صفحة :316   

احتقار المفيد للكوفي:

وقال المعترض: «إن الشيخ المفيد يوجد في زمن أقرب من زماننا إلى أئمة أهل البيت. ويحيا بين أعلام السلالة الطاهرة، فليس من المعقول أن يغيب عنه هذه الحقيقة، وتكشف للكوفي، فيصفها بالشذوذ».

إلى أن قال: «ولكنه أغفى عنه، ولم ينفق عليه إلا لفظاً واحداً، وصفه به، وهو «شاذ». ألا يدل هذا على تفاهة صاحب المقولة، وضآلة شأنه، وضعف قوله. والسيد إن نفى العصمة عنه، فهي منفية أيضاً عمن تابعهم، واعتمد على أقوالهم»([1]).

وقال أيضاً مؤيداً ما زعمه من تفاهة شأن الكوفي، وكل ما ينسب إليه من أقوال: «فلو كان ذا أهمية لما تحاشى عن ذكر اسمه، ولقال: «فلان وأتباعه»، وها هو عندما يذكر قولاً شاذاً في الفرق ينسبه إلى قائله، ويخبر عنه، ويشرع في رده».

ثم ذكر أن تعبير العلماء عن بعضهم بكلمة «البعض» يخفي أمراً من نوع ما ثم قال: «وشاهدنا قول البخاري عن أبي حنيفة: «بعض الناس» لأنه كان يبغضه، فلا يحب (يحب) أن يذكر اسمه الصريح.

وأما عن جزمي وشكي في قصد المفيد الكوفي بالقول، فأقول: سواء قصده المفيد أو لم يقصده، وسواء جزمت أو شككت، فالقول منصرف إليه، لأنه أول من ابتدعه، كما سبق بيان ذلك.

ثم إن الوصف بالشذوذ لا ينصرف إلى شخص الكوفي، ولا أي وصف آخر من جنسه، بل ينصرف إلى رأيه طبعاً، وليس لنا عليه أي تحفظ. إنما التحفظ على مذهبه المليء بالمخاريق، ومنه القول بنفي سيداتنا المكرمات» ([2]).

ونقول:

أولاً: إن هذا المعترض قد أعطى القاعدة ثم طبقها بما يناقضها.. والأولى والأصح ـ وفق منطقه وقاعدته أن يقال: إن زمان الكوفي أسبق من زمان الشيخ المفيد رحمه الله، فلا يعقل ـ وفق منطق هذا المعترض ـ أن تخفى هذه الحقيقة على الكوفي، المتقدم زماناً والأقرب إلى أئمة أهل البيت، ثم تنكشف للمفيد، المتأخر زماناً، ليصح أن يصفها بالشذوذ؟! فهذه القاعدة تنتج: أن المفيد هو المخطئ، وأن الكوفي هو المصيب.

ثانياً: إن هذا المنطق يوصلنا إلى القول. بأن جميع الحقائق قد انكشفت للشيخ المفيد، فلا يحق لأحد مناقشته في أي شيء قاله. فهل يمكن أن يلتزم أحد بهذا؟!

ثالثاً: لا دليل على أن الشيخ المفيد قد قصد الكوفي بكلامه، بل قصد أولئك الذين قصدهم السائل بسؤاله، وهو إنما يسأل عن اختلاف واقع بين الناس يراه ويعيشه، أما الكوفي فقد مات وعمر المفيد ستة عشر سنة أو نحو ذلك.

رابعاً: ربما يقال: إن قول المفيد: «والمخالف شاذ بخلافه» يستبطن احتراماً لصاحب الرأي، حيث اقتصر على توصيف القول بأنه شاذ، ولم يتعرض لقائله بأي شيء. فدل ذلك على أنه يرغب بحفظه عن أي مساس به. وقد يوصف بالشذوذ في القول الكبير الجليل من العلماء، ولا يستوجب ذلك وصفاً له بتفاهة، ولا ضآلة.

خامساً: إننا لم ندع العصمة لأحد ممن تابع الكوفي، واعتمد على أقواله، ولم نعتمد على أقوالهم، بل اعتمدنا على النصوص والأدلة. التي لم نجدهم تعرضوا لها.

سادساً: بالنسبة للبخاري وأبي حنيفة، نقول:

إن استفادة موقف البخاري لم يكن من كلمة «بعض» بل من كلمة «الناس» في قوله «بعض الناس» حيث لم يقل: بعض العلماء مثلاً، فدل ذلك على أنه لا يريد تعظيمه، وربما أراد تحقيره أيضاً.

وأما دلالة ذلك على البغض، فغير ظاهر، ولا دليل عليه.

سابعاً: اعتاد العلماء على الإشارة إلى علماء آخرين مشهورين مشهود، لهم بأنهم من أساطين العلم بكلمة البعض.. وتلك هي الكتب والمؤلفات تشهد بذلك..

ولا يقاس الأمر بما جرت عليه عادة الشيخ المفيد في موضوع الفرق، فإن التحديد في الفرق بذكر الأسماء مطلوب ومؤثر فيما هو المقصود منها.

ولا يدل عدم ذكر الاسم على تفاهة الشأن، والسقوط.. كما أنه لا يعني وجود حقدٍ، ولا غيره.. ولا أقل من مراجعة الكتب التي تعنى بذكر الأقوال المختلفة، ككتب الفقه المطولة.

ثامناً: كيف يكون التعبير بكلمة البعض من دلائل السقوط وضآلة الشأن، ونحن نرى الآخند الخرساني في كفايته، وكذلك غيره، يقولون: وقال بعض الأساطين. أو بعض الأعاظم، فهل يجمعون بين المتناقضين في جملة واحدة؟!

تاسعاً: إن هذا المعترض يستدل على أن المفيد رحمه الله يقصد الكوفي بكونه أول من ابتدع هذا القول. ونقول له.

ألف: قد ذكرنا مرات كثيرة أنه ليس أول من قال بذلك.. فلا نعيد.

ب: إن ابتداعه لهذا القول لو صح، لا يلزم منه أن يكون مقصوداً للمفيد، بل المقصود هو من ذكرهم صاحب السؤال المقدم إلى المفيد.

ج: لا بد من الجمع بين قوله: سواء، قصده المفيد، أو لم يقصده. وبين قوله: إن المفيد تحاشى ذكر اسم الكوفي ليبين ضآلة شأنه.

عاشراً: كيف يقول: إن الوصف بالشذوذ لا يقصد به الكوفي، بل ينصرف إلى رأيه، وأنه ليس له أي تحفظ على رأي الكوفي، إنما التحفظ على مذهبه المليء بالمخاريق. فإن كان لا يتحفظ على رأي الكوفي، ويقبل به، ويرتضيه، فكيف يثني على من يصف رأيه بالشذوذ؟! ولماذا يحارب من يؤيد هذا الرأي؟! ولماذا ألف هذا الكتاب، ولم يزل يجهد لتفنيد هذا الرأي؟!

ولا يصح الإعتذار هنا بقول المعترض: إنه يعترض على مذهبه المليء بالمخاريق، ومنه القول بنفي السيدات الكريمات.

نعم، لا يصح ذلك، لأن هذه المسألة ليست جزءاً من مذهب الغلاة والمخمسة، فراجع كتب الفرق والمقالات.. بل هي ليست أمراً اعتقادياً ولا مذهبياً أصلاً، وإنما هي مسألة تاريخية تثبت، أو لا تثبت.


 

([1]) بنات النبي «صلى الله عليه وآله» لا ربائبه ص109.

([2]) بنات النبي «صلى الله عليه وآله» لا ربائبه ص111.

 
   
 
 

موقع الميزان