حـصـــار الـطــــــائــف
الطائف بلد كبير، يقع على ثلاث مراحل، أو على مرحلتين
من مكة، إلى جهة المشرق([1]).
وقالوا:
إنه لما فتح رسول الله «صلى الله عليه وآله» حنيناً
لعشر، أو لأحد عشر من شوال، خرج إلى الطائف يريد جمعاً من هوازن وثقيف،
وكانوا قد هربوا من معركة حنين([2]).
ويذكرون في بيان ما جرى:
أنه لما قدم فَلُّ ثقيف الطائف رمُّوا حصنهم، وأغلقوا
عليهم أبواب مدينتهم، وتهيؤا للقتال.
وكانوا أدخلوا فيه قوت سنة لو حصروا، وجمعوا حجارة
كثيرة، وأعدوا سككاً من الحديد، ورتبوا عليه المجانيق، وأدخلوا معهم
قوماً من العرب من عقيل وغيرهم، وأمروا بسرحهم أن يرفع في موضع يأمنون
فيه.
وقدَّم رسول الله «صلى الله عليه وآله» بين يديه خالد
بن الوليد في ألف من أصحابه إلى الطائف، فأتى خالد الطائف، فنزل ناحية
من الحصن، وقامت ثقيف على حصنها بالرجال والسلاح.
ودنا خالد في نفر من أصحابه، فدار بالحصن، ونظر إلى
نواحيه، ثم وقف في ناحية من الحصن فنادى بأعلى صوته: ينزل إلي بعضكم
أكلمه، وهو آمن حتى يرجع، أو اجعلوا لي مثل ما جعلت لكم، وأدخل عليكم
حصنكم أكلمكم.
قالوا:
لا ينزل إليك رجل منا، ولا تصل إلينا.
وقالوا:
يا خالد، إن صاحبكم لم يلق قوماً يحسنون قتاله غيرنا.
قال خالد:
فاسمعوا من قولي، نزل رسول الله «صلى الله عليه وآله»
بأهل الحصون والقوة بيثرب، وخيبر، وبعث رجلاً واحداً إلى فدك، فنزلوا
على حكمه.
وأنا أحذركم مثل يوم بني قريظة، حصرهم رسول الله «صلى
الله عليه وآله» أياماً، ثم نزلوا على حكمه، فقتل مقاتلتهم في صعيد
واحد، ثم سبى الذرية، ثم دخل مكة فافتتحها، وأوطأ هوازن في جمعها،
وأنتم في حصن في ناحية من الأرض، لو ترككم لقتلكم من حولكم ممن أسلم.
قالوا:
لا نفارق ديننا.
ثم رجع خالد بن الوليد إلى منزله([3]).
ونقول:
إننا نذكر القارئ الكريم بالأمور التالية:
1 ـ
إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أبقى جيشه على نفس
التعبئة التي خرج عليها من مكة، فأبقى خالداً على مقدمته التي كانت
تتكون من أهل مكة، ومن بني سليم، وكانوا ألف رجل كما يقولون.
والظاهر:
أنهم كان معهم مائة فرس.
وقال الحلبي:
«وقدَّم «صلى الله عليه وآله» خالد بن الوليد على
مقدمته، أي وهي خيل بني سليم، مائة فرس، قدَّمها من يوم خرج من مكة،
واستعمل عليهم خالد بن الوليد الخ..»
([4]).
أي أنه «صلى الله عليه وآله» لم يرد أن يغير في تعبئة
الجيش لسببين:
أولهما:
أن المصلحة التي اقتضت جعل خالد على مقدمته، وقبول أهل
مكة في المقدمة، لا تزال قائمة، بل لعلها أصبحت أكثر إلحاحاً من ذي
قبل، لأن الهزيمة التي وقعت على المسلمين. وكانت قد جاءت أولاً من
المقدمة بالذات ربما تكون قد أعطت الإنطباع للمشركين: بأن حضور أهل مكة
في جيش المسلمين قد كان مجاراة منهم. وهذا يجعلهم غير مطمئنين، ويثير
لديهم مخاوف تمنعهم من التفكير بدخول الإسلام، لأنهم ربما يخشون من
عودة فراعنة الشرك إلى ملاحقة من يسلم بالتنكيل والأذى. فلا بد أن
تنتهي الحرب، وأهل مكة في مواقعهم، ولا بد أن يظهروا حرصاً على دعوة
الناس للدخول في هذا الدين، وأن يبذلوا جهداً في الذب عنه، مهما اختلفت
أهواؤهم، ودوافعهم. وتباينت ميولهم واتجاهاتهم.
الثاني:
لو أدخل «صلى الله عليه وآله» أي تغيير على تركيبة
جيشه، لظن كثير من الناس: أن لا لوم على الذين انهزموا، لأن سبب
الهزيمة هو الخطأ في التعبئة، ووضع الأمور في غير موضعها الصحيح، ولبطل
أثر الآيات الإلهية التي أنبت المنهزمين ولامتهم، وحملتهم المسؤولية..
بل لعل زعماء الهزيمة أنفسهم يثيرون في الناس هذه
المعاني، ويحملون رسول الله «صلى الله عليه وآله» نفسه مسؤولية
الهزيمة، ويصورون للناس البريء المجاهد الصابر على أنه هو المذنب،
والقاصر والمقصر.. ويظهرون العاصي والمجرم على أنه البريء، بل هو
المظلوم..
2 ـ
لا ندري مدى صحة قولهم: إنه لما قدم فلُّ ثقيف من حنين
رمّوا حصنهم، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» قد جاء في أثرهم، وربما
لم يفصل بين وصوله إلى حصنهم، ووصول فلُّ ثقيف إليه إلا اليسير من
الوقت قد لا يتجاوز اليوم واحد.. وحتى لو زاد على ذلك، فإن ترميم الحصن
قد يحتاج إلى وقت طويل، وإلى جهد كبير..
إلا أن يقال:
لعل ترميمه كان لا يحتاج إلى وقت كبير، لأنه كان جزئياً
ويسيراً.
مع أننا نعتقد:
أن إدخال الأقوات لسنة، وإعداد سكك الحديد، وجمع
الحجارة الكثيرة، وترتيب المجانيق، الذي يقولون: إنه قد حصل في وقت
سابق على حنين، لا بد أن يرافقه أو يسبقه ترميم للحصن أيضاً، إذ لا
معنى لهذا الإعداد والإستعداد العظيم، إذا كان الحصن نفسه غير صالح
لحمايتهم.
وهذا معناه:
أن التعبير المتقدم قاصر عن إفادة المراد، أو أن ثمة
غفلة عرضت لمنشئه، فنتج عنها هذا الخطأ.
3 ـ
ونقرأ في النص السابق قول ثقيف: إن صاحبكم لم يلق قوماً
يحسنون القتال غيرهم..
هذه الكلمة التي لم نزل نسمعها من كل مغرور بقوته، معجب
بعديده وعدته، وقد سبقهم إليها مالك بن عوف الذي هزم معهم بالأمس،
والتجأ إليهم اليوم، وأنها شارة الغرور الذي يورد صاحبه المهالك،
ويعمِّي عليه السبل والمسالك.
وإنه
لمن أغرب الأمور:
أن تقول ثقيف هذه الكلمة اليوم مع أنها لم تخلع ثياب الهزيمة في حنين
عنها بعد، وكان الذي هزمها هو علي «عليه السلام» وحده. فلماذا لم
يحسنوا القتال تحت راية مالك بن عوف؟! وما الذي تغير بالنسبة إليهم؟!
سوى أنهم أصبحوا يقاتلون في قرى محصنة، ومن وراء جدر؟! كما قال تعالى:
{لَا
يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن
وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}([5]).
وسار رسول الله «صلى الله عليه وآله» في إثر خالد، ولم
يرجع إلى مكة، ولا عرَّج بها على شيء إلا على غزو الطائف، قبل أن يقسم
غنائم حنين وقد ترك السبي بالجعرانة، وملئت عرش مكة منهم.
وكان مسيره في شوال سنة ثمان.
وقال شداد بن عارض الجشمي في مسير رسول الله «صلى الله
عليه وآله»:
لا تنـصروا الـلات إن الله
مهلكها وكيف ينصر من هو ليس ينتصر؟
إن التي حرقت بالسَّـدِّ فاشتعـلت ولم تقـاتـل لـدى
أحـجـارها هدر
إن الرسـول متى ينـزل بــلادكـم يظعن ولـيـس بهـا مـن
أهلها بشر
قال ابن إسحاق:
فسلك رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ يعني من حنين
إلى الطائف ـ على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على
بحرة الرغاء من ليَّة، فابتنى بها مسجداً، فصلى فيه.
وأقاد يومئذٍ ببحرة الرغاء حين نزلها بدم، وهو أول دم
أقيد به في الإسلام، أتي برجل من بني ليث قتل رجلاً من هذيل فقتله به.
وأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو بِلَيَّة بحصن
مالك بن عوف فهدم. وصلى الظهر بلية([6]).
ثم سلك في طريق يقال لها:
الضيقة، فلما توجه إليها رسول الله «صلى الله عليه
وآله» سأل عن اسمها، فقيل: الضيقة.
فقال:
«بل هي اليسرى».
فخرج منها على نخب حتى نزل تحت سدرة
يقال لها:
الصادرة، قريباً من مال رجل من ثقيف، قد تمنع فيه،
فأرسل إليه رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «إما أن تخرج، وإما أن
نحرق عليك حائطك».
فأبى أن يخرج.
فأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بإحراقه([7]).
ونقول:
ويثير الإنتباه هنا عدة أمور، نذكر منها:
كان من الطبيعي:
أن يصلي النبي «صلى الله عليه وآله» في أسفاره في أي
بقعة يصل إليها، ويحل فيها وقت الصلاة، وأما أن يتعمد بناء مسجدٍ في
هذه البقعة أو تلك، فذلك أمر له دلالاته وإيحاءاته بالنسبة للتخطيط
لمستقبل المنطقة بأسرها.. لاسيما في هذه المرحلة التي تجري فيها حروب
خطيرة وحاسمة، مع عتاة الكفر في ذلك المحيط.
والأهم من ذلك:
أن يكون هذا المسجد في نفس المكان الذي كان فيه حصن
مالك بن عوف رئيس الجيوش التي حاربته «صلى الله عليه وآله» في حنين.
ومحور الإرتكاز للطغيان والغطرسة والبغي..
ويزيد ذلك أهمية:
إذا رافق بناء المسجد، في خصوص هذا المكان هدم حصن ذلك
العاتي الخاسر، مالك بن عوف. ليقطع بذلك أمله في أي شيء يمكن أن يثير
فيه حالة الغطرسة، والغرور بالقوة، ولكي لا يجد هو ولا غيره في هذا
المسجد نقطة ارتكاز تتجمع حولها ذكريات، قد يشعر معها بشيء من الزهو،
في حين لا بد أن يكون الخجل، والشعور بالخزي هو المهيمن على كل وجوده،
وكلما مرت هذه الذكريات في خياله..
وليس بعيداً عن هذا السياق أيضاً أن نرى هذا الرسول
الكريم، والنبي العظيم «صلى الله عليه وآله» يمارس الأمور، ويتصرف في
المنطقة بنحو يعطي الإنطباع بأن قضية الحرب والسلم قد أصبحت محسومة،
وأن أمر البلاد والعباد قد عاد إلى موقعه الطبيعي، وهو موقع النبوة،
ولذلك صار «صلى الله عليه وآله» يتصدى حتى لأعلام البقاع كما تصدى
لمعالمها، لتصبح أسماءها متوافقة مع نهجه، وملائمة لأطروحته، ومفاهيمه،
وتوجهاته..
فلا يرضى باسم إحدى الطرق التي يمر بها، فيبادر إلى
تغيير اسم «الضيقة» ليصبح اسمها «اليسرى».
ومن الطبيعي جداً:
أن نراه «صلى الله عليه وآله» يعمل على اقتلاع كل
الجيوب التي يحتمل أن تكون مثار قلق، وريبة بالنسبة إليه، إذ لا يمكن
ان يرضى قائد مجرب، وعاقل أريب، بإبقاء أي من الأعداء يسرح ويمرح خلف
ظهره، في وقت يكون هو منشغلاً بحرب من هم أمامه.. فإن فعل ذلك، فسيكون
في نظر العقلاء، وأهل الحزم، والتدبير ممعناً في السذاجة، والغباء،
والتغفيل، إلى الحد الذي يسلبه الأهلية لأي موقع قيادي، يمكن أن يحتاج
فيه الناس إلى قائد حكيم، يقظ، وحازم.
ولذلك نرى:
أنه «صلى الله عليه وآله» حين رأى ذلك الثقفي مصراً على
موقفه العدواني، ويرى نفسه: أنه قد تمنَّع في الموقع الذي هو فيه، ولم
يستجب للإنذار الذي وجهه إليه، وأنه قد أخذ بأسباب الحذر، وبادر إلى
التفكير بإلحاق حرمان ذلك الرجل من مناعة موقعه، لكي يعود إليه صوابه،
وليفقد القدرة على أي نوع من أنواع الأذى بأهل الإيمان، وجيش الإسلام..
وأما بالنسبة للقود الذي أجراه «صلى الله عليه وآله» في
حق رجل من بني ليث، فذلك أيضاً يؤكد للناس كلهم: أن مواجهة الأعداء،
وممارسة الحرب والقتال، مهما كان ضارياً وشرساً، وخطيراً، لا يعني: أن
ثمة تهاوناً في فرض النظام العادل، وإقامة شرع الله، أو تعني التهاون
بدماء الناس، واسترخاص أرواحهم، والإستخفاف بحقوقهم.. بل إن هذا القتال
نفسه، إنما يأتي في سياق إرساء العدل وحفظ الكرامات، وصيانة الأرواح،
وحقن الدماء، ورعاية الحقوق.. لأنه يراد الذب عن المبادئ، وحفظ القيم،
التي ينبثق عنها ذلك كله..
ولذلك لم تشغله «صلى الله عليه وآله» تلك الحرب الضارية
عن أخذ حق المظلوم من ظالمه، وإقادته منه..
إن على الجميع أن يعرف:
أنه «صلى الله عليه وآله» لا يقود حروبه ليسقط القيم،
والمبادئ، بل ليؤكدها، ويقويها، ويحفظها.. كما أنه لا يريد بها إشاعة
الخوف والرعب، بل يريدها أن تنتج الشعور بالسكينة، والسلام، والأمن..
ولا يريد منها زرع الموت والدمار، والفناء، بل يريد أن تكون ذلك الكوثر
الذي يهب الحياة، ويعطي شجرتها المزيد من الرواء، والنماء، لتصبح
جذورها قوية وراسخة، وأغصانها غضة وباسقة.. تثمر الحب والرضا، والسلامة
والسلام على الدوام..
وليطمئن الناس كلهم، فإن الحكم لم يعد للأهواء، ولا بيد
العتاة والأشقياء، بل الحكم لشرع الله، بيد الأنبياء، والأوصياء،
والأولياء.
عن عبد الله بن عمر:
أنهم حين خرجوا مع رسول الله، فمروا بقبر أبي رغال،
فقال «صلى الله عليه وآله»: «هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من
ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت
قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك: أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم
نبشتم عنه أصبتموه».
قال:
فابتدره الناس فنبشوه، فاستخرجوا منه الغصن([8]).
وقالوا:
إنه بقي بعد قومه أربعين يوماً وكان بالحرم، فجاءه حجر
ليصيبه في الحرم، فقام إليه ملائكة الحرم، فقالوا للحجر: ارجع من حيث
جئت، فإن الرجل في حرم الله تعالى.
فرجع فوقف خارجاً من الحرم أربعين يوماً بين السماء
والأرض، حتى قضى الرجل حاجته، وخرج من الحرم إلى هذا المحل أصابه
الحجر، فقتله، فدفن فيه([9]).
ونقول:
إن لدينا ما يبعث على الشك في صحة هذا المضمون، فلاحظ
ما يلي:
أولاً:
إن أبا رغال هذا ـ كما يدَّعون ـ قد عاش إلى زمن أبرهة،
وعبد المطلب. وقوم ثمود قد أهلكوا قبل مئات السنين من ذلك؛ لأنهم
يذكرون: أن أبرهة حين قصد مكة مر بالطائف، وتلقاه أهله، وأظهروا له
الطاعة، وقالوا له: نرسل معك من يدلك على الطريق، فأرسلوا أبا رغال معه([10]).
فهل عاش هذا الرجل هذه المئات والألوف من السنين كلها
حتى أصبحت ذريته قبيلة تعد بالألوف، وصارت تنشئ الحصون، وتؤلف الجيوش،
وتصبح بحيث ترى في نفسها القوة على حرب رسول الله «صلى الله عليه وآله»
دون حكمة ظاهرة تبرر هذا البقاء الطويل؟!
ثانياً:
إذا كان أبو رغال من قوم ثمود، وقد أنرل الله عذاب
الإستئصال عليهم، ولم يبق منهم أحد، فكيف بقي أبناء أبي رغال حتى تكونت
قبيلة ثقيف؟! مع أن أبناءه هم من قبيلته أيضاً..
وإذا كان الله تعالى قد أنزل العذاب على ثمود في
مساكنهم. فهل يتعدى العذاب تلك الديار، ليشمل كل من كان غائباً عنها،
إذا كان ينتسب إليهم؟! وهل كان العذاب على نحو التطهير العرقي الشامل؟!
وإذا كان أبو رغال من هؤلاء القوم، فلماذا حين خرج من
مكة لم يرجع إلى بلده، الذي هو بالقرب من تبوك([11])
إلى جهة الشام. بل ذهب بالإتجاه المخالف نحو الطائف؟!
ثالثاً:
لماذا يدفنون مع أبي رغال غصناً من ذهب، وهو لم يكن من
أهل الأموال، لأن أهل الأموال كانت لهم في تلك المجتمعات المنحرفة
مكانة مرموقة في أقوامهم، ومن كان كذلك فلا يرضى بأن يعمل دليلاً على
طرقات البلاد، لأي كان من الناس.
رابعاً:
إذا كانت الملائكة تنتظر أبا رغال إلى أن يخرج من
الحرم، فلماذا صبرت عليه حتى ابتعد هذا المقدار الكبير عنه؟!
أليس من واجبها المبادرة إلى قتله بمجرد خروجه من حرم
الله، ليكون عبرة لسواه؟!
قال ابن إسحاق:
ثم مضى رسول الله «صلى الله عليه وآله» حتى نزل قريباً
من الطائف، فضرب عسكره، وأشرفت ثقيف على حصنهم ـ ولا مثال له في حصون
العرب ـ وأقاموا رماتهم، وهم مائة رام، فرموا بالسهام والمقاليع من
بَعُدَ من حصنهم، ومن دخل تحت الحصن دلوا عليه سكك الحديد محماة بالنار
يطير منها الشرر، فرموا المسلمين بالنبل رمياً شديداً، كأنه رجل جراد
حتى أصيب ناس من المسلمين بجراح، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً([12]).
فارتفع «صلى الله عليه وآله» إلى موضع مسجده اليوم،
الذي بنته ثقيف بعد إسلامها، بناه أمية بن عمرو بن وهب بن معتب بن
مالك، وكانت فيه سارية لا تطلع عليها الشمس صبيحة كل يوم، حتى يسمع لها
نقيض أكثر من عشر مرات، فكانوا يرون أن ذلك تسبيح.
وكان معه «صلى الله عليه وآله» من نسائه أم سلمة وزينب،
فضرب لهما قبتين، وكان يصلي بين القبتين طول حصار الطائف كله.
وقال عمرو بن أمية الثقفي ـ وقد أسلم بعد ذلك، ولم يكن
عند العرب أدهى منه ـ: لا يخرج إلى محمد أحد، إذا دعا أحد من أصحابه
إلى البراز، ودعوه يقيم ما أقام.
وأقبل خالد بن الوليد ونادى:
من يبارز؟
فلم يطلع إليه أحد، ثم عاد فلم ينزل إليه أحد، ثم عاد
فلم ينزل إليه أحد.
فنادى عبد ياليل:
لا ينزل إليك أحد، ولكنا نقيم في حصننا، خبأنا فيه ما
يصلحنا سنين، فإذا أقمت حتى يذهب هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا
جميعاً حتى نموت عن آخرنا([13]).
فقاتلهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالرمي عليهم،
وهم يقاتلونه بالرمي من وراء الحصن، فلم يخرج إليه أحد، وكثرت الجراحات
له من ثقيف بالنبل، وقتل جماعة من المسلمين([14]).
ونحن لا نناقش في أكثر هذا الذي ذكر آنفاً، ولا نرى في
اكثره ما يدعو إلى الريبة والشك.
قالوا:
وأصيبت عين أبي سفيان، فأتى النبي «صلى الله عليه
وآله»، وعينه في يده، فقال: يا رسول الله، هذه عيني أصيبت في سبيل
الله.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»:
إن شئت دعوت، فردَّت عليك، وإن شئت فعين في الجنة.
قال:
في الجنة.. ورمى بها من يده([15]).
ونحن نتيقن بعدم صحة هذه المزعمة، فعدا عن أن التي تصاب
بمثل هذا لا يمكن أن تبقى على حالها بحيث يأخذها بيده، فإن أبا سفيان ـ
كما يقول أبو عمر في الإستيعاب ـ لم يزل كهفاً للمنافقين منذ أسلم([16]).
كما أنه لم يزل يبغي للإسلام شراً حسبما ورد عن أمير
المؤمنين «عليه السلام».
بل هو القائل بعد أن ركل قبر حمزة
برجله:
إن الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس في يد غلماننا اليوم
يتلعبون به([17]).
وهو القائل لعثمان:
تداولوها يا بني أمية تداول الولدان الكرة، فوالله ما
من جنة ولا نار([18]).
والنصوص حول سقطات أبي سفيان كثيرة، وهي تشير إلى عدم
صحة إيمانه، وأنه كان يظهر الإسلام، ويبطن الكفر.. ولا حاجة إلى ذكر
أكثر من ذلك..
وروي:
أنه لما حاصر النبي «صلى الله عليه وآله» أهل الطائف
قال عيينة بن حصن: إئذن لي حتى آتي حصن الطائف فأكلمهم.
فأذن
رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فجاءهم، فقال:
أدنو منكم وأنا آمن؟
قالوا:
نعم.
وعرفه أبو محجن، فقال:
أدن.
فدخل عليهم، فقال:
فداكم أبي وأمي، والله، لقد سرني ما رأيت منكم. وما في
العرب أحد غيركم. والله، ما في محمد مثلكم، ولقد قلَّ المقام وطعامكم
كثير، وماؤكم وافر، لا تخافون قطعه.
وفي نص آخر:
تمسكوا بمكانكم، فوالله، لنحن بأذل من العبيد. وأقسم
بالله لو حدث به حدث ليملكن العرب عزاً ومنعة، وإياكم أن تعطوا
بأيديكم، ولا يتكاثر عليكم قطع هذا الشجر([19]).
فلما خرج قال ثقيف لأبي محجن:
فإنَّا قد كرهنا دخوله، و خشينا أن يخبر محمداً بخلل،
إن رآه فينا، أو في حصننا.
فقال أبو محجن:
أنا كنت أعرف به، ليس أحد منا أشد على محمد منه، وإن
كان معه.
فلما رجع إلى رسول الله «صلى الله
عليه وآله» قال:
قلت لهم: ادخلوا في الإسلام، فوالله لا يبرح محمد من
عقر داركم حتى تنزلوا، فخذوا لأنفسكم أماناً، فخذلتهم ما استطعت.
فقال له رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
لقد كذبت، لقد قلت لهم: كذا.. وكذا..
وعاتبه جماعة من الصحابة، وقال:
أستغفر الله، وأتوب إليه، ولا أعود
أبداً([20]).
ونقول:
1 ـ
إن هذا النص يدل دلالة واضحة على نفاق عيينة بن حصن،
وأنه إلى تلك الساعة كان لا يزال على شركه..
بل إن هذا الرجل قد استمر على هذا الحال، حتى إنه تبع
طليحة بن خويلد، وآمن به، ثم عاد إلى إظهار الإسلام.
2 ـ
قد صرحت الرواية المذكورة: بأن عيينة كان أشد على رسول
الله «صلى الله عليه وآله» من أهل الطائف أنفسهم، رغم أنه كان معه،
يظهر له الولاء والمحبة، وكان أهل الطائف يعلنون الشرك، والبغض له،
والحرب معهم قائمة على قدم وساق.
3 ـ
إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أعلن للملأ: بأن
عيينة كاذب فيما ينقله.. ذلك بحضور عيينة نفسه، وفي مواجهة صريحة معه..
ولعل ذلك يرمي:
إلى قطع الطريق على كل من يريد أن يسير في طريق النفاق
والخيانة، ويزرع في داخل نفوس من يفكر بهذه الطريقة الخوف من افتضاح
أمره بواسطة جبرئيل «عليه السلام».. حتى إذا حدَّث أحدهم نفسه بالإقدام
على عمل من هذا القبيل، فإنه يحتاج إلى أن يكون في منتهى الجرأة على
الله وعلى رسوله، وفي غاية الصلف والوقاحة، وعدم المبالاة بالنتائج
التي سيكون أقلها الفضيحة، التي قد تأتيه على لسان جبرئيل «عليه
السلام»..
4 ـ
إن هذه القضية تظهر حقيقة أصحاب النبي «صلى الله عليه
وآله»، وإلى أي مدى يمكن لرسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يعتمد على
جيش من هذا القبيل، وهذا نموذج من قيادات ذلك الجيش، وعرض حي لمدى
إخلاص تلك القيادات له «صلى الله عليه وآله»، وبينان لحقيقة إيمانها
بالقضية التي يحارب من أجلها..
خصوصاً بعد أن تنضم تلك القيادات إلى بعضها البعض،
وتتضامن فيما بينها، وتتعاون، وتتكاتف على الوصول إلى ما ترمي إليه من
أهداف، ومنهم خالد بن الوليد، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وأضرا
بهم، فضلاً عن رجالات مكة وبني سليم وسواها..
ولا ندري أين كان عمر بن الخطاب عن عيينة هذا؟! فلماذا
لا نسمع له صوتاً، ولا نرى من هملجته شيئاً، مثلما كنا نراه في مواقفه
السابقة تجاه رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الحديبية وغيرها؟!
ولماذا لم يقم ليقول: دعني أقتله يا رسول الله، كما كان يفعل في
المواقف المشابهة؟!
ولذلك نقول:
إن من الطبيعي:
أن نرى هؤلاء يتفقون على الفرار في أول لحظات المواجهة
في حنين، ويتبعهم الجيش كله، ويبقى في مواجهة العدو رجل واحد، يأتي
الله تعالى بالنصر على يديه، وهو علي بن أبي طالب «عليه السلام»..
ولعلك تقول:
إن أهداف هؤلاء تختلف وتتفاوت، وليس لهم لون واحد، ولا
كانت عصبياتهم متوافقة!
ونجيب:
بأن من الطبيعي أن يختلف طلاب الدنيا فيما بينهم، ولكنه
يبقى اختلافاً في الجزئيات والتفاصيل. وتبقى لهم جامعة تربط بعضهم
ببعض، وتوحد جهدهم، ووجهتهم إلا وهي الإضرار بالأطروحة التي يظهرون
الإلتزام بها نفاقاً، والقبول بكل أشكال السلوك والمواقف التي تنشأ عن
تلك الأطروحة، ويقتضيها ذلك النهج.
ولكن الحقيقة هي:
أن كل همهم وجهدهم منصب على إفشال تلك الأطروحة، وإسقاط
ذلك النهج.. وهذا ما حصل بالفعل في حرب حنين ولا يزال يتكرر في الطائف
وفي غيرها..
5 ـ
إن مصارحة النبي «صلى الله عليه وآله» لعيينة، حتى اضطر
عيينة للإعتراف والإستغفار، والتعهد بعدم العود قد صعّب عليه القيام
بأي عمل آخر من هذا النوع بعد ذلك، لأن هذه المصارحة قد عزلته عن محيطه
الذي هو فيه، وجعلت أي اتصال به مرصوداً ومراقباً من كل الناس..
6 ـ
إن ما جرى يجعل أولئك الذين تآمروا على الفرار في حنين،
بهدف إلحاق الأذى بالنبي «صلى الله عليه وآله» وبالمؤمنين، يشكون في
أنفسهم، ويعيشون العقدة في أن يكون جبرئيل «عليه السلام» قد فضح أمرهم
لرسول الله «صلى الله عليه وآله». وفرض عليهم أن يتوقعوا إعلان هذه
الخيانة عند ظهور أول إخلال آخر منهم..
وبذلك يكون خيارهم الوحيد هو:
الإنضباط التام، وعدم القيام بأي شيء من شأنه أن يضعهم
أمام ذلك الإمتحان الصعب والخطير، المتمثل بالفضيحة على أقل تقدير..
ولسوف لن تنفعهم التبريرات والإعتذارات في تلك الحال،
ولربما لا يصدقهم الناس حين يعلنون توبتهم، ويقدمون تعهداتهم بعدم
العود. وسوف تلتهمهم باستمرار نظرات الريبة والشك، ولن يكون ذلك سهلاً
عليهم، بل هو سيعرقل الكثير من مشاريعهم، ويفشل من خططهم ما هو أدهى
وأخطر..
غير أن حرص بعض أولئك على دنياهم قد دفعهم إلى تصرفات
فضحت أمرهم، مرة بعد أخرى.. فقد كتبوا صحيفتهم الملعونة، ونفروا برسول
الله «صلى الله عليه وآله» ليلة العقبة، وتجرؤا عليه مرات ومرات بعد
ذلك أيضاً.
ورووا:
عن عمرو بن عبسة أنه قال: حاصرنا قصر الطائف مع رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، فسمعته يقول: «من بلغ بسهم فله درجة في
الجنة». فبلغت يومئذ ستة عشر سهماً.
وسمعته يقول:
«من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر، ومن شاب شيبة
في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، وأيما رجل أعتق رجلاً مسلماً،
فإن الله سبحانه وتعالى جاعل كل عظم من عظامه وقاء، كل عظم بعظم، وأيما
امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله عز وجل جاعل كل عظم من عظامها
وقاء كل عظم من عظامها في النار([21]).
ونقول:
إن الحديث الثاني، الذي أوله:
من رمى بسهم في سبيل الله، فهو عدل محرر، قد يكون عمرو
بن عبسة سمعه من النبي «صلى الله عليه وآله» في مناسبة أخرى غير مناسبة
حصار الطائف.
غير أننا لا ندري مدى صحة ما زعمه
في ذيل الحديث الأول:
من أن السهام التي بلغت كانت ستة عشر سهماً. وتبقى عهدة
ذلك على مدَّعيه.
قال اليعقوبي:
إنه قد نزل من حصن ثقيف إلى رسول الله «صلى الله عليه
وآله» أربعون رجلاً([22]).
ولعل هؤلاء هم الذين استجابوا للنداء الذي أطلقه النبي
«صلى الله عليه وآله» فيهم، فقد قالوا:
نادى منادي رسول الله «صلى الله عليه وآله»:
«أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر».
فخرج من الحصن بضعة عشر رجلاً:
ثم ذكروا أسماءهم على النحو التالي:
المنبعث، وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله «صلى الله
عليه وآله» المنبعث حين أسلم. وكان عبداً لعثمان بن عامر بن معتب، وكان
جواداً رومياً.
والأزرق بن عقبة بن الأزرق. وكان عبداً لكلدة الثقفي،
ثم صار حليفاً في بني أمية.
ووردان، وكان عبداً لعبد الله بن ربيعة الثقفي.
ويحنس ـ بضم التحتية ـ النبال. وكان عبداً ليسار بن
مالك الثقفي، وأسلم سيده بعد، فردّ رسول الله «صلى الله عليه وآله»
إليه ولاءه.
وإبراهيم بن جابر، وكان عبداً لخرشة الثقفي.
ويسار، وكان عبداً لعثمان بن عبد الله.
وأبو بكرة نفيع ـ بضم النون ـ بن مسروح وكان عبداً
للحارث بن كلدة، وإنما كني بأبي بكرة لأنه نزل في بكرة ـ وهي خشبة
مستديرة في وسطها محز، يستقى عليها ـ من الحصن.
ونافع أبو السايب، وكان عبداً لغيلان بن سلمة، فأسلم
غيلان بعد، فرد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ولاءه إليه.
ونافع بن مسروح.
ومرزوق غلام لعثمان بن عبد الله([23]).
وعن ابن عباس قال:
قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم الطائف: «من
خرج إلينا من العبيد فهو حر».
فخرج عبيد من العبيد، فيهم أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله
«صلى الله عليه وآله»([24]).
وفي رواية:
نزل إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ثلاثة وعشرون من
الطائف([25])،
فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة، واغتاظوا على غلمانهم، فأعتقهم
رسول الله «صلى الله عليه وآله».
ودفع «صلى الله عليه وآله» كل رجل منهم إلى رجل من
المسلمين، يمونه، ويحمله. فكان أبو بكرة إلى عمرو بن سعيد بن العاص،
وكان الأزرق، إلى خالد بن سعيد بن العاص، وكان وردان إلى أبان بن سعيد
بن العاص، وكان يحنس النبال إلى عثمان بن عفان، وكان يسار بن مالك إلى
سعد بن عبادة، وكان إبراهيم بن جابر إلى أسيد بن الحضير.
وأمرهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يقرئوهم
القرآن، ويعلموهم السنن.
فلما أسلمت ثقيف تكلمت أشرافهم في هؤلاء المعتقين، منهم
الحارث بن كلدة، يردونهم إلى الرق، فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»: «أولئك عتقاء الله، لا سبيل إليهم»([26]).
ونقول:
1 ـ
قد ذكرت الروايات المتقدمة: أن سعد بن أبي وقاص كان أول
من رمى بسهم في سبيل الله. ولسنا هنا بصدد تحقيق ذلك، غير أننا نقول:
إن شانئي علي «عليه السلام» يهتمون بتسطير الفضائل
والكرامات لمناوئيه «عليه السلام» وقد عرفنا في فصل: في موقع الحسم، في
غزوة أحد: أن سعداً كان أحد الستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم،
فجعل سعد حقه لعبد الرحمن بن عوف([27]).
كما أنه قعد عن علي «عليه السلام» في حروبه، ولم يخرج
معه.. وأبى أيضاً أن يبايعه، فأعرض عنه علي «عليه السلام» وقال: ﴿وَلَوْ
عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ
لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾([28])»([29]).
وشكاه أهل الكوفة بأنه لا يحسن يصلي([30]).
وأخذ مالاً من بيت المال ولم يؤده، وعزله عمر وقاسمه
ماله كما عن أبي الفرج في الأغاني.
وحينما دعاه عمار ليبايع علياً «عليه السلام» أظهر
الكلام القبيح([31]).
وصارمه عمار([32]).
وقطع علي «عليه السلام» عطاءه([33]).
وتقدم:
أن النبي
«صلى الله عليه وآله» قد رد ولاء بعض العبيد الذين
نزلوا إليه من حصن الطائف وأعتقهم.. إلى الذين كانوا يملكونهم، ولكنه
أمضى عتقهم. ولم يعدهم إليه.. والمراد برد ولائه أن يجعل لسيده الحق في
أن يرثه، إذا لم يكن للعتيق قرابة قريبة أو بعيدة.
وهذا تفضل من رسول الله «صلى الله عليه وآله» على أولئك
الذين أسلم عبيدهم قبلهم، حيث لم يجعل إرثهم إليه «صلى الله عليه وآله»
في حياته، ثم للإمام «عليه السلام» بعد وفاته..
إلا أن يقال:
إن نزولهم من الحصن إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»
لا يعني إسلامهم، لكي يقال: إن المشرك لا يرث المسلم، فلعلهم نزلوا
طمعاً بالحرية التي وعدهم «صلى الله عليه وآله» بها، ثم بقوا على
شركهم..
ويجاب:
بأنهم قد أسلموا بلا ريب، لتصريحهم: بأنه «صلى الله
عليه وآله» دفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين، وأمرهم أن يقرؤوهم
القرآن، ويعلموهم السنن. وهذا إنما يصح إذا كانوا قد أسلموا..
وأما الحديث عن:
أن عتقهم إن كان قبل إسلامهم، فعتقهم لا يقطع علاقة
الولاء بينهم وبين مواليهم.. فإن كلا الفريقين في تلك الحال كان على
حال الشرك..
وإن كانوا قد أسلموا قبل عتقهم، فإن إسلامهم قد أزال
حكم الولاء، لأن المشرك لا يرث المسلم.
وفي هذا البحث تفصيلات ومناقشات ليس ها هنا محلها.
وإذا تأملنا هذا النداء، أعني:
«نداء الحرية» فسنرى: أن فيه سمات وآثاراً هامة، نشير
إلى بعض منها فيما يلي:
1 ـ
إن العبيد هم الطرف الأضعف والمستضعف في أي مجتمع كان،
فكيف بالمجتمع الجاهلي الذي يعيش الإنحراف، والظلم والتعدي، بأجلى
صوره، وأوضح معانيه؟! ولم يكن يعرف معنى للرأفة والرحمة، حتى على الأب
والأخ والولد، فهل يرحم عبداً اشتراه بماله، أو قهره بسيفه؟!
إن من يدفن ولده حياً لأنه لا يريد أن يشاركه في طعامه،
ولو بلقمة، فهل تراه يسخى على عبده بشيء من حطام الدنيا، فضلاً عمن
سواه؟! إن من يراجع التاريخ سيجد: أن الناس كانوا في ذلك المجتمع
يمارسون سلطتهم على عبيدهم بأبشع صورها وأخبث أشكالها..
2 ـ
إن الذين كانوا يملكون العبيد هم الرؤساء والأعيان،
وأهل الحول والطول، دون غيرهم من سائر الناس.. وهؤلاء هم الذين يملكون
قرار السلم والحرب وغير ذلك في قبائلهم، فإذا خرج حتى عبيدهم عن
طاعتهم، فإن الآخرين سوف يكونون أجرأ على الخروج من هذه السلطة، وسوف
ينظرون إلى أولئك الرؤساء والزعماء بشيء من المهانة والإستهانة،
والإستخفاف، وستهتز الأرض تحت أقدامهم، وسيضعف موقفهم القيادي بصورة
كبيرة، وهذا يمثل نكسة، بل ضربة روحية كبرى لهم.
ولذلك يقول المؤرخون ـ حسبما تقدم
ـ:
«فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة واغتاظوا على
غلمانهم».
بل تقدم:
أن أولئك الأسياد حتى بعد ان أسلموا قد بذلوا محاولة
لإعادة أولئك العبيد إلى الرق، فلم يفلحوا في ذلك.
ومن البديهي:
أن الإسلام لا يرضى باحتكار العلم على فريق من الناس
دون سواه، كما نجده لدى بعض الشعوب، بل طلب العلم في الإسلام فريضة على
كل مسلم.
فطبيعي إذن:
أن يرتب «صلى الله عليه وآله» لهؤلاء العبيد معلمين
يعلمونهم القرآن والسنن فوراً حتى وهم في حال الحرب والحصار، ولم يؤجل
ذلك إلى أن تضع الحرب أوزارها.. لأنه يرى: أن العلم ضروري كالطعام
والشراب فمن ترك الطعام والشراب هلك، لكن من ترك العلم هلك وأهلك.
ولذلك نرى:
أنه «صلى الله عليه وآله» قد رتب لهم كلا هذين الأمرين
في آن واحد، فسلمهم لمن يمونهم ويحملهم، ولمن يعلمهم القرآن والسنن.
([1])
تاريخ الخميس ج2 ص110 وعمدة القاري ج17 ص302 وعون المعبود ج8
ص184 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص408 وتاج العروس ج12 ص360.
([2])
تاريخ الخميس ج2 ص110 وراجع: عمدة القاري ج12 ص137 وتفسير
الثعلبي ج5 ص22 وفتوح البلدان ج1 ص65 وسبل الهدى والرشاد ج6
ص206 وعون المعبود ج5 ص295 وتفسير البيضاوي ج3 ص144 وتفسير
الآلوسي ج10 ص92.
([3])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص382 و 383 وراجع: تاريخ الخميس ج2 ص110
والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج2 ص112.
([4])
السيرة الحلبية ج3 ص115 و (ط دار المعرفة) ص77.
([5])
الآية 14 من سورة الحشر.
([6])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص383 وراجع: المغازي للواقدي ج3 ص925
وتاريخ الخميس ج2 ص110 والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة)
ج2 ص112 والسيرة الحلبية ج3 ص115.
([7])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص382 وراجع: المغازي للواقدي ج3 ص925
وتاريخ الخميس ج2 ص110 والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة)
ج2 ص112 والسيرة الحلبية ج3 ص115.
([8])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص383 عن ابن إسحاق، وأبي داود، والبيهقي.
وفي هامشه عن: أبي داود (3088) وعبد الرزاق (20989) والبيهقي
في السنن الكبرى 4/156 وفي الدلائل 6/297، 7/497.
وراجع: تاريخ الخميس ج2 ص110 والسيرة الحلبية ج3 ص115.
([9])
السيرة الحلبية ج3 ص115.
([10])
السيرة الحلبية ج3 ص115 عن العرائس.
([11])
راجع: مجمع البحرين مادة: ثمد.
([12])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص383 والسيرة النبوية لدحلان (ط دار
المعرفة) ج2 ص112 وتاريخ الخميس ج2 ص110 وراجع: السيرة الحلبية
ج3 ص115 و 116.
([13])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص383 و 384 وراجع: تاريخ الخميس ج2 ص110
والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج2 ص112 والسيرة
الحلبية ج3 ص116.
([14])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص383 و 384 والسيرة النبوية لدحلان (ط
دار المعرفة) ج2 ص112.
([15])
السيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج2 ص112 وتاريخ الخميس
ج2 ص112 عن ابن سعد، والمواهب اللدنية، والسيرة الحلبية ج3
ص115 والإصابة ج2 ص179.
([16])
قاموس الرجال ج5 ص486.
([17])
شرح النهج للمعتزلي ج2 ص44 و 45 وعن تاريخ الأمم والملوك ج10
ص54 ـ 58 في رسالة المعتضد بلعن معاوية، والبحار ج31 ص89 وج44
ص78 ومكاتيب الرسول ج3 ص602 .
([18])
شرح النهج للمعتزلي ج16 ص136.
([19])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص386 وج10 ص67.
([20])
الخرائج والجرائح ج1 ص118 و 119 والبحار ج21 ص154 و 155 ودلائل
النبوة للبيهقي ج5 ص157 ودلائل النبوة لأبي نعيم ص465 وسبل
الهدى والرشاد ج5 ص386 عن أبي نعيم، والبيهقي. وراجع: السيرة
النبوية لدحلان ج2 ص114.
([21])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص386 عن يونس بن بكير، وأبي داود،
والترمذي، وصححه. والنسائي، وقال في هامشه: أخرجه أبو داود
(3965) وأحمد 4 ص384 والنسائي ج7 ص104 والحاكم ج3 ص50 وأحمد ج4
ص113 و 384، والبيهقي في الدلائل ج5 ص159، وفي السنن ج10 ص272.
([22])
تاريخ اليعقوبي ج2 ص64.
([23])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص384 عن ابن إسحاق، والواقدي، وراجع:
تاريخ الخميس ج2 ص111 والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة)
ج2 ص114 والروض الأنف ج4 ص164. وراجع: إعلام الورى ص124 وعن
مناقب آل أبي طالب ج1 ص605 و 606 والبحار ج21 ص168 وج41 ص95.
([24])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص384 وفي هامشه قال: أخرجه أحمد ج1 ص248
وابن سعد ج2 ق1 ص115، وانظر المجمع ج4 ص245 والبداية والنهاية
ج4 ص347.
وراجع: السيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج2 ص114.
([25])
تاريخ الخميس ج2 ص111 عن مغلطاي، وكذا في البخاري، السيرة
النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج2 ص114.
([26])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص384 و 385 وعن نصب الراية ج3 ص281.
وراجع: تاريخ الخميس ج2 ص111والسيرة النبوية لدحلان (ط دار
المعرفة) ج2 ص114.
([27])
شرح النهج للمعتزلي ج1 ص188 وأي كتاب يذكر أحداث السقيفة.
([28])
الآية 23 من سورة الأنفال.
([29])
قاموس الرجال ترجمة سعد بن أبي وقاص.
([30])
مسند أبي يعلى ج2 ص89 والأوائل ج1 ص310 والمصنف للصنعاني ج2
ص360 وفي هامشه عن: البخاري، والعقد الفريد ج6 ص249 والثقات ج2
ص220 والكامل في التاريخ ج2 ص569 والمعجم الأوسط ج6 ص208
والأذكار النووية ص279 ورياض الصالحين للنووي ص589 وتاريخ
اليعقوبي ج2 ص155 وعن تاريخ الأمم والملوك ج3 ص202 وعن البداية
والنهاية ج7 ص120 و 121 وج8 ص82.
([31])
الإمامة والسياسة ج1 ص53.
([32])
عيون الأخبار لابن قتبة ج3 ص111.
([33])
راجع: إختيار معرفة الرجال ص39 وصفين للمنقري ص551 و 552.
|