وقال المعترض:
«لو
انتفخ الكتاب حتى يصير بمثابة
«البو»،
فإنه فاقد للحقائق العلمية، فإنه يحاول إثبات الوهم، أو إثبات أمر
لا واقع له، وإن تفاصح، فإنه كالقابض على الريح، وإن هدر كالفنيق
المزبد، فإن ما يريد إثباته سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهو
صديد.
نسأل الله أن يصون السيد من تبعاته في الدنيا
والآخرة. فليس من السهل نفي إنسان عن والديه، ولو قيل لأحدنا: لست
لأبيك. لأقام الدنيا ولم يقعدها على رأس القائل.
ثم ألا يؤذي رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
هذا القول؟ فأرجو من السيد أن يبذل جهوده إلى ما هو أعود، وأعظم
فائدة من جحد نسب سيداتنا، فإن هذا يؤذي أباهن ولا يرضيه»([1]).
ثم تحدث المعترض عن حيائه من ذكر زواج خديجة بغير
رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»..
وانتهى إلى القول: إنه معنا في كل ما نرى ونعتقد إلا في هذه
المسألة، فإنه مستعد حتى لمباهلتنا، ثم قال:
«وأدعو
الله له في سري أن يجنبه هذه المزالق، ويرده إلى الحق، لئلا تذهب
كتاباته الشريفة أدراج الرياح، فإن هذه المسألة لا تحتمل إعمال
الرأي فيها وتحكيمه، حيث تؤذي النبي
«صلى الله عليه وآله». وقد لعن مؤذيه في دعاء شهر
رمضان، ولا بد من أن السيد قرأه ودعا به، وعرف معنى من آذى أباهن
فيهن.
وعلى السيد أن لا يستدر عطف القارئ، باستنباط ما لم
نرده، وتقويلنا ما لم نقله. وليس من حاجة إلى محاربة طواحين الهواء»([2]).
ونقول:
أولاً:
إننا لا نريد التعليق على ما يمارسه هذا المعترض من شحن للأجواء
وتفننٍ في الإدانة والإهانة، فإنه لا يجدي شيئا في الإثبات أو
النفي، غير أننا نشير إلى ما أشار إليه المعترض من تبعات تترتب
علينا في الدنيا والآخرة. بسبب بحثنا لهذا الموضوع.. مع أن الذي
نعرفه هو أن الإسلام لا يحرم البحوث العلمية في شيء، إلا ما ورد من
نهي إرشادي عن ممارسة العلوم التي لا تنفع، فقد ورد عن علي
«عليه
السلام»:
«لا خير في علم لا ينفع، ولا ينتفع بعلم لا يحقق تعلمه»([3]).
وورد:
«فلا تشغلن بعلم ما لا يضرك
جهله»([4]).
وورد النهي عن السؤال القدر، فقد أجاب علي
«عليه
السلام»
من سأله عنه بقوله: طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه،
وسر الله فلا تتكلفوه»([5]).
وهذا النهي إنما جاء توقياً لمخاطر لا يريد الله أن
يعرض الإنسان لها.
كما أن العلم بأنساب العرب، ووقائعها، وأيام
الجاهلية، والأسفار، والعربية، علم لا يضر من جهله ولا ينفع من
علمه([6])،
وقد ورد نهي تحريمي أيضاً عن تعلم السحر([7])،
ونحو ذلك، إلا بهدف التوقي، ورد سحر المتنبئ، وكيد الأعداء، الذين
قد يحاولون الإضرار بالمسلمين عن هذا الطريق.
ولم نسمع ولم نقرأ:
أن الله تعالى حرم البحث عن الأشخاص لمعرفة أسمائهم، أو أسماء
آبائهم وأبنائهم، وما يجري لهم وعليهم..
فإذا كنت لا تعرف من يكون أبو زيد، فهل يحرم عليك
السؤال عنه؟!. ألا يجوز لك أن تقول له: أنت ابن من؟! أو أن تسأل
الجار عن اسم جاره الآخر؟!.
ثانيـاً:
قلنا
أكثر من مرة: إننا لم نأت إلى إنسان نعرف أباه وأمه، ثم نفيناه عن
هذا الأب الذي نعرفه لننسبه إلى غيره، كما يقوله هذا المعترض!. فلا
معنى لقوله:
«ليس
من السهل نفي إنسان عن والديه، ولو قيل لأحدنا: لست لأبيك، لأقام
الدنيا ولم يقعدها على رأس القائل».
بل الذي قلناه هو:
أننا كنا نجهل الأب الحقيقي لفلان من الناس، فسألنا عنه، فقيل لنا:
هو ابن فلان، فقبلنا منه.
ثالثاً:
قول المعترض: «فإن هذا أولى من جحد لنسب سيداتنا» لا يصح لأن الجحد
إنما هو للأمر الواضح والثابت، وليس الأمر هنا كذلك.
والروايات قد دلت على أن الحديث عن كونهن بنات رسول
الله «صلى الله عليه وآله» بالتربية كان يتردد من زمن رسول الله
«صلى الله عليه وآله».
رابعاً:
قول المعترض: «إن تحقيقنا في نسب السيدات الكريمات يؤذي أباهن ولا
يرضيه»، غير مقبول، لأن هذا التحقيق قد كشف لنا أن النبي
«صلى الله عليه وآله» لم يكن
أباهن الحقيقي، بالإستناد إلى ما أشار إليه رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
والسيدة الزهراء «عليها السلام».. وروايات أخرى وردت في تفسير سورة
الكوثر وغيرها.. وروي هذا القول عن ابن عمر، وعروة بن الزبير..
فلو كان ذلك يؤذي النبي «صلى الله عليه وآله» لم
يتعرض له النبي ولا الزهراء، ولا بعض الصحابة والتابعين، ولا طائفة
كبيرة من علمائنا الأبرار وغيرهم، أشرنا إليهم أكثر من مرة.
خامساً:
وأما
استعداد المعترض لمباهلتنا في أمر البنات الكريمات، فجوابه:
ألف:
لا أدري إن كانت المباهلة مشروعة أو مستحبة في غير إمامة علي «عليه
السلام»، فقد روى أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه، عن
سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد
الرحمان، مولى آل يقطين، عن أبي جعفر بن محمد بن النعمان، عن أبي
عبد الله الصادق بن محمد «عليهما السلام» قال:
«قال
لي: خاصموهم، وبينوا لهم الهدى الذي أنتم عليه، وبينوا لهم
ضلالتهم، وباهلوهم في علي «عليه السلام»..»([8]).
فيلاحظ: أنه حدد مورد المباهلة، وأنها في علي «عليه السلام»..
ب:
إن المفروض في مورد المباهلة هو أن يكون هناك وضوح في الأدلة على
الموضوع الذي هو مورد البحث، إلى درجة البداهة، وهناك إصرار على
إنكاره وجحوده رغم المعرفة به، بحيث لا يعود هناك أي سبيل لحسم
النزاع إلا بالمباهلة.
والأمر في هذه المسألة إن كان من هذا القبيل
بالنسبة لنا من حيث قيام الحجة عندنا. ولكن الأمر بالنسبة للمعترض
ليس بهذا الوضوح الذي يمكنه من المباهلة عليه، وكيف يمكنه ذلك، وهو
نفسه قد اعترف في كتابه هذا بهذا الأمر، حيث قال:
«لأن
أدلة المثبتين إن لم تكن أقوى فهي معادلة لأدلة النافين، فعليه أن
يبالغ في الاحتياط الخ..»([9]).
ج:
إننا لا نرى أن هذه المسألة حساسة وأساسية، فإنها ليست من أمور
العقيدة أو الشريعة، ولا هي من الخطورة بحيث تستحق اللجوء إلى
المباهلة لإثباتها ونفيها، بل هي مجرد مسألة تاريخية، قد تبحث إذا
حضرت أسباب تقتضي بحثها، وقد لا تبحث إذا فقدت تلك الأسباب، ولا
ضير في العلم ولا في الجهل بها.. فلماذا تكون المباهلة من أجلها؟!
د:
على أنه إن كان لا بد من المباهلة، فلتكن على أن ما
أوردناه من أدلة صحيح الدلالة على ما ندعيه، ثابت الحجية على
مضمونه، وهو مثبت في المصادر التي عزوناه إليها، وعلى أن جميع ما
أورده المعترض من مؤاخذات في كتابيه: «فاطمة الزهراء دراسة في
محاضرات» و «بنات النبي «صلى الله عليه وآله» لا ربائبه» قد
أبطلناه، وفق الأسس والمعايير العلمية الصحيحة والموضوعية..
سادساً:
قول المعترض عن مسألة البنات الكريمات بأنها لا تحتمل إعمال الرأي
فيها نقول:
لا داعي للتعريض أو التصريح، فإننا لم نعمل الرأي
في هذه المسألة، بل أوردنا أدلة ذات دلالات وظهورات واضحة.
سابعاً:
تخويف المعترض من غضب النبي
«صلى الله
عليه وآله» على من يحقق
في هذه المسألة مرفوض جملة وتفصيلاً. بل النبي يكون مسرورا لكشف
الحقائق، ووضع الأمور في نصابها، وإزالة الشبهة بالدليل والبرهان.
وأما محاربة طواحين الهواء فنترك الحديث عنها لمن
يتعامل بهذه الأساليب، ونتمنى على القارئ أن يراجع جميع مؤلفاتنا
وكتاباتنا حول هذا الموضوع، ليرى من الذي يحارب طواحين الهواء.
([1])
بنات النبي «صلى الله عليه وآله»
لا ربائبه ص 66.
([2])
بنات النبي «صلى الله عليه وآله»
لا ربائبه ص 69.
([3])
البحار ج1 ص219 عن نهج البلاغة.
([5])
البحار ج1 ص218 و210 عن نهج البلاغة.
([6])
البحار، ج1، ص211 عن أمالي الصدوق وغوالي اللالي،ومعاني
الأخبار، والسرائر.
([7])
البحار ج76 ص205 و 210 و 212 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص503.
([8])
البحار ج10 ص452 عن الفصول المختارة ج2 ص119 و120.
([9])
بنات النبي «صلى الله عليه وآله»
لا ربائبه ص 44.