الشهيد الأوّل الفقيه الشيخ محمّد بن مكّي جمال الدين العاملي الجزِّينيّ (قدس سره)

(786هـ - 734)

الولادة و النشأة:

هو الفقيه الشيخ محمّد بن مكّي جمال الدين العاملي الجزِّينيّ. وُلد عام 734 هجريّة في جزِّين، وهي قرية من قرى جبل عامل تقع جنوب جبل لبنان. ترعرع في بيت من بيوت العلم والدِّين، وتلقّى في قريته ـ وكانت يومذاك مركزاً فكريّاً إسلاميّاً ـ مبادئَ العلوم العربيّة والفقه.

فتح الشهيد الأوّل عينيه على مخالطة العلماء ومُجالستهم، وارتاد في ريعان شبابه الندوات العلميّة التي كانت تُعقد في أطراف جبل عامل، واشترك في حلقات الدرس التي شُكّلت في المدارس والمساجد والبيوت. وقد ساهم كذلك في المحاورات العلميّة التي كانت تدور بين الأساتذة والطلاّب، أو بين الطلاّب أنفسهم.. حتّى كان له فيما بعد آراؤه في مسائل الفقه والفكر والأدب، أعانته على ذلك ثقافتُه الشخصيّة وقريحته الفيّاضة وبيئته النشطة.

رحلاته ودراسته:

لم يكتفِ الشهيد الأوّل بثقافته التي تلقّاها في جِزّين، بل راح يتطلّع إلى آفاق أُخرى في مراكز إسلاميّة لتلقّي المعارف الجديدة. فرحل إلى: الحلّة وكربلاء وبغداد، ومكّة المكرمة والمدينة المنوّرة، والشام والقدس.. وهذه المدن كانت من أهم مراكز التوعية الدينيّة يوم ذاك، لا سيّما الحلّة التي تكرّر سفر الشهيد الأوّل إليها، حيث تلقّى العلوم فيها على يد كبار شيوخها المرموقين، أمثال: فخر المحقّقين ابن العلاّمة الحليّ.

ولم يمنعه انتماؤه المذهبيّ إلى أهل البيت (عليهم السّلام) من أن يتعرّف على الثقافة السنيّة بعد أن بلغ شأواً في المعارف، فاطّلع وناظر وحاجج في أجواءٍ علميّة رحبة. ونظر في ألوان مختلفة من الفكر، وارتاد مختلف مراكز الحركة العقليّة في البلاد الإسلاميّة، وجالس العلماء والأساتذة، فاستفاد وأفاد.. ويكفي في ذلك قول أُستاذه فخر المحقّقين فيه: لقد استفدتُ من تلميذي محمّد بن مكّي أكثر ممّا استفاد مني.

ودرس الشهيد الأوّل على: ابن معيّة، وعميد الدين، وضياء الدين من علماء الحلّة.. وعلى قطب الدين الرازي البُوَيهيّ. فتأثر بهم تأثّراً ظهر في منهجه وكتاباته.

آثاره الفاخرة:

خلّف لنا الشهيد الأوّل مؤلّفات عديدة، أحصاها بعض الباحثين إلى اثنين وثلاثين كتاباً أما أهم آثاره فهي:

1- اللُّمعة الدمشقيّة: وهي رسالة فقهيّة.

2- الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة.( 3 مجلدات) (ج1),(ج2),(ج3).

3- النَّفليّة: تشتمل على ثلاثة آلاف نافلة في الصلاة.

4 ـ الألفيّة: تشتمل على ألف واجب في الصلاة.

5 ـ ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة.

6 ـ غاية المراد في شرح نُكت الإرشاد: في الفقه.

7 ـ البيان.

8 ـ أربعون حديثاً: أكثرها في العبادات.

9 ـ القواعد والفوائد: يضمّ ما يقرب من 300 قاعدة فقهية.

10ـ خلاصة الاعتبار في الحجّ والاعتمار.

11ـ أحكام الأموات: من الوصيّة إلى الزيارة.

12ـ مجموعة: بثلاث مجلّدات..

إلى كثير من المقالات والرسائل والأجوبة والحواشي والشروح والإجازات، فاتحاً فيها أبواباً جديدة للباحثين بعده، وسادّاً فجواتٍ كبيرة في البحث الفقهيّ من حيث المنهج والاستدلال.

قيل فيه:

قال الشهيد الثاني: شيخنا المحقّق، النِّحرير المدقّق، الجامع بين منقبة العلم والسعادة، ومرتبة العمل والشهادة، محمّد بن مكّي أعلى الله درجته، كما شرّف خاتمته.

وقال فيه المحقّق الكَرَكيّ: فقيه أهلِ البيت في زمانه، علَم الفقهاء، قدوة المحقّقين والمدقّقين.

وكتب الحُرّ العامليّ في (أمَلُ الأمِل ): كان عالماً ماهراً، فقيهاً محدِّثاً محقّقاً متبحّراً، جامعاً لفنون العقليّات والنقليات، زاهداً عابداً، شاعراً أديباً منشئاً.

 وقال الميرزا النوريّ في ( مستدرك الوسائل ): جامع فنون الفضائل، وحاوي صنوف المعالي، وصاحب النفس الزكيّة.

مكانته الاجتماعيّة:

كان بيت الشهيد الأوّل ندوةً عامرة لأصحاب الفضل والأدب وطلاّب المعرفة وعلماء دمشق والأقطار المجاورة.. الذين كانوا يتردّدون على دمشق، فكان بيته لا يخلو من الزائرين وأصحاب الحاجات، إذ أصبح ملجأهم كما أصبح ملجأ العلماء في التدريس.

ولمكانته الاجتماعيّة أصبح الشهيد الأوّل موضع حفاوة الطبقات المختلفة، مكتسباً شعبيةً واسعة، حتّى استطاع أن يتجاوز بنفوذه الروحيّ حدود الشام، فانشدّ إليه الملوك والحكّام من الأطراف، منهم عليّ بن مؤيد ملك خراسان. وكان الشيخ على اتّصال بهم، مستغلاًّ ذلك لغاياته الإصلاحيّة.

مواقفه و خدماته:

سعى من خلال علاقاته الواسعة ومكانته في الأوساط العلميّة لأن ينجز مهّامَ كبيرة في مجال الإصلاح والتوجيه وتوحيد الكلمة والضرب على أيدي العابثين المغرضين، فأخمد فتنة اليالوش الذي ادعى النبوة، وقلّص الخلافات الطائفيّة. فوافقه أناس وعارضه آخرون، فكان أن استدعاه حاكم خراسان فيما اعتقله حاكم دمشق واغتاله فيما بعد؛ لأن حكومة (بيدمر) بدمشق كانت تخشاه وتحسب له حسابه، إذ هي حكومة ضعيفة، فحاولت أن تتخلّص من الشهيد الأوّل وتقضيَ عليه، حيث ترى فيه مذهباً مُندِّداً بالانحراف والضلال.

 

وكان الشهيد الأوّل يَلقى أذىً متواصلاً مريراً خلال أعماله، ولكنّ الذي كان يعانيه لم يُثنهِ عن أن يُحدِث نهضةً في عالم الفقه وغيره من العلوم، وأن يفتح في جبل عامل أوّل مدرسة فقهيّة هي ( مدرسة جزّين )، فأصبحت طليعة النشاط الثقافيّ الشيعيّ هناك. وقد قُدّر لهذه المدرسة أن تخرّج عدداً كبيراً من الفقهاء والمفكّرين الإسلاميّين فيما بعد.

 

العاملون المؤسِّسون قلّة في كلّ زمان، لكنّهم رغم قلّتهم أقوياء.. وعلى أيديهم يتمّ بناء التاريخ وتقرير مكانة الأمم.

وكان من هؤلاء العاملين الشهيد الأوّل، صاحب الهمّة العالية والنفس المهذَّبة. فقد كانت حياته حلقاتٍ متّصلةً من الجهاد العلميّ والاجتماعيّ، لم يهدأ حتّى ختمها بالشهادة خاتمةً مشرّفة أدرجته في سجلّ الشامخين. وأصحاب الدماء الغيورة هم أهل العزائم والهمم، وهم المقبلون على التضحيات من أجل المبادئ الحقّة بعد مكابدةٍ من أذى الحاسدين والمنحرفين الحاقدين.. ومنهم ابن جَماعة، وهو من خدمة البلاط ومَن يسيل لعابهم للدرهم والدينار ومظاهر الترف والفخامة في القضاء والفُتيا والخطابة وإمامة المساجد.

وابن جماعة هذا كان يعاني من ذلّة نفسه حتّى أصبحت عقدةً فيه أفرزها بالتنكيل إلى درجةٍ هابه فيها الناس. ومِن جهتها قدّمت له الحكومات الجائرة مناصب كبيرة ليغاليَ في التملّق لها والخضوع أمام مؤامراتها. وقد رأى الشهيدَ الأوّل يستميل قلوب الناس ويحظى بمكانة علميّة واجتماعيّة مرموقة، فضاق عليه ذلك. ثمّ كان أن اجتمع ابن جماعة به في بيته واختلف معه في مسائل، وكان يحضر المجلسَ جمعٌ كبير من الفقهاء والأعيان، فشق عليه أن يردّ عليه الشهيد الأوّل ويُفحمه بمحضرٍ مهيب، فحاول استعمال أُسلوب الإهانة فلم ينفعه.

شهادته:

وشِيَ به إلى الملك ( بيدمر )، فسُجن في قلعة دمشق سنة كاملة، فلمّا ضجّ الناس خاف (بيدمر) ثورتهم وهجومهم على السجن لإنقاذ الشهيد الأول أو الاستيلاء على الحكم، فحاول التعجيل بقتل هذا العالم وإراحة نفسه منه، فقُدّم وقتل رضوان الله عليه وكانت شهادته في سنة 786هـ.

ثمّ لم تشتفِ القلوبُ المريضة بهذا حتّى طمعت بإهانة الرجل بعد شهادته، فقد أُمِر به أن يُصلب وهو مقتول على مرأىً من الناس، تم رجم بالحجارة، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بإحراق جثمانه الطاهر.

لكنّ الشهيد الأوّل مضى بمآثر كبيرة غرّاء، وأعمال جليلة وأيادٍ بيضاء، في مضمار الفقه والشريعة.. خلّدته وثبّتت اسمَه في سجلّ المجاهدين العاملين في خدمة الإسلام. وأبقى لنا الشهيد الأوّل ذِكراً جميلاً وخلُقاً صالحاً يُفتخَر به ويُنتفَع منه.

مراجع وعلماء منتديات موقع الميزان العودة إلى الصفحة الرئيسية سجل الزوار