مفتاح
الكعبة.. والبيعة في مكة
مفتاح
الكعبة مع الرسول
:
ثم خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» من البيت
والمفتاح في يده، وخالد بن الوليد يذب الناس عن الباب حتى خرج رسول
الله «صلى الله عليه وآله».
وعن برة بنت أبي تجراة، قالت:
نظرت رسول الله «صلى الله عليه وآله» وفي يده المفتاح،
ثم جعله في كمه([2]).
قال الزهري:
إنه بعد أن خطب النبي «صلى الله عليه وآله» خطبته
المتقدمة، نزل رسول الله «صلى الله عليه وآله» ومعه المفتاح، فتنحى من
المسجد، فجلس عند السقاية([3]).
وكان «صلى الله عليه وآله» قد قبض مفتاح السقاية من
العباس، ومفتاح البيت من عثمان. فأرجع المفتاح إلى عثمان ودفع السقاية
إلى العباس([4]).
وقالوا:
قال عثمان بن طلحة: لقيني رسول الله «صلى الله عليه وآله» بمكة قبل
الهجرة، فدعاني إلى الإسلام، فقلت: يا محمد، العجب لك حيث تطمع أن
أتبعك، وقد خالفت دين قومك، وجئت بدين محدث.
وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية الإثنين والخميس، فأقبل
يوماً يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت عليه، ونلت منه.
فحلم عني، ثم قال:
«يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث
شئت».
فقلت:
لقد هلكت قريش وذلت.
قال:
«بل عمرت يومئذ وعزت».
ودخل الكعبة، فوقعت كلمته مني موقعاً، فظننت أن الأمر
سيصير كما قال، فأردت الإسلام، فإذا قومي يزبرونني زبراً شديداً.
فلما كان يوم الفتح قال لي:
«يا عثمان، ائت بالمفتاح».
فأتيته به. فأخذه مني، ثم دفعه إلي
وقال:
«خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان،
إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما وصل إليكم من هذا البيت
بالمعروف».
فلما وليت ناداني، فرجعت إليه،
فقال:
«ألم يكن الذي قلت لك؟
فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: «لعلك سترى هذا المفتاح
يوماً بيدي أضعه حيث شئت».
فقلت:
بلى. أشهد أنك رسول الله.
فقام علي بن أبي طالب، ومفتاح
الكعبة بيده، فقال:
يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية!
(وفي
رواية:
أن العباس تطاول يومئذٍ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم. أي منهم علي
«عليه السلام»)([5]).
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
أين عثمان بن طلحة؟
فدعي، فقال:
«هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء».
قالوا:
وأعطاه المفتاح ورسول الله «صلى الله عليه وآله» مضطبع ([6])
بثوبه عليه، وقال: «غيبوه. إن الله تعالى رضي لكم بها في الجاهلية
والإسلام»([7]).
وعن ابن جريح:
أن علياً «عليه السلام» قال للنبي «صلى الله عليه وآله»: اجمع لنا
الحجابة والسقاية، فنزلت:
{إِنَّ
اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..}([8]).
فدعا عثمان، فقال:
«خذوها يا بني شيبة خالدة مخلدة».
وفي لفظ:
«تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم»([9]).
وعن جابر ومجاهد:
أنه «صلى الله عليه وآله» دخل في الكعبة يوم الفتح،
فخرج «صلى الله عليه وآله» وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان بن طلحة،
فدفع إليه المفتاح، وقال «صلى الله عليه وآله»: «خذوها يا بني أبي طلحة
بأمانة الله سبحانه وتعالى لا ينزعها منكم إلا ظالم»([10]).
وعن سعيد بن المسيب:
«لا يظلمكموها إلا كافر»([11]).
وفي لفظ ابن سابط:
أنه «صلى الله عليه وآله» قال لعثمان بن طلحة: «إني لم أدفعها إليكم،
ولكن الله تعالى دفعها إليكم»([12]).
وعن الزهري:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما خرج من البيت قال علي «عليه
السلام»: «إنا أُعطينا النبوة والسقاية والحجابة، ما قوم بأعظم نصيباً
منَّا».
فكره رسول الله «صلى الله عليه وآله» مقالته، ثم دعا
عثمان بن طلحة، فدفع المفتاح إليه وقال: «غيبوه»([13]).
فلذلك يغيب المفتاح([14]).
وعند الحلبي:
أن علياً «عليه السلام» أخذ المفتاح وقال: يا رسول الله، إجمع لنا
الحجابة مع السقاية.
فقال «صلى الله عليه وآله» لعلي
«عليه السلام»:
أكرهت وآذيت، وأمره «صلى الله عليه وآله» أن يرد المفتاح على عثمان
ويعتذر إليه، فقد أنزل الله في شأنك. أي أنزل الله عليه ذلك وهو في جوف
الكعبة. وقرأ عليه الآية، ففعل ذلك علي»([15]).
وسياق هذه الرواية يدل:
على أن علياً كرم الله وجهه أخذ المفتاح على أن لا يرده لعثمان، فلما
نزلت الآية أمره «صلى الله عليه وآله» أن يرد المفتاح لعثمان..([16]).
وعن ابن جريح عن ابن مليكة:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال لعلي يومئذ حين كلمه في
المفتاح: «إنما أعطيتكم ما تُرزؤون، ولم أعطكم ما تَرزؤون».
يقول:
«أعطيتكم السقاية لأنكم تغرمون فيها، ولم أعطكم البيت».
قال عبد الرزاق:
أي أنهم يأخذون من هديته([17]).
وعند الحلبي:
إنما أعطيتكم ما تبذلون فيه أموالكم للناس، أي وهو
السقاية، لا ما تأخذون منه من الناس أموالهم، وهي الحجابة، لشرفكم،
وعلو مقامكم([18]).
واللافت هنا:
أن الواقدي يذكر نفس هذه القضية، بعين ألفاظها، وينسبها إلى العباس لا
إلى علي «عليه السلام»([19]).
عن ابن أبي مليكة:
أن العباس ـ رضي الله عنه ـ قال للنبي «صلى الله عليه وآله»: يا نبي
الله!! اجمع لنا الحجابة مع السقاية.
ونزل الوحي على رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، فقال:
«ادعوا لي عثمان بن طلحة»، فدعي له، فدفع له النبي «صلى
الله عليه وآله» المفتاح، وستر عليه.
قال:
فرسول الله «صلى الله عليه وآله» أول من ستر عليه، ثم قال: «خذوها يا
بني طلحة، لا ينتزعها منكم إلا ظالم»([20]).
وفي رواية:
«أنه لما دعا عثمان بن طلحة، وقال له: أرني المفتاح، فأتاه به، فلما
بسط يده إليه قام العباس، فقال:
يا رسول الله، اجعله لي مع السقاية، فكف عثمان يده.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
أرني المفتاح، فبسط يده يعطيه.
فقال العباس مثل كلمته الأولى، فكف عثمان يده.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
يا عثمان، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح.
فقال:
هاك بأمانة الله».
(فأعطاه إياه، ونزلت الآية. قال ابن ظفر في الينبوع:
وهذا أولى)([21]).
ولعل هذا كان قبل دخوله «صلى الله عليه وآله» الكعبة،
فيكون طلب العباس رضي الله عنه أن يكون المفتاح له تكرر قبل دخوله
الكعبة وبعده([22]).
وبعد أن ذكر الحلبي:
أن علياً «عليه السلام» دفع المفتاح إلى عثمان.. ثم ذكر أن النبي «صلى
الله عليه وآله» طلب من عثمان أن يأتي به، قال عثمان: فأتيته به، فأخذه
ثم دفعه إليّ وقال: خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم الخ..
قال الحلبي:
«ولا مانع أن يكون ذلك بعد أن دفعه علي كرم الله وجهه
له بأمره «صلى الله عليه وآله»، وكأنه «صلى الله عليه وآله» أحب أن
يؤدي الأمانة بيده الشريفة من غير واسطة..»([23]).
ونقول:
إن لنا مع ما تقدم عدة وقفات، نجملها على النحو التالي:
ذكرت الرواية المتقدمة:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» قبض مفتاح السقاية من
العباس.
والسؤال هو:
هل كان للسقاية من زمزم مفتاح أيضاً؟! أم المقصود هو
جعل السقاية في عداد الحجابة؟!
والذي نعرفه هو:
أن السقاية كانت أحواضاً من أدم، يوضع فيها الماء العذب
من زمزم لسقاية الحاج، وقد يطرح فيها التمر، لتزيد عذوبة الماء، ويلذ
طعمه لشاربه.
فلعلهم كانوا قد وضعوا موانع تمنع الناس من الوصول إلى
تلك الأحواض، وجعلوا لها أقفالاً ومفاتيح.
ذكرت بعض الروايات المتقدمة:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال لعلي «عليه السلام» حين طلب منه أن
يجمع لهم الحجابة إلى السقاية: أكرهت وآذيت. وأمره أن يرد المفتاح إلى
عثمان، ويعتذر إليه.
ونقول:
المقصود:
أن علياً «عليه السلام» أكره وآذى عثمان بن طلحة حين
امتنع عن دفع المفتاح، حيث لحقه إلى سطح الكعبة، ولوى يده، وأخذ
المفتاح منه، وهو إكراه وأذى يحبه الله سبحانه، وفي سياق امتثال أوامره
تعالى، فإن امتناع عثمان عن إعطاء المفتاح يفرض إكراهه على ذلك، لأن
امتناعه يمثل تمرداً على رسول الله «صلى الله عليه وآله» الذي لا ينطق
عن الهوى.. فإذا لجّ في ذلك، فلا بد من إيذائه لدفع أذاه، ورد كيده..
فكأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يريد تطييب خاطر
عثمان وبني شيبة، ورد المفتاح إليهم تألفاً على الإسلام، كما كان يتألف
أبا سفيان، وغيره من رؤوس الكفر والشرك.
وقول رسول الله «صلى الله عليه
وآله» للعباس:
أعطيتكم ما ترزؤون. أي ما تبذلون فيه اموالكم للناس، لا
ما تأخذون فيه من الناس أموالاً يوضح: أن إعطاء الحجابة لبني شيبة يراد
منه إفساح المجال لهم لأخذ ما يقدمه الناس لهم، وهذا يؤيد ما ذكرناه
آنفاً من أن المقصود من بذل تلك المنافع لهم هو: تألفهم على الإسلام،
وسل سخيمتهم عليه، ليعيشوا في أجوائه بسكينة ورضاً.
ولو أن بني هاشم أخذوا الحجابة منهم، لوجد المنافقون
والحاسدون والطامعون مجالاً خصباً لاتهام النبي «صلى الله عليه وآله»
بمحاباة أهل قرابته، وابتغاء المنافع لهم، وتخصيصهم بالمغانم،
والأموال، والمناصب، الأمر الذي قد يؤثر على ضعفاء العقول، ومن هو رقيق
الدين، حديث الإيمان والإسلام.
ولا نشك في أن علياً «عليه السلام» كان يدرك هذه
الحقيقة، فلم يكن ليفكر بطلب الحجابة لنفسه، ولا لبني هاشم أصلاً كما
سنرى.. ولكن الأمر بالنسبة للعباس ليس كذلك، فقد دلتنا بعض النصوص على
أنه كان يسعى للحصول على بعض المنافع.
وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سبق، ولسنا بصدد تحقيق
هذا الأمر.
وحول نزول آية:
{إِنَّ
اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..}([24])
نقول:
إن هذه الآية قد وردت في سورة النساء التي انتهى نزولها
قبل فتح مكة بعدة سنوات، ولو قبلنا جدلاً بأن هذه الآية قد أُلحقت
بموضعها من السورة بعد سنوات من تمامية نزولها، وهو أمر لا شاهد له سوى
الإدعاء والتحكم، فإننا نقول:
قد روي في شأن نزول هذه الآية ما يدل على أنها لم تنزل
في شأن عثمان بن طلحة في فتح مكة فلاحظ ما يلي:
1 ـ
عن زيد بن أسلم: أُنزلت هذه الآية في ولاة الأمر، وفيمن
ولي من أمور الناس شيئاً([25]).
2 ـ
عن شهر بن حوشب قال: نزلت في الأمراء خاصة،
{إِنَّ
اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..}([26]).
3
ـ
عن ابن عباس في قوله تعالى:
{إِنَّ
اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..}
قال: يعني السلطان، يعطون الناس([27]).
علي
×
لا يطلب الحجابة:
وقد ذكرت الروايات:
أن علياً «عليه السلام» طلب الحجابة لنفسه أو لبني
هاشم، وقد تضمنت تلك الروايات نفسها أموراً تدل على أنها مفتراة، ونحن
نجمل ملاحظاتنا عليها على النحو التالي:
1 ـ
إن ثمة تناقضاً ظاهراً بين الروايات، بل قد تجد التناقض
في الرواية الواحدة ونذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
ألف:
أن الرواية تقول: إن النبي «صلى الله عليه وآله» أخذ
المفتاح من عثمان، ثم دفعه إليه، وقال: خذوها خالدة تالدة الخ..
ثم إن الرواية نفسها تتبع ذلك
بالقول:
فقام علي بن أبي طالب «عليه السلام» ومفتاح الكعبة
بيده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
أين عثمان بن طلحة؟
فدعي، فقال «صلى الله عليه وآله»:
هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء.
قالوا:
وأعطاه المفتاح ورسول الله «صلى الله عليه وآله» مضطبع
بثوبه عليه..
فهل أعطى النبي «صلى الله عليه وآله» عثمان المفتاح قبل
طلب علي «عليه السلام»؟! أم بعده؟!
وهل كان المفتاح مع علي «عليه السلام»؟! أم مع النبي
«صلى الله عليه وآله»؟!
وهل استعاد النبي «صلى الله عليه وآله» المفتاح من
عثمان، وصار معه، واضطبع عليه بثوبه؟ أم استعاده من علي «عليه السلام»،
كما هو صريح بعض الروايات المتقدمة؟!
ب:
هل قال النبي «صلى الله عليه وآله»: ادعوا لي عثمان،
فدعوه، فأعطاه المفتاح حين كلمه علي «عليه السلام» في أمر الحجابة؟! أم
حين كلمه العباس؟!
ج:
هل نزلت آية:
{إِنَّ
اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..}
لحظة استلام النبي «صلى الله عليه وآله» المفتاح قبل دخول الكعبة؟! أم
نزلت حين كان النبي «صلى الله عليه وآله» داخل الكعبة؟!
د:
هل إن طلب العباس من النبي «صلى الله عليه وآله» أن
يجعل الحجابة له كان قبل دخول النبي «صلى الله عليه وآله» للكعبة؟! أم
كان بعد خروجه منها؟!
وقد احتمل الحلبي الشافعي:
أن يكون طلب العباس للحجابة قد تكرر، فكان مرة قبل دخول
النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الكعبة، ومرة بعد خروجه منها([28]).
وهو كلام غير مقبول..
فإن هذا الطلب قد جوبه بالرفض، وجعل الحجابة لبني شيبة،
ونزول آية أداء الأمانة إلى أهلها.. فبعد هذا وذاك لا يبقى مجال لتكرار
الطلب من العباس، فإنه سيكون أمراً منافياً للتسليم لرسول الله «صلى
الله عليه وآله»، ومخالفاً للأدب معه، فلا يقدم عليه العباس، ولا غيره،
فإن الكل يعلم: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يخالف ما يأمره الله
تبارك وتعالى به.
أو فقل:
إن الآية قد نزلت لتحسم أمر المفتاح، فمعنى معاودة
الطلب هو رفض القرار الإلهي أو الاعتراض عليه، وهذا مما لا يمكن أن
يقدم عليه مثل العباس.
وقد صرحت الخطبة المتقدمة:
بأن الحجابة (السدانة) والسقاية مردودتان إلى أهليهما..
وتقدم أيضاً:
أنه «صلى الله عليه وآله» بعد أن طمس الصور التي كانت
في داخل الكعبة، أخذ بعضادتي الباب، فخطب خطبته الآنفة الذكر.. وقد ورد
في خطبته تلك قوله: «إلا سدانة البيت، وسقاية الحج، فإنهما مردودتان
إلى أهليهما».
فرد السقاية والسدانة إلى أهليهما قد حصل قبل أن يغادر
النبي «صلى الله عليه وآله» باب الكعبة..
ولكن الروايات المتقدمة تدَّعي:
أنه «صلى الله عليه وآله» قد وضع المفتاح في كمه، وتنحى
ناحية المسجد، فجلس عند السقاية، ثم رد الحجابة والسقاية على أهليهما.
وهناك طلب العباس، أو علي «عليه السلام»، أو كلاهما ـ
حسب زعمهم ـ الحجابة لنفسه، أو لعشيرته..
فكيف يطلبانها بعد أن صرح «صلى الله عليه وآله» بردها
إلى أهلها قبل أن يغادر باب الكعبة؟!
وأما ما نسب إلى علي «عليه السلام»
من أنه قال:
أعطينا النبوة، والسقاية، والحجابة. ما قوم بأعظم
نصيباً منا، فهو:
إما لم يحصل إن كان يقصد به إعطاء المفتاح لهم، وإيكال
أمر الحجابة إليهم. لأن ما حصل هو مجرد أخذ النبي «صلى الله عليه وآله»
المفتاح لفتح باب الكعبة، لإزالة ما في داخلها مما يسيء إليها، ولم يعط
النبي «صلى الله عليه وآله» الحجابة لأحد. لا لبني هاشم ولا لغيرهم،
ولا تعرض لهذا الأمر بعد، لا بالسلب ولا بالإيجاب، ولم تظهر منه أية
إشارة إلى الجهة التي سوف يوكل إليها أمر الحجابة..
وإما أنه قد حصل، ولكن قد قصد به معنى آخر، وهو: أن أمر
الحجابة والسقاية قد أصبح لرسول الله يضعه حيث يشاء.
فرسول الله «صلى الله عليه وآله» من بني هاشم، وله
النبوة، وله أمر السقاية والحجابة، فيصح للهاشمي أن يقول: «أعطينا
النبوة، والسقاية، والحجابة، ما قوم بأعظم نصيباً منا». ولا يخفى أنه
بهذا المعنى تكون كل الأمور بيد النبي «صلى الله عليه وآله»، فلا
خصوصية للسقاية والحجابة.
إلا أن يدّعى:
أن الخصوصية كون المقام مقام جعل هذين الأمرين ـ السقاية والحجابة ـ في
أهليهما دون غيرهما من الأمور!!
والحاصل:
أن المقصود إن كان هذا المعنى، فلا معنى لما تذكره الرواية من أن النبي
«صلى الله عليه وآله» كره مقالته.. بل المتوقع منه هو أن يؤيدها،
ويصدقها.
وإن كان المقصود:
هو المعنى الأول، فذلك لا يقصده علي «عليه السلام»، لأنه أمر لا واقع
له.
عن الأسود بن خلف:
أنه رأى رسول الله «صلى الله عليه وآله» يبايع الناس يوم الفتح. قال:
جلس عند قرن مَسْفَلَة، فبايع الناس على الإسلام، فجاءه الكبار
والصغار، والرجال والنساء، فبايعهم على الإيمان بالله تعالى، وشهادة أن
لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله([29]).
وقال ابن جرير:
اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله «صلى الله عليه وآله» على الإسلام،
فجلس لهم ـ فيما بلغني ـ على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل من مجلس رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله
فيما استطاعوا([30]).
فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت
عتبة، امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة خوفاً من رسول الله «صلى الله
عليه وآله» أن يخبرها بما كان من صنيعها بحمزة، فهي تخاف أن يأخذ
بحدثها ذلك.
فلما دنين من رسول الله «صلى الله
عليه وآله» قال:
«بايعنني على ألا تشركن بالله شيئاً».
فرفعت هند رأسها وقالت:
والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال.
فقال:
«ولا تسرقن».
فقالت:
والله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة، وما كنت
أدري أكان ذلك حلالاً أم لا؟
فقال أبو سفيان ـ وكان شاهداً لما
تقول ـ:
أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل، عفا الله عنك.
ثم قال:
«ولا تزنين».
فقالت:
يا رسول الله، أوتزني الحرة؟!
ثم قال:
«ولا تقتلن أولادكن».
قالت:
قد ربيناهم صغاراً، وقتلتَهم كباراً، فأنت وهم أعلم.
فضحك رسول الله «صلى الله عليه
وآله» وعمر، ثم قال:
«ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن».
فقالت:
والله، إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.
ثم قال:
«ولا تعصين».
فقالت:
في معروف.
وفي الحلبية:
لما قال «صلى الله عليه وآله»: ولا تعصين في معروف.
قالت:
والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك([31]).
وفيها أيضاً:
أن هنداً قالت: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟
قال:
لا تصحن (أو لا تنحن)، ولا تخمشن وجهاً، ولا تنشرن شعراً، ولا تحلقن
قرناً، ولا تشققن جيباً، ولا تدعين بالويل([32]).
ثم قال رسول الله «صلى الله عليه
وآله» لعمر:
«بايعهن، واستغفر لهن الله، إن الله غفور رحيم».
فبايعهن عمر، وكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا
يصافح النساء، ولا يمس جلدة امرأة لم يحلها الله تعالى له، أو ذات
محرم.
وروى الشيخان، عن عائشة قالت:
لا والله ما مست يد رسول الله «صلى الله عليه وآله» يد امرأة قط.
وفي رواية:
ما كان يبايعهن إلا كلاماً، ويقول: إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة
امرأة([33]).
زاد في نص آخر قوله:
ولا تلحقن بأزواجكن غير أولادهم([34]).
وجاءه «صلى الله عليه وآله» رجل، فأخذته الرعدة، فقال
له «صلى الله عليه وآله»: هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة
كانت تأكل القديد([35]).
وروى علي بن إبراهيم:
عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (البزنطي)، عن أبان، عن أبي عبد
الله «عليه السلام» قال: لما فتح رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة
بايع الرجال. ثم جاء النساء يبايعنه، فأنزل الله عز وجل:
{يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى
أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللهِِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا
يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ
بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا
يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ
اللَهَ إِنَّ اللَهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}([36]).
فقالت هند:
أما الولد فقد ربيناهم صغاراً، وقتلتهم كباراً.
وقالت أم حكيم بنت الحارث بن هشام، و كانت عند عكرمة بن
أبي جهل: يا رسول الله، ما ذلك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك
فيه؟
قال:
لا تلطمن خداً، ولا تخمشن وجهاً، ولا تنتفن شعراً، ولا
تشققن جيباً، ولا تسودن ثوباً، ولا تدعين بويل.
فبايعهن رسول الله «صلى الله عليه وآله» على هذا.
فقالت:
يا رسول الله، كيف نبايعك؟
قال:
إنني لا أصافح النساء.
فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم
أخرجها، فقال:
أدخلن أيديكن في هذا الماء، فهي البيعة.
وفي الكافي:
رواه عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه عن أبي
عبد الله «عليه السلام» مثله([37]).
وفي مدارك التنزيل:
أنه «صلى الله عليه وآله» لما فرغ من بيعة الرجال أخذ
في بيعة النساء وهو على الصفا، وعمر جالس أسفل منه يبايعهن بأمره،
ويبلغهن عنه.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً.
فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً الخ..
([38]).
وذكروا:
أن هنداً لما قالت: قد ربيناهم صغاراً، وقتلتهم كباراً،
فأنت وهم أعلم. ضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول الله «صلى الله عليه
وآله»([39])،
ولم يذكروا عن سبب ضحك أو تبسم عمر شيئاً.
والظاهر هو:
أن ثمة تصرفاً وحذفاً متعمداً، ويدل عليه ما رواه
الطبرسي وغيره، قال:
«فقال:
ولا تزنين.
فقالت هند:
أوتزني الحرة؟
فتبسم عمر بن الخطاب لما جرى بينها وبينه في الجاهلية.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
ولا تقتلن أولادكن.
فقالت هند:
ربيناهم صغاراً، وقتلتموهم كباراً، فأنتم وهم أعلم.
وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب
«عليه السلام» يوم بدر.
فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم النبي «صلى الله عليه
وآله»..»([40]).
ولكن النص الذي أورده الدياربكري قد حرَّف الحقيقة،
وأصبح بحيث يوحي: بأن ضحك النبي «صلى الله عليه وآله» إنما كان لأجل
أنه عرفها وهي متنقبة ومتنكرة، فقد قال: «فقالت هند: إن أبا سفيان رجل
شحيح، فإن أصبت من ماله هناةً؟
فقال أبو سفيان:
ما أصبت فهو لك حلال.
فضحك النبي «صلى الله عليه وآله»
وعرفها، وقال لها:
وإنك لهند؟!
فقالت:
نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك»([41]).
إلا أن يقال:
إنه «صلى الله عليه وآله» قد ضحك لما عرفها، فلا مانع
من أن يضحك مرة أخرى حين قالت ما قالت من أجل ما يعرفه عنها.
مع تذكيرنا القارئ الكريم بأننا لا
نوافق على زعمهم:
من أنه «صلى الله عليه وآله» لم يعرفها في بادئ الأمر.
بل نقول:
إنه قد ضحك منها، لظنها أنه لم يكن قد عرفها.
إننا لا نحب أن نذكر بعض الأمور التي قد يسعى البعض
لتصنيفها في عداد الأمور الشخصية، التي يحسن التستر عليها ما دام أنها
لا فائدة من إثارة الحديث حولها، لا من الناحية التربوية والسلوكية،
ولا من الناحية الإيمانية والإعتقادية، كما لا أثر لها في استفادة
المعنى والمفهوم الذي يفيد في تحديد النهج، أو يؤثر على المسار
السياسي، أو ما إلى ذلك.
غير أننا نقول:
إن هناك ميزات أو حالات شخصية لبعض الأفراد يفيد التعرف
عليها في وضوح المفهوم العقائدي أحياناً، وربما يؤثر على المسار
والسلوك حتى في النواحي السياسية لأمة بأسرها. من حيث إنه يطبعه في
إطار تلك الخصوصية بطابع الشرع والتدين والإعتقاد، والممارسة السياسية
وغيرها..
ويأتي موضوع هند بنت عتبة في هذا السياق.. لأن هنداً هي
أم معاوية مؤسس الدولة الأموية، التي حكمت الأمة عشرات السنين باسم
خلافة النبوة، وباسم الدين والشرع.
فإذا أثبتت الأحداث والنصوص:
أن معاوية كان من الطلقاء..
وأثبتت وجود شكوك وشبهات في طهارة مولده، من خلال ما
ينسب لأمه، فإن تصديه لأمر الخلافة، بل لأي مقام هو أقل من ذلك بمراتب،
يصبح بلا مبرر حتى بنظر من لا يرون أن الإمامة إنما تجب بالنص والتعيين
من الله ورسوله..
بالإضافة إلى آثار أخرى تترتب على ظهور هذه الشكوك..
من أجل ذلك نقول:
إن النصوص حول هذا الموضوع كثيرة نختار منها ما يلي:
قالوا:
1 ـ
كانت هند تُذكر في مكة بفجور وعهر([42]).
2 ـ
كانت كما يقول الكلبي: مغيلمة (أي تغلبها شهوتها)،
وكانت تميل إلى السودان من الرجال([43]).
3 ـ
قد اعترف معاوية نفسه: بأن بعض قريش في الجاهلية
يزعمون: أن معاوية للعباس بن المطلب.. وقد عرَّض إسحاق بن طلحة بذلك
ليزيد بن معاوية([44]).
4 ـ
وقد كتب زياد بن أبيه لمعاوية: «وأما تعييرك لي بسمية،
فإن كنت ابن سمية، فأنت ابن جماعة»([45]).
5 ـ
وقال الإمام الحسن «عليه السلام» لمعاوية: «وقد علمت
الفراش الذي ولدت عليه»([46]).
6ـ
وتقدم: أن عمر تبسم حين قالت: أوتزني الحرة، لما جرى
بينه وبينها في الجاهلية([47]).
قالوا:
«وفي إسلام أبي سفيان قبل هند، وإسلامها قبل انقضاء
عدتها، أي لأنها أسلمت بعده بليلة واحدة، وإقرارها على نكاحهما حجة
لشافعي..»([48]).
ونقول:
قد تقدم:
أنه «صلى الله عليه وآله» قد أرجع زينب على أبي العاص
حين أسلم قبل انقضاء عدتها.
كما أن من الواضح:
أن مئات من الناس قبل إسلام هند وأبي سفيان قد أسلموا
قبل إسلام نسائهم، ولم يفرق النبي «صلى الله عليه وآله» بينهم لأنهن
أسلمن قبل انقضاء عدتهن، فلا حاجة للاستدلال بهند وزوجها.
وجاء:
أن بعض النساء ـ وصرح الواقدي بأنها هند ـ قالت: يا
رسول الله، نماسحك، أو قالت: هلم نبايعك يا رسول الله.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
لا أصافح النساء. وإنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة
واحدة.
وفي نص آخر:
لألف امرأة([49]).
ونقول:
لعل طلب النساء منه «صلى الله عليه وآله» أن يبايعنه
بطريقة المصافحة قد تكرر من قبل عدة نساء، فتكررت الإجابة، فعبر تارة
بمائة امرأة، وأخرى بألف..
وعن عائشة:
لم يصافح رسول الله «صلى الله عليه وآله» امرأة قط،
وإنما كان يبايعهن بالكلام([50]).
وعن الشعبي:
بايع رسول الله «صلى الله عليه وآله» النساء وعلى يده
ثوب.
وقيل:
إنه غمس يده في إناء، وأمرهن فغمسن أيديهن فيه. فكانت
هذه البيعة.
قال ابن الجوزي:
والقول الأول أثبت([51]).
ونقول:
لقد كانت هناك عدة بيعات للنساء مع رسول الله «صلى الله
عليه وآله».
إحداها:
يوم الفتح.
وبيعة أخرى:
حين قدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة، فقد روت أم عطية: أنه
«صلى الله عليه وآله» جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن
الخطاب، فقام على الباب، فسلم، فرددن عليه السلام، فقال: أنا رسول رسول
الله «صلى الله عليه وآله» إليكن، يبايعكن على أن لا تشركن بالله
شيئاً.. وقرأ إلى قوله تعالى:
{..فِي
مَعْرُوفٍ..}([52]).
فقلن:
نعم.
فمد يده من خارج، ومددن أيديهن من داخل البيت، ثم قال:
اللهم اشهد.
قال الحلبي:
ولعل ذلك كان بحائل، والفتنة مأمونة([53]).
والخلاصة:
أن البيعة قد تكررت قبل الهجرة وبعدها، وفي يوم الفتح، وفي غيره، فلعله
«صلى الله عليه وآله» بايعهن مرة بواسطة غمس اليد في الإناء، وأخرى
بالكلام..
وأما البيعة بالمصافحة من وراء الثوب، فنحن لا نستطيع
أن ننسبها إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد تقدم التصريح بأنه
لا يصافح النساء، ولعل عمر هو الذي فعل ذلك، فنسب ذلك إلى النبي «صلى
الله عليه وآله»، لأنه زعم لهن أنه مرسل من قبله «صلى الله عليه وآله».
ودعوى ذلك من قبل الشعبي، الذي قد
يتهم:
بأنه يريد تبرير فعل بعض من كان يسعى لتأييد سلطانهم، وإحكام بنيانهم،
تبقى غير قابلة للإعتماد، فإن الشعبي لم يكن في زمان النبي «صلى الله
عليه وآله»، ولا ندري عمن نقل هذه الكذبة الظاهرة.
أما ما أظهرته هند من جرأة في محضر رسول الله «صلى الله
عليه وآله».. حتى إنها كانت تعقب على كل كلمة قالها، وكل شرط أخذه «صلى
الله عليه وآله» على النساء، فقد يحسب البعض أنه أمر تستحق المدح
والثناء عليه، كما أنه يشير إلى أنها تعيش معنى الحرية بمفهومها
الأوسع..
ويؤيد ذلك:
أننا لم نجد من النبي «صلى الله عليه وآله» ما يشير إلى أي تبرم، أو
تضايق، أو اعتراض على أقوالها ومداخلاتها..
غير أننا نقول:
إن هذا الذي فعلته هند إن دل على شيء، فإنما يدل على
أنها لا توقر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولا تلتزم بحدود الآداب
معه، بل في كلماتها ما يدل على حقدها الدفين، وبغضها الراسخ لرسول الله
«صلى الله عليه وآله»، فلاحظ ما يلي:
1 ـ
إنها تقول: «والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه على
الرجال» وهذا يمثل محاولة منها للتشكيك بإنصاف رسول الله «صلى الله
عليه وآله» وعدله.. بل هي تريد الإيحاء بأنه «صلى الله عليه وآله» قاسٍ
وظالم، ولا ينطلق في ممارساته من موازين العدل، ولا مما تقضي به
الفطرة، ويحكم به العقل، لأنه يأخذ على النساء ما لا يأخذه على
الرجال.. مع أن الرجال أقوى من النساء.
2 ـ
ثم إنه لما قال «صلى الله عليه وآله»: «ولا تقتلن
أولادكن». قالت: «ربيناهم صغاراً، وقتلتهم كباراً، فأنت وهم أعلم».
فقد تضمن كلامها هذا:
التلويح بثاراتها عند رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
والتصريح بأن النبي قاتل الأبناء والأحبة، حين كبروا.
والتشكيك في أن يكون محقاً في قتله
إياهم، حيث قالت:
فأنت وهم أعلم.
وهل نسيت هند:
أنها وزوجها، وأهلها، وعشيرتها كانوا باستمرار هم الذين
يهاجمون رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويسعون في محو ذكره، وإبطال
أمره، واستئصال شأفته؟!
وهل نسيت هند:
كبد الحمزة حين حاولت أن تأكلها، فلاكتها ولم تستطع أن
تسيغها، فلفظتها، حتى سميت بآكلة الأكباد؟!
وأخيراً، فإننا نلاحظ:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد تجاهل هذه المرأة
تجاهلاً تاماً، ولم يعلق على كلماتها بشيء، رغم أنها كانت جارحة له،
حسبما أوضحناه.
وذلك هو الخلق النبيل، وتلك هي سعة الصدر، والسماحة،
والصفح، والعفو عند المقدرة. ومن أولى من رسول الله«صلى الله عليه
وآله» بذلك كله؟
وزعموا:
أن عمر بن الخطاب كان يبايع النساء بأمره «صلى الله
عليه وآله»، ويبلغهن عنه..
ولا نجد حاجة لأمر كهذا، ولو احتاج النبي «صلى الله
عليه وآله» إلى من يعينه في بيعة النساء، فلماذا لا يحتاج إلى مثل هذا
المعين في بيعة الرجال؟ فإنه لا فرق بين الجنسين من حيث كثرة العدد،
ولا في أي شيء يوجب المعونة هنا، والإستغناء عنها هناك.
فلعل عمر قد حشر نفسه في هذا الأمر، وحاول أن يعيد
كلمات النبي «صلى الله عليه وآله» على مسامعهن، ليظهر لهن أن له
موقعاً، أو يوهم الناس أنه يقوم بعملٍ ما في هذا الفتح العظيم، الذي لم
نجد له فيه مكاناً، ولا سمعنا له فيه صوتاً، لا في تحطيم الأصنام، ولا
في ملاحقة المطلوبين للعدالة، الذين أهدر رسول الله «صلى الله عليه
وآله» دمهم.. بل وجدناه فقط مع النساء كما يقولون.
وعمر رجل مغرم بالنساء بصورة غير عادية، وقد ذكرنا في
موضع سابق من هذا الكتاب: أنه كان إذا أراد الحاجة تقول له زوجته: تذهب
إلى بنات فلان تنظر إليهن([54]).
وهو الذي يقول:
إنه لم يبق فيه شيء من أمر الجاهلية، إلا أنه لا يبالي
أي الناس نكح، وأيهم أنكح([55]).
وقصته مع عاتكة بنت زيد، التي كانت جميلة، ومات زوجها
فخطبها عمر، فرفضته، فعقد لنفسه ـ بزعمه ـ ثم ذهب إليها فعاركها حتى
وطأها أشهر من أن تذكر([56]).
وكان من جملة من بايع النبي «صلى الله عليه وآله»
معاوية.
فقد روي عنه قوله:
لما كان عام الحديبية وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك
لأمي.
فقالت:
إياك أن تخالف أباك، فيقطع عنك القوت.
فأسلمت، وأخفيت إسلامي.
فقال لي يوماً أبو سفيان، وكأنه شعر
بإسلامي:
أخوك خير منك، وهو على ديني.
فلما كان عام الفتح أظهرت إسلامي، ولقيته «صلى الله
عليه وآله»، فرحب بي الخ..([57]).
ثم يستمر الحلبي في ذكر فضائل معاوية ومآثره..
ونقول:
أولاً:
إن هذا الحديث مروي عن معاوية نفسه، وهو غير مأمون على
الرواية مطلقاً، فكيف إذا كان يحدث عن نفسه، ويريد أن يثبت لها فضيلة،
أو يدفع عنها رذيلة؟
ثانياً:
إن هذا الكلام غير صحيح، إذ إن معاوية لو كان قد أسلم
قبل ذلك لم يصح أن يعتبره المسلمون من الطلقاء. وقد تقدمت طائفة من
النصوص التي تصرح بذلك، وهي مروية عن: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب
«عليه السلام»، وابن عباس، والمسور بن مخرمة، وسعنة بن عريض، وصعصعة بن
صوحان، وعبد الرحمن بن غنم.. فراجع ما قدمناه في فصل سابق، في فقرة
بعنوان: «الطلقاء.. والخلافة».
والذي يبدو لنا:
أن معاوية قد أراد أن يتخلص من وصمة العار هذه، فاخترع
لنفسه هذا الحديث..
([1])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص243 عن ابن أبي شيبة.
([2])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص242 عن الواقدي، والسيرة الحلبية ج3
ص100 والمغازي للواقدي ج2 ص835.
([3])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص243 عن عبد الرزاق، والطبراني، والمغازي
للواقدي ج2 ص837 و 838.
([4])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص243 عن الواقدي، عن شيوخه، والمغازي
للواقدي ج2 ص837 و 838.
([5])
راجع هذه الفقرة في: السيرة الحلبية ج3 ص100 وسبل الهدى
والرشاد ج5 ص244 وفي هامشه عن البداية والنهاية ج4 ص301.
([6])
اضطبع: أدخل الرداء تحت إبطه الأيمن وغطى به الأيسر.
([7])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص244 عن ابن سعد والواقدي، والسيرة
الحلبية ج3 ص100 و 101 وراجع: المغازي للواقدي ج2 ص837 وتاريخ
الخميس ج2 ص85 و 88 وعن البداية والنهاية ج4 ص301.
([8])
الآية 58 من سورة النساء.
([9])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص244 و 245 عن ابن عائذ، والأزرقي،
وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص100.
([10])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص245 عن الأزرقي وقال في هامشه: أخرجه
الطبراني في الكبير ج11 ص120، وانظر المجمع ج3 ص285 وابن سعد
ج2 ق1 ص99 وأبا نعيم في تاريخ أصفهان ج1 ص248 والسيوطي في الدر
المنثور ج2 ص175 و 174 عن ابن جرير وابن المنذر.
([11])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص245 والسيرة الحلبية ج3 ص101.
([12])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص244 عن ابن عائذ، وابن أبي شيبة،
والسيرة الحلبية ج3 ص101.
([13])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص245 عن عبد الرزاق، والطبراني.
([14])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص244 عن الفاكهي.
([15])
السيرة الحلبية ج3 ص100.
([16])
السيرة الحلبية ج3 ص100.
([17])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص245 عن عبد الرزاق والسيرة الحلبية ج3
ص100 وتاريخ الخميس ج2 ص85.
([18])
السيرة الحلبية ج3 ص100.
([19])
راجع: المغازي ج2 ص833 وتاريخ الخميس ج2 ص85 عن البحر العميق.
([20])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص245 عن عبد الرزاق.
([21])
تاريخ الخميس ج2 ص87 والدر المنثور ج2 ص174 عن ابن مردويه،
والسيرة الحلبية ج3 ص101.
([22])
السيرة الحلبية ج3 ص101.
([23])
السيرة الحلبية ج3 ص101.
([24])
الآية 58 من سورة النساء.
([25])
الدر المنثور ج2 ص175 عن المصنف لابن أبي شيبة، وابن جرير،
وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
([26])
الدر المنثور ج2 ص175 عن ابن جرير، وابن أبي حاتم.
([27])
الدر المنثور ج2 ص175 عن ابن جرير، وابن أبي حاتم.
([28])
السيرة الحلبية ج3 ص101.
([29])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص247 عن أحمد، والبيهقي، وفي هامشه عن:
مسند أحمد ج3 ص415 وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص94.
([30])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص247 وتاريخ الخميس ج2 ص89.
([31])
السيرة الحلبية ج3 ص96.
([32])
السيرة الحلبية ج3 ص96.
([33])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص247 و 248 عن ابن جرير، وفي هامشه عن:
مسند أحمد ج6 ص357 وزاد المسير ج8 ص145 والبداية والنهاية ج4
ص319 وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص94 و 96 والبحار ج21 ص98 عن
مجمع البيان ج9 ص275 و 276 وتاريخ الخميس ج2 ص89.
([34])
السيرة الحلبية ج3 ص96.
([35])
السيرة الحلبية ج3 ص94.
([36])
الآية 12 من سورة الممتحنة.
([37])
الكافي ج3 ص66 والبحار ج21 ص134 و 113 و 117 وج64 ص178 عنه وعن
تفسير القمي ج2 ص364، والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج20 ص211
وتفسير الصافي ج5 ص166 وتفسير نور الثقلين ج5 ص307 وتفسير
الميزان ج19 ص246 وتحف العقول (ط2) ص457 عن أبي جعفر.
([38])
تاريخ الخميس ج2 ص89.
([39])
السيرة الحلبية ج3 ص96.
([40])
مجمع البيان ج9 ص275 و 276 والبحار ج21 ص98.
([41])
تاريخ الخميس ج2 ص89.
([42])
شرح النهج للمعتزلي ج1 ص336 الخطبة رقم (25) والبحار ج33 ص200
والغدير ج10 ص170.
([43])
راجع: الغدير (ط سنة 1424 هـ) ج11 ص242 وتذكرة الخواص ص203.
([44])
ربيع الأبرار ج3 ص551 وتذكرة الخواص ص203 والغدير ج10 ص170.
([45])
شرح النهج للمعتزلي ج16 ص183.
([46])
تذكرة الخواص ص201 و 202.
([47])
وراجع: تذكرة الخواص ص203.
([48])
السيرة الحلبية ج3 ص96 و 97.
([49])
السيرة الحلبية ج3 ص97 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص148 والمغازي
للواقدي ج2 ص850 و 851.
([50])
البحار ج21 ص98 ومجمع البيان ج9 ص275 و 276 عن صحيح البخاري.
([51])
السيرة الحلبية ج3 ص97 والبحار ج21 ص98 ومجمع البيان ج9 ص99 و
276 والمغازي للواقدي ج2 ص851.
([52])
الآية 12 من سورة الممتحنة.
([53])
السيرة الحلبية ج3 ص97.
([54])
راجع: المصنف لعبد الرزاق ج7 ص303 ومجمع الزوائد ج4 ص304 عن
الطبراني.
([55])
طبقات ابن سعد (ط بيروت سنة 1377 هـ) ج3 ص982.
([56])
طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج8 ص194 وكنز العمال ج13 ص633.
([57])
السيرة الحلبية ج3 ص94 و 95.
|