الممارسات التعبدية
بين
السياسة والمذهبية
وهذه الروايات منها ما هو صحيح ، ومنها ما هو مختلق ، ومنها ما هو من صنع السياسة ، وفى دائرة هذا الباب سوف نعرض للعبادات الأربعة بكيفياتها المختلفة لدى المذاهب والنصوص التى تدور حولها وتفسيرات الفقهاء لها ليتبين لنا مدى الخلاف الذى دار حولها وحقيقة هذا الخلاف وحجم الدور الذى لعبته السياسة والمذهبية فى توسيعة وتوطينه فى واقع المسلمين ..
أولاً ـ الآذان :
اتفق جميع الفقهاء أن الآذان إنما هو وسيلة الإعلام بدخول وقت الصلاة وأنه ليس ركناً من أركانها وتصح الصلاة بدونه ..(1)
ونص الآذان عند المذاهب السائدة هو :
الله أكبر . الله أكبر . الله أكبر . الله أكبر ..
أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن لا إله إلا الله ..
أشهد أن محمدًا رسول الله . أشهد أن محمدًا رسول الله
حى على الصلاة . حى على الصلاة
حى على الفلاح . حى على الفلاح
الله أكبر . الله أكبر ..
لا إله إلا الله ..(2)
ويزاد فى صلاة الصبح : الصلاة خير من النوم مرتين بعد حى على الفلاح..(3) ويروى فى كتب السنن حول الآذان ما يلى : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها ، فتكلموا يوماً فى ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : بل بوقاً مثل بوق اليهود .
فقال رسـول الله (ص) : يا بلال . قم فنادى بالصلاة ..(4)
ويروى عن عبد الله بن زيد قال : لما أمر رسول الله (ص) بالناقـوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بى وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً فى يده فقلت : يا عبد الله أتبيع الناقوس ؟
قال : وما تصنع به ؟
فقلت : ندعو به إلى الصلاة ..
قال : أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك .. ؟
فقلت له : بلى ..
فلما أصبحت أتيت رسول الله (ص) فأخبرته بما رأيت ..
فقال : إنها لرؤية حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق ما رأيت فليؤذن به ..(5)
وفى رواية أخرى أن زيداً لما أخبر النبى (ص) برؤياه وأمر بلال أن يؤذن بها ، سمع عمر ابن الخطاب الصوت فخرج فقال للرسول : والله لقد رأيت مثل الذى رأى ..(6)
وقال الزهرى : وزاد بلال فى نداء صلاة الغد : الصلاة خير من النوم فأقرها الرسول .
قال عمر : يا رسول الله قد رأيت مثل الذى رأى ولكنه سبقنـى ..(7)
وعن انس قال : ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى ـ أى الصحابة ـ فأمر ـ أى الرسول ـ بلال أن يشفع الآذان وأن يوتر الإقامة ..(8)
وعن أبى مخدورة أن نبى الله (ص) علمه هذا الآذان : الله أكبر. الله اكبر . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن لا أله إلا الله . أشهد أن محمدًا رسول الله . اشهد أن محمدًا رسول الله . ثم يعود فيقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن محمدًا رسول الله . اشهد أن محمدًا رسول الله . حى على الصلاة مرتين. حى على الفلاح مرتين . زاد إسحق الله أكبر لا إله إلا الله ..(10)
وفى رواية أخرى أن أبا مخدورة قال أن رسول الله (ص) علمه الآذان تسع عشر كلمة والإقامة سبع عشر كلمة ..(11)
ويروى أن أبا مخدورة كان فى نفر بطريق حنين فأذن مؤذن رسول الله (ص) بالصلاة فسمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون فظلنا نحكية ونهزأ به فسمع رسول الله الصوت فأرسل إلينا ولما وقفنا بين يدية .
قال : أيكم الذى سمعت صوته قد ارتفع ؟
فأشار القوم إلى . فأرسلهم كلهم وحبسنى .
مناقشة الروايات :
أول ما يلفت النظر فى الروايات السابقة هو أن الآذان تم تشريعه عن طريق رؤية منامية لواحد من الأنصار وهو عبد الله بن زيد ..
وعندما يبنى التشريع على منامات لأشخاص خارج دائرة العصمة فهذا يقود إلى الشك فى هذا التشريع ويقود من جهة إلى الشك فى شخص الرسول (ص) ودوره ..
إن شخصية الرسول ودوره قد حددتها النصوص القرآنية الصريحة وحصرنها فى دائرتين أثنين :
الأولى : دائرة التبيين ..
الثانية : دائرة التبليغ ..
يقول سبحانه : (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منهم باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين) (الحاقة /44:47) ..
ويقول : (قل إنما اتبع ما يوحى إلى من ربى ..) (الأعراف /203)
ويقول : (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى ..) (النجم /3)
وعلى أساس هذا النصوص تنتفى قضية الشورى فى محيط التشريع فلا مجال للتشاور فى أمور الشرع ولما كان الآذان بخصوصه لا أن يتشاور مع صحابته بشأنه ويطرح عليه البوق والدف والنار ثم يأمر بالناقوس ثم يرجع عنه ثم تتملكه الحيرة ويحاصره الهم حتى يأتى عبد الله بن زيد فيخرجه من هذا المأزق برؤية منامية ينازعه فيها عمر فيتلقفها تلقف الملهوف ويأمر بلال بتنفيذها على الفور وكأنه ليس برسول ولا ينتظر وحياً ..
ومثل هذا التصور إنما يضرب المعتقد الإسلامى فى الصميم ويفتح باب الشك فى تشريعات الإسلام ويضع العبادات فى صورة مهزوزة فى عين المسلم المتلقى ..
إن العبادة إنما هى قضية نصية لا اجتهادية ، والرسول إنما يبلغ ويبين تشريعات توحى إليه لا علم مسبق له بها .
فروايات البخارى ومسلم لم تذكر شيئاً عن رؤية عبد الله بن زيد ، بل أشارت أن عمر هو الذى أشار على الرسول بالآذان ، بينما أشارت كتب السنن الأخرى إلى أن عبد الله بن زيد هو صاحب المنام الذى جاء بنص الآذان ..
وجاءت روايات أخرى لتجعل من عمر شريكاً فى منامه ورؤياه التى لم يبلغها للرسول (ص) وسبقه إليه عبد الله بن زيد ..
فأيهما نصدق رأى عمر أم رؤية عبد الله بن زيد ؟
أيهما نصدق البخارى ومسلم أم كتب السنن .. ؟
ومن جانب فإن روايات كتب السنن الخاصة برؤية الرسول(ص)أمراً بلالاً بالنداء عند الفجر وقت أن قص ابن زيد عليه رؤياه ولم يكن عمر حينئذ موجوداً أو قد سمع الآذان وهو فى بيته وجاء مهرولاً نحو الرسول ليؤكد مشاركته لابن زيد فى رؤياه.
فكيف يمكن الجمع بين هذه وتلك ؟ كيف يمكن الجمع بين رأى عمر ورؤياه .. ؟
وكيف كان لبلال أن يزيد فى الآذان الصلاة خير من النوم ويقره الرسول على ذلك ؟
وكيف لعمر أن يدعى أنه رأى مثل الذى رأى بلال . وهل كانت رؤياه السابقة ناقصة .. ؟
وإذا اعتبرنا أن نص الصلاة خير من النوم إنما هو وليد عصر الرسول حسب الروايات التى ذكرناها . فما هو الموقف من رواية مالك فى الموطأ والتى نصت على أن عمر هو الذى جعل هذا النص فى نداء الصبح ..(14)
ومن الواضح أن أمر عمر هذا إنما كان فى فترة حكمة فلم يكن ليستطيع أن يصدر حكمه هذا فى وجود الرسول ..
ومن غرائب الروايات أن بعضها أشار إلى أن أبا بكر كان من بين الصحابة الذين رأوا فى منامهم رؤيا الآذان بالإضافة إلى آخرين ذكرتهم روايات أخرى..(15) وفى رؤية ابن عمر التى يقول فيها حى على خير العمل عقب حى على الفلاح دليل على التيه والتخبط حول نص الآذان. فإن الإشارة إلى حى على خير العمل دلالة على وجود نصوص أخرى تتعلق بالآذان كانت متداولة فى عصر الرسول والعصور اللاحقة ، كما أن الإشارة إليه ينفى تهمة الاختلاق عن الشيعة الذين جعلوا هذا النص فى آذانهم ..(16)
ومن جانب آخر فإن تشهد عمر عقب الآذان ثلاثاً يتناقض مع الروايات الأخرى التى تشير إلى أن التشهد عقب الآذان مثنى مثنى..
الأول : هو عبد الله بن زيد الأنصارى ..
الثانى : أبو مخدوره المكى ..
الأول جاء بنص الآذان ..
والثانى جاء بالتطبيق العملى ..
أما بقية الصحابة فلم يكن لهم دور فى الأمر، وكيف يكون لهم دور والرسول ذاته لم يكن له دور فى الأمر كله .. ؟
وأبو مخدورة هذا كان من المؤلفة قلوبهم وقد أشارت الروايات إلى موقفة العدائى من الإسلام والرسول ، وأن موقفة العدائى هذا سرعان ما تغير بمجرد وأن تسلم صرة الفضة من الرسول ..
فهل يعقل أن يتلقى المسلمون دينهم من أمثال هذا .. ؟
إن من الممكن القبول بتلقى الطلقاء والمؤلفة قلوبهم مالاً من الرسول (ص) لكننا لا نقبل أن يتلقى المؤلفة مالاً من أجل استثمار صوته وليكون معلماً للمسلمين فى أمور دينهم . وهل وجد حكم المؤلفة قلوبهم لهذا العرض ..(18)
وفيما يتعلق بسند الروايات فهناك الكثير من التجاوزات التـى تتعلق برواتها والذين وضعوا فى دائرة التجريح من قبل فقهاء الحديث ..(19)
ولقد خاص الفقهاء كعادتهم فى استنباط الأحكام والتشريعات من خلال نص الآذان دون البحث فى متنه وسنده للوصول إلى مدى صلاحية النص للاستدلال والاعتماد عليه فى الاستنباط ..(20)
وهذا ما تؤكده النصوص القرآنية ..
يقول سبحانه: (يا أيها الذين أمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ..) (الجمعة /9)
ويقول : (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً) (المائدة /58)
وهذه النصوص تشير فى دلالة قاطعة إلى أن نداء الصلاة كان موجودًا فكيف غاب ذلك عن الرسول؟ وكيف برزت هذه الروايات المتناقضة مع بعضها ومع القرآن .. ؟
ثانيا ـ الطهارة :
جاء القرآن بنص صريح يحدد لنا الطهارة الواجبة على المسلم لدخول الصلاة وفى حالة الجنابة وفى حالة المرض والسفر ووقوع النجاسة وفقدان الماء وذلك من باب النعمة والتيسير على العباد ..
يقول سبحانه : (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين . وإن كنتم جنباً فاطهروا . وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) (المائدة /6 ) ..
وعلى الرغم من وضوح هذا النص فقد جاء الفقهاء فطوقوه بالروايات والاجتهادات والتأويلات وذهبوا به مذاهب شتى ..
وسوف نورد هنا بعض هذه الروايات وتأويلات الفقهاء ليتبين لنا مدى التناقض بينها وبين النص القرآنى ..
يروى أن عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلها ثم أدخل يمينه فى الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهة ثلاثاً ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات . ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى إلى الكعبين . ثم قال :
قال رسول الله (ص) : من توضأ نحو وضوئى هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه ..(21)
وعن أبى هريرة أن النبى (ص) توضأ مرتين مرتين ..(23)
ويروى عن ابن عباس قال : ألا أخبركم بوضوء رسول الله (ص) ؟
فتوضأ مرة مرة ..(24)
وروى أن النبى (ص) توضأ مرة مرة . ومرتين . وثلاثاً ..(25)
وروى أن النبى (ص) توضأ ومسح على خفية ثم صلى ..(26)
وروى أن الرسول (ص) مسح الأذنين .. (28)
ويظهر من هذا الكم من الروايات الخاصة بالوضوء تصادمها مع النص القرآنى الذى يحدد الوضوء فى دائرة الأعضاء الأربعة: الوجه واليدين والراس والرجلين .
الوجه واليدين بالغسل ..
والرأس والرجلين بالمسح .
ومن الواضح أن الروايات أضافت فوق القرآن فضلاً عن كونها خالفت النص فى أمر المسح وقالت بالغسل ..
أضافت المضمضة والاستنشاق وغسل الأذنين ..
وهذه المخالفات والإضافات منسوبة إلى الرسول (ص) .
فهل يجوز للرسول مخالفة القرآن .. ؟
لقد أوقعت هذه الروايات الفقهاء فى حرج وحيرة ولم يكن أمامهم من سبيل فى مواجهتها سوى التأويل ..
قال النووى : اختلاف الأحاديث فى أنه مرة ومرة ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً ما يدل على الجواز والتسهيل على الأمة وهذا مما لا شك فيه ، وأما بيان المخالفة فيما بين الأعضاء فى الوضوء الواحد ففيه أيضاً دلالة على جواز ذلك ..؟ (29)
إن المتأمل فى كم الروايات المذكورة يصل إلى نتيجة مفادها أن هذه الروايات دليل على التصعيب والتضليل على الأمة . إذ كيف يبسط القرآن الوضوء إلى هذا الحد وتأتى الروايات وتدخل المسلم فى هذه المتاهات ..؟
كيف يقول القرآن بالمسح وتأتى الروايات لتقول بالغسل .. ؟
وكيف يحدد القرآن الأعضاء الأربعة بالملامسة وتأتى الروايات لتضع عازل بين اليد والأعضاء يحول دون وصول الماء إليها كالعمامة والنعلين ؟
وما هى فائدة الوضوء إذن إذا كان الماء لا يصل إلـى العضـو .. ؟
وقد استعرض القرطبى للخلاف السائد بين الذين يقولون بغسل الرجلين مستندين إلى الروايات . وبين الذين يقولون بالمسح استناداً إلى القرآن ..
قال القرطبى وأرجلكم ـ بنى على أن الفرص فـى الرجليـن الغسل دون المسح وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء وهو الثابت من فعل النبى(ص)، ومن قرأ بالحفص ـ أى بالكسرـ قال المسح.
وقد روى عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان.
وقال عامر الشعبى : نزل جبريل بالمسح .
وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين .
وذهب ابن جرير الطبرى إلى أن فرضهما التخير بين الغسل والمسح.
قال النحاس : ومن أحسن ما قيل فيه أن المسح والغسل واجبان وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح فى الرجلين هو الغسل.
قلت ـ رأى القرطبى ـ وهو الصحيح فإن لفظ المسح مشترك. يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل ، وروى أن المسح فى كلام العرب يكون غسلاً ويكون مسحاً ..(30)
ويظهر أن القرطبى وهو يحاول إنكار المسح وتأكيد الغسل قد أكد المسح وهو لا يدرى إذ ذكر عدد من الروايات لعدد من الصحابة والتابعين الذين يقولون بالمسح مما ينقص فكرة الإجماع على الغسل التى ذكرها ..
وفى مواجهة هذه الرواية يطرح السؤال التالى : هل يمكن أن يرى الرسول صحابته يلتزمون بالقرآن فينهاهم عن ذلك ؟
أو السؤال بصيغة أخرى : هل يمكن أن يرى الرسول الصحابة يمسحون فيأمرهم بالغسل مخوفاً إياهم بالنار ؟ وهل يخوف بالنار من يتبع القرآن ؟
بالطبع لا يجوز هذا فى حق الرسول . والرأى هو أن الجزء الأخير من الرواية من اختراع الرواة كى يموهوا على حقيقة الرواية ومضمونها ..
ويروى أن رسول الله (ص) توضأ ومسح علـى نعليـه وقدميـه ..(32)
ويروى عن على قوله : كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهر هما حتى رأيت رسول الله (ص) يمسح على ظاهرهما ..(33)
ويروى عن ابن عبد خير عن أبيه قال: رأيت علياً توضأ فغسل ظاهر قدميه.(34)
ويروى عن على قوله : لو كان الدين بالرأى لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما ..(35)
إلا أن القوم خالفوا هذه القاعدة متحصنين بروايات ظنيـة فـى مواجهة نص قرآنى قطعى وتاه المسلم بين تأويلاتهم ورواياتهم التى سادت واقع المسلمين بفعل السياسة طوال القرون الماضية وراح ضحيتها القرآن ..(36)
ويبدو أن القوم حوصروا بهذه الروايات فاخترعوا فى مواجهتها روايات أخرى على لسان على تحمل نفس النص مع استبدال القدمين بالخفين ..
روى عن على قوله : ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله (ص) يمسح على ظهر خفيه ..(37)
وروى عنه : لو كان الدين بالرأى لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه . وقد رأيت رسول الله (ص) يمسح على ظاهر خفيه ..(38)
وروى عنه : لو كان الدين بالرأى لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما وقد مسح النبى (ص) على ظهر خفيه ..(39)
والمتأمل فى هذه الروايات يرى مدى تناقضها مع بعضها وعدم ترابط معانيها فالرواية الأولى تتحدث عن باطن القدمين ثم تختم بالخف . وكان الأولى أن تتحدث عن باطن الخفين حتى يستقيم المعنى .
والثالثة وقعت فى نفس تناقض الأولى .
ثم أنه لا توجد حكمة من وراء مسح الخفين أما الحكمة من مسح الكعبين فهى ظاهرة على الأقل فى حدود النظافـة أو هـى حكمة مجهولة لنا إلا أننا فى النهاية ملزمون بالنص القرآنى دون إعمال الرأى فيه وكما ذكر على لسان الإمام على .. وجاء الرواة لنا بروايات أخرى منسوبة إلى الرسول (ص) تقول ببطلان وضوء من أكل مما مسته النار ..
يروى عن عائشة قالت : قال رسول الله (ص) : توضئوا مما مست النار ..(40)
وعن أبى هريرة أن النبى (ص) قال : توضئوا مما غيرت النـار ..(41)
وسئل رسول الله (ص) عن الوضوء من لحوم الإبل. فقال : توضئوا منها .
وسئل عن لحوم الغنم فقال : لا تتوضئوا منها ..(42)
إن مثل هذه الروايات أقل ما يمكن أن تؤدى إليه هو الشك فى روايات الوضوء السابقة والتى تخالف النص القرآنى ..
إلا أن الأعجب من ذلك هو ورود روايات أخرى تبطل هذا الحكم وتقول بجواز الوضوء مما مست النار ..
يروى عن ابن عباس أن رسول الله(ص) أكل جنب شاه ثم صلى ولم يتوضأ..(43)
وشهد عدد من الصحابة على رسول الله (ص) أنه أكل طعاماً مما غيرت النار ولم يتوضأ ..(44)
ولقد أوقعت هذه الروايات الفقهاء فى حالة تيه وارتباك ولم يجدوا أمامهم من مخرج سوى أن يقولوا ببطلانها أو يقولوا بنسخها لبعضها ، وقد اختاروا الأمر الثانى بالطبع فاختيار الأول يوقعهم فى مأزق عقائدى فقهى ينتهى بتدمير مذاهبهم التى تقوم على الروايات وكيف يمكن تحقيق الناسخ والمنسوخ فى حدود الروايات إذا كان من الصعب تحقيقه فى مجال الآيات القرآنية فضلاً عن كون فكرة الناسخ والمنسوخ فكرة محل نظر وأخذ ورد ..(45)
وروى عن الرسول (ص) قوله : من مس ذكره فليتوضأ.(46) وأجمع الفقهاء على أن مس الذكر من نواقض الوضوء على أساس هذه الرواية وهو ما عليه المذاهب الأربعة ..(47)
إلا أن هناك رواية تنقض هذا الإجماع لم يأخذ بها الفقهاء بالطبع ..
ويروى أن النبى (ص) كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلـى ولا يتوضأ ..(49)
وفى محاولة للخروج من دائرة التناقض بين الروايتين اعتبر بعض الفقهاء أن مس الذكر المقصود من الرواية كناية عـن البـول ..(50)
وضوء الحكام :
إن المتتبع لروايات الوضوء سوف يجد بصمات الحكام واضحة عليها وبدا وكأنهم يحاولون فرص صيغة معينة للضوء هى الصيغة السائدة التى تخالف القرآن .. ولكن السؤال هنا هو : ما هو العائد من وراء دعم الحكام هذه الصيغة ..؟
والإجابة هى أن الحكام لا يعنيهم الوضوء أو العبادات فى شئ لكنهم يسعون إلى فرض نهج وعقيدة على الأمة تكفل لهم الأمن والنفوذ ولن يتم لهم ذلك عن طريق إتاحة الفرصة لتعاليم القرآن ونصوصه من هنا قاموا باستثمار الروايات وكسب الفقهاء إلى صفوفهم كى يستعينوا بهم فى دعم سلطانهم ونفوذهم .
كانت هناك تيارات ترفض الروايات وتطالب بالعودة إلى القرآن ..
وكانت هناك تيارات تتبنى نهجاً مخالفاً للنهج السائد فى الفقة والعبادة .
كانت هناك مذاهب مخالفة ترفض التعامل مع الحكام ..
ولقد سعى الحكام إلى تشوية هذه التيارات وتحالف معهم الفقهاء الذين اعتبروها تيارات منحرفة وضالة وحرضوا الناس ضدها ، ولما كان الحكام والفقهاء يتبنون الروايات والتأويلات ، ولما كانت التيارات الأخرى ترفض هذه الروايات والتأويلات معتمدة على رموزها ورواياتها ، نشأ العداء ووقع الصدام ..
وفيما يتعلق بقضية الوضوء فإن المسح تبنته الشيعة التى كان الحكام والفقهاء على خصومه دائمة معها ..
من أجل ذلك سعى الحكام إلى دعم وضوء الغسل نكاية فى الشيعة ومحاولة لسحب المشروعية منهم وضرب خصومهم من العلويين .
وتبنى الفقهاء هذا الموقف من باب الولاء للحكام ومن باب العداء المذهبى للشيعة.
ومن الواضح أن هذه الرواية كانت بعد عصر الرسول (ص) وفى عصر خلافة عثمان بالتحديد وعثمان يقوم فيها بدور الموجه والمعلم كيفية الوضوء للرعية أو بمعنى آخر يفرضه عليهم ..
وكان لعائشة ـ المعادية لعلى المناهضة للعلويين ـ دور كبير فى توطين الروايات والأحكام المخالفة لنهج على طـوال عصـر الخلفاء والعصر الأموى ..
يروى : دخل عبد الرحمن بن أبى بكر على عائشة يوم توفى سعد بن أبى وقاص فتوضأ عندها فقالت : يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء فإنى سمعت رسول الله (ص) يقول : ويل للأعقاب من النار ..(52)
وهذه الرواية صدرت فى عصر معاوية إذ أن سعد توفى عام 55 هـ وعائشة توفيت عام 58 هـ ، والظاهر أن عبد الرحمن توضأ بطريقة مخالفة للطريقة السائدة ولما تنبهت له عائشة طالبته بإسباغ الوضوء . وطلب الإسباغ يدل على أن عبد الرحمن كان يمسح رجليه من ظاهرها ولهذا زجرته بقولها : ويل للأعقاب من النار . وفى هذا دليل على أنه كان يمسح رجليه لا يغسلها ، ولو كان يغسلها لما قالت له هذا الكلام وليس يعقل أن عبد الرحمن كان يجهل الوضوء طوال هذه السنين مع الصحابة والتابعين وجهل تمامه فلو كان وضوءه منقوصاً ما قالت : ويل للأعقاب ولقالت له أتم أو اغسل ، وهو ما يشير من جهة أخرى إلى أن عائشة لم تر النبى (ص) يغسل رجليه وإنما رأته يمسح على الدوام ولذلك ذكرت ويل للأعقاب للتخويف والزجر كى لا تحدث مخالفة للخط السائد.
ويروى عن الربيع بنت معوذ قالت : أتانى ابن عباس فسألنى عن هذا الحديث ـ حديث غسل الرسول رجليه ـ فقال : إن الناس أبوا إلا الغسل. ولا أجد فى كتاب الله إلا المسح .. (53)
وهذه الرواية تشير إلى وقوعها فى العصر الأموى حيث ساد الاتجاه المعادى لآل البيـت والعلوييـن الذى عاشه ابن عباس مضطهداً ومحاصراً ..
ويظهر من كلام ابن عباس أنه استنكر رواية الربيع الموافقة للخط السائد والمخالفة للقرآن ولأجل ذلك قال : ولا أجد فى كتاب الله إلا المسح .
ويروى أن الحجاج بن يوسف خطب بالأهواز فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم .
وأمر الناس بغسل الرجلين بطونها وظهورها وعراقيبها ..
فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق الله وكذب الحجاج . قال تعالى : (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ..) (54)
وهذه الرواية تشير إلى أن الحجاج أراد أن يلزم الناس بغسل الرجلين سيراً مع سياسة الحكم الأموى ..
وفى ختام هذا الفصل نضع أمام القارئ الرواية التالية :
قال السندى : إن الله قد أمر فى كتابه بالوضوء تاماً وعلى هذا فما لم يؤمر به فى القرآن لم يكن من فرائض الوضوء وإلا لزم أن لا يكون المأمور به فى القرآن وضوءًا تاماً بل بعضه وعلى هـذا ألزم أن لا يكون الترتيب والدلك ونحوهما مما لم يأمر به فى القرآن من فرائض الوضوء فليتأمل . وقوله : حتى يسبغ الوضوء أى يأتى به كاملاً ولم يرد أنه يراعى سننه وآدابه لأنه يأبى عنه قوله: كما أمر الله ..(56)
ثالثاً ـ الغسل والتيمم :
ولا يظهر من خلال النص القرآنى الذى عرضناه أن هناك كيفية معينة للغسل وإنما حدد النص كيفية ثابتة للتيمم وذلك من خلال قوله تعالى :
(.. وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتييموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) (المائدة / 6)
ويقول سبحانه : (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفوراً) (النساء /43 ..)
لقد تحدد لنا من خلال هاتين الآيتين أن الغسل ليست له كيفية معينة أما التيمم فإنه ينحصر فى الوجه والكفين ..
والسؤال هنا هل التزمت الروايات وخضع الفقهاء والمذاهب لهذا النص القرآنى ؟
والإجابة على هذا السؤال سوف نتبينها من خلال عرض الروايات وتأويلات الفقهاء ومواقف المذاهب ..
وعن ميمونة قالت : صببت النبى (ص) غسلاً فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما ثم غسل فرجه ، ثم قال بيده الأرض فمسحها بالتراب ثم غسلها ثم تمضمض واستنشق ، ثم غسل وجه وأفاص على رأسه ، ثم تنحى فغسل قدميه، ثم أتى بمنديل فلم ينفـص بهـا ..(58)
ويروى أن عائشة سألها أخوها عن غسل النبى (ص) فدعت بإناء نحو من صاع فاغتسلت وأفاضت على رأسها على رأسها وبيننا وبينها حجاب (قوله أبى سلمه) ..(59)
ويروى أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله (ص) أيرقد أحدنا وهو جنب ؟
قال : نعم . إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب ..(60)
وفى رواية أخرى : توضأ واغسل ذكرك ثم نم ..(61)
وترى عائشة : كنت اغتسل أنا والنبى من إناء واحد ..(63)
ويروى أن الرسول سئل : إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟
قال : يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلى ..(64)
ويروى عن عائشة قالت : كان رسول الله (ص) يغتسل من الجنابة ثم يستدفئ بى قبل أن أغتسل ..(65)
ولقد توسع الرواة فى أمر الغسل وتوسع الفقهاء معهم فى الاستنباطات والتأويلات دون النظر فى مدى صحة هذه الروايات ومدى موافقتها للقرآن والعقل فضلاً عن موافقتها للأدب والخلق العظيم الذى تحلى به رسول الله (ص) ..(66)
وأجمع الفقهاء على وجوب الغسل من الجنابة كما ذكرت الآية ، وأضافوا وجوبه من الحيض وغسل الميت والولادة بدون دم حسب الروايات ، واعتبروا أركانه النية وتعميم الماء على البدن ، وان ترك سنه من سننه التى أشارت إليها الروايات من خلال وصف وضوء الرسول يعتبر مكروهاً ..(67)
يروى عن أبى هريرة أن النبى (ص) قال : كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى (ع) يغتسل وحده ، فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر ـ أى عظيم الخصيتين ـ فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه ، فخرج موسى فى إثره يقول ثوبى يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى ـ وهو عريان ـ فقالوا والله ما بموسى من بأس وأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضرباً ..(68)
وكل ما فعله الفقهاء فى مواجهة هذه الرواية هو استنباط حكم بجواز اغتسال الرجل عرياناً فى خلوه ..(69)
وما يمكن قوله حول روايات الغسل هو أنها لـم تـأت بشـئ
وبالإضافة إلى ذلك أظهرت النبى بمظهر المخالف للقرآن. إذ كيف للنبى أن يجيز للمرء الجنب أن يتوضأ وينام بدلاً من أن يغتسل وينام..؟
ثم أظهرته بمظهر المخالف أيضاً حين نسبت إليه روايات جماعه لنسائه فى المحيض مخالفاً بذلك قوله تعالى : (ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن..) (البقرة /222)
يروى عن ميمونة قالت : كان رسول الله (ص) إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهى حائض ..(70)
وتروى : كان النبى (ص) يباشرنى وأنا حائض..(72)
وفى الوقت الذى أوجب فيه الفقهاء الغسل حال حصول الجنابة ونزول المنى قالوا فى الوقت نفسه بطهارة المنى استناداً إلى الروايات ..
يروى عن عائشة أنها سئلت عن المنى يصيب الثوب ، فقالت : كنت أغسله من ثوب رسول الله (ص) فيخرج إلى الصلاة وأثر الغسل على ثوبه بقع الماء..(73)
وفى رواية أخرى عن عائشة : كنت أفركه من ثوب رسول الله (ص)..(74)
ويروى أن أم حبيبة زوج النبى (ص) سئلت : هل كان رسول الله (ص) يصلى فى الثوب الذى يجامع فيه ..؟
قالت : نعم إذا لم يكن فيه أذى ..(75)
ودليل طهارته ما رواه البيهقى من أن النبى (ص) سئل عن المنى يصيب الثوب فقال : إنما هو كالبصاق أو كالمخاط . وقيس عليه منى خرج من حى غير آدمى لأنه أصل للحيوان الطاهر إلا أنهم استثنوا من ذلك منى الكلب والخنزير وما تولد منهما فقالوا بنجاسته تبعاً لأصله ..(76)
وقال الحنابله أن منى الآدمى طاهر إن خرج من طريقة المعتاد دفقاً بلذة بعد استكمال السن تسع سنين للأنثى وعشر سنين للذكر ، ولو خرج على صورة الدم ، واستدلوا على طهارته بقول عائشة : كنت أفرك المنى من ثوب الرسول .
أما منى غير الآدمى فإن كان من حيوان مأكول اللحم فطاهر وإلا فنجس ..(77)
وقال آخرون : قوله كأن يغسل المنى ـ أى الرسول فى رواية مسلم ـ دليل بين على نجاسة المنى كما هو مذهبنا ..(78)
وقال السندى تعليقاً على الرواية الثالثة : إذا لم يكن به أذى ، أى أثر المنى وقد استدل به على عدم طهارة المنى لكن يشكل الأمر بطهارة فضلاته ـ أى فضلات النبى ـ إلا أن يقـال أنـه يراعى فى الأحكام حال الأمة ليستدلوا ولا يجهلـوا الأحكـام.(79)
ويبدو لنا من خلال قول بعض الفقهاء ـ على استحياء ـ بنجاسة المنى أن الروايات التى حشدت حوله إنما تثير الشك حول طهارة المنى .
وكيف يوجب القرآن اعتبار الجنابة توجب الغسل ويأتى الفقهاء ويقولون بطهارة المنى..؟ فإذا كان المنى طاهراً فلماذا وجب الغسل فى حالة الجنابة ..؟
أما التيمم فقد حددت الآية (.. فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيدكم منه ..) إن التيمم يكون من الصعيد الطيب ..
وأنه ينحصر فى الوجه ..
وأنه يكون بالمسح كما هو الحال فى الوضوء ..
والصعيد هو وجهه الأرض وسمى صعيداً لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض وجمعه صعيدات . وطيباً بمعنى طاهراً . وقيل بمعنى حلالاً ..(81)
ولا تتحقق الطهارة إلا بأن تكون الأرض من التراب المنبت أى الأرض المزروعة ..(83)
والآية قد ذكرت الوجه واليدين فوجب قصر المسح عليهما إلا أن الفقهاء كعادتهم جاءوا بالروايات التى استندوا إليها فى أن المسح يكون إلى المرفقين قياساً على الوضوء وليس إلى الرسغين حدود اليد لغة ..(84)
روى أن عبد الله بن عمر نزل فتيمم صعيداً طيباً فمسح بوجهه ويديه إلى المرفقين ثم صلى ..(85)
وروى أن صحابة ضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوهم مسحه واحدة ، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط ..(86)
وعن عمار بن ياسر أن رسول الله (ص) قـال : إلى المرفقيـن ..(87)
ومثل هذه الروايات التى اعتمد عليها الفقهاء فى هذا الموقف المخالف للآية الصريحة جاءت روايات أخرى تنقضها وتشكك فيها.
وفى رواية أخرى شك الراوى فى كون الرسول مسح كفيه أو ذراعيه إلى المرفقين ..(89)
وفى رواية أن الرسول (ص) مسح وجهه وكفيه إلى المرفقين أو إلى الذراعيـن ..(90)
وروى أن رسول الله (ص) قال مبيناً التيمم لعمار بن ياسر : إنما كان يكفيك هكذا. فضرب النبى بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه ..(91)
وفى رواية أخرى : فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم . ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه . ثم مسح بها وجهـه ..(92)
وهذه الروايات الثلاثة الأولى يظهر منها بوضوح تأرجح الرواة بين اليدين أو الكفين وبين الزراعين وهذا من شانه أن يثير الشك فى هذه الروايات ، ثم جاء الروايتين التاليتين لتؤكد أن الرسول قصد المسح على الوجه والكفين وإن كانت الرواية الأخيرة مضطربة بما فيه الكفاية فالراوى لا يدرى هل بدأ الرسول بكفه اليسرى أم اليمنى ؟
هذا من جهة .
لقد أسهمت مثل هذه الروايات فى دعم المذهبية وتوطين الفرقة بين المسلمين ، فقد اتجه البعض إلى جعل التيمم ضربة واحدة فى الأرض والمسح فى حدود الكفين ..
واتجه آخرون إلى جعله ضربتين والمسح إلى المرفقين .
واتجه آخرون إلى جواز التيمم على الثلج .
واتجه آخرون اتجاهات أخرى ..(93)
وكل هذا الخلاف سببه الروايات ، أما نص القرآن الخاص بالتيمم فلا يحتمل كل هذا الخلاف فهوا واضح ومحدد وصريـح ، لكنها السياسة والمذهبية ..
فقال الزهرى : المسح إلى الآباط .
فقلت : عمن أخذت هذا ؟
فقال : عن كتاب الله عز وجل . إن الله تعالى يقـول:)فامسحوا بوجوهكم وأيديكم( فهى يد كلها.
قلت له: فإن الله تعالى يقول : )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما( فمن أين تقطع اليد ؟ قال : فخصمته ..(94)
قال القرطبى : وإنما عمم قوم لفظ اليد فأوجبوه من المنكب .
وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق وههنا جمهور الأمة.
وقيس أيضاً على القطع إذ هو حكم شرعى وتطهير كما هذا تطهير .
ووقف قوم مع حديث عمار فى الكفين وهو قول الشعبى ..(95)
وجاء : قوله ـ أى الرسول ـ ضربة واحدة لم يوجد فى عبارة المشكاة ولا يكفى فى التيمم ضربة واحدة فى غير مذهب الحنابلة وفى غير هذا الطريق ذكر ضربتين ..(96)
إن الغسل والتيمم قضيتان خاصتان وطارئتان كما أن كلاهما تنعدم فيه الأبعاد الاجتماعية والسياسية فمن ثم قد خفت عنهما ضغوط السياسة حيث لا توجد لهما انعكاسات مباشرة على واقع المسلمين، إلا أن المذهبية قد ألقت بظلالها عليهما كما هو واضح من خلال الروايات وأقوال الفقهاء ..