهم بسبب ذلك،
فإنه إن كان خالد قد دخل من أسفل مكة فقد كانوا معه، ولا مجال لأن
يضلوا الطريق عنه دون سواهم، وهم في ضمن جيش يعد بالمئات والألوف، وإن
كان النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي دخل من أسفلها فقد كانوا معه،
وفي حمايته، فلماذا يقتلون؟! وكيف؟!
عن عبيد بن عمير قال:
قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» في يوم فتح مكة: لم تحل لنا غنائم
مكة([39]).
وعن يعقوب بن عتبة قال:
لم يغنم رسول الله «صلى الله عليه وآله» من مكة شيئاً، وكان يبعث
السرايا خارجة من الحرم، وعرفة، والحل، فيغنمون ويرجعون إليه([40]).
ونقول:
قد يقال:
إن هذا يدل على أن مكة قد فتحت صلحاً، إذ لو فتحت عنوة لحلت غنائمها..
ونجيب:
أولاً:
إن مكة قد فتحت عنوة، لكن العنوة لا تعني لزوم وقوع
قتال وقتلى، بل الفتح عنوة هو ما يكون بالقهر والقوة، وبالرغم والهيمنة
السلطوية. وذلك حاصل في فتح مكة.. لكن النبي «صلى الله عليه وآله» ـ
حفظاً منه لحرمة بيت الله وحرمه ـ منع المقاتلين من مباشرة أي عمل
قتالي إلا بإذنه، وقتل الناس الذي صدر من خالد كان معصية لأوامر
الرسول«صلى الله عليه وآله» في هذا المجال.
على أن نفس أن يهدر النبي «صلى الله عليه وآله» دم
حوالي عشرين شخصاً، وقد قتل بالفعل عدد منهم.. يدل على أنه كان يتصرف
من موقع الفاتح المنتصر، لا من موقع المصالح، الذي يفرض شروطه على
الطرف الآخر.. إذ لم يكن المشركون ليرضوا بقتل عدد من كبار زعمائهم
وأصحاب القرار فيهم، ولا يمكن أن يسجلوا ذلك في بنود صلح مع من يطالب
بقتلهم.
ثانياً:
إنه لا مانع من أن يكون لمكة خصوصية في أحكام الجهاد والفتح، فتكون
غنائمها حراماً حتى لو فتحت عنوة. وقد تبينت خصوصية مكة في كثير من
الأحكام.
عن مطيع بن الأسود قال:
سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول يوم فتح مكة: «لا يُقتل
قريشي صبراً بعد اليوم إلى يوم القيامة»([41]).
وعن أبي حصين الهذلي قال:
لما قُتل النفر الذين أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بقتلهم سمع
النوح عليهم بمكة، وجاء أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، فقال: فداك أبي وأمي، البقية في قومك.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
«لا يُقتل قريشي صبراً بعد اليوم».
قال محمد بن عمر:
يعني على الكفر([42]).
عن الحارث بن مالك،
(ويقال له: ابن البرصاء)،
قال:
سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: «لا تغزى قريش بعد هذا
اليوم إلى يوم القيامة على الكفر»([43]).
وعن الحارث أيضاً، قال:
سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول يوم فتح مكة:
«لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة..».
قال العلماء:
معنى قوله: «لا تغزى» يعني على الكفر([44]).
ونقول:
إننا لا نستطيع أن نأخذ بظاهر هذا الكلام، بل لا بد من
تأويله إن أمكن، أو الحكم عليه بالسقوط والبطلان، واعتباره مجعولاً
لأهداف رخيصة، تتناقض مع التشريع الإلهي ومع التوجيه الرباني..
وقد يقال:
إن المقصود الإخبار عن أن الشرك والكفر لن يدخل مكة، ولن يسيطر عليها،
بحيث يحتاج إخراجه منها إلى غزوها، وليس المقصود إنشاء تحريم غزوها حتى
مع عودتها للكفر، فإن ذلك يعني: القبول بسيطرة الكفر عليها، وهو أمر
مرفوض جملة وتفصيلاً.
ولو فرض لزوم الرضى به، فليس من المصلحة الجهر بمثل هذا
الأمر، ولا سيما بالنسبة لأهل مكة الذين كان معظمهم لا يزال على الشرك
والكفر، أو أنه أعلن الإسلام نفاقاً، بعد أن غُلِبَ أهل مكة على أمرهم
بدخول رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة على تلك الحال القوية، التي
لا قدرة لهم على مواجهتها.
ولا بد من أن يكون هذا المعنى هو المراد أيضاً بقوله
«صلى الله عليه وآله» ـ فيما رووه عنه ـ: «لا يُقتل قرشي صبراً بعد
اليوم» يعني: على الكفر.
ويزيد الأمر وضوحاً إذا علمنا:
أنه لو أريد الأخذ بالإحتمال الآخر، وهو: أن تكون قريش في منأى عن
القتل صبراً، فإننا نصبح أمام محذورين مهمين:
أحدهما:
أن إعلاناً من هذا القبيل يدخل في سياق تغذية روح العنصرية، التي رفضها
الإسلام جملة وتفصيلاً، إنسجاماً منه مع حكم العقل، وقضاء الفطرة، ومع
ما قررته الآيات الكريمة التي تقول:
{إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}([45]).
مع ملاحظة:
أن القرشية أو غيرها من مثيلاتها من الخصوصيات مثل العرق واللون، ليست
من الأمور الإختيارية التي يمكن اعتبارها حيثية يصح إناطة التشريعات
المرتبطة بالأعمال بها..
الثاني:
إنه لا شك في أن المرتد عن فطرة محكوم بالقتل من الناحية الشرعية، سواء
كان قرشياً أو غير قرشي. وهو إنما يقتل صبراُ، ولم يقل أحد: أن هذه
الكلمة قد ألغت هذا الحكم، مع أنه من موارد القتل على الكفر لمن هو من
قريش أيضاً.
عن عبد الله بن مغفل قال:
رأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم فتح مكة على ناقته، وهو يقرأ
سورة الفتح، يرجِّع صوته بالقراءة.
قال معاوية بن قرة:
لولا أن يجتمع الناس حولي لرجَّعت كما رجَّع عبد الله بن مغفل، يحكي
قراءة النبي «صلى الله عليه وآله».
قال شعبة:
فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟
قال:
ثلاث مرات([46]).
وعن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم الفتح: «هذا ما وعدني ربي» ثم
قرأ:
{إِذَا
جَاء نَصْرُ اللهِِ وَالْفَتْحُ}([47])»([48]).
قالوا:
ونزل يوم فتح مكة:
{وَقُلْ
جَاء الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}([49]).
فارتجت مكة من قول أصحاب رسول الله «صلى الله عليه
وآله»: «جَاء الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقاً»([50]).
ونقول:
1 ـ
قد تحدثنا عن بعض ما يرتبط بقراءته «صلى الله عليه
وآله» سورة الفتح عن قريب، فلا ضرورة للإعادة، فنحن نكتفي بما ذكرناه
هناك..
2 ـ
بالنسبة إلى ما ادَّعوه في ترجيعه «صلى الله عليه وآله»
في قراءة السورة المذكورة نقول:
إنه لا شك في أنه ترجيع لا يصل إلى حد ما نراه من ترجيع
غنائي يقوم به القراء في زماننا، وقد وصف ابن قتيبة لنا قراءة بعض قراء
زمانه، وإذ بها تشبه ما نراه في هذا الزمان.
فقد قال في معرض حديثه عن حمزة بن حبيب الزيات، وهو أحد
القراء السبعة:
«..هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب، وأهل الحجاز
لإفراطه في المد، والهمز والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام. وحمله
المتعلمين على المركب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسر الله.
وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقهم،وليس ذلك إلا لما
يرونه من مشقتها، وصعوبتها..
إلى أن قال:
ورأوه عند قراءته مائل الشدقين، دارَّ الوريدين، راشح الجبينين،
توهموا: أن ذلك لفضيلة في القراءة، وحذق فيها.
وليس هكذا كانت قراءة رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
ولا خيار السلف، ولا التابعين، ولا القراء العالمين، بل كانت قراءتهم
سهلة رسلة»([51]).
وقد تحدثنا في موضع آخر عن موضوع التغني بالقرآن، وأن
ذلك ليس فقط لم يثبت عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بل النصوص
تثبت خلافه..
3 ـ
إن الآيات القرآنية التي نزلت، والتي رددها المسلمون
حتى ارتجت مكة، تبين: أن المعيار عند صاحب هذا الفتح هو انتصار الحق
على الباطل، وليس المهم فتح البلاد، وامتلاك أزِمَّة الأمر والنهي في
العباد، ولا أي شيء آخر من أمور الدنيا.. إلا إذا كان يقوي هذا الحق
ويحميه، ويزهق الباطل ويضعفه، ويبطل أي حركة فيه..
([1])
سبل الهدى والرشاد ج3 ص228 عن ابن إسحاق، والواقدي، والسيرة
الحلبية ج3 ص83، وراجع: المغازي للواقدي ج2 ص825 وتاريخ الخميس
ج2 ص83.
([2])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص228 عن ابن إسحاق، والمغازي للواقدي ج2
ص826.
([3])
سبل الهدى والرشاد ج3 ص228 والمغازي للواقدي ج2 ص826.
([4])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص228 عن ابن هشام والسيرة الحلبية ج3
ص85.
([5])
سبل الهدى والرشاد ج3 ص228 والمغازي للواقدي ج2 ص826.
([6])
سبل الهدى والرشاد ج3 ص228 و 229 والسيرة الحلبية ج3 ص83
والمغازي للواقدي ج2 ص827 و 828 وتاريخ الخميس ج2 ص83.
([7])
سبل الهدى والرشاد ج3 ص229.
([8])
تاريخ الخميس ج2 ص83 عن الإكتفاء.
([10])
الفضض من الشيء: ما تفرق منه.
([11])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص228 و 229 والسيرة الحلبية ج3 ص83
والمغازي للواقدي ج2 ص826 و 828 وتاريخ الخميس ج2 ص83.
([12])
تاريخ الخميس ج2 ص83.
([13])
تاريخ الخميس ج2 ص83.
([14])
بشَّت: جمعت جموعاً من قبائل شتى.
([15])
السيرة الحلبية ج3 ص83 وتاريخ الخميس ج2 ص84 عن المواهب
اللدنية، والمنتقى عن أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة.
([16])
السيرة الحلبية ج3 ص84 وتاريخ الخميس ج2 ص84 عن المواهب
اللدنية والمنتقى عن أحمد، ومسلم، والنسائي عن أبي هريرة.
([17])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص229 و 230 عن أحمد، ومسلم، والبيهقي،
وغيرهم، والسيرة الحلبية ج3 ص83 و 84 وتاريخ الخميس ج2 ص84 عن
المواهب اللدنية، والمنتقى عن أحمد، ومسلم، والنسائي عن أبي
هريرة.
([18])
السيرة الحلبية ج3 ص84 والمغازي للواقدي ج2 ص839 وراجع: تاريخ
الخميس ج2 ص83. وسبل الهدى والرشاد ج5 ص233 و 234 وعن موارد
الظمآن للهيثمي (1699) ومجمع الزوائد ج6 ص177 وعن المصنف لابن
أبي شيبة ج4 ص487.
([19])
المغازي للواقدي ج2 ص839.
([20])
تاريخ الخميس ج2 ص82 و 83.
([21])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص229 والمعجم الكبير ج11 ص48.
([22])
تاريخ الخميس ج2 ص84 عن شفاء الغرام، والمعجم الكبير ج11 ص48
ومجمع الزوائد ج3 ص284 وج7 ص34 وعن الأوسط للطبراني ص154 = =
وعن الدر المنثور للسيوطي ج3 ص271 و 272 وراجع: السيرة الحلبية
ج3 ص83 و 84.
([23])
البحار ج21 ص136 وفي هامشه عن الكافي ج3 ص329.
([24])
الكافي ج 5 ص12 وراجع البحار ج21 ص136 عنه.
([25])
راجع المصادر التالية: الكافي ج1 ص62 الإعتقادات في دين
الإمامية للصدوق ص118 والخصال ص255 وتحف العقول ص193 وشرح أصول
الكافي ج2 ص305 والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص207 و (ط دار
الإسلامية) ج18 ص153 ومستدرك الوسائل ج9 ص91 و 92 و 93 وج17
ص288 و 340 وكتاب سليم بن قيس ص181 وشرح الأخبار ج1 ص228 وج2
ص277 وكتاب الغيبة للنعماني ص81 والمسترشد ص232 والإستنصار
للكراجكي ص11 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص393 وج2 ص246 والعمدة لابن
البطريق ص224 والطرائف لابن طاووس ص454 والصراط المستقيم ج3
ص156 و 258 وعوالي اللآلي ج1 ص186 ووصول الأخيار إلى أصول
الأخبار للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي ص167 وكتاب الأربعين
للشيرازي ص309 والبحار ج2 ص161 و 225 و 229 وج34 ص169 وج36
ص273 وج37 ص223 وج50 ص80 وكتاب الأربعين للماحوزي ص241 والنص
والإجتهاد ص521 وجامع أحاديث الشيعة ج1 ص15 و 142 وج13 ص579
ومستدرك سفينة البحار ج9 ص80 ومكاتيب الرسول ج2 ص76 ومسند أحمد
ج4 ص252 وج5 ص412 وصحيح مسلم ج1 ص8 وسنن الترمذي ج4 ص268
والسنن الكبرى للبيهقي ج4 ص72 وشرح مسلم للنووي ج1 ص65 ومجمع
الزوائد ج1 ص148 والمصنف للصنعاني ج6 ص109 والمصنـف لابن أبي
شيبـة ج6 ص204 و 205 والآحـاد والمثـاني للضحاك ج5 ص344 و 352
والسنن الكبرى للنسائي ج2 ص444 والمعجم الكبير للطبراني ج3 ص18
والجامع الصغير ج1 ص26 و 357 وكنز العمال ج3 ص625 وج5 ص126
وج10 ص222 و 231 وتذكرة الموضوعات للفتني ص6 وفيض القدير ج1
ص171 وج2 ص604 وتفسير القرطبي ج1= = ص32 وتفسير الثعالبي ج1
ص139 والأحكام لابن حزم ج2 ص197 وطبقات المحدثين بأصبهان ج3
ص234 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص222 وج64 ص37 والموضوعات لابن
الجوزي ج1 ص81 و 87 و 88 ذكر أخبار إصبهان ج2 ص6 وأعيان الشيعة
ج1 ص114 وج8 ص128 وكشف الغمة ج1 ص344.
([26])
الآيتان 3 و 4 من سور النجم.
([29])
الآية 34 من سورة الأنفال.
([30])
الآية 6 من سورة المجادلة.
([31])
الآيتان 7 و 8 من سورة الزلزلة.
([32])
السيرة الحلبية ج3 ص81.
([33])
راجع: السيرة الحلبية ج3 ص84.
([34])
تاريخ الخميس ج2 ص85.
([35])
الكافي ج5 ص33 والبحار ج21 ص139 عنه.
([36])
السيرة الحلبية ج3 ص81 وراجع ص93.
([37])
البحار ج21 ص133 عن إعلام الورى، والأنوار العلوية للنقدي ص202
وإعلام الورى ج1 ص226 و 227.
([38])
راجع: المصنف لابن أبي شيبة ج8 ص533 وشرح معاني الآثار ج3
ص315 وكنز العمال ج10 ص527 والبداية والنهاية ج4 ص332 و 238
والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص550 و 560 وراجع: شرح النهج
للمعتزلي ج17 ص274 والطبقات الكبرى ج7 ص395 والثقات ج2 ص49
ومعجم البلدان ج5 ص28 وعن تاريخ الأمم والملوك ج2 ص334 وعن
السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص865 وعيون الأثر ج2 ص191 وسبل
الهدى والرشاد ج5 ص227 ومعجم ما استعجم ج1 ص129.
([39])
سبل الهدى والرشاد ج5ص260 عن الواقدي ومسند أحمد ج6 ص466.
([40])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص260 عن الواقدي، والتنبيه والإشراف ص233
وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج16 ص77 و 232.
([41])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص257 عن مسلم، وقال في هامشه: أخرجه مسلم
في الجهاد باب 33 حديث (88)، والدارمي 2/198 والحميدي (568).
والطبراني في الكبير 7/88 وأحمد 3/412، والطحاوي في المعاني
326 والبيهقي في الدلائل 5/79 وابن أبي شيبة 12/173، 14/90
انتهى.
وراجع: مسند أحمد ج4 ص313 والأدب المفرد ص178 والفايق في غريب
الحديث ج3 ص436 والثقات ج2 ص53 وتهذيب التهذيب ج6 ص302
والبداية والنهاية ج4 ص351 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص581
والنهاية في غريب الحديث ج3 ص365 ولسان العرب ج15 ص124 ومسند
الحميدي ج1 ص258.
([42])
المغازي للواقدي ج2 ص862 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص257 عن
الواقدي.
([43])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص257 عن الواقدي، وفي هامشه عن: المغازي
للواقدي 2/862 وابن سعد 2/1/99، والطبراني في الكبير 3/292
وابن أبي شيبة 14/490 والبيهقي في الدلائل 5/75 انتهى.
وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص103 والطبقات الكبرى ج2 ص137 وأسد
الغابة ج1 ص346 وغريب الحديث ج3 ص190 والنهاية في غريب الحديث
ج3 ص365 ولسان العرب ج15 ص124.
([44])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص260 عن أحمد، والترمذي، وصححه، والمغازي
للواقدي ج2 ص862.
([45])
الآية 13 من سورة الحجرات.
([46])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص230 عن البخاري في التفسير، وفضائل
القرآن، والتوحيد، والمغازي، وعن مسلم في الصلاة، والنسائي،
والحاكم، والسيرة الحلبية ج3 ص97.
([47])
الآية 1 من سورة النصر.
([48])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص230 عن الطبراني.
([49])
الآية 81 من سورة الإسراء.
([50])
البحار ج21 ص114 عن تفسير القمي.
([51])
تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص58 ـ 63.
|