الخطـبـة الأولى في مـكـة 

   

صفحة :245-274   

الخطـبـة الأولى في مـكـة 



 

خطبة الرسول في مكة:

لقد خطب النبي «صلى الله عليه وآله» خطبة هامة بمجرد خروجه من الكعبة أعزها الله تعالى، فقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» أنه قال:

«فتح باب  الكعبة، فأمر بصور في الكعبة فطمست، ثم أخذ بعضادتي الباب، فقال: الخ..» ([1]).

وزعموا: أن خالد بن الوليد في هذه الحال كان على باب الكعبة يذب عنه «صلى الله عليه وآله» الناس([2]).

وقالوا: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما خرج من البيت استكفَّ له الناس، وأشرف على الناس حول الكعبة وهم جلوس، فقام على بابه فقال:

«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده».

وفي نص آخر أنه قال: «الحمد لله الذي صدق وعده». ثم اتفقوا «ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش ماذا تقولون؟ ماذا تظنون (أني فاعل بكم؟

فقال سهيل بن عمرو:)؟([3]).

قالوا: نقول خيراً، ونظن خيراً. نبي كريم، وأخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}([4]). إذهبوا فأنتم الطلقاء».

فخرجوا كأنما نشروا من القبور، فدخلوا في الإسلام.

ثم قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دمٍ أو مأثرة أو مال يُدَّعى فهو تحت قدمي هاتين، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث، إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج (فإنهما مردودتان إلى أهليهما).

ألا وفي قتيل العصا والسوط والخطأ شبه العمد الدية مغلظة، مائة ناقة، منها أربعون في بطونها أولادها.

ألا وإن الله تعالى قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتكبرها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب»([5]).

ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}([6]).

«يا أيها الناس!! الناس رجلان، فبر تقي كريم، وكافر شقي هين على الله.

ألا إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، ووضع هذين الأخشبين ، فهي حرام بحرام الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولن تحل لأحد كائن بعدي، لم تحل لي إلَّا ساعة من نهار ـ يقصرها «صلى الله عليه وآله» بيده هكذا ـ ولا ينفر صيدها، ولا يعضد عضاهها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يختلى خلاها».

فقال العباس، وكان شيخاً مجرباً: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لابد لنا منه للقين، وظهور البيوت.

فسكت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ساعة ثم قال: «إلا الإذخر فإنه حلال.

ولا وصية لوارث، وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة أن تعطي من مال زوجها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، وهم يردّ عليهم أقصاهم، ويعقل عليهم أدناهم، ومشدّهم على مضعفهم، ومثريهم على قاعدهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جلب ولا جنب.

ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها. والبينة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر، وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر، وعن لبستين ألا يحتبي أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء، وألا يشتمل الصماء».

فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني قد عاهرت في الجاهلية.

فقال: «من عاهر بامرأة لا يملكها، أو أمة قوم آخرين لا يملكها، ثم ادَّعى ولده بعد ذلك فإنه لا يجوز له، ولا يرث ولا يورث، ولا إخالكم إلا قد عرفتموها.

يا معشر المسلمين كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر من ضحوة نهار الفتح إلى صلاة العصر منه».

فخبطوهم ساعة، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ولم تحل لأحد قبله.

ثم قال لهم: «كفوا السلاح».

فقام أبو شاة، فقال: اكتب لي يا رسول الله.

فقال: «اكتبوا لأبي شاة».

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم»([7]).

وفي نص آخر أنه قال: إن الله تبارك وتعالى حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لى ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد بعدي.. فقام أبو شاة رجل من اليمن الخ..([8]).

نص آخر للخطبة:

وذكر الشيخ الطبرسي «رحمه الله» نصاً آخر للخطبة، وهو التالي: لما دخل رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة دخل صناديد قريش الكعبة، وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم، فأتى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ووقف قائماً على باب الكعبة، فقال:

«لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده،

ألا إن كل مال ومأثرة ودم يدَّعى تحت قدمي هاتين، إلا سدانة الكعبة، وسقاية الحاج، فإنهما مردودتان إلى أهليهما.

ألا إن مكة محرمة بتحريم الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار. وهي محرمة إلى أن تقوم الساعة، لا يختلى خلاها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد».

ثم قال: «ألا لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذّبتم، وطردتم، وأخرجتم، وآذيتم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلوني!!

اذهبوا فأنتم الطلقاء».

فيخرج القوم، فكأنما أُنشروا من القبور، ودخلوا في الإسلام، وقد كان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئاً، فلذلك سمِّيَ أهل مكة الطلقاء([9]).

عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة قال: سمعت أبا عبد الله «عليه السلام» يقول: لما فتح رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة قام على الصفا، فقال:

«يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، إني رسول الله إليكم، وإني شفيق عليكم، لا تقولوا: إن محمداً منا، فوالله ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلا المتقون، فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم، وفيما بين الله عز وجل وبينكم، وإن لي عملي ولكم عملكم»([10]).

وقفات مع الخطبة الشريفة:

إن هذه الخطبة الشريفة تحتاج إلى دراسة متأنية لاستكناه معانيها، والوقوف على مراميها، ولعل بيان ذلك يفرض إفراد كتاب مستقل، ويستغرق وقتاً طويلاً، ويحتاج إلى جهد مضنٍ، يبذله أناس أكفاء، ومتمرسون أفذاذ..

فماذا عسانا نقدم في هذه النظرة العابرة والمحدودة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.. فتلك هي بعض اللمحات المختارة من هذا الروض الفواح بالأطياب.. والزاخر بالمعاني العذاب، كأنها الشهد المذاب..

وسنذكر هذه اللمحات اليسيرة في فقرات تبين وجهتها عناوين نختارها لها، وهي التالية:

عتقهم دليل فتح مكة عنوة:

علق الدياربكري على قول رسول الله «صلى الله عليه وآله» لأهل مكة: إذهبوا، فأنتم الطلقاء، فقال:

«فأعتقهم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة، فلذلك تسمى أهل مكة «الطلقاء»  أي الذين أطلقوا، فلم يسترقوا، ولم يؤسروا، والطليق هو الأسير إذا أطلق»([11]).

وكنا قد تحدثنا عن هذا الأمر في فصل سابق، وقلنا: إن هذه الكلمة من أدلة فتح مكة عنوة، لا صلحاً.. فلا بأس بمراجعة ما ذكرناه هناك..

الطلقاء.. والخلافة:

إنه لا ريب في أن الإمامة شأن إلهي وقرار رباني، لا خيار لأحد فيه، وهي تثبت بالنص القاطع للعذر عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولكن السياسة الإلهية قد قضت بوضع معايير، وحدود، وضوابط، وقيود، من شأنها أن تسقط أي تعلل، وترد أية شبهة، حتى حينما يحاصر الطامعون والحاقدون النص بحرابهم، وسيوفهم، أو يثيرون حوله الشبهات والأقاويل، وينسجون حوله الترهات والأباطيل.

وقد صرحت النصوص بكثير من الأمور التي حددها للناس أمين الله على وحيه، وعزائم أمره، ومن هذه الأمور:

أن الطلقاء لا يحق لهم الاضطلاع بأمر الإمامة..

ويبدو أن هذا الأمر كان متسالماً عليه لدى السلف، فقد روي عن عمر بن الخطاب: أنه اعترف بذلك، وأنه قال:

هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أُحد، ثم في كذا وكذا، وليس لطليق ولا لولد طليق، ولا لمسلمة الفتح شيء([12]).

وقال أيضاً: «إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء، ولا لأبناء الطلقاء»([13]).

وعن أمير المؤمنين «عليه السلام» في كتاب له إلى معاوية: «واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تعقد معهم الإمامة، ولا يدخلون في الشورى»([14]).

وكتب ابن عباس لمعاوية: «ما أنت وذكر الخلافة؟! وإنما أنت طليق وابن طليق. والخلافة للمهاجرين الأولين، وليس الطلقاء منها في شيء».

وفي نص آخر: ما أنت والخلافة، وأنت طليق الإسلام الخ.. ([15]).

وقال ابن عباس لأبي موسى: «اعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام»([16]).

وكتب المسور بن مخرمة إلى معاوية أيضاً: «وما أنت والخلافة يا معاوية، وأنت طليق، وأبوك من الأحزاب»([17]).

وهذا المعنى بالذات روي عن سعنة بن عريض في كلام له مع معاوية([18]).

ونفس هذا المضمون قاله صعصعة بن صوحان لمعاوية([19]).

وجاء في كلام لعبد الرحمن بن غنم الأشعري الصحابي، يعاتب فيه أبا هريرة، وأبا الدرداء قوله: «وأي مدخل لمعاوية في الشورى، وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة»؟!([20]).

تعظيم بيت الله:

إن الله سبحانه وتعالى قد جعل الكعبة ومكة حرماً آمناً. ولكن هل حصل ذلك بدعاء إبراهيم حينما قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً}؟!([21]).

وفي آية أخرى: {رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً}([22]).

مع ملاحظة: أن الآية الثانية تشير إلى أن هذا الدعاء قد كان بعد صيرورة مكة بلداً، وأما الآية الأولى، فليس فيها دلالة على ذلك، بل هي تتلاءم مع ما قبل صيرورة مكة بلداً، ومع ما بعد صيرورتها بلداً.

ولكن ثمة ما يدل: على أن إبراهيم قد دعا بذلك مرتين، وفي زمانين مختلفين، كما ربما يظهر من كلام العلامة الطباطبائي وغيره([23]).

إذ ليس ثمة ما يحتم أن يكون إبراهيم يطلب من الله تشريع الأمن لمكة، وأن يجعلها حرماً، ثم يلتزم الناس بأوامره سبحانه، لتنشأ عن ذلك حالة الأمن لها.. إذ لعله كان يطلب حصول الأمن الخارجي لذلك البلد والمنع من تعرضها للنكبات على أيدي الجبارين، وأن يوجد حرمة وهيبة لها في نفوس الناس تردعهم عن التعرض لها بسوء، إذ لو كان «عليه السلام» يطلب أمراً تشريعياً لكان ذلك البلد قبل إبراهيم كسائر البلاد، مع أن ثمة ما يدل على أنها كانت حراماً أيضاً قبل ذلك، فقد ورد في خطبة الرسول «صلى الله عليه وآله» المتقدمة في فتح مكة: أن الله قد «حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي»([24]). فراجع.

ويؤيد ذلك، بل يدل عليه: أن إبراهيم «عليه السلام» قد وصف البيت بـ «المحرم» بمجرد إسكانه لذريته في تلك البقعة، فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ..}([25]).

ومن الواضح: أن إبراهيم على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام لم يؤسس البيت، بل رفع قواعده، وقد تقدم في الجزء الثاني من هذا الكتاب: أن البيت قد وضع من لدن آدم «عليه السلام» وهو البيت العتيق، وهو أول بيت وضع للناس، كما دلت عليه الآيات الكريمة.

كلكم لآدم، وآدم من تراب:

وقد ظهر من خلال تلك الخطبة: أن النبي «صلى الله عليه وآله» يعالج أدواءً كان يراها رأي العين في الناس، ويعرف ما لها من آثار سلبية على حياتهم، وعلى علاقاتهم، وطريقة تعاملهم مع بعضهم، وعلى روحياتهم.. ومن ذلك ظاهرة الطبقية والتمييز على أسس قبائلية، وعرقية، وغير ذلك..

فذكَّرهم بأصلهم الأصيل، الذي يعطي الدليل الصريح والصحيح على عدم وجود تميز بين الناس فالأصل هو آدم، وأصل آدم هو التراب. فإن حصل تميز من أي نوع، فلا بد أن يكون بأمور عارضة اختارها الإنسان وصنعها، وأما القبائل والشعوب، فلم يكن لأحد في صيرورتها كذلك أي اختيار، بل هي فعل إلهي، فما معنى: أن يدَّعي الناس لأنفسهم امتيازات استناداً إلى أمر لم يختاروه، ولا بذلوا أي جهدٍ في سبيل الحصول عليه؟!

ولذلك يلاحظ: أنه بعد أن قال «صلى الله عليه وآله»: كلكم لآدم وآدم من تراب ثنَّى بذكر الآية الكريمة، التي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}([26]). فقد صرح بأن الإختلاف في الشعوب والقبائل هو من صنع الله تعالى، موضحاً: أنه سبحانه إنما جعل فيهم هذه الخصوصيات من أجل أن يستفيد بعضهم من بعض، ويكتسبوا من هذا التنوع معرفة إلى معارفهم.. ويكون ذلك سبباً في إنشاء العلاقات، وإقرار الروابط المفيدة، والرشيدة.. ولم يجعل ذلك سبباً للتفاخر والتعالي، والإنفصال والتباعد.

ثم بيّن أن التفاضل إنما هو بتقوى الله تبارك وتعالى حين قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ}.

السلاح في مكة في عام الفيل ويوم الفتح:

وقد ورد في كلام رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما يلي: «إن الله تعالى حبس الفيل، وسلط عليهم (أو عليها)، رسوله والمؤمنين..»([27]).

وقد تقدمت في غزوة الحديبية بعض الإشارات إلى بعض ما تضمنته قصة حبس الفيل من دلالات وعبر فراجع ما ذكرناه هناك، حين التعرض لقوله «صلى الله عليه وآله» عن ناقته: «حبسها حابس الفيل».

غير أننا نشير هنا: إلى أن ما ورد في هذه الخطبة، حول نفس هذا الأمر، قد أريد به لفت النظر إلى أمر مهم، وهو:

أن دخوله «صلى الله عليه وآله» مكة بالسلاح، وبدون إحرام، وعلى هيئة القتال، ليس على حد دخول أبرهة الذي جاء للعدوان على بيت الله، وهتك حرمة الحرم، إذ ليس كل دخول لمكة بالسلاح هتك لحرمتها، أو مناف لما يدعوهم الله إليه من تعظيمها، إذ لو كان كذلك لتدخل الله تبارك وتعالى لمنعه «صلى الله عليه وآله» من ذلك، كما تدخل لمنع أبرهة وجيشه منه، حيث حبس الفيل عن مكة، ليكون آية للمعتدين، وعبرة للمعتبرين، فلما اصروا على هتك حرمتها، ولم يعودوا إلى الله، ولم يتوبوا إليه، أرسل عليهم {طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ}.

وذلك يدل وشواهد كثيرة أخرى على: أن دخول النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين كان دخول تعظيم للحرم ودفاع عن مكة والكعبة. وليس دخول إهانة أو استهانة..

وحمل السلاح إنما هو من أجل رفع الحيف عن مكة وعن البيت، وإبعاد مظاهر الشرك، الذي هو أعظم مظاهر الإهانة، وتطهيرها من الظلم والعدوان، وإخراجها من أيدي العتاة والمستكبرين.

والخلاصة: أن تسليط المسلمين على مكة، إنما هو لإعزازها، وإعزاز الكعبة، ولإحقاق الحق، وإبطال الباطل، واقتلاع الشرك والوثنية، وإعلاء كلمة الله تعالى، ونشر التوحيد، وتوجيه الناس إلى عبادة الله.

أما أهداف أصحاب الفيل، فهي أهداف شريرة وباطلة، وهي إطفاء نور الله، وترسيخ قواعد الباطل والشرك والوثنية.

لا ينفر صيدها!! ولا يختلى شوكها!!:

قال العلامة الأحمدي «رحمه الله تعالى» حول قوله «صلى الله عليه وآله» في خطبته لا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ما يلي:

«هذه الجمل بيان لأخفى ما يحرم من مكة وأدنى ما هو حرام، لأنها حرم، فيحرم شوكها ولقطتها، ويحرم نفر الحيوان البري الذي يصاد في غيرها؛ ليعلم من ذلك حرمة الباقي.

فإنه إذا حرم الشوك الذي لا نفع فيه إلا الإحراق حرم ما سواه بالأولوية.

وإذا حرم نفر الحيوان البري يعلم منه حرمة جرحه، وقتله، وأخذه و.. وقتل الإنسان، وإخافته، وإزعاجه.

وإذا حرم لقطتها، حرم أموال الناس بأي نحو أخذت إلا برضا صاحبها، وإذا كانت أموال الناس حراماً في غير هذه البلدة، كانت حرمتها فيها أشد وآكد»([28]). وهذا كلام سديد رحم الله قائله، وحشره مع محمد وآله الطاهرين.

الإعلان الأول: التوحيد:

إن أول إعلان أطلقه «صلى الله عليه وآله» في خطبته الأولى في مكة هو التوحيد، ورفض الشريك لله تبارك وتعالى فقال «صلى الله عليه وآله»: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له».

والتوحيد هو غاية الغايات، وأساس الكمالات، ومنشأ السعادات، شرط أن يكون حقيقياً، وتاماً، وراسخاً، وشاملاً لكل مناحي الحياة، في الفكر، وفي القول، وفي العمل، فلا يوحد الله بالقول، ثم تكون شهوته ونفسه، أو ولده، أو زوجته، أو زعيمه، أو أي شيء آخر هو الذي يتحكم بقراراته، ويهيمن على مواقفه، وعلى حركته في الحياة..

ولا يكون ممن وصفهم الله تعالى بقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}([29]).

لك بها دار في الجنة:

ويقولون: إنه حين فرغ «صلى الله عليه وآله» من خطبته قام أبو أحمد، عبد الله بن جحش على جمل له على باب المسجد، وهو يصيح: أنشد بالله يا بني عبد مناف حلفي، وأنشد بالله يا بني عبد مناف داري.

فدعا النبي «صلى الله عليه وآله» عثمان بن عفان فأسر إليه بشيء، فذهب عثمان إلى أبي أحمد فسارَّه، فنزل أبو أحمد عن بعيره، وجلس مع القوم.

فما يُسمع أبو أحمد ذاكرها حتى لقي الله تعالى.

وكان أبو أحمد قد حالف بني حرب بن أمية. وكان أبو سفيان قد باع دار أبي أحمد بأربع مائة دينار، فثارت ثائرة أبي أحمد، وقال أبياتاً يلوم فيها أبا سفيان.

فقال له النبي «صلى الله عليه وآله»: لك بها دار في الجنة([30]).

ونقول:

أولاً: إن عبد الله بن جحش قد استشهد في غزوة أحد([31])، أي قبل فتح مكة بحوالي خمس سنوات.

وأما القول: بأن أبا أحمد هو عبيد الله بن جحش ـ كما ربما يظهر من الكلمات([32]) ـ فلا يصح أيضاً؛ لأن من المجمع عليه: أن عبيد الله بن جحش كان ممن هاجر إلى الحبشة، وتنصر، ومات هناك، وهو زوج أم حبيبة، التي زوجها النجاشي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، لا نجد خلافاً في ذلك([33]).

والظاهر: أن الصحيح هو: أن اسم أبي أحمد «عبد» بن جحش، بغير إضافة، وقالوا: كان ضريراً، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان([34]).

ثانياً: ما أبعد ما بين موقف هذا الرجل، حيث وعده النبي «صلى الله عليه وآله» بدار في الجنة في مقابل داره، فنزل عن بعيره، وجلس مع القوم، فما سمع ذاكرها حتى لقي الله تعالى.. وبين موقف سمرة بن جندب الذي كانت له نخلة في دار شخص آخر، فصار يدخل إليها من دون إذن، ورفض الإنصياع لطلب صاحب الدار بالإستئذان، ورفض طلب النبي «صلى الله عليه وآله» منه أن يستأذن، ثم رفض أن يبيعها لرسول الله «صلى الله عليه وآله» بعذق في الجنة، فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق.

فقال: لا أريد.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن.

ثم أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالنخلة فقلعت، ثم رمى بها إليه، وقال له: اذهب فاغرسها حيث شئت([35]).

صدق وعده، ونصر عبده:

1 ـ وقد بيَّن «صلى الله عليه وآله»: أن هذا الفتح العظيم قد كان وعداً من الله، وقد أنجز تبارك وتعالى وعده، وهذا يمثل دلالة أخرى لعبَّاد الأصنام الذين ما زالوا يحاربونه حتى تلك اللحظة، ويجهدون للاحتفاظ بشركهم وبأصنامهم، على أن عليهم أن يتخلوا عن حالة الصلف والعناد، فهم أحقر وأعجز من أن يتمكنوا من تحدي إرادة الله تبارك وتعالى..

وها هم يرون بأم أعينهم كيف أن الله أنجز وعده لنبيه الكريم «صلى الله عليه وآله»، رغم كل ما كادوه به.

2 ـ ثم إنه تعالى لم ينسب النصر إلى نفسه، ولا تبجح ـ والعياذ بالله ـ بتدبيره الذكي، وخطته المحكمة، ولا فاخر بجيشه الكبير، بل نسبه إلى الله دون سواه، بل هو لم يفسح المجال لاحتمال أن يكون لغير الله أدنى تأثير في هذا النصر حين صرح: بأن الله وحده قد هزم الأحزاب المختلفة التي كانت تتألب عليه، وتجمع الجموع من كل قبيلة وحي، ومن مختلف البلاد التي تجد فيها من يعينها، ويشاركها في عدوانها على الحق وأهله..

3 ـ وقد احتفظ «صلى الله عليه وآله» لنفسه بسمة العبودية التي يأنف الناس من إطلاقها على أنفسهم إلا بضروب من التأويلات، وفنون من الإيحاءات، ولو بمثل دعوى التواضع، وهضم النفس.

والحرب مع المشركين هي في واقعها حرب مع حالة الإستكبار عن الإنصياع لهذه الحقيقة، والإباء عن الإعتراف بها. فإنهم لا يريدون أن يكونوا عبيداً لله، بل يريدون أن يكونوا عبيداً لشهواتهم، ولأهوائهم، ولعتاتهم، وساداتهم، وكبرائهم، الذين يتخذونهم أرباباً من دون الله تعالى.

ولكن الرسول العظيم، والنبي الكريم «صلى الله عليه وآله» كان يرى أن أعظم وسام، وأسمى مقام هو وسام ومقام العبودية لله سبحانه، وكلما تحقق الإنسان في هذه العبودية، وأوغل فيها كلما سما في مدارج الكمال، وحصل على مقام القرب والزلفى من الله، ويكون مع الله، ويكون الله تعالى معه، يحب ما يحب، ويكره ما يكره، ويريد ما يريد.. فإن لله عباداً إذا أرادوا أراد([36]).

وفي الحديث القدسي: عبدي أطعني تكن مثلي، تقول للشيء: كن، فيكون([37]).

نعم.. إنه «صلى الله عليه وآله» لم يعط لنفسه ألقاباً، ولا منحها أوصافاً، بل هو لم يشر إليها بأية كلمة تدل على أن لها أي درجة من الإستقلال، والإنفصال، ولو بمقدار كلمة «أنا»، بل حين تحدث عن نفسه قد وصفها بما دل على سلب أية خصوصية من هذا القبيل، ألا وهو وصف العبودية له تعالى..

إلا الإِذْخِر:

وذكروا: أن العباس هو الذي استثنى الإذخر، من بين الأمور التي حرم على الناس العدوان عليها.. قالوا: «فقال العباس، وكان شيخاً مجرباً: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بد لنا منه، للقين، وظهور البيوت.

فسكت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ساعة، ثم قال: إلا الإذخر، فإنه حلال».

ونقول:

إن هذا الموقف يحتاج إلى تبصر وتأمل، ولكننا نكتفي هنا بالإلماح إلى بعض ما يظهر لنا فيه.

فأولاً: هل كان النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله»، الذي لم يزل يخبر الناس بالمغيبات، لا يعرف أن الإذخر مما يحتاج إليه للقين، ولأسقف البيوت؟! وعرف ذلك العباس دونه؟!

ثانياً: هل عرف ذلك العباس ولم يعرفه سائر شيوخ قريش، وسواها من ساكني مكة، من بني بكر وخزاعة، و.. و..؟!

ثالثاً: هل كان النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» يحلل ويحرم من عند نفسه؟! أم كان يتكلم بوحي من الله تعالى؟!

فإن كان ما يأتي به هو الوحي الإلهي، فما معنى تدخل العباس فيه؟ فهل لم يكن الله ـ والعياذ بالله ـ يعرف قيمة الإذخر، وأهميته لأهل مكة، حتى نطق العباس؟ أم انه كان يعرف ذلك، لكنه كان يريد تصعيب الأمور عمداً على أهل مكة؟! ثم تراجع استجابة لطلب العباس؟!

وإن كان ما يأتي به إنما يأتي به من عند نفسه، فلماذا يقول القرآن عنه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}؟!([38]).

وكيف نستطيع أن نفرق بين ما يكون من عند نفسه، وما يكون من عند ربه، فنتدخل في الأول، ونسكت في الثاني؟!

وإذا كان يتكلم من عند نفسه، فهل هو يخطئ فيه، ويسهو و.. و.. الخ..؟! أم أنه معصوم فيه؟!

فإن كان يخطئ فيه، فلا شيء يدعو إلى الوثوق بما يأتي به. وهل يمكن تجزئة العصمة؟ وإن كان معصوماً فيه، فلماذا يتدخل العباس أو غيره في شأن لا يمكن أن يقع فيه خطأ ولا سهو، ولا تقصير؟!..

رابعاً: لماذا سكت النبي «صلى الله عليه وآله» هذا الوقت الطويل ولم ينطق بالحكم مباشرة ألا يدل سكوته هذا على أنه قد تبرم وتضايق من تدخل العباس في أمر إلهي، ووحي رباني، وحكم شرعي، لا يحق لأحد التدخل فيه؟!

أم أنه سكت ليتأمل في صحة كلام العباس، وخطئه، فلما ظهر له وجه الصواب فيه أقره؟!

ألا يعدّ هذا النوع من الإحتمالات إهانة لمقام النبوة الأقدس، وإساءة لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، ما بعدها إساءة؟!

خامساً: هل جاء قول رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن الإذخر: «فإنه حلال» حكاية لحكم الله الواقعي، أم جاء مجاراةً للعباس، وإرضاءً لخاطره الشريف، وإنفاذاً لأمره، الذي جاء بطريقة تضمنت إساءة لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، وخروجاً عن حدود الآداب.

سادساً: إذا كان الناس يحتاجون الإذخر، وهو الحشيش الأخضر لظهور البيوت، فإنهم يحتاجون الأشجار لأمور أخرى، مثل صنع الأبواب، وعمل الكراسي، والمناضد، وسائر الحاجات.. فلماذا منع من قطع الشجر أيضاً، مع أن الحاجة إلى قطعه أشد من الحاجة إلى الحشيش الأخضر؟

كما أنهم يحتاجون إلى العظاة ـ هو الشجر الذي له شوك ـ لأجل الوقود وإنضاج الأطعمة، والتدفئة، ونحو ذلك، فلماذا لم يرخص لهم به أيضاً. واقتصرت الرخصة على الإذخر؟!

إن الحقيقة هي: أن هؤلاء الناس يريدون أن يمنحوا العباس شرفاً، فمنحوه ما يوجب نقصاً وتقززاً وقرفاً. وأرادوا أن يَسِموه بسمات الأخيار والأبرار، فوصموه بما يهين ويشين من وصمات الأشقياء والأشرار..

اجتهاد الرسول :

وقد زعم بعض الناس: أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان متعبداً بالاجتهاد فيما لا نص فيه.. وقد استدلوا على ذلك بأدلة واهية.. ومن ذلك في فتح مكة حسبما ذكره الآمدي:

1 ـ روي عنه: أنه «صلى الله عليه وآله» قال في مكة: لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها.

فقال العباس: إلا الإذخر.

فقال «عليه السلام»: إلا الإذخر.

قال: «ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة، فكان الإستثناء بالإجتهاد»([39]).

وقال في موضع آخر: «معلوم أن ذلك لم يكن إلا من تلقاء نفسه، لعلمنا: بأن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة، ولولا أن الحكم مفوض إليه لما ساغ ذلك»([40]).

ولكن الآمدي نفسه قد ذكر: أن بعضهم أجاب عن ذلك بقوله: «إن الإذخر ليس من الخلا، فلا يكون داخلاً فيما حرم. وعلى هذا، فإباحته تكون بناءً على استصحاب الحال. والإستثناء من العباس والنبي «عليه السلام» كان تأكيداً. وبتقدير أن يكون مستثنىً حقيقة مما حرم بطريق التأسيس، لكن من المحتمل أن يكون ذلك بوحي سابق، وهو الأولى، لقوله تعالى في حق رسول الله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}([41]). أما أن يكون ذلك من تلقاء نفسه من غير دليل فلا»([42]).

ونقول:

ألف: إن من الواضح: أن العباس قد قطع على النبي «صلى الله عليه وآله» كلامه، ولم يمهله ليستثني الإذخر ولا غيره.. ولعل سكوت النبي «صلى الله عليه وآله» لفترة قصيرة في تلك اللحظة كان لإظهار انزعاجه من هذه المداخلة، التي تخرج عن حدود المقبول في التعامل مع الأنبياء، بل ومع غيرهم أيضاً..

ب: على أننا في غنى عن التذكير بأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان واقفاً على ملاكات الأحكام، عارفاً بحدود الحلال والحرام، فلا حاجة إلى الوحي الفعلي والتفصيلي في كل كبيرة وصغيرة، ولذلك فوض الله تعالى إليه حق وضع الأحكام وتشريعها في الوقت الذي تكتمل فيه عناصره..

وقد أوضحنا ذلك في كتابنا: «الولاية التشريعية» فراجع.

2 ـ واستدلوا ـ كما ذكره الآمدي أيضاً ـ بما روي عنه «صلى الله عليه وآله»: «أنه أمر منادياً يوم فتح مكة: «أن اقتلوا ابن حبابة، وابن أبي سرح، ولو كانا متعلقين بأستار الكعبة» ثم عفا عن ابن أبي سرح، بشفاعة عثمان. ولو كان قد أمر بقتله بوحي لما خالفه بشفاعة عثمان»([43]).

وأجابوا أيضاً: «يجوز أن يكون قد أبيح القتل، وتركه بالوحي، بدليل ما سبق في الآية»([44]).

أي بدليل أنه «صلى الله عليه وآله» لا يقول ما يقول إلا بوحي، لقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.

غير أننا بنحو آخر من البيان نقول:

إن الحكم بالقتل كان متعلقاً بهؤلاء الناس، من حيث أن جرمهم يوجب ذلك.. فإذا استجدت أمور، مثل ظهور التعصب القبلي أو حدوث انشقاقات خطيرة توجب فساداً كبيراً، وتضييعاً لحقوق الكثيرين، وصداً عن سبيل الله، بحيث يمنع ذلك من دخول بعض الناس في الإسلام أو نحو ذلك، فإن الحكم بالقتل يرتفع ويحل محله العفو. أي أن الحكم يتبدل بسبب تبدل طرأ على موضوعه.

وهذا نظير ما لو استحق ولدك عقوبة على ذنب ارتكبه، فإذا شفع له إنسان عزيز تحب أن تكرمه وتظهر للناس موقعه ومكانته، فإنك تعفو عنه من أجله، وكذلك الحال فيما إذا شفع فيه إنسان ظالم يخشى من أن يتسبب رد أمره ورود ظلم أو أذى على أناس أبرياء، فإنك تغض النظر عن عقوبة ذلك المذنب، وتظهر  أنك قد عفوت عنه رعاية لهذه الخصوصية.

فظهر أن هناك حكمين قد اختلفا بسبب اختلاف موضوعيهما، وقضية ابن سرح من هذا القبيل.

كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر:

وأما ما ورد في الخطبة: من أنه «صلى الله عليه وآله» قال فيها: «..كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر، من ضحوة نهار الفتح إلى صلاة العصر منه».

فخبطوهم ساعة، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ولم تحل لأحد قبله.

فنقول فيه:

أولاً: إن هذا النص إنما ورد في بعض نصوص الخطبة دون بعض.. وهذا وإن كان لا يدل على عدم صحة هذه الفقرة، ولكنه يفسح المجال للتأمل في صحتها، وإن وجد ما يقتضي ذلك. كما هو الحال في هذا المورد كما سنرى.

ثانياً: إذا كانت بنو بكر قد هاجمت جزاعة وقتلت منها، فإن قريشاً قد شاركت في هذا الأمر، وكانت مع من هاجم، ثم أرسلت أبا سفيان ليخدع المسلمين، ويبطل دم المقتولين المظلومين.. فلماذا لا يشرك قريشاً مع بني بكر في إعطاء خزاعة حق قتلهم؟

ثالثاً: إذا كان ثأر خزاعة عند بني بكر، وقريش بريئة منه، فلماذا اعتبر النبي «صلى الله عليه وآله» ما جرى نقضاً للعهد من قبل قريش بالذات؟! وما المبرر لجمع هذا الجيش العظيم، ومهاجمة مكة، وفتحها؟!

ولماذا نهى خالد بن الوليد عن القتال؟ وأمره أن يكف عن ملاحقة الناس؟!

وكيف سيفهم الناس ذلك كله، خصوصاً أهل مكة الذين استسلموا ولم يسلموا، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم؟!

رابعاً: إن وقت صلاة العصر إذا كان يبدأ من حين الإنتهاء من صلاة الظهر إلى حين الغروب، فإن معنى قوله: «من ضحوة نهار الفتح إلى صلاة العصر منه» يصبح غير واضح المعنى. إلا إذا أريد الحديث عن وقت فضيلة العصر..

وعلى كل حال، فقد أشرنا إلى ما هو الحق في وقت صلاة العصر في فصل: المسير إلى حصون قريظة، تحت عنوان: لماذا لم يعنف النبي «صلى الله عليه وآله» تاركي الصلاة؟!

خامساً: لم يذكر لنا التاريخ شيئاً عن قتلى بني بكر على يد خزاعة، ولا قتلى خزاعة على يد المدافعين من بني بكر، فهل يعقل أن تستمر معركة ساعات طوالاً، ولا يسقط فيها عشرات القتلى والجرحى؟!

سادساً: الضحوة: هي ارتفاع النهار، فإذا كانوا قد خبطوهم من ضحوة النهار إلى وقت صلاة العصر، فإن ذلك يكون ساعات لا ساعة واحدة، وكيف إذا كان «يقصرها بيده هكذا»؟!

وأخيراً ما معنى: أن يكرر نفس العبارة في نفس تلك الخطبة، فيذكرها في وسطها، ثم يذكرها في آخرها؟!.

اكتبوا لأبي شاة:

وقوله «صلى الله عليه وآله»: اكتبوا لأبي شاة، وعشرات الروايات الأخرى الآمرة بتقييد العلم وبكتابته حجة دامغة على الذين منعوا من كتابة الحديث بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

على أن ما زعموه مبرراً لذلك، وهو: أنهم خافوا من اختلاط الحديث بالقرآن، أو أنه لا كتاب مع كتاب الله، ما هو إلا رد للنص من أجل مآرب خاصة، لا نريد الإفاضة في بيانها. وقد ذكرنا طائفة مما يفيد في هذا البحث في الجزء الأول من هذا الكتاب، فراجع.

التبرك بالرسول :

عن عبد الله بن عبيدة: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعد خطبته عدل إلى جانب المسجد، فأتي بدلو من ماء زمزم، فغسل منها وجهه، ما يقع منه قطرة إلا في يد إنسان، إن كانت قدر ما يحسوها حساها، وإلا مسح جلده.

والمشركون ينظرون، فقالوا: ما رأينا ملكاً قط أعظم من اليوم. ولا قوماً أحمق من القوم([45]).
 


([1]) البحار ج21 ص135 عن الكافي ج1 ص227.

([2]) تاريخ الخميس ج2 ص89 عن تاريخ مكة للأزرقي.

([3]) هذه الفقرة في: السيرة الحلبية ج3 ص98 والبحار ج21 ص132 عن إعلام الورى.

([4]) الآية 92 من سورة يوسف.

([5]) راجع: دلائل النبوة للبيهقي ج9 ص118.

([6]) الآية 13 من سورة الحجرات.

([7]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص242 و 243، وقال: أخرجه البخاري (2434)، ومسلم في الحج (447، 448)، وأبو داود (2017) (3649، 4505) والترمذي (2667) وأحمد 2/238 والبيهقي 8/52 والدارقطني 3/97.

وذكر الصالحي الشامي: أن رواة الخطبة المشار إليهـا هم: الإمام أحمـد، وأبو داود، = = والنسائي، وابن ماجة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والبخاري في صحيحه عن مجاهد. وابن أبي شيبة.. وابن إسحاق عن صفية بنت شيبة، والبيهقي عن عبد الله بن عمر، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبيدة.

وواضح: أن نصوص الخطبة تتفاوت، من حيث الإختصار والتطويل، والتقديم، والتأخير، واختلافات أخرى. وكيف كان فهي موجودة في المصادر التالية:

السيرة الحلبية ج3 ص98 والبحار ج21 ص132 و 135 و 136 و 105 و 106 والكافي ج3 ص227 و 228 و 328 وعن صحيح مسلم ج2 ص988 و 989 وعن صحيح البخاري ج1 ص39 وج3 ص165 وج4 ص127 وج5 ص194 وج9 ص6 و 17 ومجمع البيان ج1 ص206 وج10 ص557 عن إعلام الورى، وسنن أبي داود ج2 ص212 وج3 ص319 وج4 ص172 والجامع الصحيح للترمذي ج5 ص39 ومسند أحمد ج1 ص259 وج2 ص238 ومقدمة ابن الصلاح ص170 ومعالم السنن ج4 ص184 وجامع بيان العلم ج2 ص84 وتدريب الراوي ج2 ص66 والسنة قبل التدوين ص305 عن فتح الباري ج1 ص183 و 184 و 217 وج5 ص63 وج12 ص181 ـ 183 والتراتيب الإدارية ج2 ص249 ومعادن الجواهر ج1 ص10 والمحدث الفاصل ص363 و 364 وإرشاد الساري ج1 ص168 وعمدة القاري ج1 ص567 وج2 ص163 وج12 ص275 وج24 ص42 وأسد الغابة ج2 ص384 وج5 ص224 وتيسير الوصول ج3 ص176 وصحائف الصحابة ص31 والفقيه والمتفقه ج1 ص91 وسنن الدارقطني ج3 ص97 وتدوين السنة ص88 وعن المصنف لابن أبي شيبة ج14 ص495 وتاريخ الخميس ج2 ص84 و 85 و 90 وتهذيب الآثار ج1 ص255 ورسالات نبوية ص53 والدر المنثور ج1 ص122 وفتوح البلدان للبلاذري ص57 ومعجم البلدان ج5 ص183 وسنن ابن ماجة ج2 ص1038 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 = = ق1 ص99 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص52 والإصابة ج2 ص135 وج4 ص10 والكفاية للخطيب ص53 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص50 وأحكام القرآن للجصاص ج2 ص306 وشرح النهج للمعتزلي ج17 ص281 وزاد المعاد ج2 ص166 و 185 و 203 والإستيعاب ج4 ص106 والتاج الجامع للأصول ج2 ص172 والفتح الرباني ج23 ص241 و 242 والبداية والنهاية ج4 ص304 ومدينة البلاغة ج1 ص72 والمغازي للواقدي ج2 ص835 و 836 و 837 وجامع أحاديث الشيعة ج10 ص102 والجامع لأحكام القرآن ج2 ص118 وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج2 ص327 وغير ذلك.

([8]) تقييد العلم ص86.

([9]) البحار ج21 ص105 و 106 و 132 ومجمع البيان ج10 ص557 عن إعلام الورى.

([10]) البحار ج21 ص111 عن كتاب صفات الشيعة للصدوق ص4.

([11]) تاريخ الخميس ج2 ص85.

([12]) الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص342 وأسد الغابة ج4 ص387 وفتح الباري ج13 ص207.

([13]) الإصابة ج2 ص305.

([14]) الإمامة والسياسة ج1 ص85 و (في طبعة) 71 و (في أخرى) 81 والعقد الفريد ج4 ص136 ونهج البلاغة ج2 ص5 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص76 وج14 ص36.

([15]) راجع: الإمامة والسياسة ج1 ص100 و (في طبعة أخرى) 85 و (في طبعة ثالثة) 97 وشرح النهج للمعتزلي ج8 ص66.

([16]) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص246.

([17]) الإمامة والسياسة ج1 ص98 و (في طبعة أخرى) 75 و (في طبعة ثالثة) 85.

([18]) الغدير ج10 ص31.

([19]) مروج الذهب ج3 ص52.

([20]) الإستيعاب ج2 ص402 وأسد الغابة ج3 ص318.

([21]) الآية 126 من سورة البقرة.

([22]) الآية 35 من سورة إبراهيم.

([23]) تفسير الميزان ج12 ص68 و 69 والتفسير الكبير للرازي ج4 ص55.

([24]) راجع نص خطبة النبي «صلى الله عليه وآله» في مكة في المصادر المختلفة المتقدمة.

([25]) الآية 37 من سورة إبراهيم.

([26]) الآية 13 من سورة الحجرات.

([27]) راجع: المحلى لابن حزم ج10 ص497 وصحيح ابن حبان ج9 ص28 والتنبيه والإشراف للمسعودي ص232.

([28]) مكاتيب الرسول ج3 ص594.

([29]) الآية 106 من سورة يوسف.

([30]) راجع: المغازي للواقدي ج2 ص840 و 841.

([31]) طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص64 وأسد الغابة ج3 ص131 والإصابة ج2 ص287 وصفة الصفوة ج1 ص386 والسيرة الحلبية ج2 ص300.

([32]) راجع: السيرة الحلبية ج2 ص300.

([33]) راجع: أسد الغابة ج3 ص131 والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج2 ص272 ـ 274 والإصابة ج4 ص4 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ق1 ص62 والتنبيه والإشراف ص223.

([34]) راجع: الإصابة ج4 ص3 و 4 والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج4 ص12 و 13 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ق1 ص62.

([35]) الكافي ج5 ص294 وراجع ص292 وراجع أيضاً: من لا يحضره الفقيه ج3 ص233 و 103 وتهذيب الأحكام ج7 ص147 والوسائل ج17 ص340 و 341 والبحار ج100 ص127 والفائق ج2 ص442 ومصابيح السنة للبغوي ج2 ص14 والنظم الإسلامية ص321 عن أبي داود، وعن عون المعبود ج2 ص352.

([36]) أضواء على السنة المحمدية لأبي رية ص125ونظرات في التصوف والكرامات لمحمد جواد مغنية 89.

([37]) مستند الشيعة ج1 ص6 والإمام علي للهمداني ص362 والفوائد الرجالية لبحر العلوم ج1 ص29 وراجع: الفوائد العلية ج2 ص394 والجواهر السنية 361 والبحار ج102 ص165 وشجرة طوبى ج1 ص33 ومشارق أنوار اليقين ص10.

([38]) الآيتان 3 و 4 من سورة النجم.

([39]) الإحكام في أصول الأحكام ج4 ص144 و 145..

([40]) الإحكام في أصول الأحكام ج4 ص184.

([41]) الآيتان 3 و 4 من سورة النجم.

([42]) الإحكام في أصول الأحكام ج4 ص144 و 145..

([43]) الإحكام في أصول الأحكام ج4 ص182.

([44]) الإحكام في أصول الأحكام ج4 ص184

([45]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص243 عن ابن أبي شيبة.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان