صفحة :427   

الأجنبيات في بيت النبي :

قال المعترض: «مرّت ثلاثة قرون على المسلمين ولا أحد منهم يشك بالسيدات الثلاث أنّهنّ بنات رسول الله من خديجة. وكان النبيّ، وهو سيد أهل الورع، يحيا معهنّ في بيت واحد حياة الأب مع بناته، لم ينكر أحد من وضعه معهنّ شيئاً، وجرت سيرة أهل البيت على هذا، فما من عبارة أو إشارة عن أحد منهم تدل على أنّهنّ لسن لرسول الله «صلى الله عليه وآله».

ولو كنّ ربائب لاختلف وضعهنّ مع أهل البيت، بل مع قريش قاطبة، باعتبارهنّ أجنبيّات.

والأجنبيّ مهما طال مكثه في بيت غيره لا بدّ من رجوعه ولو على شكل زيارة إلى أهله أو ذويه، ولا بدّ من وجود صلة ولو كانت كبيت العنكبوت مع هؤلاء الأهل، الذين هم أُولوا الأرحام، وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض، فلم يحدّثنا التاريخ الذي أحصى كل شاردة وواردة من حياة النبي وأهل بيته عن هؤلاء الربائب، كيف عزف ذووهنّ عن إلحاقهنّ بأنسابهم.

وهذا المطلّب بن هاشم يطوي الفيافي والقفار ليأتي بابن أخيه «شيبة الحمد» إلى بيته، ويرد الفرع إلى أصله، ويلحقه بنسبه الحقيقيّ من أخواله بني النجّار في المدينة.

وهذا الحارثة يجدّ ليله ونهاره بحثاً عن ولده زيد حتّى يقع عليه، ويحاول انتزاعه بشتى الوسائل لردّه إلى أهله، ومثله بشر كثير، لهم أعقاب في بيوت غيرهم، ولكن تأبى مروءتهم وسجاياهم التي تأبى منافيات المروآت، وتنأى عن الأوضاع الشاذة، فتتركهم على ما هم عليه حتّى يتبيّن لهم وضعهم الخاصّ.

فإمّا الإلتحاق بمن آواهم بالتبنّي وغيره من مقتضيات العرف السائد يومذاك، أو استرجاعهم.

لا يقال: بأن لأُنوثتهنّ دوراً في عدم الاهتمام بهنّ، لما عليه الوضع النسوي الشائن في أوساط الجزيرة.

لأننا نقول: ليس الوضع في امتهان المرأة إلى الدرجة التي يجفوها الأهل والأقربون عاماً»([1]).

وقال: «كما ونسألهم عن سرّ سكوت أهل البيت عن هذا التبني المدعى، فلم يذكره أحد منهم، سواء المعصوم أو من عداه، بل على العكس من ذلك لا تجد إلّا التنويه ببنوّتهنّ، ونسبهنّ المتصل بالنبيّ على الحقيقة واللزوم، فلم يعبّر عنهنّ واحد منهم بربائب، أو متبنّيات، أو غير ذلك عمرهنّ كله، في غيابهنّ والحضور.

وهكذا مضت أربعة قرون تجري على هذا المنوال، حتى نجم قرن أبي القاسم الكوفيّ في المائة الرابعة من تاريخ الإسلام، وأطلق هذه الفرية، فلم تنعكس آثارها على أهل البيت وشيعتهم، ولم يعبأ بها أحد منهم، أو من شيعتهم حتى تلقفها ناس على وتيرته، ومن أهل ملّته، مغالين غلوّه، فتتبعوا دعواه هذه، وتحدّثوا بها، وعلا الهمس، فصار صخباً، وتكلّم به الناس، وأي ناس هم أولئك الذين أيّدوا دعواه؟ إنّهم أتباعه الشاذّون، بل الشذاذ إن أردت الواقع»([2]).

ونقول:

أولاً: إن الشك واليقين هما من الأمور الوجدانية التي لا يعرفها إلا صاحبها، ولا يطلع عليها سوى علاّم الغيوب تبارك وتعالى، فمن أين علم المعترض أن أحداً من المسلمين لم يشك في بنوة السيدات لرسول الله «صلى الله عليه وآله» من خديجة طيلة ثلاث مئة سنة.

ثانياً: ألا يحتمل المعترض صحة نقل ابن شهرآشوب عن البلاذري، وصحة ما نقله الحاكم في مستدركه عن عروة بن الزبير؟! فضلاً عن صحة ما قاله ابن عمر، بالإضافة إلى العديد من الروايات المروية عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وما ورد في خطبة السيدة الزهراء «عليها السلام»، وسكوت الصحابة عن الإعتراض. وكذا ما روي عن الخصيبي والبلاذري، وغيرهم.. وغير ذلك من دلائل وشواهد؟! ألا يحتمل صحة شيء من ذلك. وكله يحكي لنا عمن عاش في الثلاث مئة سنة التي سبقت الكوفي.

فما معنى قول المعترض: «ما من عبارة أو إشارة عن أحد منهم. تدل على أنهن لسن لرسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!.

ثالثاً: بالنسبة لكون حياة النبي «صلى الله عليه وآله» مع البنات حياة الأب مع بناته. نقول: إن ذلك أيضاً لا يعرفه إلا من عاش في زمن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بل من عاش في داخل بيت رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولاحظ كيفية تعاطيه «صلى الله عليه وآله» معهن في داخل البيت.

رابعاً: إن كفالة النبي «صلى الله عليه وآله» للبنات، إنما هي حين يكنَّ بحاجة للكفيل، أما بعد أن كبرن، واستغنين عن الكفالة، فلا داعي لتواجدهن داخل بيته «صلى الله عليه وآله».

وقد صرحت الروايات: بأن أبا العاص، وابني أبي لهب قد تزوجوا بالبنات في الجاهلية.. مما يعني أن البنات خرجن إلى بيت الزوجية قبل وقت بلوغهن، فإن كبراهن، وهي زينب قد ولدت حسب قولهم قبل البعثة بعشر سنوات فقط.

وليس لدينا ما يشير إلى شيء من ذلك، سوى ما زعمته رواية طلاق ابني أبي لهب للبنات، ليثقلوا النبي «صلى الله عليه وآله» بهن، حين يتكلف إعالتهن.

ومع أن ذلك موضع ريب أيضاً، إذ لم تكن أموال أبي طالب، وكذلك أموال خديجة، لتضيق عن إعالتهن، كما أن إعالتهن لا تتوقف على عيشهن مع النبي «صلى الله عليه وآله» داخل بيت واحد، وتحت سقف واحد.

خامساً: أما أقارب البنات، وزيارة البنات لأولئك الأقارب، فليس لأحد أن ينفي حصول هذه الزيارات بصورة قطعية، إلا إذا كان يعيش في ذلك الزمان، ويراقب حركة البنات في زياراتهن لهذا ولذاك، وزيارة الأقارب لهن..

كما أن زيارة الأقارب ليست من الأحداث التي يهتم الناس بروايتها وتسجيلها، لكي يتساءل المعترض أو غيره عن مصير تلك الروايات، أو عن مكان وجودها.

هذا كله لو فرض أنه كان لهن أقارب، وكانت قرابة قريبة، تدعوهن إلى الزيارة.

سادساً: ليس صحيحاً أن التاريخ قد أحصى كل شاردة واردة عن حياة النبي «صلى الله عليه وآله»، أو عن أهل بيته.. فكيف يمكن ـ والحال هذه ـ أن تتوقع منه أن يؤرخ لغير النبي «صلى الله عليه وآله» بهذه الدقة والشمولية التي يطالب المعترض بها..

سابعاً: إن البنات لم ينسبن إلى غير آبائهن، ليحتاج ذلك إلى إعادة نسبتهن إلى آبائهن الحقيقيين، بل اقتصر الأمر على نسبتهن إلى من رباهن. والتأكيد على تربيته لهن وحسب، تشريفاً لهن بهذه النسبة، ممن كان على علم بالأمور.

أما الذين جاؤا بعد ذلك، وخفيت عليهم حال البنات، فقد بحثوا في النصوص حتى عرفوا الحقيقة التي لا ينكرها البنات، ولا يتنكّرن لها.

ثامناً: بالنسبة للمطلب وسعيه للإتيان بابن أخيه ليلحقه بنسبه من أخواله بني النجار، وسعى حارثة لاسترداد ولده زيد نقول:

ألف: ليس كل الناس يملكون من الشرف والسؤدد ما يدعوهم للسعي المماثل..

ب: إن قضية البنات لم تتضمن التنكر للنسب، لكي يحتاج أهلهن للسعي لاستعادتهن، بل تضمنت الحاجة المادية، والإضطرار لمساعدة الكافل.

ج: من الذي قال: إنه كان للبنات أهل قادرون على السعي لاستعادتهن، والقيام بكفالتهن؟.

تاسعاً: بالنسبة لسكوت أهل البيت عن الإشارة إلى كون البنات ربائب نقول:

قد لا تكون هناك ضرورة لبيان هذا الأمر من قِبَل الأئمة «عليهم السلام»، لكونه بديهياً عند الناس في زمنهم، ولذلك اعتذر عروة الزبير بهذا الأمر، كما قدمناه، وساغ لابن عمر أن يستدل على أقربية علي «عليه السلام» من النبي بأنه ختنه، وأعلنت الزهراء «عليها السلام»: إنها البنت الوحيدة لرسول الله «صلى الله عليه وآله».. ولم يعترض عليها أحد من الصحابة، فلم تكن هناك حاجة للتعبير عن البنات بكلمة ربيبات، ونحو ذلك.

وأما التنويه ببنوتهن، فلا شيء يثبت أنه كان على معنى انتسابهن الحقيقي إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، لا على معنى الإنتساب بالتربية. ولا سيما بملاحظة الأدلة التي ذكرناها..

عاشراً: إن المعترض تارة يقول: مرت أربعة قرون حتى نجم قرن أبي القاسم الكوفي، وأخرى يقول: مرت ثلاثة قرون، فأي ذلك هو الصحيح عند المعترض؟! على أن الكوفي قد جاء بعد مرور ثلاثة قرون، لا أربعة فإنه توفى في أواسط القرن الرابع. وذلك في زمن الغيبة الصغرى، ثم الكبرى.

حادي عشر: تقدم أن هذا الأمر لم يكن فرية من أبي القاسم، بل سبقت الإشارة إليه في العديد من الروايات عن النبي «صلى الله عليه وآله»، وعن الزهراء «عليها السلام»، ثم ذكره وقرره عدد آخر من المعروفين كابن عمر، وعروة، و البلاذري وغيرهم ممن أشار إليهم الخصيبي.

ثاني عشر: إن القائلين بأن البنات ربائب لا ينحصرون بالغلاة، ولا بأتباع الكوفي الشاذين، أو الشذاذ!! أي أن فيهم من هو مثل الكراجكي، والمقدس الأردبيلي، وكاشف الغطاء، وآل يس، والمقدسي، والكاظمي، والطريحي، والجزائري، والمقريزي و.. و.. الخ..

ثالث عشر: إن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يتبن البنات الكريمات، وإنما كفلهن، واهتم بتربيتهن. وقد ربى الأئمة الكثيرين من أبناء الشهداء، ولم يتحدثوا عنهم بشيء. وكان الإمام السجاد «عليه السلام» يعول مئة أهل بيت، ولم يحدثنا عنهم شيء.


 

([1]) بنات النبي «صلى الله عليه وآله» لا ربائبه ص 144و145.

([2]) بنات النبي «صلى الله عليه وآله» لا ربائبه ص 146 و147.

 
   
 
 

موقع الميزان