ما جرى لأبي
قحافة
عن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت:
لما كان عام الفتح، ونزل رسول الله «صلى الله عليه وآله» بذي طوى، قال
أبو قحافة لابنة له ـ قال البلاذري: اسمها أسماء، وقال محمد بن عمر
تسمى: قريبة ـ كانت من أصغر ولده: يا بنية، أشرفي بي على أبي قبيس ـ
وقد كف بصره ـ فأشرفت به عليه.
فقال:
أي بنية!! ماذا ترين؟
قالت:
أرى سواداً مجتمعاً كثيراً، وأرى رجلاً يشتد بين ذلك السواد مقبلاً
ومدبراً.
فقال:
ذلك الرجل الوازع([1])،
ثم قال: ماذا ترين؟
قالت:
أرى السواد قد انتشر وتفرق.
فقال:
والله إذن انتشرت الخيل، فاسرعي بي إلى بيتي.
فخرجت سريعاً حتى إذا هبطت به الأبطح لقيتها الخيل، وفي
عنقها طوق لها من ورق، فاقتلعه إنسان من عنقها.
فلما دخل رسول الله «صلى الله عليه وآله» المسجد، خرج
أبو بكر بأبيه يقوده، وكان رأس أبي قحافة ثغامة([2])،
فلما رآه رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال: «هلا تركت الشيخ في بيته
حتى أكون أنا آتيه فيه»؟
فقال أبو بكر:
يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه.
فأجلسه بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فمسح
رسول الله «صلى الله عليه وآله» صدره، وقال: أسلم تسلم، فأسلم.
ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته،
فقال:
أنشدكم بالله والإسلام طوق أختي، فوالله ما جاء به أحد. ثم قال الثالثة
فما جاء به أحد.
فقال:
يا أخية، احتسبي طوقك، فوالله إن
الأمانة في الناس اليوم لقليل([3]).
وقال البلاذري:
ورمى بعض المسلمين أبا قحافة فشجه، وأُخِذَتْ قلادة
أسماء ابنته، فأدركه أبو بكر وهو يستدمي، فمسح الدم عن وجهه
([4]).
وروى البيهقي بسند جيد قوي، عن ابن
وهب قال:
أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر: أن عمر بن الخطاب أخذ بيد
أبي قحافة، فأتى به رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلما وقف به على
رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال: غيروه، ولا تقربوه سواداً([5]).
وروى مسلم عن جابر نحوه، لكنه لم يذكر من الذي جاء بأبي
قحافة([6]).
قال ابن وهب:
وأخبرني عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم: أن رسول الله
«صلى الله عليه وآله» هنأ أبا بكر بإسلام أبيه([7]).
وعن أنس قال:
كأني أنظر إلى لحية أبي قحافة كأنه ضرام عرفج([8])
من شدة حمرته، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «لو أقررت الشيخ
في بيته لأتيناه» ـ تكرمة لأبي بكر ـ([9]).
وعن أنس أيضاً قال:
جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله «صلى الله
عليه وآله» يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يديه، فقال لأبي بكر: «لو
أقررت الشيخ في بيته لأتيناه» ـ تكرمة لأبي بكر ـ.
فأسلم ورأسه ولحيته كالثغامة، فقال:
غيروهما.
قال قتادة:
هو أول مخضوب في الإسلام([10]).
والثغامة:
نبت أبيض الثمر والزهر، يشبه بياض الشيب.
وفي نص آخر:
غيروا السواد، ولا تتشبهوا باليهود والنصارى.
وفي رواية:
اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم([11]).
وعند ذلك قال أبو بكر للنبي «صلى
الله عليه وآله»:
والذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب أقر لعيني من إسلامه،
وذلك أن إسلام أبي قحافة كان أقر لعينك
([12]).
عن محمد بن عمر بن سالم، بن الجعابي، عن أبي شعيب عبد
الله بن الحسن الحراني، عن جده أحمد بن أبي شعيب، عن محمد بن سلمة، عن
هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنس: أنه «صلى الله عليه وآله» قال
لأبي بكر: لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه.
وروى الحاكم أيضاً:
عن القاسم بن محمد، عن أبيه، عن أبي بكر: أنه «صلى الله
عليه وآله» قال له: هلا تركت الشيخ حتى آتيه.
فقلت:
بل هو أحق أن يأتيك.
فقال:
إنا لنحفظه لأيادي ابنه عندنا([13]).
ونقول:
إن لنا مع ما تقدم وقفات هي:
إننا نبدأ بالحديثين الأخيرين، حيث نلاحظ ما يلي:
أولاً:
قال الذهبي معقباً على رواية أبي بكر: «القاسم لم يدرك
أباه، ولا أبوه أبا بكر»([14]).
وهذا صحيح، فإن محمداً ولد عام حجة الوداع سنة عشر من
الهجرة، وتوفي أبوه في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة.
كما أن محمد بن أبي بكر توفي سنة 38 هـ، وتوفي ولده
القاسم سنة 108 هـ أو 109 هـ([15])
وهو ابن سبعين سنة، أو اثنتين وسبعين، فيكون قد ولد سنة وفاة أبيه، أو
نحوها.
وقال ابن سعد:
إن القاسم قد توفي سنة 112 هـ وعمره سبعون سنة، فيكون
عمره حين وفاة والده حوالي أربع سنين([16]).
ثانياً:
إن الجعابي لا يمكن أن يروي عن أبي شعيب، لأن الجعابي
ولد سنة 285 هـ وتوفي أبو شعيب سنة 292 هـ.
والغريب في الأمر هنا:
سكوت الذهبي عن هذا الحديث، بل هو قد وافق الحاكم على
تصحيحه، لكن الحاكم قال: إنه صحيح على شرط الشيخين.
أما الذهبي فصححه على شرط البخاري([17]).
ثالثاً:
بالنسبة لأيادي أبي بكر عند رسول الله «صلى الله عليه
وآله» نقول:
قد تقدم بعض الحديث عن ذلك، حين الكلام حول هجرة رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، وعن شرائه الراحلتين من أبي بكر بالثمن،
فراجع فصل: هجرة النبي «صلى الله عليه وآله».
رابعاً:
إن من المعيب جداً أن يزعم هؤلاء: أن آية:
{وَمَا
لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى}([18])
قد نزلت في أبي بكر([19]).
ثم يقولون: إنه قد كانت لأبي بكر أيادٍ عند رسول الله «صلى الله عليه
وآله» لم يستطع أن يجازيه عليها.
وأما ما ذكرته الرواية:
من أن أبا بكر طلب من الناس أن يرجعوا لأخته طوقها..
وأنه ناشدهم الله ثلاثاً، فلم يجبه أحد، ثم قال: إن الأمانة في الناس
اليوم قليل.. ففيه أكثر من مورد يحتاج إلى بحث.
فأولاً:
إن أموال المشركين ليست من قبيل الأمانات عند المسلمين،
بحيث يجب عليهم ردُّها لأصحابها، بل هي غنائم إن أُخذت من محارب منهم.
وإن أُخذت من قبل أن يعلموا بمقتضى الأمان الذي أعطاهم النبي «صلى الله
عليه وآله» إياه، أي قبل دخولهم في البيوت وإغلاق الأبواب، وقيل: دخول
المسجد، أو دار أبي سفيان، أو اللجوء إلى راية أبي رويحة.
وأقصى ما يمكن أن يقال:
هو أن أمرها في كيفية تقسيمها، وفي إرجاعها إلى
أصحابها، إن اقتضت المصلحة ذلك، أو تسويغها لآخذيها.. يرجع إلى رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، ولا يحق لأبي بكر ولا لغيره أن يطالب من
أخذها بها..
ثانياً:
هل يمكن أن يرضى القائلون بعدالة الصحابة باتهام أبي
بكر لأحد أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالخيانة، أو بقلة
الأمانة؟!
ثالثاً:
من أين حصل أبو قحافة على الوَرِق
(أي الفضة)، ليصنع منه طوقاً لابنته، وهو رجل فقير لا مال له؟! ومن أين
يكون له المال، وهو إنما كان صياداً ثم صار ينش الذباب عن مائدة ابن
جدعان بشبع بطنه، وستر عورته([20]).
ولم نسمع أن حاله قد تغير إلى الأفضل، وبماذا وكيف؟!
وحتى لو كان يملك أموالاً، فهل يمكن أن يُلبس ابنته
الصغيرة طوق فضة، ثم يتركها تتجول في أزقة مكة، ولا يسلبها سالب من كل
أولئك الناس المعدمين الذين كانت مكة تعج بهم؟! مع العلم بأنه لم يكن
لأبي قحافة قبيلة تمنعه، ولم يكن قادراً على ملاحقة المعتدي بسبب عماه.
رابعاً:
إنه لم يثبت وجود بنت صغيرة لأبي قحافة في فتح مكة، بل
لا يُعرف لأبي قحافة بنت إلا أم فروة، التي كانت تحت تميم الداري، ثم
أنكحها أبو بكر الأشعث بن قيس.
وقد زعم الحلبي الشافعي:
أن أم فروة هي صاحبة الطوق المأخوذ في فتح مكة([21])،
ثم احتمل أن يكون المقصود: بنتاً أخرى اسمها عريبة، زعموا أنها كانت
لأبي قحافة([22]).
وقال بعضهم:
لم يكن أحد من الصحابة، المهاجرين والأنصار، أسلم هو
ووالده، وجميع أبنائه وبناته غير أبي بكر([23]).
وقال بعضهم:
«لا يعرف في الصحابة أربعة أسلموا، وصحبوا النبي «صلى
الله عليه وآله»، وكل واحد أبو الذي بعده إلا في بيت أبي بكر: أبو
قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن، وابن عبد الرحمن محمد،
ويكنَّى بأبي عتيق»([24]).
وفي نص آخر:
أربعة رأوا النبي «صلى الله عليه وآله»، كلهم ابن الذ
ي قبله، وهم من الذكور الذين أسلموا([25]).
ونقول:
إن هذا الكلام غير دقيق، فهناك:
«حارثة أبو زيد، فإنه أسلم ـ كما ذكره الحافظ المنذري ـ
ورأى النبي «صلى الله عليه وآله»، وابنه زيد، وابنه أسامة، وجاء أسامة
بولد في حياته «صلى الله عليه وآله» (أي يحتاج إلى إثبات كونه «صلى
الله عليه وآله» رأى ذلك المولود).
إلا أن يقال:
كان من شأنهم إذا ولد لأحدهم مولود جاء به إلى النبي
«صلى الله عليه وآله»، فيحنكه، ويسميه»([26]).
وكذلك الحال بالنسبة لأياس بن عمرو، بن سلمة، بن لال.
وزعم الحلبي:
أنه لا اتفاق على صحبة هؤلاء([27]).
فراجع.
عن عائشة قالت:
ما أسلم أبو أحد من المهاجرين إلا أبو أبي بكر([28]).
وعن علي «عليه السلام»:
أنه قال في أبي بكر: أسلم أبواه جميعاً، ولم يجتمع لأحد من الصحابة
المهاجرين أن أسلم أبواه غيره([29]).
ونقول:
أولاً:
قال مسدد: لم يكن في المهاجرين مَن أبواه مسلمان غير عمار بن ياسر([30]).
ثانياً:
ذكر التاريخ لنا عشرات من المهاجرين أسلم آباؤهم أيضاً.. ويكفي أن
نذكر:
1 ـ
عمار بن ياسر، فإنه أسلم هو وأبوه ياسر، وأمه سمية..
2 ـ
عبد الله بن عمرو وأمه زينب بنت مظعون، أسلم هو وأبواه.
3 ـ
علي «عليه السلام»، فإنه كان مسلماً هو وأبوه أبو طالب،
وأمه فاطمة بنت أسد.
4 ـ
عبد الله بن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر..
5 ـ
سلمة بن أبي سلمة بن عبد الأسد، وأمه أم سلمة..
إلى عشرات آخرين، ذكرهم العلامة الأميني في كتاب
الغدير، فيمكن الرجوع إليه.
روي عن علي «عليه السلام» وعن ابن عباس «رحمه الله» أن
قوله تعالى:
{وَوَصَّيْنَا
الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً
وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً
حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
المُسْلِمِينَ}([31]).
قد نزل في أبي بكر.
فقد كان حمله وفصاله ثلاثين شهراً، حملته أمه تسعة
أشهر، وأرضعته واحداً وعشرين شهراً، أسلم أبواه جميعاً، ولم يجتمع لأحد
من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله تعالى بهما، ولزم ذلك من
بعده.
فلما نُبئ رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو ابن
أربعين سنة، صدَّق أبو بكر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهو ابن
ثمان وثلاثين سنة، فلما بلغ أربعين سنة قال: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ»
واستجاب الله له، فأسلم ووالداه وأولاده كلهم([32]).
ونقول:
إن للعلامة الأميني ملاحظات على هذا الحديث المزعوم
نشير إليها وإلى غيرها في ضمن النقاط التالية:
أولاً:
إن كون أم أبي بكر أرضعته واحداً وعشرين شهراً، وحملت به تسعة أشهر..
لا يختص بأبي بكر، فإن سائر الناس تحمل أمهاتهم بهم تسعة أشهر، ولعل
كثيرات منهن يرضعن أبناءهن واحداً وعشرين شهراً، فلا خصوصية تستحق
التنويه بهذا الأمر، ولذلك نقول:
إن الأقرب في معنى الآية هو:
الإخبار عن أمر له آثار تشريعية، ومن حيث هو خصوصيته في التكوين، وهو
ما أشار إليه أمير المؤمنين
«عليه السلام»: من أن ضم هذه الآية إلى قوله تعالى:
{وَفِصَالُهُ
فِي عَامَيْنِ}([33]).
أو
قوله تعالى:
{وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}([34]).
ينتج: أن أقل مدة الحمل ستة أشهر([35]).
ثانياً:
إن أبا بكر أسلم في سنة سبع من البعثة، أي بعد أن تجاوز سن الأربعين
بعدة سنوات، حسبما قدمناه في تاريخ إسلامه.. وأما أبوه فلم يسلم إلا
بعد سنة الفتح.. أي بعد أكثر من عشرين سنة من البعثة النبوية الشريفة.
وحيث كان لأبي بكر
ـ
كما يقال
ـ
ست وخمسون سنة أو أكثر..
وأما أمه فأسلمت بعد البعثة أيضاً
بسنوات، فما معنى قولهم:
إنه حين بلغ أبو بكر أربعين سنة قال: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ»؟!. مع أنه
قد أسلم هو وأبواه بعد هذا السن بسنوات عديدة.!!
وما معنى قولهم:
إن الله تعالى قد استجاب لأبي بكر،
فأسلم والداه، وأولاده كلهم؟!
ثالثاً:
قد تقدم عدم صحة ما صرحت به الرواية: من أنه لم يجتمع
لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غير أبي بكر..
ونضيف إلى ما تقدم أيضاً ما يلي:
1 ـ
ما معنى قولهم:
«فأوصاه
الله بهما،
ولزم
ذلك
من
بعده»؟!
فهل
لم تكن الوصية بالوالدين موجودة
قبل ذلك التاريخ؟!..
2 ـ
قالت عائشة رداً منها على مروان: ما أنزل الله فينا
شيئاً من القرآن غير أنه أنزل
عذري([36]).
فإن قيل:
هي تقصد: أنه لم ينزل الله في ذمهم شيئاً من القرآن..
فالجواب:
إن عذرها الذي استثنته يراد به آيات حديث الإفك، وإنما يقصد بها:
التبرئة والمدح والثناء على من نزلت فيه لا الذم له..
3 ـ
هناك نصوص كثيرة تقول: إن
هذه الآية
قد نزلت في الإمام الحسين
«عليه السلام»،
وقد ولد لستة أشهر([37]).
فراجع.
روي من طريق ابن جريج:
أن أبا قحافة سب النبي «صلى الله عليه وآله»،
فصكه أبو بكر ابنه صكة، فسقط منها على وجهه.
ثم أتى النبي «صلى الله عليه وآله»،
فذكر له ذلك، فقال:
أوفعلته؟! لا تعد له.
فقال:
والذي بعثك بالحق نبياً، لو كان السيف مني قريباً لقتلته، فنزل قوله
تعالى:
{لاَ
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ
أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ
فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ
وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ
أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ}([38]).
ونقول:
أولاً:
روي:
أن هذه الآية
نزلت في الجرَّاح،
الذي
كان يتصدى لابنه أبي عبيدة يوم بدر، فكان أبو عبيدة يحيد عنه، فلما
أكثر قصده أبو عبيدة فقتله([39]).
ثانياً:
قال سفيان عن
هذه الآية:
إنها نزلت في من يخالط السلطان([40]).
ثالثاً:
إن قتل إنسان لا يتوقف على وجود سيف بالقرب منه، فيمكنه أن يقتله بغير
السيف كالخنق، أو ضرب رأسه على صخرة، أو بإلقائه من شاهق. كما أن
بإمكانه استحضار السيف، لو
كان قاصداً لذلك الفعل.
رابعاً:
إن ما صدر من أبي بكر لا يتناسب مع ما ادَّعاه: من أنه لو كان السيف
قريباً منه لقتل أباه، فإن هذا الحرص على إلحاق الأذى لا يتناسب مع
مجرد صكة أوجبت سقوط المصكوك على الأرض.
خامساً:
يقول الله تبارك وتعالى:
{وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}([41]).
فما معنى أن يقدم أبو بكر على مخالفة هذه الأوامر الإلهية الصارمة؟!
سادساً:
إن الآية المذكورة قد نزلت بعد بدر وأُحد. وآية:
{..رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي
فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ}([42])
قد نزلت في أوائل بعثة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أي قبل أكثر من
عشر سنوات([43]).
سابعاً:
إن سورة المجادلة مدنية، ولم يأت أبو قحافة إلى المدينة في كل تلك
السنوات.
ثامناً:
إن ما ذكر في هذه الرواية لا يتناسب مع ما زعموه: من
بره بوالديه
الذي بلغ إلى حد أن الله تعالى أنزل فيه آيات الثناء، وهي آيات
سورة الأحقاف:
{وَصَّيْنَا
الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ..}.
ونكاد نلمس قدراً كبيراً من عدم
الإنسجام بين ما زعمته الروايات:
من أن النبي
«صلى الله عليه وآله» أظهر استعداده للذهاب إلى منزل
أبي قحافة، الذي كان لا يزال على شركه، تكرمة لابنه، ولأيادي ابنه
عنده، وبين قوله لأبي قحافة: «أسلم تسلم»، المتضمن للتهديد بالعقوبة
على ما كان يقترفه من جرائم إذا استمر على شركه..
أي أن هذه الكلمة تعني:
أن الأمان الذي أعلنه النبي «صلى الله عليه وآله» لأهل مكة لا يشمل أبا
قحافة لو أصر على ما هو عليه..
وقد يفهم من هذا:
أن أبا قحافة كان له دور سيئ في مناهضة هذا الدين، وفي الكيد للإسلام
والمسلمين.
ويلاحظ هنا:
وجود العديد من المفارقات في إسلام أبي قحافة.
فرواية تزعم:
أن عمر بن الخطاب هو الذي جاء بأبي قحافة إلى رسول الله
«صلى الله عليه وآله».
وأخرى تقول:
إن أبا بكر هو الذي جاء بأبيه.
وفي حين نجد رواية تقول:
إن أبا بكر لم يعلم بإسلام أبيه حتى بشره به رسول الله
«صلى الله عليه وآله»([44])
هناك روايات أخرى تتحدث:
عن أن أبا بكر هو الذي جاء بإبيه، وأسلم أبوه بحضوره.
ورواية تقول:
إنه جاء بأبيه يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله
«صلى الله عليه وآله»..
وأخرى تقول:
أخذ بيد أبيه فأتى به.
ثم إن قول أبي بكر:
«..فوالله
إن الإمانة في الناس اليوم لقليل»
لا يخلو عن مجازفة.. خصوصاً مع إضافة كلمة «اليوم» التي قد تُفهم على
أن الأمانة كانت موجودة لدى المشركين، وأهل الجاهلية، وقد تناقصت
وقلَّت بمجيء الإسلام..
على
أن من الواضح:
أن خيانة رجل للأمانة لا يعني أن الباقين لا أمانة لهم..
بل ربما كانت الأمانة قليلة، ثم تنامت وزادت أضعافاً
كثيرة عما كانت عليه في الجاهلية، وإن لم تبلغ حد الإستقطاب التام.
فما معنى:
أن يحكم أبو بكر، بل هو يقسم للناس: بأن الأمانة قد قلَّت فيهم، بمجرد
أن سالب طوق أخته لم يبادر إلى الإقرار به؟!
يضاف إلى ذلك كله:
أنه إذا كان في الذين نفروا مع الرسول «صلى الله عليه وآله» إلى مكة
المسلم وغير المسلم، ومن هو حديث عهد بالإسلام، فلا يمكن أن نتوقع منهم
الالتزام التام بحدود الشريعة، وبالأحكام العقلية والأخلاقية، وما تقضي
به
الفطرة.
وتعود نفس الترنيمة السابقة لتردد من جديد وتؤكد إصرار
هؤلاء الناس على نسبة الشرك إلى أبي طالب رضوان الله عليه.
وقد ذكرنا في الفصول المتقدمة في الأجزاء الأولى من هذا
الكتاب فصولاً أثبتنا فيها إيمان أبي طالب بما لا مجال للريب فيه إلا
لمكابر جاحد وشانئ..
وقد ذكرت بعض الروايات عن قتادة:
أن أبا قحافة
أول مخضوب في الإسلام([45]).
ونقول:
1 ـ
إن قتادة لم يكن في زمن رسول الله
«صلى الله عليه وآله» لنكتفي بقوله في تحديد الشخص الذي
كان أول مخضوب في الإسلام. على اعتبار أنه إنما يتحدث عما عاينه
وشاهده.
2 ـ
إننا نكاد نطمئن إلى أن الخضاب قد كان قبل فتح مكة
بزمان.. فإنه كان في زمان قلة المسلمين، وضعفهم، فأريد من خلال أمر
المسلمين به الإيحاء بالقوة للأعداء، وبعث الرهبة في قلوبهم. وكان
المسلمون في فتح مكة أكثر من عشرة الآف مقاتل، فإن كان ثمة خضاب فهو في
عمرة القضاء أو قبلها..
ويؤيد ذلك: الروايات التالية:
1 ـ
ما ورد: من أن الخضاب تفرح به الملائكة، ويستبشر به
المؤمن، ويغيظ به الكافر([46]).
2 ـ
عن أبي عبد الله
«عليه السلام»:
أن النبي
«صلى الله عليه وآله»
قال عن الخضاب بالسواد: نور وإسلام، وإيمان، ومحبة إلى نسائكم، ورهبة
في قلوب عدوكم([47]).
3 ـ
عن أبي عبد الله
«عليه السلام»:
الخضاب بالسواد مهابة للعدو، وأنس للنساء([48]).
4 ـ
عن الإمام السجاد
«عليه السلام»:
أمر رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
أصحابه في غزوة غزاها أن يخضبوا بالسواد، ليقووا به على المشركين([49]).
5 ـ
عن أبي الحسن
«عليه السلام»
قال: في الخضاب ثلاث خصال: مهيبة في الحرب، ومحبة إلى النساء، ويزيد في
الباه([50]).
6 ـ
سئل أمير المؤمنين
«عليه السلام»
عن قول النبي
«صلى الله عليه وآله»:
«غيروا الشيب ولا تتشبهوا باليهود»،
فقال:
إنما قال «صلى الله عليه وآله» ذلك، والدين قُلّ. وأما
الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار([51]).
وواضح:
أن الدين كان قبل فتح مكة، أي في عمرة القضاء والحديبية
وقبلهما، أضعف وأقل منه في فتح مكة، فالأمر بالخضاب في عمرة القضاء
أولى.
([1])
الوازع: الموكَّل بإصلاح الصفوف في الحرب.
([2])
الثغام: شجر أبيض الزهر واحدته: ثغامة. يقال: صار الرأس ثاغماً.
أي أبيض.
([3])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص232 و 233 عن الواقدي، وأحمد والطبراني،
والبيهقي، ودلائل النبوة للبيهقي ج4 ص95 والرياض النضرة ج1 ص65
و 66 وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص88 و 89 والمغازي للواقدي ج2
ص824 و 825 وراجع: تاريخ الخميس ج2 ص82 و 95 وتاريخ مدينة
دمشق ج30 ص23 ومسند أحمد ج6 ص349.
([4])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص233.
([5])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص233 ودلائل النبوة للبيهقي ج4 ص96
والمستدرك على الصحيحين ج3 ص244 وتلخيص المستدرك للذهبي (مطبوع
معه) نفس الجزء والصفحة. ومسند أحمد ج6 ص349 والرياض النضرة ج1
ص65 و 66.
([6])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص233 عن مسلم، وراجع: السيرة الحلبية ج3
ص88 وتاريخ الخميس ج2 ص95.
([7])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص233 ومستدرك الحاكم ج3 ص244 والسيرة
الحلبية ج3 ص88.
([8])
العرفج: شجر صغير سريع الإشتعال بالنار. وهو نبات الصيف .
([9])
المستدرك على الصحيحين ج3 ص245 وتلخيص المستدرك للذهبي بهامشه.
([10])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص223 عن أحمد، وابن حبان.
([11])
السيرة الحلبية ج3 ص88 وفيه أحاديث أخرى عن الخضاب.
([12])
السيرة الحلبية ج3 ص88 وراجع: الإصابة ج4 ص116 و 117 وشرح
النهج للمعتزلي ج14 ص69 وحياة الصحابة ج2 ص344 ومجمع الزوائد
ج6 ص174 عن الطبراني، والبزار، ومسند أحمد ج1 ص131 وعن المصنف
لابن أبي شيبة ج4 ص142 و 95 ونصب الراية ج6 ص281 و 282 والمصنف
للصنعاني ج6 ص39 والحاكم وصححه على شرط الشيخين، وعن أبي يعلى،
وأبي بشر سفويه في فوائده، وعمر بن شبَّة.
([13])
المستدرك على الصحيحين ج3 ص244 وتلخيص المستدرك للذهبي بهامش
نفس الجزء والصفحة ومجمع الزوائد ج9 ص50 عن البزار.
([14])
تلخيص المستدرك ج3 ص244.
([15])
صفة الصفوة ج2 ص90.
([16])
الطبقات الكبرى ج5 ص74.
([17])
راجع: المستدرك للحاكم وتلخيصه للذهبي ج3 ص244.
([18])
الآية 19 من سورة الليل.
([19])
راجع: الدر المنثور ج6 ص358 ـ 360 والسيرة الحلبية ج1 ص299
والعثمانية ص35 وشرح النهج للمعتزلي ج13 ص273.
([20])
تلخيص الشافي ج3 ص238، ودلائل الصدق ج2 ص130، والإفصاح ص135
وراجع الغدير ج8 ص51.
([21])
السيرة الحلبية ج3 ص89.
([22])
السيرة الحلبية ج3 ص89.
([23])
السيرة الحلبية ج3 ص89.
([24])
السيرة الحلبية ج3 ص89.
([28])
تاريخ الخلفاء ص100 وتاريخ مدينة دمشق ج30 ص24 وتاريخ الإسلام
للذهبي (عهد الخلفاء الراشدين) ص106.
([29])
الرياض النضرة ج1 ص68 والجامع لأحكام القرآن ج16 ص194 وعن
الواحدي، ونور الأبصار.
([30])
تهذيب التهذيب ج7 ص357.
([31])
الآية 15 من سورة الأحقاف.
([32])
الجامع لأحكام القرآن ج16 ص193 و 194 والكشاف ج4 ص303 وفتح
القدير ج5 ص20 والرياض النضرة ج1 ص68 وتفسير الخازن ج4 ص132
وتفسير النسفي (مطبوع بهامش الخازن) ج4 ص132 وعن مرقاة الوصول
ص121 والدر المنثور ج6 ص40 و 41 عن ابن عساكر، وعن ابن مردويه.
([33])
الآية 14 من سورة لقمان.
([34])
الآية 233 من سورة البقرة.
([35])
راجع: تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج4 ص157 وتيسير الوصول ج2
ص9 و 11 والموطأ ج2 ص176 وعمدة القاري ج21 ص18 والبرهان ج14
ص174. وراجع: المصنف للصنعاني ج7 ص350 و352 والسنن الكبرى
للبيهقي ج7 ص442 وتذكرة الخواص ص148 والدر المنثور ج1 ص288 وج6
ص40 والمناقب للخوارزمي ص94 ومختصر جامع بيان العلم ص265
والرياض النضرة ج3 ص142 وكفاية الطالب ص226 وتفسير النيسابوري
ج6 ص120 وذخائر العقبى ص82 والتفسير الكبير للرازي ج28 ص15
والأربعين للرازي ص466 وكنز العمال ج5 ص457 وج6 ص205 وعن ابن
أبي حاتم، والعقيلي، وابن السمان، وعبد بن حميد، وجامع بيان
العلم ص311.
([36])
الدر المنثور ج6 ص41 عن البخاري، وصحيح البخاري (ط 1309 هـ) ج3
ص121 وتفسير القرآن العظيم ج4 ص159 وفتح القدير ج4 ص21 وراجع:
الغدير ج8 ص247.
([37])
تفسير البرهان ج4 ص172 و 173 و 174.
([38])
الآية 22 من سورة المجادلة، وراجع الحديث في: الدر المنثور ج6
ص186 عن المنذر، والجامع لأحكام القرآن ج17 ص307 وتفسير
الآلوسي ج28 ص36 والكشاف ج4 ص497 ومرقاة الوصول ص121.
([39])
الدر المنثور ج6 ص186 عن ابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم ،
وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في سننه، وابن عساكر.
([40])
الدر المنثور ج6 ص186 عن ابن مردويه.
([41])
الآية 15 من سورة لقمان.
([42])
الآية 15 من سورة الأحقاف.
([43])
التفسير الكبير ج29 ص276 وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج4
ص330.
([44])
المحاسن والمساوئ ج1 ص57.
([45])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص223 عن أحمد، وابن حبان.
([46])
البحار ج73 ص97 و 99 عن ثواب الأعمال ص21 والخصال ج2 ص90
ومكارم الأخلاق (ط دار البلاغة) ص79.
([47])
البحار ج73 ص100 ومكارم الأخلاق (ط دار البلاغة) ص79.
([48])
البحار ج73 ص100 ومكارم الأخلاق (ط دار البلاغة) ص80.
([49])
البحار ج73 ص100 و 101 ومكارم الأخلاق (ط دار البلاغة) ص80.
([50])
البحار ج73 ص102 ومكارم الأخلاق (ط دار البلاغة) ص81.
([51])
نهج البلاغة (بتحقيق عبده) ج4 ص5 والوسائل (ط أهل البيت) ج2
ص87 والبحار ج73 ص104 وشرح النهج للمعتزلي ج18 ص122 ومكارم
الأخلاق.
|