صفحة :285   

حرمة الخوض في الأنساب:

وعاد المعترض إلى التأكيد على أننا نعلم «بحرمة الخوض في نسب السيدات، ودعك من الأنساب الأخرى:

أولاً: لأنه غير قاطع بنفيهن، وسيأتيك دليل ذلك. وحينئذٍ يكون الخوض فيه إيذاءً للنبي «صلى الله عليه وآله»، وهو على علم بحال مؤذيه «صلى الله عليه وآله».

ثانياً: لم يترتب على هذه المسألة أمر معتد به، فماذا لو ثبت أنهن ربائب؟!

نعم، تتوجه المسألة إلى عثمان».

إلى أن قال: «وهذا أمر غاية في التفاهة، فمن هو عثمان حتى نضطر إلى هدم ركن ركين من تاريخنا».

وبعد أن ذكر أن أحداً من السابقين لم يخض في هذه المسألة حتى انبرى لها الكوفي، قال المعترض:

«فلو كانت المسألة تستحق كل هذا الجدال والقيل والقال لكان الأولون أحق بها من الآخرين. ولو جاز الخوض في نسب المكرمات بنات النبي «صلى الله عليه وآله»، ونفيهن منه، وعزوهن إلى تيمي، لرأيت أهل البيت أولى من كل أحد في معالجة هذه المسألة، وتبيان الحق منها، ورد باطلها إلى أصله» ([1]).

وقال: «إذا جاز الخوض في أنساب أهل الأرض جميعاً، فإنه لا يجوز في أنساب أهل البيت، لأن الله راعيها وحاميها. والذي جعله السيد ذريعة في جواز الخوض في الأنساب لا يجري في نسب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، لأنه ثابت يقين»([2]).

ونقول:

أولاً: إن حرمة الخوض في نسب السيدات إنما هو فيما إذا كان هناك يقين بالنسب، ثم يريد الخائض أن ينسبهن إلى غير آبائهن، أو أمهاتهن عن عمد وإصرار.

وأما إذا كان لا يعلم بالحقيقة، وأراد أن يتعرف عليها لغرض من الأغراض، فانتهى به البحث إلى نتيجة ما، فلا مانع من أن يعلن ذلك، حتى لو كان ما انتهى إليه خلاف ما هو شائع، ما دام يرى أن هذا الشائع خطأ.

ثانياً: إن تعلُّم الجاهل لا يؤذي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بل هو يرضى به، وهو الذي حث عليه، ورغب به.

ثالثاً: قول المعترض: لم يترتب على نفي هذه المسألة أمر معتد به، فإن ارتباط المسألة بعثمان أمر غاية في التفاهة. غير مقبول، فإن النتيجة مهمة، ولذلك استدل بها علماؤنا رحمهم الله.

ونذكر على سبيل المثال هنا قول البياضي:

«قالوا: زوجه النبي بنتيه: رقية وزينب.

قلت: ذكر صاحب كتاب الأنوار، وأبو القاسم الكوفي: أنهما كانتا بنتي خديجة. فلما تزوجها النبي «صلى الله عليه وآله» صارتا في حجره. والعرب تسمي الربيبة ابنة، فنسبتهما إليه بذلك، لا بالولادة..».

إلى أن قال: وفي كتاب الأنوار: أن النبي «صلى الله عليه وآله» ضمن بيتاً في الجنة لمن حفر بئر أرومة، ويجهز جيش العسرة. ففعل ذلك عثمان. فخطب رقية.

فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: أبت إلا أن أصدقها البيت الذي في الجنة، فأصدقها إياه، وبرئ النبي «صلى الله عليه وآله» من ضمانه. وأشهد على ذلك. ثم توفت رقية قبل أن يراها عثمان([3]).

غير أن لنا على هذا النص ملاحظتين:

أولاهما: أنه ذكر رقية وزينب مع أن عثمان إنما تزوج رقية وأم كلثوم، إلا أن يكون أسم كلثوم زينباً أيضاً.

الثانية: حديثه عن دور عثمان في حفر بئر رومة، وتجهيز جيش العسرة.. فقد أثبتنا كذب هذه الرواية بشقيها، فراجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي «صلى الله عليه وآله»..

رابعاً: بالنسبة لقول المعترض: لو كان لهذه المسألة قيمة، لكان الأولون أحق بها من الآخرين.

نقول:

ألف: قد ذكرنا: أنه لا دليل على أن هذه المسألة كانت مختلفاً فيها عند الأولين، فلعل الأمر كان محسوماً فيها وفق مقالة الكوفي، كما تدل عليه خطبة الزهراء «عليها السلام»، وكلام رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وكما يدل عليه استدلال ابن عمر، واعتذار عروة بن الزبير، اللذين دلا على أن الناس كانوا يقولون بهذه المقالة، ويسكنون إليها..

ويشير ذلك إلى أنهم كانوا يفهمون بنوتها على أنها بمعنى البنوة بالتربية، لا على الحقيقة.

ثم جاء البلاذري وغيره، فصرحوا بهذا الأمر، حين رأو أن الناس بدأوا يخطئون في فهم هذا التعبير.

ب: يفهم من قول المعترض: إن المسألة لو كانت تستحق البحث لخاض بها الأولون أن الخوض فيها ليس بحرام.. مع أنه حكم بحرمته في نفس كلامه الآنف الذكر، فلاحظه.

خامساً: يفهم من كلام المعترض: أن المانع من معالجة أهل البيت لهذه المسألة هو حرمة الخوض في نسب السيدات.. مع أن عدم خوض أهل البيت في هذه المسألة قد يكون لأجل أن الناس كانوا يعتقدون في حقهن نفس ما قاله الكوفي كما يشير إليه كلام ابن عمر، وعروة، والبلاذري، والزهراء «عليه السلام»، وغيرهم، وكان هذا هو الحق عندهم «عليهم السلام»، ولو كانت الحقيقة خلاف ذلك لبادر أهل البيت «عليهم السلام» إلى التصحيح.

سادساً: ما معنى أن يعتبر المعترض قضية تاريخية باعترافه ركناً ركيناً في تاريخنا، فأي دور لهذه القضية في هذا التاريخ حتى صارت بهذه المثابة؟! مع أنها ليست على حد بعثة رسول الله، ولا هي بمستوى فتح مكة، ولا حرب بدر والخندق، وخيبر، ولا هي مثل يوم الغدير، ولا.. ولا..

سابعاً: إن البنات لسن من أهل البيت، لا من الخمسة أصحاب الكساء، ولا من المعصومين الأربعة عشر.

ثامناً: هل إذا أراد إنسان أن يعرف من هو الذي أدعى النبوة في الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرناً لا يحق له أن يعرف من هو والد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أو من هو جده.. وإلى من ينتهي نسبه؟ وإذا وجد الناس مخطئين في نسب ذلك الشخص ألا يحق له إرشادهم إلى الحقيقة؟!

تاسعاً: قد دون المسلمون اختلافات أهل الأنساب في نسب رسول الله «صلى الله عليه وآله» وبلغ الأمر في هذه الاختلافات حداً خطيراً، فجاء الأمر النبوي لهم بالإمساك عن الخوض فيما بعد عدنان، فقال «صلى الله عليه وآله» ـ فيما روي عنه ـ: إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا([4]).

فهل هذه الإختلافات تعني الطعن في النسب الشريف؟! أم أنها تدل على عدم معرفة الناس بهذا الأمر، لأجل تقادم العهد.. واختلاط الأمر على الكثيرين؟!

فنسب النبي معلوم الطهارة بيقين، ونسب السيدات كذلك. ولكن الناس يجهلون الأسماء بسبب قصورهم أو تقصيرهم.

عاشراً: هل إذا قطع الباحث بنفي نسبتهن إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» يجوز له الخوض في النسب الشريف، وإذا لم يقطع لم يجز له الخوض فيه؟!

حادي عشر: من أين علم أننا غير قاطعين بالنفي، فإن الدليل الظني مفاده ظني، وحجيته قطعية.

فالظن بصحة الدليل لا ينافي القطع بحجيته، وبالمؤاخذة على مخالفة مفاده.


 

([1]) بنات النبي «صلى الله عليه وآله» لا ربائبه ص 98 و99.

([2]) بنات النبي «صلى الله عليه وآله» لا ربائبه ص102.

([3]) الصراط: المستقيم ج3 ص83.

([4]) راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» (الطبعة الرابعة) ج2 ص63 و (الطبعة الخامسة) ج2 ص141.

 

   
 
 

موقع الميزان