خامساً ـ الزكاة :
فرض القرآن زكاة الأموال من خلال ورداً فى سورة التوبة : النص الأول يقول : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) .
النص الثانى يقول : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) .
ومن خلال النص الأول يتبين لنا الأصناف المستحقة للزكاة وهى ثمانية أصناف ومن خلال النص الثانى يتبين لنا أن الزكاة من واجبات الرسول (ص) فهو الجهة الشرعية الوحيدة التى تتسلم هذه الزكاة لتنفقها فى مصارفها الشرعية وذلك فى حياته أما بعد مماته فيجب أن تتجه نحو الإمام الشرعى ..(1)
وعلى ضوء هذا المفهوم اتجهت الزكاة بعد وفاة النبى (ص) نحو الحاكم وحدث أول صدام بين الحاكم والرعية بسبب هذا فى أول حكم أبى بكر ، حين امتنعت بعض قبائل العرب عن تسليم أموال الزكاة لأبى بكر فكان أن قاتلهم وأخضعهم بالقوة واستنبط الفقهاء من هذا الموقف تشريعاً يقضى بجواز مقاتلة ما نعى الزكاة وقاسوا عليه أموراً فقهية أخرى ..(2)
والمتتبع لحوادث الصدام التى وقعت بين قوات أبى بكر والممتنعين عن الزكاة يكتشف أن الخلاف فى حقيقة لم يكن يدور حول الزكاة ذاتها وإنما كان يدور حول أبو بكر الذى لم يكن محل رضى واعتراف بحكومته من جهة هذه القبائل ، فمن ثم فإن انعدام هذا الاعتراف أدى إلى رفض تسليمه الزكاة ، فلم يكن فعلهم يقوم على أساس إنكار فريضة الزكاة كما قد يتصور من الطريقة التى عرضت بها هذه الحوادث فى المصادر التاريخية ، حيث تصور بعض الروايات أنهم قاموا بتأويل قولـه تعالى : )خذ من أموالهم ..( على أساس أنه أمر للرسول فقط . وما دام الرسول قد توفى فإن الزكاة تتعطل بوفاته ..(3)
ومن هنا فقدت الزكاة دورها الاجتماعى والاقتصادى فى واقع المسلمين ، فأمام الحكام وفسقهم ومظالمهم تراجع المسلمون عن تسليمهم الزكاة ، والزكاة التى كانوا يتسلمونها لم تكن تصل إلى مستحقيها ، ولو كانت تصل إلى مستحقيها ما كانت ظواهر الفقر والفساد والانحلال تنمو وتترعرع فى واقع المسلمين ..
لقد حدد الله سبحانه نصيباً من الزكاة للرقاب وهم الأرقاء . إلا أن الواقع يشهد أن ظاهرة الرق أزدادت انتشاراً فى واقع المسلمين بعد وفاة الرسول خاصة فى العصر الأموى والعباسى ..
وحدد الله سبحانه نصيباً للغارمين من الزكاة وهم المدينين الذين أثقلتهم الديون ودفعت بهم إلى طريق مسدود ، وهم طائفة لم يعبأ بها أحد فى واقع المسلمين وفى ظل دولة الخلافة التى تطبق شرع الله بزعمهم ..
ولو سيطر الفقهاء على الزكاة وعزلوها عن الحاكم لكان هذا خيراً للإسلام والمسلمين ولجعلوا أنفسهم مركز قوة فى واقع المسلمين وجهة نفوذ وتأثير تجعلهم يؤثرون فى الحاكم وسياساته لا يتأثرون بها ويستسلمون لها ..(4)
وما يدل على التطبيق الخاطئ المنحرف للزكاة على مشهد من الفقهاء أن عمر بن عبد العزيز عندما تسلم الحكم وطبق شرع الله فى الأموال شبعت الرعية وأصبحت فى غنى ونادوا فى الطرقات عن مستحقى الزكاة فلم يجدوا ، فانطلقت الدولة تزوج الشباب وتصلح فى الأرض بأموال الزكاة ..(5)
ويروى عن الإمام على أثناء فترة حكمه القصيرة أنه كان يفرغ بيت المال ولا يبق فيه شيئاً حتى لنفسه ، فالمال من حق العباد والبلاد والحاكم ليس من حقه أن يحتكره بينما المسلمون فى حاجـة ..(6)
قال الفقهاء: ويجب فى الزكاة تعميم الأصناف الثمانية إن وجدت سواء فرقها الإمام أو المالك. إلا أن المالك لا يجب عليه التعميم، وتشترط نية الزكاة عند دفعها للإمام أو المستحقين أو عند عزلها، ولا يجوز للمالك نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر ولو كان قريباً متى وجد مستحق لها فى بلدها، أما الإمام فيجوز له نقلهـا..(7)
وحدد الفقهاء على ضوء الروايات الأنواع التى يجب فيها الزكاة وهى : الأنعام والذهب والفضة وعروض التجارة والزرع والمعادن وتشمل كل ما يخرج من باطن الأرض وهذه الأصنـاف كلها تدخل فى تعريف المال فهى كلها أموال ..(8)
إلا أن الفقهاء على مر تاريخ المسلمين لم يتمكنوا من تطبيق الزكاة كما أمر الله وذلك لكونهم أباحوا للحاكم أن يطلق فيها يده ، وبالتالى كانوا يقفون موقف المتفرج من كل ما يخرج من باطن الأرض من ذهب وفضة يستولى عليه الحاكم . وما يخرج منها اليوم من نفط وخلافه يمكن لعائده أن يحل جميع مشاكـل المسلمين ..
وشغل الفقهاء بشروط الزكاة وتفصيل الأنواع التى تجب فيها واخترعوا ما يسمى زكاة المدين وأقساط الدين وزكاة الحلى ووضع الأرقاء هل يصنفون من الأموال أم لا ؟ وزكاة الفطر وترهيب تارك الزكاة ، ولم تكن جهودهم هذه سوى كلام على الورق موجه نحو الجماهير المستضعفة بعيداً عن الواقع الذى لم يكن ينتفع بشىء من الزكاة ..(9)
روى عن الرسول (ص) قوله : ليس فيما دون خمس أوراق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود صدقة ، وليس فيما دون خمس أوسق صدقة .. (10)
وروى أن رسول الله (ص) فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثـى مـن المسلمين .. (11)
قال الفقهاء : تجب الزكاة فى الذهب والفضة إذا بلغا النصاب ونصاب الذهب عشرون مثقالاً ، ونصاب الفضة مائتا درهم ، ويجب أن يخرج مالك النصاب من الذهب والفضة ربع العشر ولا فرق أن يكون الذهب والفضة مضروبين أو غير مضروبين ..(12)
الحكام والزكاة :
أشرنا فيما سبق إلى دور أبى بكر وحكومته فى إجبار الأمة على الاعتراف بإمامته وتسليم الزكاة له بالقوة وانبثاق تشريع من هذا الموقف ..
روى عن أبى هريرة قال : لما توفى رسول الله (ص) وكان أبو بكر وكفر من كفر من العرب فقال عمر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله . فمن قالها فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله تعالى ..
فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة . فإن الزكاة حق المال. والله لو منعونى عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها ..
ومن خلال هذه الرواية يتبين لنا أن أبا بكر لم يكن يتسلح فى مواجهة مانعى الزكاة بسلاح شرعى وإنما هو موقف قبلى سياسى. وإن خلاف عمر معه كان على هذا الأساس وهو افتقاد الموقف الشرعى . ومن جهة أخرى فإن موقف عمر يكشف لنا بعدًا جديداً
الطرف الآخر مانع الزكاة كان مسلماً معصوم الدم حسب النص الذى أورده على لسان الرسول (ص) ..
ومن هنا فإن مواجهة فى الأساس لم تكن شرعية بل كانت مواجهة باطلة وما بنى عليها من أحكام وتشريعات هى أحكام وتشريعات باطلة ..
ومحاولة أبى بكر ربط الصلاة بالزكاة لا تخرج عن كونها محاولة دعائية الهدف منها إثارة الناس وتأليبها ودفعها إلى مشاركته موقفه تماماً كمحاولة ربط القرآن بالسنة التى يرفع شعارها الرواة والفقهاء منذ قرون الهدف منها تحصين السنة بالقرآن وإضفاء القداسة والمشروعية عليها من خلاله ..(14)
ولم تبين لنا الرواية كيف انحاز عمر إلى أبى بكر وهو المتسلح بنص شرعى يقوى موقفه . بينما لا يتسلح أبو بكر فى مواجهته بشئ ..؟
ويظهر لنا أن تعبير الراوى: وكفر من كفر من العرب هو محاولة تبرير لموقف أبى بكر وإضفاء المشروعية عليه عن طريق إخراج الطرف الآخر من دائرة الإسلام ..
وما يمكن قوله فى دائرة هذا الأمر هو أن دولة أبى بكر لم تكن تملك القدرة على التسامح فى هذه المسألة الاقتصادية التى من الممكن أن تحرمها مصدراً هاماً من مصادر التمويل هى فى أمس الحاجة إليه وهى فى بداية نشأتها . ولعل هذا هو السبب فى انحياز عمر إلى جانبه ..
ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدى حقها إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما مرت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس ..(15)
من كان له مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان . يطلبه حتى يمكنه ، فيقول : أنا كنزك ..(16)
ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها فى نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله ، إما إلى الجنة وإما إلى النار ..(17)
ويتضح من هذه الروايات التى تكررت كثيراً فى كتب السنن أنه لا عقوبة ظاهرة فى الحياة الدنيا لمانع الزكاة وإنما انحصرت العقوبة فى حدود الآخرة ..
إلا أن هناك رواية تقول : من أعطاها مؤتجراً فله أجرها ومن أبى فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ..(18)
وهذه الرواية تصطدم بالروايات السابقة على ما هو ظاهر وتحدد عقوبة الممتنع عن الزكاة بمصادرة شطر من ماله بعد أخذ الزكاة ، وهى رواية ليست محل إجماع الرواة ولو كانت مشهورة بين القوم لاحتج بها أبو بكر فى مواجهة المعارضين ولكانت المصادرة معروفة ومعلنة فى مواجهة حالات المنع الكثيرة التى وقعت على المستوى الفردى ..(19)
وأن الباحث فى كتب الفقه لا يجد إشارة من الفقهاء حول هذه المصادرة أو استخدام القوة أمام المتنعين عن الزكاة أفراداً . أما الامتناع الجماعى فهو حالة خاصة لها أبعادها المنية والاقتصادية والسياسية وهى لم تقع سوى مرة واحدة فى عصر أبى بكر وكان لها ما يبررها وإن كان بنى الفقهاء على أساسها تشريعاً فهى لم تكرر ..(20)
وكان موقف عمر هذا الذى يعد مخالفة لنص قرآنى صريح كما يعد اجتهاداً على النص قد أدى إلى دخول كثير من المؤلفة وسط المسلمين نكاية فى الإسلام وتستراً به مخافة السيف وسعوا إلى ضرب الإسلام من الداخل .
وعلى رأس هؤلاء المؤلفة أبو سفيان وولده معاوية الذين أصبحا بقرار عمر هذا متساوين مع بقية المسلمين ، بل أن الأدهى من ذلك أن عمر رعى معاوية واحتضنه وولاه على الشام ليفتح الأبواب أمامه لإحداث انقلابه الشيطانى وسيطرته على زمام الحكم ليبدأ بالأمة مسيرة الانحراف عن الإسلام ..(22)
يروى أن النبى (ص) قسم غنائم حنين فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة من الإبل ..(23)
ويروى عن الرسول قوله : إنى أعطى رجالاً حديثى عهد بكفر أتألفهم ..(24)
وقولـه أتألفهم أى أستميل قلوبهم بالإحسان ليثبتوا على الإسلام رغبة فى المال ، وكان النبى يعطى المؤلفة من الصدقات وكانوا من أشراف العرب .
فمنهم من كان يعطيه دفعاً لأذاه. ومنهم من كان يعطيه طمعاً فى إسلامه وإسلام نظرائه واتباعه.
ومنهم من كان يعطيه ليثبت على إسلامه لقرب عهـده بالجاهلية ..(25)
والتساهل فى هذا الحكم يعنى فتح الباب لتطعيم المجتمع المسلم بعناصر ضارة تهدد أمنه ومستقبله ، وهذا ما فعله عمر أن فتح الباب لبنى أمية خصوم بنى هاشم وخصوم الرسول والإسلام ليتغلغلوا وسط المسلمين وكانت النتيجة أن أفسدوا الإسلام والمسلمين ..
وفى رواية عن معاوية قال : إياكم وأحاديث إلا حديثاً كان فى عهد عمر ، فإن عمر كان يخيف الناس فى الله عز وجل : سمعت رسول الله (ص) وهو يقول : من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين ، وسمعت رسول الله يقول : إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك له فيه ومن أعطيته عن مسألة وشره كان كالذى يأكل ولا يشبع .. (26)
وهذه الرواية على لسان معاوية قيلت فى موضع خطابه وتوجيه للرعية وما دامت قد ذكرت الأموال وتقسيمها على لسانه فهذا يعنى أن الموضع موضع تقسيم وتوزيع لها ومن المعروف أن معاوية كان المال سلاحه الرئيسى فى كسب الأنصار وشراء الذمم وتزوير الدين ومحاربة خصومه، وهو أمر ليس بحاجة لبرهان، ويؤكد من جهة أخرى استثماره للزكاة فى دعـم نفـوذه وسلطانـه ..(27)
وعلى يد معاوية تم القضاء على حكم الخمس الذى نص عليه القرآن فى الأموال واستمرت هذه السنة من بعده وباركها الفقهاء وقام الرواة بدورهم فى التعتيم على الروايات التى تدعم هذا الحكم فى كتب السنن .. (28)
وهذا الموقف من قبل معاوية هو امتداد لموقف أبى بكر وعمر وعثمان الذين عطلوا هذا الحكم لكنهم لم يتمكنوا من محوه لوجود عشرات الصحابة وعلى رأسهم الإمام على الذين يعرفون هذا الحكم وعاصروا تطبيقه على يد الرسول (ص) ..(29)
وسار الحكام من بعد معاوية على هذه السنة المعطلة لأحكام الله باستثناء عمر بن عبد العزيز ، وحكم الخمس ورد فى قوله تعالى : (واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ..) (الأنفال /41)
وهو حكم أوجبه الله للرسول وذوى القربى من بنى هاشم كبديل عن تحريم الصدقة عليهم ..
ويروى عن النبى (ص) قوله: فى المعدن والزكاة الخمس ..(31)
ويروى عن الرسول (ص) قوله : أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس ..(32)
قال مجاهد : قد علم الله أن فى بنى هاشم الفقراء فجعل لهم الخمس مكان الصدقـة ..(33)
وقال مالك : الخمس والفىء واحد يجعلان فى بيت المال ..(34)
وقال الماوردى : أن الخمس منوط باجتهاد الخلفاء .. (35)
وقال آخرون : أن الخمس بمنزلة الفىء يعطى منه الغنى والفقير ..(37)
ويتضح لنا من خلال أقوال الفقهاء أنهم اتجهوا بالخمس نحو الحكام وبعضهم طالب بتعميمه والهدف من ذلك تفويت الفرصة على بنى هاشم كى لا يستعينوا بالخمس على نصرة دعوتهم دعوة آل البيت والتعتيم على أنصارهم من الشيعة خصوم الحكام والفقهاء ..(38)
إن طغيان النزعة المذهبية على حركة الفقه الإسلامى قد حرمت المسلمين من نصوص واجتهادات كان من الممكن أن تسهم فى دعم مسيرة الأمة نحو النهوض والتقدم والقضاء على حالة الركود الفكرى والجمود العقلى التى سادت واقع المسلمين قروناً طويلة امتدت آثارها حتى اليوم ..(39)