بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه
أجمعين محمد وآله الطاهرين..
أخي الفاضل المؤيد، والكريم المسدد دمت موفقاً..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد..
فقد تلقيت في هذا اليوم رسالتكم، وشكرت لكم محبتكم،
وسألته تعالى لكم دوام الصحة والعافية، وأن يحفظكم ويرعاكم، ويسدد على
طريق الخير خطاكم، إنه ولي قدير..
أخي العزيز.. قد تضمنت رسالتكم أموراً هي التالية:
الأمر الأول:
ذكرتم عن عدم قصدكم إثبات الزلل علينا فيما يرتبط بالخطأ المطبعي،
وإنني بدوري أحب أن أؤكد لكم على أن هذا المعنى لم يخطر لنا على بال،
بل كنا وما زلنا شاكرين لكم هذه الملاحظة الكريمة، التي عبرت عن
محبتكم، وعن اهتمامكم بالتصويب والتسديد، والنصيحة عملاً بفروض الأخوة،
واستكمالاً لمعنى المودة، وتعميقاً لوشائج الإخلاص والمحبة..
الأمر الثاني:
أما فيما يرتبط بالأذان أقول: قد أثلج صدري:
أولاً:
ما لمسته فيكم من تبصّر وروية، وسلامة سجية، وطريقة علمية رصينة، حين
ذكرتم: أن الصواب هو التزام ذكر «حي على خير العمل» في الأذان إحياءً
للسنة النبوية المباركة، والتزاماً بالنص، وحفظاً للتشريع..
ثانياً:
إنّ سؤالكم عن الشهادة لعلي «عليه السلام» بالولاية في الأذان، ينحل
إلى سؤالين:
أحدهما:
عن سبب هذه الإضافة، ومبررها الشرعي.
الثاني:
عن سبب الإقتصار على ذكر علي «عليه السلام» دون غيره من الأئمة
الطاهرين «صلوات الله عليهم»..
وأجيب بأمرين:
أحدههما:
أن علينا أن نحدد المرجعية العلمية بعد رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، ونحدد أيضاً طرق الوصول إلى سنته، وإلى المعارف التي جاء بها
«صلى الله عليه وآله».. ونتفق على الضوابط والمعايير التي يجب اعتمادها
في الوصول إلى أحكام الله وشرائعه، وإلى الحقائق الإيمانية، والمعاني
والدقائق التي نحتاج إلى معرفتها في مختلف الشؤون..
فإننا إذا كنا لا نعترف لبعضنا البعض بصحة الوسائل التي
نعتمدها، وسلامة المعايير والضوابط التي نستفيد منها في الرد أو
القبول. ولم توجد قواسم مشتركة تكون هي المرجع لنا فيما نختلف فيه، فإن
الحوار سيكون عقيماً وواهناً، وسقيماً.
أي لا بد من التأسيس للبحث، بحسم الأمر فيما يرتبط بأخذ
المعارف والحقائق والأحكام الدينية من أهل البيت «عليهم السلام»، بحكم
إمامتهم للأمة بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وعدم افتراقهم عن
القرآن إلى يوم القيامة كما اقتضته النصوص المعتبرة، ولا سيما حديث
الثقلين، وحديث سفينة نوح، وكثير من النصوص الأخرى الصريحة والثابتة،
والمعترف بها عند أهل الإسلام.
ولا بد من حسم الأمر أيضاً في جواز الأخذ عن غيرهم
وخصوصاً من كانت لهم مواقف سلبية تجاههم، مثل أبي هريرة الذي ـ على ما
يرويه الأعمش ـ: جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل
العراق! أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار؟!
والله لقد سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: إن لكل نبي حرماً
وانّ حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثاً، فعليه
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأشهد بالله أن علياً أحدث فيها..
إلخ..([1])،
وهكذا الحال بالنسبة إلى عمرو بن العاص، وعكرمة وسمرة بن جندب، ومعاوية
و.. و.. إلخ..
والشيعة يرون:
أن ما يقوله الأئمة «عليهم السلام» قد أخذوه عن رسول الله «صلى الله
عليه وآله».. فإذا قالوا لهم: إن الشهادة لعلي بالولاية في الأذان
جائزة، فذلك يعني: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد قال ذلك، وأن
العمل بقولهم مبرئ للذمة، بل هو المتعَّين.
ويترتب على ما ذكرناه:
أنه لا يجوز لأحد أن يناقش في مسألة فصول الأذان إلا بعد حسم الأمر معه
في موضوع الإمامة، فإن ثبتت له، فإننا نبحث معه في موضوع: من هو
الإمام، فإن ثبت له أنه فلان، نبحث معه في معنى الإمامة، ودور الإمام،
وحجية أقواله، وأوامره ونواهيه، فإن ثبتت له، فيمكن البحث معه في أن
هذا الحديث أو ذاك ثابت عنه لنأخذ به، أو غير ثابت ليكون لنا موقف آخر
تجاهه..
ولا يمكنا الاستدلال بقول الإمام في شيء، على من لا
يعتقد بالإمامة والإمام كما هو واضح.
وهذا نظير ما لو جاءك رجل لا يعرف عن الله، ولا عن
رسله، وشرائعه شيئاً، فإنّك لا تبادر إلى مطالبته بالصلاة والحج، بل
ستحاول أن تقنعه قبل كل شيء بوجود الله، ثم بصفاته، ثم بخالقيته
ورازقيته، وعدله وعلمه، وقدرته، وغير ذلك من صفاته الجمالية والجلالية،
وصفات الذات، وصفات الفعل..
ثم تنتقل لتثبت له النبوة، ثم تثبت له من هو النبي، وما
هو دوره، ومقامه، وصفاته، وحجية أقواله.. إلخ.. ولا يمكن أن تحتج عليه
بقول النبي قبل أن تثبت له التوحيد، والنبوة.
كما لايمكن للمسيحي أن يقول لك:
ما الدليل على حرمة الخمر، أو الخنزير؟! أو ما الدليل على وجوب الحج؟!
قبل أن تثبت له بشرية عيسى ونبوة رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلخ..
كما أننا لو سمعنا فتوى اقتضاها الإستحسان أو القياس،
فإنه لا يحق لنا أن نعترض على تلك الفتوى، ونحكم بأنها باطلة..
بل الصحيح:
هو أن نعترض على العمل بالقياس أو بالإستحسان نفسه أولاًَ، فإن ثبتت
لنا صحته، أخذنا بتلك الفتوى، وإن ثبت لنا بطلانه لم نأخذ بها..
الثاني: لا بأس بملاحظة ما يلي:
أولاً:
إن بيعة يوم الغدير لعلي «عليه السلام» قد كانت قبل استشهاد رسول الله
«صلى الله عليه وآله» بسبعين يوماً فقط..
فإن كان النبي «صلى الله عليه وآله»
قد أمر بذكر كلمة:
«أشهد أن علياً ولي الله» في الأذان، فلا جرم أن يكون ذلك قد حصل بعد
حادثة الغدير..
ثم جرى ما جرى بعد وفاة رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، وأهمل الحكام الجدد ذكر هذه الفقرة وأسقطوها من الأذان، كما
أهمل ذكر حي على خير العمل منه، بل وأضيفت في أذان الفجر عبارة:
«الصلاة خير من النوم». كما ورد التصريح به في عدد من المصادر([2]).
وبعد..
فإنه إذا كان قد جرى على الزهراء «عليها السلام» كل ذلك الذي تعرفونه،
وإذا كان علي، والحسن، والحسين «عليهم السلام» يقتلون على النحو الذي
لا يجهله أحد، فهل سيرحمون من يقول في أذانه: «أشهد أن علياً ولي
الله»، فضلاً عن أن يسمحوا بإبقائها في أذان المسلمين في جميع الأقطار
على مرّ الأعصار؟!.
وبعد أن جاء الأمويون الذين لعنوا علياً «عليه السلام»
على منابر الإسلام ألف شهر، وفعلوا الأفاعيل بمحبيه وأتباعه: قتلاً،
وسجناً، وتشريداً وعسفاً..
ثم جاء العباسيون فزادوا عليهم في ذلك حتى قال الشاعر:
ومتـى تـولـى
آل أحــمـد مسلم قــتــلوه أو وصــمـوه بـالإلحـاد
وقال آخر:
تالله مــا
فـعـلــت أمــيــة فيهم مـعـشـار مـا فـعـلت بنو العباس
فهل يمكن أن نتصور أهل البيت وشيعتهم، يقدرون على الجهر
بالشهادة لعلي بالولاية في أذانهم في كل تلكم العصور، وعلى مرّ
الدهور؟!
ثانياً:
يمكن تأييد القول برجحان الشهادة بالولاية لعلي «عليه السلام» في
الأذان والإقامة بما يلي:
ألف:
بعد قتل الأسود العنسي: و«لما طلع الفجر نادى المسلمون بشعارهم الذي
بينهم، ثم بالأذان، وقالوا فيه: أشهد أن محمداً رسول الله، وأن عبهلة
كذاب»([3]).
وفي نص آخر:
«ثم نادينا بالأذان، فقلت: أشهد أن محمداً رسول الله،
وأن عبهلة كذاب، وألقينا إليهم برأسه»([4]).
والمنادي هو:
«قيس، ويقال: وبر بن يحنش»([5]).
فنجد:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يعترض على إدخالهم هذا النص في
الأذان، ولا شك أنه قد كان من بينهم كثيرون من الصحابة الأتقياء الذين
لا يرضون بالبدعة، ولسوف يذكرون للنبي «صلى الله عليه وآله» أي تصرف من
هذا القبيل، على سبيل الإعتراض، أو لمجرد الإخبار.
ب:
إن مما لا شك فيه: أنه يستحب للمؤذن الصلاة على النبي
«صلى الله عليه وآله» في الأذان عند بلوغه: أشهد أن محمداً رسول الله
«صلى الله عليه وآله»..
وقد روى ذلك زرارة عن الإمام أبي جعفر «عليه السلام»
أنه قال:
«وصل على النبي «صلى الله عليه وآله» كلما ذكرته، أو
ذكره ذاكر عندك في أذان أو غيره»([6]).
ج:
الكليني بإسناده عن الإمام الصادق «عليه السلام»؛ أنه قال:
«إنّا أول أهل بيت نوّه الله بأسمائنا، إنه لما خلق
السماوات والأرض أمر منادياً فنادى:
أشهد أن لا إله إلا الله، ثلاثاً.
أشهد أن محمداً رسول الله، ثلاثاً.
أشهد أن علياً أمير المؤمنين حقاً، ثلاثاً»([7]).
د: وروى الطبرسي، عن القاسم بن معاوية، عن الإمام
الصادق «عليه السلام» حديثاً مطولاً يقول في آخره:
«إذا قال أحدكم: لا إله إلا الله، محمد رسول الله،
فليقل: علي أمير المؤمنين([8])
(ولي الله)»([9]).
هـ:
روي: أن أبا ذر (رض) أذّن بالولاية لعلي «عليه السلام»، فشكاه الناس
لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأقره على ما فعل.
و:
روي أيضاً ما يقرب من ذلك عن سلمان([10]).
ز:
ويؤيد ما تقدم: ما ورد في بعض الروايات، من أن فصول الأذان هي أثنان
وأربعون فصلاً، ولا يكون ذلك إلا بإضافة «أشهد أن علياً ولي الله،
مرتين»([11]).
ثالثاً:
إن ما ذكرته بعض الروايات، من أن النبي «صلى الله عليه وآله» اهتم
للصلاة كيف يجمع الناس لها. فإشار عليه بعض الصحابة بشبور اليهود،
وبعضهم أشار بناقوس النصارى ـ فأمر به «صلى الله عليه وآله» فعمل من
خشب..
فأري عبد الله بن زيد الأذان في المنام، فأخبر به النبي
«صلى الله عليه وآله»، وكان عمر قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوماً، ثم
أخبر به النبي «صلى الله عليه وآله» أيضاً، فأمر النبي «صلى الله عليه
وآله» بلالاً: بأن يؤذن كما يأمره عبد الله بن زيد، فأذّن به.
وثمة نصوص أخرى لهذه القضية مختلفة ومتناقضة، كما يعلم
بالمراجعة والمقارنة بينها([12]).
فهذا الحديث يدل على أن الأذان لم يشرع بالوحي، بل
برؤيا عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب.
فمن يرى صحة هذا الحديث، فلا بد أن لا يكون لديه حرج في
الإنقاص أو الزيادة في الأذان!! ولا أظن أنكم من هؤلاء، كما يفهم من
كلامكم في رسالتكم لنا..
وقد أنكر الإمام الحسن([13]).
والإمام الحسين([14]).
والإمام جعفر الصادق «عليهم السلام»([15]).
ومحمد بن الحنفية صحة هذا الحديث([16]).
وقد بحثنا هذا الموضوع بشيء من
التفصيل في كتابنا:
الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله».
علم النبي
بالغيب،
وتأويل الآيات:
الأمر الثالث:
تضمنت رسالتكم السؤال عن اعتقاد الشيعة: بأن النبي «صلى الله عليه
وآله» يعلم بما كان، وما يكون، وأن الآيتين المباركتين تنافيان هذا
الإعتقاد..
ونقول:
أولاً:
ينبغي لفت نظركم الشريف إلى أن هذه المسألة ليست من المسلمات المتفق
عليها عند جميع الشيعة، وإنما الشيعة متفقون على أن النبي «صلى الله
عليه وآله» كان يعلم من الغيوب ما يطلعه الله تعالى عليه.. ويقولون: إن
من الممكن أن يطلع الله نبيه على جميع غيوبه، فإنّ الآية المباركة
تقول: ﴿عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلاَ مَنِ ارْتَضَى
مِنْ رَسُولٍ﴾([17])،
حيث لم يقيد تعالى هذا الغيب الذي يطلع عليه من شاء، هل هو كل غيبه، أو
بعضه مما يمكن للرسل الذين يرتضيهم أن يتحملوه؟!
وإذا كان نبينا «صلى الله عليه وآله» خير الرسل، فهو
الأولى بمعرفة الغيوب من سائر الرسل «صلوات الله عليهم وعلى نبينا
وآله»..
ثانياً:
إن اطلاع نبينا على اللوح المحفوظ، لا يعني أن الأمر قد خرج من يد الله
تعالى ـ والعياذ بالله ـ كما أن ذلك لا يعني حصول النبي «صلى الله عليه
وآله» على جميع الغيوب، بل يبقى الأمر بيد الله، فيمكن أن يكشف لنبيه
شطراً من الغيوب، وقد يحجب، أو يبعد بعض الغيوب عن محيط نظر نبيه، فلا
يتمكن من قراءتها، وبذلك يكون علم النبي «صلى الله عليه وآله» خاضعاً
للإرادة الإلهية، من جهة قد يطلقه، وقد يقيد مقداره، مع أنه مأخوذ من
اللوح مباشرة من جهة أخرى..
ثالثاً:
بالنسبة لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ
كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا
مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ﴾([18])
نقول:
لا شك في أن نبينا «صلى الله عليه وآله» كان يعلم بكثير
من الغيوب التي تلقاها من الله سبحانه، وقد أخبر الناس بشطر منها،
وأخبر علياً «عليه السلام» أيضاً بشطر آخر..
ويكفي مراجعة كتب الحديث والتاريخ، والتفسير، وغيرها
للوقوف على الكثير مما يدخل في هذا السياق..
كما أن هناك آيات كثيرة تدل على أن الأنبياء «عليهم
السلام» كانوا يعلمون الكثير من الأمور الغيبية.
فقد قال تعالى حكاية عن عيسى «عليه السلام»: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ
بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾([19]).
وقد أنبأ النبي «صلى الله عليه وآله» عائشة بما أفشته
من سره، ﴿قَالَتْ
مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾([20]).
وقال عيسى «عليه السلام» لقومه: ﴿وَمُبَشِّراً
بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾([21]).
وقال الله تعالى لنبيه محمد «صلى الله عليه وآله»، بعد
أن قص عليه قصة مريم: ﴿ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾([22]).
وبعد قصة نوح: ﴿تِلْكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ﴾([23]).
وبعد قصة إخوان يوسف: ﴿ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾([24]).
وبعد هذا، فلا معنى لنفي علم النبي «صلى الله عليه
وآله» للغيب؟!
خصوصاً وأنه سبحانه قد قال: ﴿عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلاَ مَنِ ارْتَضَى
مِنْ رَسُولٍ﴾([25]).
وقال تعالى: ﴿وَلاَ
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَ بِمَا شَاء﴾([26]).
وإنما يعلم الله أنبياءه بالغيب، لأن رسالتهم ونبوتهم
تقتضي ذلك. أو لأن مقامهم دعا إلى تكريمهم بهذا الأمر، لزيادة التمكين
لهم في السعي لنيل منازل الكرامة والقرب والزلفى..
رابعاً:
إن علم البشر بالغيب يبقى مرهوناً بالفيض والعطاء الإلهي، فليس هو من
الأمور الذاتية لهم، بل هو مستند إلى الله سبحانه، ومنتهٍ إليه تعالى.
وقد أرى الله سبحانه نبيه إبراهيم «عليه السلام» ملكوت
السماوات والأرض، فقال تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾([27])،
فرؤية إبراهيم «عليه السلام»، لم تكن ذاتية، وإنما هي بإراءة من الله
تعالى..
وحول المعراج للرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»، قال
سبحانه: ﴿لِنُرِيَهُ
مِنْ آيَاتِنَا﴾([28])
فالإراءة له «صلى الله عليه وآله» قد جاءت منه تعالى..
وقد نصب الله سبحانه اللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل
كما في بعض الروايات، فإشراف الرسول على ذلك اللوح، ومعرفته بما يكشفه
الله له فيه، لا يعني أن يصبح علم الرسول بالغيب ذاتياً، بل هو بالله،
ومن الله تبارك وتعالى..
فكما لا يقاس علم الرسول بعلم البشر بالغيب، لاختلاف
طرقهما في نيل ذلك، كذلك لا يقاس علم الله للغيب بعلم أنبيائه، فإن علم
الأنبياء إنما هو بالعطاء، وبالفيض الإلهي عليهم، فهو علم بالغير لا
بالذات.
وبعد ما تقدم نقول:
إن ذلك يوضح لنا:
أن الآيات حين تتحدث عن أن الأنبياء ينفون للناس أن يكون لديهم علم
الغيب، كقوله تعالى: ﴿لَوْ
كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾([29]).
فإنما تريد نفي أن يكون علمهم ذاتياً، وبالأصالة،
والاستقلال عن الله سبحانه..
وحين تثبت الآيات علم الغيب لمن ارتضى الله سبحانه من
رسول، وأن عيسى يعلمهم بما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم.. وغير ذلك،
فإنما تتحدث عن علمه الواصل إليه من الله، بعطاء وفيض منه سبحانه..
فصح سلب علم الغيب عنهم تارة، وإثباته لهم أخرى، نظير
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾([30]).
ويقول تعالى: ﴿قُلْ
يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾([31]).
ثم هو تعالى يقول: ﴿اللهُ
يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾([32]).
وقد ذكر ابن ميثم البحراني «رحمه الله» أمراً هاماً
هنا، فقال:
«المراد بعلم الغيب هو العلم الذي لا يكون مستفاداً عن
سبب يفيده، وذلك إنما يصدق في حق الله تعالى، إذ كل علم لذي علم فهو
مستفاد من جوده، إما بواسطة أو بغير واسطة، فلا يكون علم غيب. وإن كان
اطلاعاً على أمر غيبي، لا يتأهل للإطلاع عليه كل الناس، بل يختص بنفوس
خصت بعناية إلهية، كما قال تعالى:
﴿عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلاَ مَنِ ارْتَضَى
مِنْ رَسُولٍ﴾([33])»
انتهى كلام ابن ميثم([34]).
فابن ميثم «رحمه الله» يقول:
إن علم الغيب مختص بالله سبحانه، أما الاطلاع عليه بتفضل وجود منه
تعالى ـ سواء أكان ذلك بواسطة أو بغير واسطة ـ فإنه يحصل لمن تأهلت
نفوسهم لتلقيه، واستعدت لنيله وقبوله.
وقد استفاد «رحمه الله» هذا المعنى من قول علي «عليه
السلام»، لمن قال له: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب. ـ وذلك
بعد إخباره بشأن الأتراك ـ قال:
«يا أخا كلب، ليس هذا بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي
علم..
إلى أن قال:
وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه «صلى الله عليه وآله»،
فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمّ عليه جوانحي».
فاستفاد «رحمه الله» من ذلك:
أن تعليم رسول الله «صلى الله عليه وآله» له «عليه السلام»، لم يكن
مجرد تعريف له بالصور الجزئية، بل إعداد نفسه بالقوانين الكلية، إذ لو
كان ما تلقاه، من الصور الجزئية، لم يحتج إلى دعاء الرسول «صلى الله
عليه وآله» له بما ذكر، لأن فهم الصور الجزئية أمر سهل..
فالدعاء من النبي «صلى الله عليه
وآله»، لعلي «عليه السلام»:
بأن يعيه قلبه، إلخ.. إنما هو ليكون مستعداً لفهم الكليات، وتفصيلاتها،
وكيفية انشعابها.. وهذا ما يشير إليه قوله «عليه السلام»: «علمني رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، ألف باب من العلم، فانفتح لي من كل باب ألف
باب».
وعنه «صلى الله عليه وآله»:
«أعطيت جوامع الكلم، وأعطي علي «عليه السلام»، جوامع العلم».. أي
ضوابطه وقوانينه، وذلك بعطاء من الله سبحانه، كما أشير إليه بكلمة
«أعطي» المبنية للمفعول([35]).
خامساً:
إن ثمة أخباراً تفيد: أن علمه «صلى الله عليه وآله» إختياري، أي إن شاء
أن يعلم علم.. مما يشير إلى أن الله تعالى قد منحه قدرة تمكنه من ذلك
ساعة يشاء. ولكنها ليست قدرة ذاتية.
ومن
الواضح:
أنه «صلى الله عليه وآله» لا يشاء علم شيء إلا إذا اقتضت المصلحة أن
يعلمه، وفق ما علمه الله إياه، وأوقفه عليه..
كما أنه إنما يشاء أن يعلم من الغيوب، ما له أثر في
تسامي نفسه وعلو درجته في مقامات الكرامة، والمعرفة، وفق ما أعطاه الله
تعالى من قدرات، وحباه به من كرامات هو أهل لها..
والخلاصة:
أن الآية الكريمة إنما تأمر النبي «صلى الله عليه وآله» بأن ينفي عن
نفسه علم الغيب بصورة ذاتية، فإن هذا الذي كان المشركون يطالبونه به،
للتسويق لمقولتهم الفاسدة، التي تقول: إن النبي يجب أن يكون فوق مستوى
البشر، وأنه يملك لنفسه الضر والنفع، بصورة استقلالية، فلا يحتاج إلى
الإستنجاد بالله في جلب المنافع ودفع المضار..
فالله تعالى يقول لنبيه قل لهم:
إنما أنا بشر أرسلني الله بالإنذار والتبشير، وليس لي أن أفعل شيئاً من
تلقاء نفسي، بل أفعل ما يريده الله تعالى، ويأذن به..
سادساً:
بالنسبة للمراد من قوله تعالى: ﴿قُلْ
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ
إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ
عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾([36]).
نقول:
إنها لا تريد أن تنفي علم النبي «صلى الله عليه وآله»
بالغيب، بل هي تريد أن تقرر لهم بشرية الرسول، وأن ما يطلبونه ويصرون
عليه من أن لديه قدرة ذاتية على التصرفات، من دون حاجة إلى الإستعانة
بالله، غير صحيح، فإن كونه بشراً مثلهم يقتضي أنه مملوك لله، وليس له
قدرة مقابل الله تعالى، لأن ذلك ينافي الوحدانية، فإن إلههم واحد، ولو
كان «صلى الله عليه وآله» مستقلاً عن الله تعالى غير محتاج إليه، لكان
إلها آخر، ويستحق العبادة مثله.. وهذا باطل بالبداهة..
فهذه الآية تتوافق في مؤداها مع مؤدى قوله تعالى:
﴿وَقَالُوا
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً،
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ
تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً، أَوْ يَكُونَ لَكَ
بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً..
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ
الهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً﴾([37]).
وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا
لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ
الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً
لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾([38]).
وفي الختام عليك مني وعلى من تحب ألف تحية وسلام.
والحمد لله رب العالمين.
جعفر مرتضى العاملي
حرر بتاريخ 7 / صفر / 1431هـ. الموافق 23 / 1/ 2010م.
([1])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص67 ومستدرك سفينة البحار للشيخ
علي النمازي الشاهرودي ج10 ص529 وخلاصة عبقات الأنوار للسيد
حامد النقوي ج3 ص255 والنص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص514
ونهج السعادة للشيخ المحمودي ج8 ص486.
([2])
راجع: موطأ مالك ج1 ص93 وسنن الدارقطـني،
والمصنف للصنعـاني
ج1
= =
رقم 1827 و 1829 و 1832 ص474 و 475 وكنز العمال ج4 رقم5567 و
5568 ومنتخب كنز العمال (بهامش المسند) ج3 ص278 وفيه: أنه قال:
إنها بدعة، والترمذي وأبي داود، وغير ذلك.
([3])
تاريخ الخميس ج2 ص156.
([4])
تاريخ الأمم والملوك (ط الاستقامة) ج2 ص469 والكامل في التاريخ
ج2 ص340 والبداية والنهاية ج6 ص310.
([5])
البداية والنهاية ج6 ص310.
([6])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج5 ص451 وفي هامشه عن الفقيه
ج1 ص184 والكافي ج3 ص303.
([8])
الاحتجاج ج1 ص1 ص365 ـ 366 والأنوار النعمانية ج1 ص169 وراجع:
تفسير القمي ج1 ص336 وبحار الأنوار ج81 ص112.
([9])
قد روي خبر الاحتجاج هذا، وجاء في آخره هاتان الكلمتان في بحار
الأنوار ج27 ص1 و 2. فيبدو: أن نسخة الاحتجاج التي كانت عند
المجلسي «رحمه الله» كانت تشتمل على ذلك.
([10])
رسالة الهداية ص45.
([11])
راجع: الهداية للشيخ الصدوق ص131 ومصباح المتهجد للشيخ الطوسي
ص29 والجامع للشرايع ليحيى بن سعيد الحلي ص74 والبيان (ط.ق)
للشهيد الأول ص73 وكشف اللثام (ط.ج) للفاضل الهندي ج3 ص377
وجواهر الكلام ج9 ص85 ووسائل الشيعة (ط دار الإسلامية) ج4 ص648.
([12])
راجع في نصوص الحديث المختلفة المصادر التالية: سنن أبي داود
ج1 ص335 ـ 338 والمصنف للصنعاني ج1 ص455 ـ 465 والسيرة الحلبية
ج2 ص93 ـ 97 وتاريخ الخميس ج1 ص359 والموطأ ج1 وشرحه للزرقاني
ج1 ص120 ـ 125 والجامع الصحيح للترمذي ج1 ص358 ـ 361 ومسند
أحمد ج4 ص42 وسنن ابن ماجة ج1 ص124 وسنن البيهقي ج1 ص390 و 391
والسيرة النبوية لابن هشام ج2 ص154 و 155 و 125 ونصب الراية ج1
ص259 ـ 261 وفتح الباري ج2 ص63 ـ 66 والطبقات الكبرى لابن سعد
ج1 قسم2 ص8 والبداية والنهاية ج3 ص232 و 233 والمواهب اللدنية
ج1 ص71 ومنتخب كنز العمال (هامش مسند أحمد) ج3 ص273 و 275
وتبيين الحقائق للزيلعي ج1 ص90 والروض الأنف ج2 ص285 و 286
وحياة الصحابة ج3 ص131 عن كنز العمال ج4 ص263 و 246 ونقل أيضاً
عن أبي الشيخ، وابن حبان، وابن خزيمة، وسنن الدارقطني ج1 ص241
و 242 و 245. وغير ذلك من المصادر الكثيرة التي لا مجال
لتتبعها واستقصائها..
([13])
راجع: المستدرك للحاكم ج3 ص171 والنص والاجتهاد ص255 وعن كنز
العمال ج6 ص277 وعن مشكل الآثار، وعن ابن مردويه.
([14])
راجع: مستدرك الوسائل للميرزا النوري ج4 ص17 وجامع أحاديث
الشيعة السيد البروجردي ج4 ص623 وبحار الأنوار ج81 ص156.
([15])
راجع: بحار الأنوار ج81 ص122 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت)
ج5 ص370 و (ط دار الإسلامية) ج4 ص612 والكافي ج3 ص302 وجامع
أحاديث الشيعة ج4 ص623 والنص والاجتهاد ص205 ونقله الصدوق
والشيخ «رحمهما الله تعالى».
([16])
راجع: السيرة الحلبية ج2 ص96 و (ط دار المعرفة) ج2 ص300 والنص
والاجتهاد ص205 و (ط سنة 1404هـ) ص237 وكتاب العلوم (أمالي
أحمد بن عيسى بن زيد) ج1 ص90.
([17])
الآية 26 من سورة الجن.
([18])
الآية 26 من سورة الجن.
([19])
الآية 188 من سورة الأعراف.
([20])
الآية 3 من سورة التحريم.
([21])
الآية 6 من سورة الصف.
([22])
الآية 44 من سورة آل عمران.
([23])
الآية 49 من سورة هود.
([24])
الآية 102 من سورة يوسف.
([25])
الآية 26 من سورة الجن.
([26])
الآية 255 من سورة البقرة.
([27])
الآية 75 من سورة الأنعام.
([28])
الآية 1 من سورة الإسراء.
([29])
الآية 188 من سورة الأعراف.
([30])
الآية 32 من سورة النحل.
([31])
الآية 11 من سورة السجدة.
([32])
الآية 42 من سورة الزمر.
([33])
الآية 26 من سورة الجن.
([34])
راجع: شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج1 ص84 و 85 .
([35])
راجع: شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج1 ص84 و 85.
([36])
الآية 110 من سورة الكهف.
([37])
الآيات 90 ـ 95 من سورة الإسراء.
([38])
الآيتان 8 و 9 من سورة الأنعام.
|