السرايا ما قبل الأخيرة
روى الشيخان عن جرير بن عبد
الله البجلي:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال له: «ألا
تريحني من ذي الخلصة»؟ وكان بيتاً لخثعم وبجيلة، فيه نصب تعبد،
تسمى الكعبة اليمانية.
قال جرير:
فنفرت في مائة وخمسين راكباً من أحمس، وكانوا أصحاب
خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في
صدري، وقال: «اللهم ثبته على الخيل، واجعله هادياً مهدياً»([1]).
قال:
فأتيناه، فكسرناه، وحرقناه، وقتلنا من وجدنا عنده.
وبعثت إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» رجلاً
يبشره يكني أبا أرطأة. فأتى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال:
«يا رسول الله، (والذي بعثك بالحق) ما جئتك حتى تركناها كأنها جمل
أجرب».
قال:
«فبرك رسول الله «صلى الله عليه وآله» على خيل أحمس
ورجالها خمس مرات».
قال جرير:
فأتيت رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، فدعا لنا ولأحمس([2]).
ونقول:
1 ـ
قال أبو عمر: كان إسلام جرير في العام الذي توفي
فيه رسول الله «صلى الله عليه وآله».
قال جرير:
أسلمت قبل موت رسول الله «صلى الله عليه وآله»
بأربعين يوماً([3]).
وقال العسقلاني:
وهو غلط، ففي الصحيحين عنه: أن النبي «صلى الله
عليه وآله» قال له: استنصت الناس في حجة الوداع، وجزم الواقدي:
بأنه وفد على النبي «صلى الله عليه وآله» في شهر رمضان سنة عشر([4]).
وله ذكر في حديث موت النجاشي. وموته قد كان قبل سنة
عشر([5]).
2 ـ
قد تقدم في أول الكتاب: أنهم بسبب حسدهم للكعبة
أنشأوا الكعبة الشامية واليمانية، وما إلى ذلك، بل إن أبرهة جاء من
اليمن بفيلته ليهدم الكعبة، فأهلكه الله هو وجيشه، ونزلت سورة
الفيل لتحكي لنا قصتهم.
3 ـ
إن هؤلاء يصنعون آلهتهم، ويتخذون أرباباً لأنفسهم
{لاَ
يَخْلُقُونَ شَيْئاً
وَهُمْ يُخْلَقُونَ}([6])،
في مناقضة منهم ظاهرة لحكم العقل، والمنطق، والفطرة، والوجدان..
4 ـ
أما ما ادَّعته الروايات لجرير بن عبد الله البجلي
من دعاء النبي «صلى الله عليه وآله» له، فنحن نشك فيه، بل نعتقد
أنه مصنوع له، مكافأة له على مواقفه من علي «عليه السلام».
فقد روي:
أن مسجد جرير من المساجد
الملعونة، فعن أبي جعفر «عليه السلام»: فأما المساجد الملعونة،
فمسجد ثقيف، ومسجد الأشعث، ومسجد جرير بن عبد الله البجلي، ومسجد
سمَّاك بن أبي خرشة([7]).
وقد قال هو والأشعث بن قيس لضبّ
مر بهما:
يا أبا الحسن (أو يا أبا الحسل)، هلم نبايعك.
فبلغ ذلك علياً «عليه السلام»،
فقال:
الخ..([8]).
وجددت أربعة مساجد بالكوفة،
فرحاً بقتل الحسين «عليه السلام»:
مسجد الأشعث، ومسجد جرير، ومسجد شبث([9]).
ونظن: أن المقصود هو:
فرحهم بقتل علي «عليه السلام»، لأن جريراً توفي قبل
استشهاد الإمام الحسين «عليه السلام» سنة أربع وخمسين، أو سنة إحدى
وخمسين([10]).
وكان فارق علياً «عليه السلام»
إلى معاوية، وخرب علي «عليه السلام» داره بالكوفة، كما هو معلوم([11]).
وقدم وفد ثقيف بعد رجوع النبي «صلى الله عليه وآله»
من تبوك.
فقد روى البيهقي عن عروة، ومحمد بن عمر عن شيوخه،
وابن إسحاق عن رجاله، قالوا: إن عبد ياليل بن عمرو، وعمرو بن أمية
أحد بني علاج الثقفيان لما قدما على رسول الله «صلى الله عليه
وآله» مع وفد ثقيف وأسلموا قالوا: أرأيت الربة ماذا نصنع فيها؟
قال:
اهدموها.
قالوا:
هيهات، لو تعلم الربة أنَّا أوضعنا في هدمها قتلت
أهلنا.
قال عمر بن الخطاب:
ويحك يا عبد ياليل ما أحمقك، إنما الربة حجر لا
تدري من عبده ممن لم يعبده.
قال عبد ياليل:
إنَّا لم نأتك يا عمر.
وقالوا:
يا رسول الله، اتركها ثلاث سنين لا تهدمها، فأبى.
فقالوا:
سنتين، فأبى.
فقالوا:
سنة. فأبى.
فقالوا:
شهراً واحداً. فأبى أن يوقت لهم وقتاً، وإنما
يريدون ترك الربة خوفاً من سفهائهم والنساء والصبيان، وكرهوا أن
يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام.
وسألوا رسول الله «صلى الله
عليه وآله» أن يعفيهم من هدمها، وقالوا:
يا رسول الله، اترك أنت هدمها، فإنَّا لا نهدمها
أبداً.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
«أنا أبعث أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة
يهدمانها». فذكروا الحديث([12]).
فعاد الوفد، وأخبروا قومهم خبرهم وخبر الربة.
فقال شيخ من ثقيف قد بقي في
قلبه شرك بعد:
فذاك والله مصداق ما بيننا وبينه، فإن قدر على
هدمها فهو محق ونحن مبطلون، وإن امتنعت ففي النفس من هذا بعدُ شيء.
فقال عثمان بن أبي العاص:
«منتك والله نفسك الباطل وغرتك الغرور. الربة والله
ما تدري من عبدها ومن لم يعبدها».
وخرج أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة وأصحابهما
لهدم الربة. فلما دنوا من الطائف قال المغيرة لأبي سفيان: تقدم أنت
على قومك.
وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم، ودخل المغيرة في
بضعة عشر رجلاً يهدمون الربة. فلما نزلوها عشاء باتوا، ثم غدوا على
الربة يهدمونها.
فقال المغيرة لأصحابه الذين
قدموا معه:
«لأضحكنكم اليوم من ثقيف».
فاستَكَفَّت ثقيف كلها:
الرجال، والنساء، والصبيان، حتى خرج العواتق من
الحجال حزناً يبكين على الطاغية، لا يرى عامة ثقيف أنها مهدومة،
ويظنون أنها ممتنعة.
فقام المغيرة بن شعبة واستوى على رأس الدابة ومعه
المعول، وقام معه بنو معتب دريئة بالسلاح مخافة أن يصاب كما فعل
عمه عروة بن مسعود.
وجاء أبو سفيان وصمم على ذلك، فأخذ الكرزين، وضرب
المغيرة بالكرزين ثم سقط مغشياً عليه يركض برجليه، فارتج أهل
الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أسعد الله المغيرة، قد قتلته الربة.
زعمتم أن الربة لا تمتنع، بلى والله لتمنعن، وفرحوا حين رأوه
ساقطاً، وقالوا: من شاء منكم فليقترب، وليجتهد على هدمها، فوالله
لا يستطاع أبداً.
فوثب المغيرة بن شعبة وقال:
قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع، حجارة ومدر،
فاقبلوا عافية الله تعالى ولا تعبدوها، ثم إنه ضرب الباب فكسره، ثم
سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجراً حجراً حتى سووها
بالأرض، وجعل السادن يقول: ليغضبن الأساس، فليخسفن بهم.
فلما سمع بذلك المغيرة حفر أساسها، فخرّبه حتى
أخرجوا ترابها، وانتزعوا حليتها وكسوتها، وما فيها من طيب وذهب
وفضة، وثيابها.
فبهتت ثقيف، فقالت عجوز منهم:
أسلمها الرضاع، لم يحسنوا المصاع.
وأقبل أبو سفيان والمغيرة وأصحابهما حتى دخلوا على
رسول الله «صلى الله عليه وآله» بحليّها وكسوتها، وأخبروه خبرهم،
فحمد الله تعالى على نصر نبيه، وإعزاز دينه. وقسم رسول الله «صلى
الله عليه وآله» مال الطاغية من يومه، وسأل أبو المليح بن عرو ة بن
(مسعود بن معتب الثقفي) رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن (يقضي)
عن أبيه عروة ديناً كان عليه من مال الطاغية.
فقال له رسول الله «صلى الله
عليه وآله»:
(نعم).
فقال له قارب بن الأسود:
وعن الأسود يا رسول الله فاقضه، وعروة والأسود
أخوان لأب وأم.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
«إن الأسود مات مشركاً».
فقال قارب:
يا رسول الله، لكن تصل مسلماً ذا قرابة، يعني نفسه،
إنما الدين علي، وإنما أنا الذي أطلب به.
فأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» أبا سفيان أن
يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية([13]).
ونقول:
إن لنا هنا مؤاخذات، وإيضاحات، نذكرها فيما يلي:
إن أول ما يطالعنا في النص
المتقدم:
أن ما يشغل بال عبد ياليل، وعمرو بن أمية حتى بعد
أن أسلما هو مصير الصنم الذي كانوا يعبدونه، أو بالأحرى مصيرهم
معه، حيث الخوف منه كان مهيمناً عليهما، وكانا يبحثان عن مخرج.
فلما قال لهم النبي «صلى الله
عليه وآله»:
«إهدموها»، أخذهما الخوف، وتكلما بالمتناقضات..
فقالوا: هيهات لو تعلم الربة أننا أوضعنا في هدمها، لقتلت أهلنا».
فهم إذ يقرون بأن الربة تجهل ما يدبرونه في أمرها.
فما معنى عبادتهم لصنم يجهل ما يدبره عبَّاده في شأنه؟!
ثم عبَّروا عن خوفهم من الربة أن تقتل أهلهم،
فلماذا تقدر على قتل أهلهم، ولا تقدر على معرفة ما يريدونه في
شأنها؟!
ولماذا خافوا أن تقتل الربة أهلهم، ولم يخافوا من
أن تقتلهم هم أنفسهم؟! إلا إذا كانوا قد تعودوا على نسبة كل ما
يفرحهم أو يسوءهم إلى فعل الربة بهم، بزعم أنها غاضبة أو راضية
عليهم، لسبب كذا، أو كذا.. ثم هم يشيعون ذلك ويتداولونه، فتتأكد
رهبتها ومكانتها في نفوسهم بسبب جهلهم، وسذاجتهم..
ولعل المبرر لطلبهم تأجيل هدم الربة ثلاث سنين، أو
سنتين، أو سنة، أو شهراً.. هو أنهم يريدون أن يطمئنوا إلى أن ذلك
الصنم سوف لا ينتقم منهم، بسبب تركهم له، وهذا الأمر لا ينتهي، ولا
مجال لحسمه، إذ لعل أحداً منهم يأتيه أجله، أو يتفق تعرضه لحادث،
فإنهم سوف يتوهمون أن الصنم هو الذي فعل ذلك بهم، حنقاً منه وغضباً
عليهم، وسيفكرون بالعودة إليه، والتماس رضاه..
وأية قيمة لإيمان من هذا القبيل، حيث يكون ـ
باستمرار ـ متمازجاً مع اعتقادهم بتأثير الصنم في سعادتهم،
وشقائهم، وحاجتهم إلى إرضائه، والتزلف له باستمرار..
والذي دلنا على أن هذا هو سبب
طلبهم تأجيل هدمه هو قولهم:
«لو تعلم الربة أننا أوضعنا في هدمها قتلت أهلنا».
ويؤكد لنا ذلك:
أنهم طلبوا من النبي «صلى الله عليه وآله» أن
يعفيهم من هدمها.
وكذلك قولهم له:
فإنَّا لا نهدمها أبداً.. كما تقدم.
فجاء الموقف الحاسم والحازم الذي يقضي بضرورة
المبادرة إلى هدم ذلك الصنم، لكي تنقطع علاقتهم به، ويزول خوفهم
منه..
وبذلك يتضح عدم صحة التعليل الذي ذكره رواة النص
الذي نقلناه، وهو: أنهم أرادوا ترك الربة خوفاً من سفهائهم،
والنساء والصبيان.. وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها، حتى يدخلهم
الإسلام، فقد عرفنا أن بقاء هذا الصنم، سوف يكون مانعاً قوياً من
دخول الإسلام إلى قلوبهم..
وقد اختار «صلى الله عليه وآله» لهدم صنم ثقيف كلاً
من أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة..
فلعل سبب اختياره
لهذين الرجلين بالذات، أنه
«صلى الله عليه وآله»
أراد أن يفهمهم أن مصدر قلق مشركي تلك المنطقة أمران:
الأول:
خوفهم من أن تكون قريش تضمر لهم الشر والإنتقام،
فيما لو تبدلت الأحوال، وعادت إلى الإمساك بمقاليد الأمور، فإذا
كانت قريش متمثلة بزعيمها الذي قادها لمحاربة الإسلام وأهله، طيلة
عشرين سنة، هي التي تتولى هدم أصنامهم، ومحاربة المصرِّين على
الشرك فيهم، فلا يبقى مبرر لخوفهم، أو لترددهم أو قلقهم..
الثاني:
الخشية من أن يكون لتلك الأصنام أدنى تأثير فيما
يصيبهم أو يصيب أهلهم من رخاء أو بلاء، أو سراء أو ضراء. فإذا تولى
هدمها رجل ثقفي، كالمغيرة، ثم لم يصب في نفسه، ولا في أهله بسوء،
فإن ذلك سوف يطمئنهم إلى صحة ما يقوله لهم الرسول الأكرم «صلى الله
عليه وآله»، من أنها مجرد جمادات لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا
تسمع..
ويكون هدمها وسلامة من يتولى ذلك من موجبات تأكد
التوحيد، واقتلاع آثار الشرك من نفوسهم، وفقاً لما قاله ذلك الشيخ
الثقفي: «فذاك والله مصداق ما بيننا وبينه، فإن قدر على هدمها فهو
محق، ونحن مبطلون. وإن امتنعت ففي النفس من هذا بعد شيء».
وقد سبق:
أن عامة ثقيف كانت لا ترى أنها مهدومة، ويظنون أنها
ممتنعة. وهيمن عليهم جميعاً الحزن والبكاء..
ونرى:
أن هذا الحزن والبكاء ناشئ عن خوفهم من أن تغضب
عليهم وتهلكهم، أو ترميهم بالبلايا والرزايا.
أو لعلهم كانوا يشعرون بالسلامة والأمن حين تكون
إلى جانهبم، فإذا فقدت، فقد يراودهم الشعور بالضياع، وصيرورتهم في
مهب الرياح، عرضة لكل طالب، ونهزة لكل راغب، من قاتل لهم أو سالب.
وبعد..
فإن المغيرة بن شعبة يقول لأصحابه: «لأضحكنكم اليوم
من ثقيف» ثم تذكر الرواية: أنه حين ضرب الربة بمعوله تظاهر بالغشية
الخ..
ونقول:
هل كان المغيرة يعبد ذلك الصنم طيلة حياته بين أهله
وعشيرته؟! أم لم يكن كذلك؟!
وهل كان يعتقد فيه ما يعتقدونه، أو كان يخالفهم في
ذلك؟!
وهل خرج حب الأصنام من قلبه حقيقة؟! أم أنه لا يزال
على مثل ما هم عليه..
إن كل ذلك قد لا نجد له جواباً واضحاً وصريحاً..
غير أننا نعلم:
أن المغيرة كما قال «عليه
السلام»:
لم يسلم عن قناعة بالإسلام، وإنما لفجرة وغدرة كانت
منه بنفر من قومه، فهرب، فأتى النبي
«صلى الله عليه وآله»
كالعائذ بالإسلام. والله ما رأى أحد عليه منذ ادَّعى الإسلام
خضوعاً ولا خشوعاً([14]).
وقال أمير المؤمنين «عليه
السلام» لعمار عن المغيرة:
«إنه والله دائماً يلبس الحق
بالباطل، ويموه فيه، ولن يتعلق من الدين إلا بما يوافق الدنيا»([15]).
وهذا هو الذي يوضح لنا السبب في انحرافه عن علي
«عليه السلام» وممالأته لمعاوية، ولكل حاكم طمع بأن ينال من دنياه
شيئاً، ولذلك قالوا: سلم على عمر بقوله: «السلام عليك يا أمير
المؤمنين» فجروا عليه([16]).
مع أن هذا الاسم خاص بأمير المؤمنين علي
«عليه السلام».
وكان من الذين حرضوا على غصب الخلافة من علي أمير
المؤمنين
«عليه السلام»،
وقال لهم: وسعوها في قريش تتسع([17])
وأغرى أبا بكر بأن يجعل للعباس نصيباً، ليضعف علي
«عليه السلام»([18]).
وهو الذي أغرى معاوية بالبيعة لولده يزيد أيضاً([19]).
وأشار عليه أيضاً باستلحاق زياد([20]).
وقد تصور إبليس بصورته يوم قبض النبي
«صلى الله عليه وآله»،
فقال: أيها الناس، لا تجعلوها كسرانية، ولا قيصرانية، وسعوها تتسع،
ولا تردوها في بني هاشم، فينتظر بها الحبالى الخ..([21]).
وقد حرص الخليفة الثاني على مكافأة المغيرة على
تأييده لسياساتهم ومعونته لهم، فعمل جاهداً على تبرئة ساحته، ودفع
حد الزنا عنه، حين صد زياد بن أبيه عن أداء الشهادة كما هو حقها([22]).
ثم إنه حين عزله عن البصرة ـ التي زنا فيها ـ
للتخلص من كلام الناس، عاد فولاه الكوفة، فصار ذلك مثلاً، فكان
يقال: غضب الله عليك كما غضب عمر على المغيرة، عزله عن البصرة
واستعمله على الكوفة([23]).
ولما بويع معاوية أقام المغيرة خطباء يلعنون علياً
«عليه السلام»([24]).
والحديث حول المغيرة وأفاعيله، وأباطيله يطول، فلا
محيص عن الإكتفاء بما ذكرناه.
ونعود نقول:
إن هذا الرجل ـ فيما يظهر ـ لم يكن يرجع إلى دين،
ولا يهتم لشيء من قضايا الإيمان، إلا في حدود مصالحه الدنيوية،
وهذه صفة بالغة السوء، تضع الإنسان على حد الكفر والزندقة كما هو
واضح..
روى البيهقي، عن ابن إسحاق قال:
حدثني يزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وروى
البيهقي عن عروة بن الزبير، ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا:
لما توجه رسول الله صلى الله قافلاً إلى المدينة من
تبوك بعث خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارساً في رجب سنة تسع
إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل. وكان أكيدر من كندة، وكان
نصرانياً.
فقال خالد:
كيف لي به وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسيرين؟
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
«إنك ستجده [ليلاً] يصيد البقر، فتأخذه، فيفتح الله
لك دومة. فإن ظفرت به فلا تقتله، وائت به إلي، فإن أبى فاقتله».
فخرج إليه خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه
بمنظر العين، في ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له، ومعه امرأته
الرباب بنت أنيف الكندية. فصعد أكيدر على ظهر الحصن من الحر، وقينة
تغنّيه، ثم دعا بشراب.
فأقبلت البقر الوحشية تحك بقرونها باب الحصن،
فأشرفت امرأته فرأت البقر، فقالت: ما رأيت كالليلة في اللحم.
قال:
وما ذاك؟
فأخبرته. فأشرف عليها، فقالت
امرأته:
هل رأيت مثل هذا قط؟
قال:
لا.
قالت:
فمن يترك هذا؟
قال:
لا أحد.
قال أكيدر:
والله، ما رأيت بقراً جاءتنا ليلة غير تلك الليلة،
ولقد كنت أضمِّر لها الخيل، إذا أردت أخذها شهراً، ولكن هذا بقدر.
ثم ركب بالرجال وبالآلة، فنزل أكيدر وأمر بفرسه
فأسرج، وأمر بخيله فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيته، معه أخوه
حسان ومملوكان له، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم. فلما فصلوا من الحصن،
وخيل خالد تنظر إليهم لا يصول منها فرس ولا يجول، فساعة فصل أخذته
الخيل، فاستأسر أكيدر وامتنع حسان، وقاتل حتى قتل، وهرب المملوكان
ومن كان معه من أهل بيته، فدخلوا الحصن، وكان على حسان قباء من
ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد.
وقال خالد لأكيدر:
هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتي بك رسول الله «صلى
الله عليه وآله» على أن تفتح لي دومة؟
فقال أكيدر:
نعم.
فانطلق به خالد حتى أدناه من الحصن.
فنادى أكيدر أهله:
أن افتحوا باب الحصن، فأرادوا ذلك، فأبى عليهم مضاد
أخو أكيدر.
فقال أكيدر لخالد:
تعلم والله أنهم لا يفتحون لي ما رأوني في وثاقك،
فخل عني فلك الله والأمانة أن أفتح لك الحصن، إن أنت صالحتني على
أهلي.
قال خالد:
فإني أصالحك.
فقال أكيدر:
ان شئت حكمتك، وإن شئت حكمتني.
فقال خالد:
بل نقبل منك ما أعطيت.
فصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة
درع، وأربعمائة رمح، على أن ينطلق به وبأخيه إلى رسول الله «صلى
الله عليه وآله» فيحكم فيهما حكمه.
فلما قاضاه خالد على ذلك خلى سبيله، ففتح باب
الحصن، فدخله خالد وأوثق مضاداً أخا أكيدر، وأخذ ما صالح عليه من
الإبل والرقيق والسلاح.
ولما ظفر خالد بأكيدر وأخيه حسان أرسل خالد عمرو بن
أمية الضمري بشيراً، وأرسل معه قباء حسان.
قال أنس وجابر:
رأينا قباء حسان أخي أكيدر حين قدم به إلى رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم،
ويتعجبون منه.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
«أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن
معاذ في الجنة أحسن من هذا»([25]).
ثم إن خالداً لما قبض ما صالحه عليه أكيدر عزل
للنبي «صلى الله عليه وآله» صفيّه له قبل أن يقسم شيئاً من الفيء،
ثم خمّس الغنائم بعد.
قال محمد بن عمر:
كان صفي رسول الله «صلى الله عليه وآله» عبداً أو
أمة، أو سيفاً أو درعاً، أو نحو ذلك.
ثم خمّس خالد الغنائم بعد، فقسمها بين أصحابه.
قال أبو سعيد الخدري:
أصابني من السلاح درع وبيضة، وأصابني عشر من الإبل.
وقال واثلة بن الأسقع:
أصابني ست فرائض.
وقال عبد الله بن عمرو بن عوف
المازني:
كنا مع خالد بن الوليد أربعين رجلاً من بني مزينة،
وكانت سهماننا خمس فرائض لكل رجل، مع سلاح يقسم علينا دروع ورماح.
قال محمد بن عمر:
إنما أصاب الواحد ستاً والآخر عشراً بقيمة الإبل.
ثم إن خالداً توجه قافلاً إلى المدينة، ومعه أكيدر
ومضاد.
وروى محمد بن عمر عن جابر قال:
رأيت أكيدر حين قدم به خالد، وعليه صليب من ذهب،
وعليه الديباج ظاهراً.
فلما رأى النبي «صلى الله عليه وآله» سجد له، فأومأ
رسول الله «صلى الله عليه وآله» بيده: لا، لا، مرتين.
وأهدى لرسول الله «صلى الله عليه وآله» هدية فيها
كسوة.
قال ابن الأثير:
وبغلة، وصالحه على الجزية.
قال ابن الأثير:
وبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، وحقن دمه ودم أخيه،
وخلى سبيلهما.
وكتب رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتاباً فيه
أمانهم وما صالحهم عليه، ولم يكن في يد النبي «صلى الله عليه وآله»
يومئذ خاتم، فختم الكتاب بظفره.
قال محمد بن عمر، حدثني شيخ من
أهل دومة:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتب له هذا
الكتاب:
«بسم الله الرحمن الرحيم:
هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى
الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في
دومة الجندل وأكنافها: أن لنا الضاحية من الضحل، والبور والمعامي،
وأغفال الأرض، والحلقة [والسلاح]، والحافر والحصن، ولكم الضامنة من
النخل، والمعين من المعمور بعد الخمس، ولا تعدل سارحتكم، ولا تعد
فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون
الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم بذلك الصدق
والوفاء، شهد الله تبارك وتعالى ومن حضر من المسلمين»([26]).
وقال بجير بن بجرة الطائي يذكر قول رسول الله «صلى
الله عليه وآله» لخالد بن الوليد: «إنك ستجده يصيد البقر»، وما
صنعت البقر تلك الليلة بباب الحصن، تصديقاً لقول رسول الله «صلى
الله عليه وآله»:
تـبـارك
سـائـق الـبـقـرات إنــي رأيــت الله يــهــدي كـــل هـاد
فـمـن يـك حـائـداً عن ذي تبوك فـإنّــا قـــد أمــرنــا
بالجــهــاد
قال البيهقي بعد أن أورد هذين البيتين من طريق ابن
إسحاق، وزاد غيره، وليس في روايتنا: فقال له النبي «صلى الله عليه
وآله»: «لا يفضض الله فاك»([27]).
فأتى عليه تسعون سنة فما تحرك له ضرس.
وروى ابن منده، وابن السكن، وأبو نعيم، كلهم عن
الصحابة، عن بجير بن بجرة قال: كنت في جيش خالد بن الوليد حين بعثه
رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى أكيدر دومة، فقال له: «إنك
تجده يصيد البقر».
فوافقناه في ليلة مقمرة وقد خرج كما نعته رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، فأخذناه، فلما أتينا رسول الله «صلى الله
عليه وآله» أنشدته أبياتاً، فذكر ما سبق.
فقال النبي «صلى الله عليه
وآله»:
«لا يفضض الله فاك».
فأتت عليه تسعون سنة وما تحرك له سن([28]).
تنبيهان:
الأول:
أكيدر: هو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن.
الثاني:
وقالوا: بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» أبا
بكر على المهاجرين إلى دومة الجندل، وبعث خالد بن الوليد على
الأعراب معه. وقال: «انطلقوا، فإنكم ستجدون أكيدر دومة يقنص الوحش،
فخذوه أخذاً، وابعثوا به إليّ، ولا تقتلوه، وحاصروا أهلها»([29]).
قلت:
وذكر أبي بكر في هذه السرية غر يب جداً لم يتعرض له
أحد من أئمة المغازي التي وقفت عليها([30]).
ونقول:
إن لنا ههنا وقفات عديدة هي
التالية:
تقدم قول خالد لأكيدر:
«هل لك أن أجيرك من القتل، حتى آتي بك رسول الله
«صلى الله عليه وآله» على أن تفتح دومة؟
فقال:
نعم.
ونقول:
إن هذا النص لا يعد مخالفاً لقول النبي
«صلى الله عليه وآله» لخالد عن أكيدر: إن ظفرت به
فلا تقتله، إذ لعله أراد أن يوهم أكيدر بعزمه على قتله لو رفض
طلبه، ليستجيب لطلبه، ويفتح له الحصن من دون قتال. ولا ضير في
ممارسة أسلوب كهذا إذا كان يوفر على المسلمين تعريض أنفسهم لأخطار
هم في غنى عنها.
غير أننا نقول:
ماذا لو أن أكيدر رفض الإستجابة لطلب خالد؟! فهل
كان سيقتله، فيكون بذلك مخالفاً أمر رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، ومنقاداً لحميته، ومؤثراً لإظهار قوة كلمته وشدته؟! أم أنه
سيبحث عن مخرج آخر؟!
إننا نترك الإجابة عن ذلك، وترجيح أي من الإحتمالين
المذكورين إلى من درس نفسية خالد، وعرف تاريخه، وجرأته على الخلاف.
وضعف التزامه بما يفرضه شرع الله، وطاعة أوامر رسول الله
وأوليائه..
وقد صرحت تلك النصوص:
بأن خالداً قد تردد في قبول المهمة رغم أن النبي
«صلى الله عليه وآله» قد جعل تحت امرته أربع ماية
وعشرين فارساً، فقال: كيف لي به، وهو وسط بلاد كلب؟! وإنما أنا في
أناس يسيرين..
فقال له «صلى الله عليه وآله»:
إنك تجده ليلاً يصيد البقر، فتأخذه، فيفتح الله لك
دومة الجندل، فإن ظفرت به، فلا تقتله الخ..
وهذا معناه:
أن خالداً سوف لا يواجه حرباً، ولا طعناً، ولا
ضرباً، وأن هذا العدد الكبير من المقاتلين، والجم الغفير، لم تكن
له مهمة قتالية، بل هي مهمة أخذ رجل في البرية من دون قتال، ثم
تسلُّم البلد، وبسط الأمن فيه.
وربما يمكن أن نفهم:
أن هذا الوعد النبوي لخالد قد أحرجه، وفرض عليه
قبول المهمة، لأنه إن رفضها، فسيفهم الناس: أنه يكذِّب النبي «صلى
الله عليه وآله» فيما يخبر به، أو أنه يشك في صدقه. وهذا ردٌّ
لكتاب الله سبحانه الذي
يقول: {وَمَا
يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}([31]).
وإذا ألقينا نظرة على ما تضمنته الرواية من وصف
للأحداث، فسنجدها أموراً غير معقولة، ولامقبولة.. ولا نرضى أن
نُتهم في عقولنا، وفقاً لقاعدة: حدِّث العاقل بما لا يليق له، فإن
لاق له، فلا عقل له.. فلاحظ ما يلي:
1 ـ
إن الرواية تقول: إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد
أخبر خالداً بأنه سوف يجده ليلاً يصيد البقر. فما معنى أن تذكر
الرواية: أنه وجده في حصنه على سطح له، ومعه امرأته، ثم ركب
بالرجال، وخرجوا من حصنهم، وخيل خالد تنظر إليه، فساعة فصل أخذته
الخيل.. فالرواية الصحيحة هي رواية بجير بن بجرة الذي قال:
«فوافقناه في ليلة مقمرة وقد خرج كما نعته رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، فأخذناه».
2 ـ
كيف وصلت خيل خالد إلى حصن أكيدر، حتى رأوا أكيدر
وامرأته على السطح وحركاتهما، ووقفت تلك الخيل الكثيرة جداً
بأصحابها، ولم تصهل ولم تحمحم، ولم يسمع أحد صوت وقع حوافرها في
ليل يهيمن عليه السكون، وتكون الأصوات فيه أوضح مما تكون عليه في
النهار..
وقد تنبه الرواة لهذه الملاحظة،
فأدرجوا في كلامهم عبارة:
«لا يصول منها فرس ولا يجول»!!
3 ـ
إن البقر الوحشية قد اقتربت من الحصن حتى صارت تحك
بابه بقرونها..
والسؤال هو:
إذا كان أكيدر وزوجته، وربما من كان معه قد رأوا
البقر الوحشية تحك باب الحصن بقرونها، فذلك يعني: أنهم قد راقبوها،
ورصدوا حركتها، والمفروض: أن الليلة كانت مقمرة، والرؤية فيها
ممكنة حتى إن خيل خالد رصدت أكيدر وزوجته، وراقبت حركتهم بدقة.
فلماذا لم يرهم أكيدر، أو زوجته، أو أي من الرجال الذين خرج بهم من
الحصن حين كانوا يتابعون حركة البقر الوحشية؟! أم أنهم قد لبسوا
طاقية الإخفاء عن كل هؤلاء الناس؟
4 ـ
لماذا لم تنفر البقر الوحشية من جيش خالد؟! وكيف
تمكن خالد من الإقتراب منها إلى هذا الحد؟!
إلا أن يقال:
إن رؤيتهم البقر الوحشية تحك بقرونها باب الحصن
لعله كان قبل قدوم خالد وجيشه، أو أن البقر الوحشية قدمت من جهة،
وقدم خالد وجيشه من الجهة الأخرى..
ويجاب:
بأن ذلك يخالف ظاهر الحديث، فقد كان باب الحصن
بمرأى من جيش خالد، ففي النصوص المتقدمةأى:
أنهم قد فصلوا من الحصن وخيل خالد تنظر إليهم، وهذا معناه: أن جيش
خالد كان بحيث يرى الحصن. وليس إلى الجهة الأخرى منه..
وفيه أيضاً:
أن خالداً خرج إليه ـ أي أكيدر ـ حتى إذا كان من
حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له.. ثم تستمر
الرواية في وصف ما جرى إلى أن تقول: وخيل خالد تنظر إليهم، ولا
يصول منها فرس ولا يجول..
فهذا السياق ظاهر في:
أن خيل خالد قد وصلت إلى الحصن حين كان أكيدر على
سطح له. ثم وصفت صعوده إلى سطح الحصن نفسه وسائر ما جرى.. وإنما
جاءت البقر الوحشية في هذه الأثناء.
كما أن ذلك قد حصل من دون أن تبدر من خيل خالد أية
بادرة، تشي بوجودها على مقربة منهم..
وقد جاء في سياق الحديث عن هذه
السرية:
أن خالداً قد أخذ أكيدر، وهو في الصيد، ثم صالحه
على أن يفتح له الحصن، فصالحه على ألفي بعير، وثمان مائة رأس الخ..
وانتهى الأمر عند هذا الحد..
ومن الواضح:
أن الأرض المفتوحة صلحاً، من دون أن يوجف عليها
بخيل ولا ركاب تكون للنبي «صلى الله عليه وآله» خالصة له..
وهذا معناه:
أن ما صالحهم عليه أكيدر أيضاً ليس من قبيل الغنائم
التي يقتسمها المقاتلون، بل تكون لله ولرسوله «صلى الله عليه
وآله»..
فما معنى:
أن يقسمها خالد بين المقاتلين بعد إخراج الصفي منها
والخمس؟!
ولعلك تقول:
إن قتالاً قد حصل وسقط فيه حسان وأخذ خالد سلبه،
وذلك يُدخل دومة الجندل فيما أخذ عنوة.
والجواب:
أن هذا القتال لم يأذن به رسول الله «صلى الله عليه
وآله».. بل أمر بأخذ أكيدر وحسب، وليس ثمة ما يثبت وجود مقاومة من
حسان أو غيره من أصحاب أكيدر.
بل إن مقاومتهم غير معقولة، بعد أن كانوا بضعة
أفراد هرب أكثرهم بمجرد رؤية هذا الجيش الكبير جداً، وهم لم يلبسوا
لامة الحرب. بل أخذوا معهم ما يفيدهم في صيد البقر، فلعل خالداً قد
طمع ببزة حسان، فقتله، وأخذ سلبه.
والذي يهون الخطب:
أن خالداً لم يكن من أهل المعرفة بأحكام الله، وأن
الأمر سوف ينتهي إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فيعالجه بما
يستحقه، وأن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يأبى أن ينال
المسلمون من هذه الأموال، حتى لو كان ذلك نتيجة خطأ في فهم
الأمور..
وقد تقدم عن قريب:
كيف أنهم كانوا يتجاوزون حدود ما هو مسموح به فيما
يرتبط بالغنائم والخمس.. فلا نعيد.
ولو أن النبي «صلى الله عليه وآله» أراد أن يسترجع
هذه الأموال منهم، فقد يجد بعض الناس في أنفسهم حرجاً أو ألماً،
وقد يتَّهم بعضهم النبي «صلى الله عليه وآله» بما يوجب كفر ذلك
المتهم..
وأما وضوح الحكم الشرعي لهذه الأموال، فهو حاصل من
خلال البيانات النبوية، والتأكيد على الضوابط والمعايير. فلا خوف
على الحكم الشرعي من هذه الجهة.
النبي
ينهى
خالداً عن قتل أكيدر:
وقد تقدم:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد نهى خالداً عن
قتل أكيدر، وأمره أن يبعث به إليه.. ولعل السبب في ذلك، أمور نذكر
منها:
1 ـ
إنه أراد أن لا يطلق العنان لخالد، فيظن أنه له أن
يتصرف كما يحلو له.. فإن المطلوب هو إبقاؤه السيطرة، وأن لا يفقد
الشعور بأنه مطالب ومحاسب، وأن يبقى ملتزماً جانب الإنضباط
والطاعة..
2 ـ
إنه أراد أن يستكمل إقامة الحجة على أكيدر، فإن
الأحداث المختلفة قد أظهرت: أن بعض الناس يتخذون مواقف عدائية لبعض
الدعوات، أو الفئات قبل أن يقفوا على كنه الحقيقة، ويعرفوا
التفاصيل، وذلك لشعورهم بالخوف مما تحمله لهم من أمور مجهولة،
وتغييرات لا يعرفون متى تنتهي، وعند أي حدّ تقف..
3 ـ
إنه إذا أسلم ملك دومة الجندل فسوف يسهِّل ذلك دخول
جل ـ إن لم يكن كل ـ أهل منطقته في الإسلام، لأنه بالنسبة إليهم هو
واسطة العقد، ورأس الهرم، فإذا اختار شيئاً لنفسه، فإنهم يرون انه
لا يختار إلا الأفضل والأسمى، والأمثل والأعلى، فلماذا لا يقتدون
به، ويرضون لأنفسهم ما رضيه لنفسه؟!
على أن من الطبيعي:
أن هذا الرجل لو قتل، لأقاموا شخصاً آخر مقامه،
ولعل ذلك الشخص من أجل أن يثبت مصداقيته، ويؤكد نفوذه فيهم، يبادر
إلى مغامرة تنتهي إلى إلحاق أذى كبير في المسلمين، وربما يحتاج
الأمر للسيطرة على الأمور إلى إزهاق كثير من الأرواح، ونشوء الكثير
من المشكلات الإجتماعية، أو الإقتصادية لجماعات من الناس..
ولربما تنشأ عن هذه الحروب أحقاد وتعقيدات يصعب
التخلص منها حتى تمضي عقود من الزمن..
فذلك كله يعرفنا بعض الأسباب التي دعت النبي «صلى
الله عليه وآله» إلى نهي خالد عن قتل أكيدر، بل المطلوب هو أخذه،
وإرساله إليه..
والناس إنما يقيسون ويتخيلون، ما هو محجوب عنهم في
الغيب، انطلاقاً مما يتوفر لهم من مشاهدات، أو ما عاشوه من حالات..
وقد تقصر حركة خيالهم حتى عن بلوغ أدنى مرتبة مقبولة أو معقولة
منه.. وأكثر ما يتجلى هذا القصور في الأمور التي ترتبط بيوم
القيامة وحالاته، وأحداثه، وأهواله، وفي نعيمه وجحيمه..
وقد حاولت الآيات والروايات:
أن ترسم للبشر صوراً، وتضع لهم إشارات وإثارات
تقربهم إليها، وتقربها إليهم، رغم كل الحجب المادية، التي قد لا
يوفق الكثيرون إلى التخلص منها في الحياة الدنيا. أو أنهم لا
يريدون ذلك بصورة جدية..
وقد وجد النبي «صلى الله عليه وآله» في إعجاب الناس
بقباء حسان أخي أكيدر مناسبة لإطلاق توجيه جديد، يفيد في تربية
وإعداد النبي «صلى الله عليه وآله» لأصحابه، ودفعهم نحو مراتب
أعلى، ومقامات أسمى يكونون فيها أكثر وعياً، وأصفى روحاً، وأكثر
رهافة في الإحساس، ونبلاً في الشعور..
فاستفاد من توافر درجة من الشعور بميزات هذا
القباء، ليجعلها وسيلة لنقلهم إلى آفاق أخرى أرحب، هم بأمس الحاجة
للانتقال إليها من أجل بناء أرواحهم، ورسم وإنشاء ارتباطاتهم
العاطفية والقلبيّة بقضايا الإيمان، ورفع مستوى استعدادهم لبذل
الجهد، والتضحية والفداء من أجلها. والتسابق، لحفظها، وتقويتها،
وترسيخ دعائمها، في كل ساح وناح..
فقايس لهم ما أدركوه في قباء حسان بمنديل أحد
إخوانهم ممن عاشوا معه دهراً، ومارسوا معه شؤون الحياة، وذاقوا
معاً حلوها ومرها.. حتى فاز هو بمقام الشهادة دونهم، ألا وهو سعد
بن معاذ.. فنقلهم «صلى الله عليه وآله» إلى الجنة ليروا مناديل سعد
مباشرة، وبيَّن لهم: أنهم حين يقارنونها بهذا القباء، فسيجدون
مناديل سعد أفضل منها..
وقد تقدم:
أنه لما رأى أكيدر رسول الله «صلى الله عليه وآله»
سجد له، فأومأ رسول الله «صلى الله عليه وآله» إليه بيده: لا، لا
مرتين..
وواضح:
أن هذا الرجل يعامل رسول الله «صلى الله عليه وآله»
بما كان يفرضه هو على غيره، ويفرضه سائر الملوك على الناس. أما
رسول الله «صلى الله عليه وآله» فقد رفض تصرفه هذا لفهمه أنه حتى
لو لم يكن على دينه، ولم يعترف بنبوته، وحتى حين يكون أسيراً في
يده، ويعلم أنه يضمر العداء له، ويود لو يقطعه إرباً إرباً، فإن
ذلك كله لا يفقده سائر حقوقه التي أعطاه الله إياها من حيث هو
بشر.. ومن أولى برعاية هذه الحقوق من أنبياء الله، وأوليائه
وأصفيائه «صلى الله عليه وآله»؟!
وحول ما زعمته بعض الروايات
المتقدمة:
من أنه «صلى الله عليه وآله» ولّى في تلك الغزوة
خالداً على الأعراب، وولّى أبا بكر على المهاجرين، نقول:
1 ـ
قد تقدم قول الصالحي الشامي: إن ذكر أبي بكر في هذه
السرية غريب جداً، ولم يتعرض إليه أحد فيما وقفت عليه من أئمة
المغازي.
2 ـ
إن الرواية لم تصرح لنا باسم من كان أميراً على
السرية كلها، إذ لم نعهد منه «صلى الله عليه وآله» أن جعل أكثر من
أمير على سرية واحدة.
بل وجدنا كما تقدم:
أنه «صلى الله عليه وآله» كان إذا بعث سرايا
منفصلة، يقرر لهم في صورة الإجتماع أميراً واحداً ويسميه لهم. وقد
ظهر ذلك، حين أرسل علياً «عليه السلام» في سرية، وخالداً في أخرى،
فإذا اجتمعا فالأمير على الجميع هو علي «عليه السلام».
3 ـ
كما أن المناسب ـ لو صح قولهم هذا ـ هو: أن تنسب
السرية إلى أبي بكر، لا إلى خالد، وهو ما يقتضيه إرادة تكريم
المهاجرين، وإظهار امتيازهم على غيرهم، كما هو ظاهر.
فلماذا نسبت إلى خالد؟
بل لماذا نسي أئمة المغازي اسم أبي بكر، فلم يذكروه
أصلاً؟!
كما أن أحداً لم يذكر لنا أي دور لأبي بكر في
الإدارة وفي القتال، أو في التفاوض والمصالحة التي جرت، وغيرها..
بل إن أحداً لم يخص المهاجرين بشيء من الذكر في هذه
السرية على الخصوص..
مع أن هذه الرواية العجيبة
الغريبة تقول:
إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أرسل أبا بكر،
وبعث معه خالداً، وكأن خالداً كان تابعاً لأبي بكر.. فكيف لا نسمع
للمتبوع أي ذكر بعد ذلك؟! بل تمحورت القضايا كلها حول التابع،
وأصبح هو المدبر والمقرر!!
وقد ورد في الكتاب الذي قالوا:
إن النبي «صلى الله عليه وآله» كتبه لأكيدر، وأهل
دومة الجندل ـ ورد فيه ـ وصف خالد: بأنه سيف الله.
ونقول:
أولاً:
تقدم في هذا الكتاب: أن هذا التوصيف مكذوب على رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، وأن أبا بكر هو الذي خلعه على خالد بعد
وفاة النبي «صلى الله عليه وآله»، فراجع فصل: «حصار وانهيار» وفصل:
«خالد يضيع النصر».
ثانياً:
إن الظاهر هو: أن عبارة «مع خالد سيف الله» مقحمة
في الكتاب، بل هي قد تكون مفسدة للسبك والمعنى، ومن موجبات ركاكته،
إذ لا مبرر للقول: بأن فلاناً قد خلع الأنداد والأصنام مع فلان، أو
أن فلاناً أجاب إلى الإسلام مع فلان.
بل يكفي أن يقال:
فلان خلع الأنداد وأجاب إلى الإسلام.. بل إن هذه
الإضافة تغير المعنى، وتوقع في الإشتباه، إذ يصبح المعنى: أن أكيدر
وكذلك خالد كلاهما قد خلع الأنداد مع أن هذا ليس هو المراد..
ويؤيد إقحامها في الكتاب:
أنها لم تذكر في نص معجم البلدان لياقوت، وفتوح
البلدان للبلاذري، فراجع..
إن النصوص المتقدمة تقول:
إن النبي «صلى الله عليه وآله» صالح أكيدر وقومه
على الجزية..
ولكن ذلك لا يصح..
أولاً:
ورد في نص كتاب الصلح، ما يدل على إسلام أكيدر
وقومه، فقد قال عن أكيدر: هذا كتاب محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب
إلى الإسلام، وخلع الأنداد، والأصنام.
وقال عن قومه:
يقيمون الصلاة لوقتها، ويؤتون الزكاة بحقها..
وذلك يدل على إسلام أكيدر، وإسلام قومه، فإذا كانوا
قد أسلموا، فكيف تؤخذ الجزية منهم؟! والجزية إنما توضع على غير
المسلم..
ثانياً:
قوله: لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم. معناه أن
ماشيتهم لا تمنع عن مرعاها، ولا تحشر في الصدقة إلى المصدق لكي
تعدّ مع غيرها ليكتمل بها النصاب، إذا كانت فاردة، أي مما لا تجب
فيه صدقة لفقد شروطها..
وقد أضاف في طبقات ابن سعد
قوله:
ولا يؤخذ منكم إلا عشر الثبات..
ثم قال:
والثبات: النخيل القديم قد ضرب عروقه في الأرض([32]).
فذلك كله يدل على:
أنه «صلى الله عليه وآله» يعاملهم كمسلمين.. ولا
تضرب الجزية على المسلم.
والذي نراه هو:
أن أكيدر نفسه وطائفة من قومه قد قبلوا الإسلام،
ولكن معظمهم أبى ذلك، فأبقاه «صلى الله عليه وآله» ملكاً عليهم،
وأخذ منهم الجزية، وخص المسلمين منهم ببعض الفقرات، وهو أنه طلب
منهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بحقها.. وربما يكون رواة الكتاب
لم يدققوا في كلماته حين نقلوها لنا، فلم يتضح الفصل في الخطاب
بالنسبة للفريقين..
وقد يسأل سائل عن السبب في أنه «صلى الله عليه
وآله» قد صالح هؤلاء القوم على شرط أخذ الحصون، والسلاح وغيره من
وسائل الحرب منهم.
ويمكن أن يجاب:
بأن سبب ذلك هو أنهم كانوا لا يؤمن من غدرهم،
لبعدهم عن مركز الحكومة الإسلامية، وقربهم من بلاد الأعداء.
ولعل الأقرب هو أن يقال:
إن ملكهم قد أُخِذَ، وصالحوا خالداً على بعض
أموالهم قبل أن يسلموا، فأصبحت أرضهم، وكل شيء لرسول الله «صلى
الله عليه وآله».. ثم إنهم حين أسلموا أعاد «صلى الله عليه وآله»
بعض ذلك إليهم، وحجب عنهم بعضه الآخر لمصالح راعاها.. ولا ضير في
ذلك..
أما قول بعضهم:
إن أكيدر لم يسلم، وهذا الإختلاف فيه بين أهل
السيرة ومن قال إنه أسلم فقد أخطأ خطأً ظاهراً([33]).
فلا يصح:
حسبما اتضح من النصوص التي أوردناها في الفقرة
السابقة..
والذي يبدو لنا هو:
أن أكيدر قد قتله خالد بن
الوليد في عهد أبي بكر، بحجة أنه منع الصدقة([34])
فهو في جملة الذين قتلهم أبو بكر، لأنهم لم يعترفوا بخلافته.. فيما
أسموه هم ومحبوهم بحروب الردة، أو حروب مانعي الزكاة..
ولعل سبب زعمهم أن أكيدر لم
يسلم أصلاً هو:
أنهم أصيبوا بالتخمة من كثرة من قتلوهم، استناداً
لهذا الزعم الموهون.
وسيأتي المزيد من الكلام حول موضوع أكيدر في اواخر
غزوة تبوك إن شاء الله، حيث سنجد هناك بعض ما يساعد على فهم بعض
الأمور التي ذكرناها هنا.
وسنرى:
أن الظاهر هو: أن خالداً لم يكن هو أمير السرية،
وإن كان ربما قد قام بدور فيها..
وأن الوصف لما جرى المذكور هنا قد يكون غير دقيق.
فانتظر.
عن أبي أمامة قال:
بعثني رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى قومي
أدعوهم إلى الله عز وجل، وأعرض عليهم شرائع الإسلام. فأتيتهم وقد
سقوا إبلهم، وحلبوها وشربوا.
فلما رأوني قالوا:
مرحباً بالصدي بن عجلان. وأكرموني، وقالوا: بلغنا
أنك صبوت إلى هذا الرجل.
فقلت:
لا ولكن آمنت بالله ورسوله، وبعثني رسول الله «صلى
الله عليه وآله» إليكم أعرض عليكم شرائع الإسلام.
فبينا نحن كذلك إذ جاؤا بقصعتهم فوضعوها، واجتمعوا
حولها يأكلونها، وقالوا: هلم يا صدي.
قلت:
ويحكم، إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم إلا
ما ذكيتم، كما قال الله تعالى.
قالوا:
وما قال؟
قلت:
نزلت هذه الآية:
{حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ
وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ
مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن
تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ..}([35]).
فجعلت أدعوهم إلى الإسلام، فكذبوني، وزبروني وأنا
جائع ظمآن، قد نزل بي جهد شديد.
فقلت لهم:
ويحكم، إيتوني بشربة من ماء، فإني شديد العطش.
قالوا:
لا، ولكن ندعك تموت عطشاً.
قال:
فاغتممت، وضربت برأسي في العمامة، ونمت في حر شديد.
فأتاني آت في منامي بقدح فيه شراب من لبن لم ير الناس ألذ منه
فشربته حتى فرغت من شرابي ورويت، وعظم بطني.
فقال القوم:
أتاكم رجل من أشرافكم وسراتكم، فرددتموه؟ فاذهبوا
إليه، وأطعموه من الطعام والشراب ما يشتهي.
فأتوني بالطعام والشراب، فقلت:
لا حاجة لي في طعامكم ولا شرابكم، فإن الله تعالى
أطعمني وسقاني، فانظروا إلى الحال التي أنا عليها.
فأريتهم بطني، فنظروا، فأسلموا عن آخرهم بما جئت به
من عند رسول الله «صلى الله عليه وآله».
قال أبو أمامة:
ولا والله، ما عطشت ولا عرفت عطشاً بعد تيك الشربة([36]).
ونقول:
إننا نواجه إبهامات واختلالات في هذه الرواية،
فلاحظ ما يلي:
1 ـ
لو افترضنا صحة هذه الرواية، فإن ذلك لا يبرر
تسميتها «سرية»، ولا يصح إيرادها في جملة السرايا.
2 ـ
قد ذكرت الرواية: أن أبا أمامة كان من أشراف وسراة
باهلة.. وهذا لا يتناسب مع هذه المعاملة التي تذكر الرواية أنهم
عاملوه بها، حيث لم يجد فيهم ولو رجلاً واحداً يسقيه شربة من ماء،
فأين كان عنه أقرانه، وسائر الأشراف في قومه، الذين يفترض أن يكون
لهم موقف وأسلوب آخر في التعاطي معه..
3 ـ
وهل كانت قبيلة باهلة من قلة العدد بحيث تجتمع على
قصعة واحدة؟! أي أنها قد لا يزيد عددها على عشرة رجال!!.
4 ـ
ما معنى أن يعظم بطنه من شرب قدح من لبن؟! ولماذا
لم يعطه الله تعالى لهم غير بطنه العظيمة هذه، لتكون آية لهم؟!
ولماذا لم يظنوا أن عِظم بطنه كان لمرض ألمَّ به؟!
5 ـ
ولماذا لم يكمل المعروف فيطعمه لقمة أيضاً، لا
يحتاج معها إلى طعام طيلة حياته؟!
6 ـ
لو كانت هذه الخصوصية قد بقيت في أبي أمامة بحيث لا
يحتاج إلى ماء، لشاع أمره وذاع، ولوجدت الناس يتناقلونها، وكبار
القوم يتوافدون عليه، ويتبركون به ما دام حياً. ولوجدت الصحاح
والمسانيد حافلة بالروايات التي تتحدث عن قصد أعيان الصحابة وكبار
العلماء له، وسؤالهم إياه عن هذه الحادثة بالخصوص.
مع العلم:
بأن عُمْر هذا الرجل قد طال،
فقد روي: أنه توفي سنة إحدى وثمانين، وقيل: ست وثمانين، وهو آخر من
مات بالشام من الصحابة([37])،
وله مائة وست سنين([38]).
7 ـ
وإذا كانت باهلة قد أسلمت عن بكرة أبيها لرؤيتهم
بطن أبي أمامة، إذن لعظموه وبجلوه، والتفوا حوله، وتفاخروا به في
مختلف مواقف المفاخرة..
8 ـ
لماذا زبروه أولاً، ومنعوه حتى من شربة، ماء وصمموا
على أن يتركوه حتى يموت عطشاً، ثم بعد أن نام تلك النومة قالوا
لبعضهم: أتاكم رجل من أشرافكم وسراتكم فرددتموه؟! فاذهبوا إليه
فأطعموه من الطعام والشراب ما يشتهي..
فمن الآمر؟ ومن المأمور في هذا النص؟!
ولماذا لم يصدروا أمرهم بإطعامه وسقيه، حين كانوا
مجتمعين على قصعتهم..
9 ـ
على أن رواية العسقلاني عن أبي يعلى تقول: بعثني
رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى قومٍ.. فلم يعين القوم الذين
أرسله النبي «صلى الله عليه وآله» إليهم([39]).
إلا أن يقال:
إن الراوي أو الكاتب للنص أسقط الياء من كلمة
«قومي».
10 ـ
على أن حصر رواية هذه الحادثة بأبي أمامة يثير
الشبهة أيضاً. فإنني لم أجدها مروية عن غيره حتى لو كان باهلياً
أيضاً!!
وفي شهر ربيع الأول، أو ربيع الآخر، أو جمادى
الأولى، سنة عشر([40])
بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» خالد بن الوليد إلى بني الحارث
بن كعب بنجران، وكانوا مشركين: وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثة
أيام قبل أن يقاتلهم. فإن استجابوا، فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا،
فقاتلهم.
فخرج إليهم خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان
يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام ويقولون: «أيها الناس،
أسلموا تسلموا».
فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه. فأقام فيهم
خالد بن الوليد، يعلمهم شرائع الإسلام، وكتاب الله عز وجل، وسنة
نبيه «صلى الله عليه وآله»([41]).
ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله «صلى الله
عليه وآله»:
«بسم الله الرحمن الرحيم
لمحمد النبي رسول الله «صلى الله عليه وآله» [من
خالد بن الوليد]
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني
أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد..
يا رسول الله صلى الله عليك، فإنك بعثتني إلى بني
الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن
أدعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا قبلت منهم، وعلمتهم معالم الإسلام
وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم.
وإني قدمت عليهم، فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام،
كما أمرني رسول الله «صلى الله عليه وآله». وبعثت فيهم ركباناً
ينادون: يا بني الحارث، أسلموا تسلموا.
فأسلموا ولم يقاتلوا. وإني مقيم بين أظهرهم آمرهم
بما أمرهم الله به، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم
الإسلام وسنة النبي «صلى الله عليه وآله» حتى يكتب إليّ رسول الله
«صلى الله عليه وآله» والسلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته»([42]).
فكتب إليه رسول الله «صلى الله عليه وآله»:
«بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد..
سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا
هو..
أما بعد..
فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبر أن بني الحارث بن
كعب قد أسلموا، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده
ورسوله، قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام،
وأن قد هداهم الله بهداه، فبشرهم، وأنذرهم، وأقبل. وليقبل معك
وفدهم..
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته..»([43]).
فلما قرأ خالد الكتاب أقبل،
وأقبل معه من كل بطن منهم، من رؤسائهم واحد أو اثنان، وهم:
1 ـ
يزيد بن عبد المدان.
2 ـ
يزيد بن المحجل.
3 ـ
عبد الله بن قريط.
4 ـ
قيس بن الحصين بن يزيد.
5 ـ
شداد بن عبد الله القناني.
6 ـ
عمرو بن عمرو الضبابي.
7 ـ
عبد الله بن عبد المدان.
8 ـ
عبد الله بن عمرو الضبابي
وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بذلك حين نتحدث عن
موضوع الوفود..
وقد حدد رسول الله «صلى الله عليه وآله» لخالد مدة
الدعوة قبل القتال بثلاثة أيام، لكي لا يتسرع، ويوقع بهم، طمعاً في
أموالهم، ونساءهم وذراريهم، ليعطيهم فسحة للإعراب عن دخائل نفوسهم
بعد التروي، والتأمل والنقاش، والإستيضاح، وسماع التفسير.. ثم
ليظهر إسلامهم أمام الملأ، فلا يبقى مجال للمناقشة أو الجدال فيه.
وتحديد مدة الدعوة هذا، معناه:
أن بني الحارث بن كعب لم يكونوا قد أعلنوا الحرب
على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولا جمعوا الجموع من أجل ذلك.
فكان لابد من الرفق بهم، وإعطائهم الوقت لكي
يستوفوا حقهم في الإطلاع على الدعوة، والتأمل والتدبير فيها..
وهكذا كان..
وبعد هذا، فمن الطبيعي أيضاً أن يكون في هذا
التحديد دلالة على أن خالداً لا يؤمن على هذا الأمر، لأنه كانت
تراوده أطماع وطموحات لا يستسيغها العقل ولا الشرع، وقد أراد النبي
«صلى الله عليه وآله» أن يلجمها، ويحاصرها، ويمنعها من الحركة.
ومن هنا نفهم السبب في إننا لم نجد النبي «صلى الله
عليه وآله» قد حدد وقتاً لعلي «عليه السلام»، أو لغيره ممن كان يثق
بحكمتهم، ويعرف حقيقة اهتماماتهم، ويطمئن إلى أن أعظم همهم هو
هداية الناس، وليس اكتساب الثناء، وبُعد الصيت في الفروسية والبطش،
وغير ذلك من عناوين فارغة.. ولا الحصول على الغنائم والسبايا،
والتسلط على الآخرين وإذلالهم واستعبادهم..
عن عمرو بن مرة قال:
كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعث جهينة،
ومزينة إلى أبي سفيان بن الحارث، بن عبد المطلب. وكان منابذاً
للنبي «صلى الله عليه وآله»، فلما ولوا غير بعيد قال أبو بكر
الصديق: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، علام تبعث [هؤلاء] قد كادا
يتفانيان في الجاهلية، وقد أدركهم الإسلام وهم على بقية منها.
فأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بردهم حتى
وقفوا بين يديه. فعقد لعمرو بن مرة على الجيشين، على جهينة ومزينة
وقال: «سيروا على بركة الله».
فساروا إلى أبي سفيان بن الحارث. فهزمه الله تعالى،
وكثر القتل في أصحابه. فلذلك يقول أبو سفيان بن الحارث: [...]([44]).
ونقول:
لم يذكر لنا الصالحي الشامي المصدر الذي أخذ منه
هذا النص.. على أن لنا أن نثير بعض التحفظات والتساؤلات حول صحة ما
ذكره كما يلي:
أولاً:
أين كان أبو سفيان بن الحارث معسكراً حين خرج إليه
جيش رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟ فإن أبا سفيان مكي قرشي، ولم
نعلم أنه فتح جبهة مستقلة عن قريش، وأعلن حرباً تختص به دونها، ولا
أنه انحاز عنها إلى منطقة بعينها، ولو حصل شيء من ذلك لسجله لنا
التاريخ.. بل كان مشاركاً لقريش في حروبها المعروفة والمعلنة، ولا
شيء أكثر من ذلك..
ثانياً:
إن ما ذكره أبو بكر عن تفاني جهينة ومزينة في
الجاهلية ليس ظاهراً من النصوص، بل كانت العلاقة بين القبيلتين
كأية علاقة أخرى بين القبائل العربية..
ثالثاً:
إنه حين أرسلهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» في
ذلك البعث، هل أمرَّ عليها أميراً واحداً؟! أو أمَّر على كل قبيلة
أميراً؟! أم لم يؤمّر عليهما أحداً؟! وهل كان الأمير من إحدى
القبيلتين؟! أم كان غريباً عنهما؟!.
إن كل ذلك لم توضحه هذه الرواية لنا.
رابعاً:
إننا لم نعرف ما الذي غيَّره النبي «صلى الله عليه
وآله» حين ردّهم إليه، وأمّر عليهم عمرو بن مرة الجهني؟ ولماذا
اختاره جهنياً لا مزنياً؟ وكيف رضيت به مزينة، وهو جهني؟
والمفروض:
أن بين القبيلتين بقية من عداوة كانت في الجاهلية!!
إلا إذا كان «صلى الله عليه وآله» قد نسي في بادئ الأمر أن يؤمّر
أحداً، فلما اعترض أبو بكر تذكر ذلك، فاختاره جهنياً، ويكون بذلك
قد زاد الطين بلة، والخرق اتساعاً.. على خلاف ما أراده أبو بكر.
ونعوذ بالله من الخذلان، ونستجير به من غضبه، ومن الخزي والخسران.
خامساً:
إن أبا بكر حين اعترض على النبي «صلى الله عليه
وآله» إنما أراد أن يرشده إلى الصواب، باعتبار أن ما فعله «صلى
الله عليه وآله» كان خطأً بنظره..
ولا شك في أن هذا الأمر مما لا يحمد عليه أبو بكر،
ولا يقبل منه ولا من غيره، فإنه «صلى الله عليه وآله»، معصوم ومسدد
بالوحي..
على أنه لو صح تعليل أبي بكر من ظهور العداوة بين
القبيلتين، لكان ذلك مشتهراً في الجزيرة العربية، ولعلمه رسول الله
«صلى الله عليه وآله» حين أقدم على إرسال هاتين القبيلتين..
سادساً:
ما معنى أن يرسل النبي «صلى الله عليه وآله» جيشين
إلى مواجهة أبي سفيان بن الحارث، فإن الرواية تقول: «فعقد لعمرو بن
مرة على الجيشين»؟! وهل كان من عادته «صلى الله عليه وآله» أن يرسل
جيشين بقائد واحد إلى قتال طائفة واحدة، أو هل فعل ذلك «صلى الله
عليه وآله» قبل أو بعد ذلك ولو مرة واحدة في ظروف مشابهة؟!
ذكر ابن سعد في الوفود:
أن بني عبس وفدوا وهم تسعة.
فبعثهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» سرية لعير
قريش([45]).
وفي نص آخر:
أنه قال لهم: «ابغوني لكم عاشراً أعقد لكم لواء».
فدخل طلحة بن عبيد الله، فعقد لهم لواء([46])،
وجعل شعارهم: يا عشرة، فهو إلى اليوم كذلك([47]).
وكان «صلى الله عليه وآله» لا يعقد لواء لأقل من
عشرة.
وهم:
بشر بن الحارث، والحارث بن الربيع بن زياد، وسباع
بن زبد، وعبد الله بن مالك، وقرة بن حصن، وقنان بن دارم، وميسرة بن
مسروق، وهرم بن مسعدة، وأبو الحصين بن القيم([48]).
ونقول:
ما زعموه:
من أن طلحة كان هو العاشر غير مسلم، فقد روى ابن
سعد في الطبقات الكبرى: أن عيراً لقريش أقبلت من الشام، فبعث بني
عبس في سرية، وعقد لهم لواء.
فقالوا:
يا رسول الله، كيف نقسم غنيمة إن أصبناها ونحن
تسعة؟
فقال:
أنا عاشركم([49]).
ومن الواضح:
أن الوفود إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» إنما
كانت سنة تسع، وقد عقد صلح الحديبية، وكف المسلمون عن مهاجمة عير
قريش قبل ذلك بسنوات، ثم كان فتح مكة في سنة ثمان..
وذلك كله يشير إلى:
أن هذا الوفد من بني عبس إنما جاء إلى المدينة قبل
صلح الحديبية، فأرسله النبي «صلى الله عليه وآله» لعير لقريش قادمة
من الشام..
قال المؤرخون، واللفظ للواقدي:
بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» الوليد بن عقبة
بن أبي مُعيط إلى بني المصطلق من خزاعة يصدقهم، وكانوا قد أسلموا،
وبنوا المساجد بساحاتهم، فلما خرج إليهم وسمعوا به قد دنا منهم،
خرج منهم عشرون رجلا يتلقونه بالجزور، والنعم، فرحاً به.
وقيل:
خرجوا بها يؤدونها عن زكاتهم.
ولم يروا أحداً يصدق بعيراً قط. ولا شاة، فلما رآهم
ولى راجعاً إلى المدينة ولم يقربهم. فأخبر النبي «صلى الله عليه
وآله» أنه لما دنى منهم لقوه بالسلاح يحولون بينه وبين الصدقة.
(وقيل:
إنه قال: إنهم ارتدوا..)([50]).
(أو
قال:
إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي)([51]).
فهمّ رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يبعث إليهم
من يغزوهم. وبلغ ذلك القوم، فقدم الركب الذين لقوا الوليد على رسول
الله «صلى الله عليه وآله»..
(وفي
نص آخر:
أنه «صلى الله عليه وآله» ضرب البعث إلى الحرث،
فأقبل الحرث، فاستقبل البعث)([52])،
ثم دخلوا.
فأخبروا النبي «صلى الله عليه وآله» الخبر على
وجهه، فنزلت هذه الآية:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}([53])،
فقرأ النبي «صلى الله عليه وآله» القرآن، وأخبرنا بعذرنا، وما نزل
في صاحبنا، ثم قال: من تحبون أن أبعث إليكم؟!
قالوا:
تبعث إلينا عباد بن بشر.
قال:
يا عباد سر معهم، فخذ صدقات أموالهم، وتوقَّ كرائم
أموالهم.
قال:
فخرجنا مع عباد، يقرؤنا القرآن، ويعلمنا شرائع
الإسلام، حتى انزلناه في وسط بيوتنا، فلم يضيّع حقاً، ولم يعدُ بنا
الحق.
وأمره رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأقام عندنا
عشراً، ثم انصرف إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» راضياً([54]).
وقالوا أيضاً:
إن سبب ذلك أن الحارث بن عمرو الخزاعي، والمصطلق
بطن من خزاعة قدم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» فأسلم، وعاد
إلى قومه، ليقنعهم بالإسلام ثم يجمع زكاتهم، ثم يرسل النبي «صلى
الله عليه وآله» في وقت ـ قد عينوه ـ من يأخذ منه ما جمعه من
صدقات..
فمضى الوقت المحدد، ولم يأته رسول من قبل النبي
«صلى الله عليه وآله»، فجمع سروات قومه، وأخبرهم بالأمر، وقال لهم:
ليس الخلف منه «صلى الله عليه وآله»، ثم ذهب بهم إلى النبي «صلى
الله عليه وآله»([55]).
حسبما تقدم..
ونقول:
إن لنا مع ما تقدم وقفات هي التالية:
قال ابن عبد البر:
لا خلاف بين أهل التأويل أن الآية:
{إِن
جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}
نزلت في الوليد([56]).
ولكن قد أخرج أبو داود عن أبي موسى، عبد الله
الهمداني، عن الوليد بن عقبة، قال: لما افتتح «صلى الله عليه وآله»
مكة جعل أهلها يأتونه بصبيانهم، فيمسح على رؤوسهم، فأتي بي إليه،
وأنا مخلق، فلم يمسسني من أجل الخلوق([57]).
ونقول:
إن هذا الحديث لا يصح، لما يلي:
أولاً:
قال ابن عبد البر: الحديث منكر مضطرب لا يصح، وأبو
موسى مجهول([58]).
ثانياً:
قال أيضاً: إن من يكون صبياً يوم الفتح، لا يبعثه
مصدّقاً بعد الفتح بقليل([59]).
ثالثاً:
لما هاجرت أم كلثوم بنت عقبة في الهدنة خرج أخواها
الوليد وعمارة ليرداها. فمن يكون صبياً يوم الفتح كيف يخرج ليرد
أخته قبله؟([60]).
رابعاً:
قال الحافظ: ومما يؤيد أنه كان في الفتح رجلاً: أنه
قدم في فداء ابن عم أبيه الحرث بن أبي وجرة لما أسر يوم بدر،
فافتداه بأربعة آلاف([61]).
خامساً:
ورد في منازعة الوليد لعلي «عليه السلام»، قول
الوليد لعلي «عليه السلام»: اسكت فإنك صبي وأنا شيخ الخ..([62]).
وهذا صريح في أن عمره كان آنئذٍ يعد بعشرات السنين.
سادساً:
قال له الإمام الحسن «عليه السلام»: اقسم بالله،
لأنت أكبر في الميلاد وأسن ممن تدعى إليه([63]).
والحقيقة هي:
أن هؤلاء المتحذلقين يريدون بدعواهم صغر سن الوليد،
تكذيب أو على الأقل إثارة الشبهة حول نزول آية:
{إِن
جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}
في حق الوليد بن عقبة، وذلك حفاظاً منهم على البيت الأموي، ورعاية
لحق عثمان، لأن الوليد أخوه من أمه.. وفراراً من الإعتراف بأن في
الصحابة فاسق، حتى لو نطق القرآن بذلك..
وقد ذكرت بعض النصوص:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» بعث خالد بن الوليد
خفية في عسكر لاستكشاف الخبر في بني المصطلق، وأمره أن يخفي عنهم
قدومه، فلما دنا منهم بعث عيوناً ليلاً، فإذا هم ينادون بالصلاة
ويصلون. فأتاهم خالد، فلم ير منهم إلا طاعةً وخيراً، فرجع إليه
«صلى الله عليه وآله»، فأخبره فنزلت الآية([64]).
ونقول:
1 ـ
الذي يبدو لنا من ملاحظة النصوص: أنه «صلى الله
عليه وآله» قد تصرف باتجاهين بصورة متوازنة، فهو في نفس الوقت الذي
أظهر فيه أنه يريد التصدي لتمرد بني المصطلق، فضرب على الناس البعث
إليهم، فإنه من جهة أخرى أرسل خالداً إليهم سراً، ليستعلم خبرهم
مباشرة.
فانسجم الموقف الحازم المتمثل بالتصرف الأول مع
الدقة في متابعة الأمور، والإحتياط لدماء الناس، وحفظ كراماتهم
ومصالحهم، المتمثل بالتصرف الثاني..
2 ـ
إن الآية الكريمة (آية النبأ) إنما نزلت بعد أن ظهر
للناس كذب ما جاءهم به الوليد، وأنه قد افترى على بني المصطلق،
واختلق أموراً لا أساس لها؛ فجاء توصيفه في الآية بالفاسق ليصدق
هذه الوقائع التي رآها الناس بأعينهم..
قال الزرقاني:
«ولا يشكل تسميته فاسقاً بإخباره عنهم بذلك على ظنه
للعداوة ورؤية السيوف. وذلك لا يقتضي الفسق، لأن المراد الفسق
اللغوي، وهو الخروج عن الطاعة.. وسماه فاسقاً لإخباره بخلاف الواقع
على المبعوث إليهم، لا الشرعي الذي هو من ارتكب كبيرة، أو أصر على
صغيرة، لعدالة الصحابة.
وقد صرح بعضهم:
بأن كون ذلك مدلول الفسق، لا يعرف لغة إنما هو
مدلول شرعي ([65]).
ونقول:
أولاً:
هناك آيتان في القرآن الكريم نزلتا في الوليد بن
عقبة، توضح أحدهما الأخرى، إن لم نقل: إنها ناظرة إليها..
أحديهما:
قوله
تعالى: {أَفَمَن
كَانَ مُؤْمِناً
كَمَن كَانَ فَاسِقاً
لَّا يَسْتَوُونَ}([66])،
فقد كان بين علي «عليه السلام» وبين الوليد بن عقبة تنازع وكلام،
فقال له علي «عليه السلام»: اسكت فإنك فاسق. فأنزل الله تعالى:
{أَفَمَن
كَانَ مُؤْمِناً
كَمَن كَانَ فَاسِقاً
لَّا يَسْتَوُونَ}.
وحكى المعتزلي عن شيخه:
أن هذا من المعلوم الذي لا ريب فيه لاشتهار الخبر
به، وإطباق الناس عليه([67]).
وأما نزول الآية الثانية في
الوليد:
فيكفي أن نذكر قول ابن عبد البر: إنه «لا خلاف بين
أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل:
{إِن جَاءكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}([68])
نزلت في الوليد»([69]).
فلو قبلنا بمقولة:
أن المراد بالفسق ليس هو معناه الشرعي، فإننا نقول:
لقد بين لنا القرآن معنى الفسق المقصود بالآيات،
وهو أعظم وأخطر مما أراد الزرقاني وأضرابه الهروب منه، لأن القرآن
جعل الفسق مقابل الإيمان، فوصف الوليد بالفاسق يخرجه عن صفة
الإيمان بالكلية كما أظهرته آية:
{أَفَمَن
كَانَ مُؤْمِناً
كَمَن كَانَ فَاسِقاً
لَّا يَسْتَوُونَ}
النازلة في حق الوليد بالذات.
وقال تعالى:
{مِّنْهُمُ
المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}([70]).
وآيات كثيرة أخرى تشير إلى هذا المعنى، وتجعل
الفاسق بحكم الكافر.
ثانياً:
قال الإمام الحسن المجتبى «عليه السلام» طاعناً على
الوليد في مجلس معاوية: «وأنت الذي سماه الله الفاسق، وسمى علياً
المؤمن».
ثم ذكر قصة مفاخرته مع علي «عليه السلام»، ونزول
الآية الشريفة موافقة لعلي «عليه السلام».
ثم قال:
«ثم أنزل فيك موافقة قوله:
{إِن
جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}
ويحك يا وليد مهما نسيت، فلا تنس قول الشاعر فيك وفيه:
أنـزل الله والــكــتــاب
عـزيـز فـي عـلي وفي الـولـيــد قــرآنــاً
فـتـبـوى الـوليـد إذ ذاك فـسقاً وعـــلــي مــبــــوأ
إيـــمانــــاً
ليس من كان مؤمناً عمـرك اللــ ــــه كـمـن كـان فاسقـاً
خواناً
([71])
فإن طعن الإمام الحسن «عليه السلام» على الوليد
بذلك يشير إلى أن الآية قد تضمنت أعظم الذم للوليد.
ولو أردنا أن نأخذ بما يقوله الزرقاني لوجب أن يكون
نزول الآية في حقه خطأً وظلماً، لأنها أوهمت ذمه، وجعلته في موضع
الخزي إلى يوم القيامة..
على أنه لو أمكن التشكيك في مفاد آية النبأ، وقبلنا
منهم هذه التمحلات، فإنه لا نجاة له من مفاد الآية الأخرى حسبما
أوضحناه، فإنها لا تريد أن تثني على الوليد، بل هي بصدد ذمه الشديد
والأكيد، وإثبات صفة الفسق بمعنى عدم الإيمان عليه..
ثالثاً:
أما قوله: إن المراد بالفسق ليس معناه الشرعي،
لثبوت عدالة الصحابة، فهو أول الكلام، لأن هذه الآيات وسواها مما
نزل في حق الكثيرين منهم تنفي عموم عدالتهم.
نعم، لا ريب في ثبوت العدالة لطائفة من الصحابة.
رابعاً:
إن الأمر لم يقتصر على مجرد ظن الوليد بشيء، ثم ظهر
مخالفة هذا الظن للواقع، بل تجاوز ذلك إلى اختلاقه أخباراً،
ومبادرته إلى افتراءات لا واقع لها، حيث نسب إليهم أنهم ارتدوا،
وأنهم أرادوا قتله، وما إلى ذلك مما تشير إليه النصوص..
ومن المعلوم:
أن الإفتراء على المؤمنين، والتحريض عليهم، والتسبب
بإرسال الجيوش لحربهم وقتلهم، بل مجرد تعمد الكذب ـ إن ذلك ـ من
موجبات الفسق الشرعي والعرفي، والأخلاقي وما إلى ذلك.
فما معنى أن يقال:
إنه لم يصدر منه سوى أنه قد ظن أمراً، بسبب خوف
اعتراه، ثم ظهر عدم صحة ظنه؟!
عن خالد بن الوليد:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعثه إلى أناس
من خثعم، فاعتصموا بالسجود، فقتلهم، فوداهم رسول الله «صلى الله
عليه وآله» نصف الدية، ثم قال: أنا بريء من كل مسلم أقام مع
المشركين لا تراءى ناراهما([72]).
ونقول:
1 ـ
ماذا كان يضير خالد بن الوليد لو أنه تثبّت من
إسلام هؤلاء الذين يعتصمون بالسجود؟!.. فإنه سوف لا يخسر شيئاً،
ولا يفوته قتلهم لو كانوا مستحقين للقتل..
2 ـ
لماذا لا يكون مصب اهتمام خالد على أخذهم أسرى،
ليرى النبي «صلى الله عليه وآله» فيهم رأيه، فلعله يرجح استرقاقهم
لينتفع بهم المسلمون، أو يمهلهم ليسمعوا كلام الله، أو يوفر لهم
الفرصة ليعيشوا الإسلام في مفاهيمه وقيمه، وفي عقائده وشرائعه،
ويقارنوا بينه وبين الشرك الذي هم عليه، ليروا البون الشاسع فيما
بينهما، ويكون اختيارهم له مستنداً إلى الحس والمشاهدة القريبة..
3 ـ
على أن من المعلوم: أن المهمة التي كلفه بها رسول
الله «صلى الله