صفحة :247  

ليدلنا السيد على رواية واحدة:

طلب المعترض منا أن ندله على رواية واحدة تقر الكوفي على دعواه، حتى لو كانت أدنى من مستوى الضعيف..

ونقول:

أولاً: إننا لا نستطيع أن نوافقه على تأكيداته الجازمة بكذب الكوفي فيما نسبه إلى الروايات التي صحت عنده عن الأئمة «عليهم السلام»، فإن هذا الرجل وإن كان قد انحرف وفسد مذهبه في آخر عمره.. ولكنه كان قبل ذلك على جادة الإستقامة، وهو رجل له تآليف كثيرة ومشهورة، ومتداولة. ولعلها تزيد على خمسين كتاباً ذكر النجاشي «رحمه الله» أسماءها في رجاله..

ولم نجد أحداً من العلماء ممن جاء بعده ـ وكانت كتبه متداولة بينهم ـ أشار إلى كذبه في هذا الذي نسبه إلى الأئمة.. بل لم نجد أحداً ناقشه أو اتهمه بالكذب في هذا الأمر الذي يخالف فيه جل الأمة أو كلها، على حد تعبير المعترض..

ثانياً: من الروايات التي تدل على أن البنات لسن بنات رسول الله «صلى الله عليه وآله» على الحقيقة بل هن بناته بالتربية نذكر ما يلي:

ألف: روي عن أبي الحمراء: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال لعلي: «يا علي، أوتيت ثلاثاً، لم يؤتهن أحد ولا أنا: أوتيت صهراً مثلي، ولم أوت أنا مثلي. وأوتيت صديقة مثل ابنتي، ولم أوت مثلها (زوجة)، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك، ولم أوت من صلبي مثلهما. ولكنكم مني وأنا منكم([1]).

وقريب منه ما روى عن أبي ذر مرفوعاً([2]).

فلو كان ثمة من له صهر مثل رسول لله «صلى الله عليه وآله» غير علي «عليه السلام»، لم يصح أن ينفي النبي هذه الخصلة عن كل أحد، لا سيما وأن هذا الكلام قد جاء بعد ولادة الحسنين «عليهما السلام»، وكان عثمان قد تزوج بالبنتين الكريمتين..

ب: روى البخاري: أن رجلاً قال لابن عمر: فما قولك في علي وعثمان؟!

قال: أما عثمان فكان الله قد عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه.

أما علي فابن عم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وختنه ـ وأشار بيده ـ فقال: وهذا بيته حيث ترون([3])..

فدفاع ابن عمر عن عثمان اقتصر على أن الله قد عفا عنه حين فر يوم أحد، لكن الخارجين عليه لم يعفوا عنه بل قتلوه. ولم يشر إلى أنه كان ختن رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

ولكنه وصف أمير المؤمنين علياً «عليه السلام» بأنه ابن عم رسول الله «صلى الله عليه وآله» وختنه، وبأن بيته ضمن بيوت النبي «صلى الله عليه وآله»..

فلو كان عثمان ختناً لرسول الله «صلى الله عليه وآله» أيضاً، لكان الإستدلال به له أولى من الإستدلال بدليل ضعيف، وهو عفو الله عنه حين فر في أحد([4])..

ج: إن الزهراء «عليها السلام» حين خطبت المهاجرين والأنصار بعد استشهاد أبيها «صلى الله عليه وآله».. أشارت إلى هذا الأمر، حيث قالت:

«فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نساءكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه»([5])..

فلو كانت زوجتا عثمان بنتي رسول الله «صلى الله عليه وآله» على الحقيقة، لكان عثمان، وغيره من الناس اعترضوا عليها: بأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان أباً لزوجتيه: رقية وأم كلثوم. وكذلك الحال بالنسبة لأبي العاص بن الربيع، فإن النبي ـ حسب زعمهم ـ كان أبا زوجته أيضاً..

د: هناك رواية أوردها الحاكم في مستدركه، ووصفها بأنها صحيحة على شرط الشيخين، تتضمن اعتراض الإمام السجاد «عليه السلام» على عروة بن الزبير، حين زعم أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال عن زينب: هي أفضل بناتي، أصيبت فيّ، موضحاً: إنه يريد بكلامه هذا أن يتنقص من مقام فاطمة الزهراء «عليها السلام»..

فأنكر عروة ذلك.. ثم اعتذر بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد وصف زينب بأنها ابنته قبل نزول قوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ، إذ بعد نزول هذه الآية لم يكن النبي «صلى الله عليه وآله» ليعبر عن زينب وأختيها بأنهن بناته..

والرواية هي التالية:

قال الحاكم: أخبرني أحمد أبو بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي بمرو، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأنا يحيى بن أيوب، حدثني ابن الهاد، حدثني عمرو بن عبد الله، بن عروة بن الزبير، عن عروة بين الزبير، عن عائشة زوج النبي «صلى الله عليه وآله»:

أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة، أو ابن كنانة، فخرجوا في أثرها، فأدركها هبار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها، وأهريقت دماً.

فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية، فقالت بنو أمية: نحن أحق بها، وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص. فكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة.

فكانت تقول لها هند: بسبب أبيك.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» لزيد بن حارثة: ألا تنطلق تجيئني بزينب؟!

قال: بلى يا رسول الله.

قال: فخذ خاتمي.

فأعطاه إياه، فانطلق زيد، وبرك بعيره، فلم يزل يتلطف حتى لقي راعياً، فقال: لمن ترعى؟!.

فقال: لأبي العاص.

فقال: فلمن هذه الأغنام؟!

قال: لزينب بنت محمد.

فسار معه شيئاً، ثم قال له: هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيه إياها، ولا تذكره لأحد؟!

قال: نعم.

فأعطاه الخاتم. فانطلق الراعي، فأدخل غنمه، وأعطاها الخاتم، فعرفته، فقالت: من أعطاك هذا؟!

قال: رجل.

قالت: فأين تركته؟!

قال: بمكان كذا وكذا..

قال: فسكتت، حتى إذا كان الليل خرجت إليه. فلما جاءته قال لها: اركبي.. بين يديه على بعيره.

قالت: لا، ولكن اركب أنت بين يدي، فركب، وركبت وراءه حتى أتت.

فكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: هي أفضل بناتي أصيبت فيّ.

فبلغ ذلك علي بن الحسين، فانطلق إلى عروة، فقال: ما حديث بلغني عنك تحدثه، تنتقص فيه حق فاطمة؟!

فقال: والله، ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها. وأما بعد ذلك، فلك أن لا أحدث به أبداً.

قال عروة: وإنما كان هذا قبل نزول آية: ﴿ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ﴾([6])..».

هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه([7]).

ونلاحظ هنا ما يلي:

1 ـ إن الكثيرين قد رووا هذه الرواية، ومنهم من رواها عن الحاكم نفسه، ولكنهم حذفوا هذا الذيل الذي هو محل الشاهد. ربما لأنهم أدركوا معناه، فلم يرق لهم أن يتداوله الناس..

2 ـ صرح الحاكم بأن هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين، ولم ينكر ذلك الذهبي أيضاً، ولكنه قال: إنه حديث منكر، فلماذا صار هذا الحديث منكراً عند الذهبي يا ترى؟! إن الفطن الذكي يدري. وهذا القدر من التلميح يغني عن التصريح لمن عرف طريقة الذهبي، وطبيعته..

3 ـ في اعتقادي: أن ما رواه البخاري والحاكم وسواهما من رجال الحديث، المعروفين بمخالفتهم لمنهج أهل البيت «عليهم السلام»، وفيهم من هو مهتم بإبطال أمرهم، وتشييد دعائم الخط المناوئ لهم ـ إن ما رواه هؤلاء مما دل على أن البنات ربيبات ـ لهو الدليل والحجة الأقوى، لأنه يمثل اعترافاً بأمر يجهدون في إنكاره وتهجينه، وتجهيل الناس به..

وثمة روايات وشواهد أخرى أوردناها في كتابنا: بنات النبي «صلى الله عليه وآله» أم ربائبه، وكتابنا الآخر: القول الصائب.. فلتراجع..


 

([1]) الغدير للأميني ج2 ص312 وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي «عليه السلام» لابن الدمشقي ج1 ص209 وشرح إحقاق الحق ج15 ص649 وج30 ص360 و الأسرار الفاطمية للشيخ محمد فاضل المسعودي ص397.

([2]) ينابيع المودة ص255 وإحقاق الحق (قسم الملحقات) ج7 ص18.

([3]) صحيح البخاري (ط سنة 1309) ج3 ص68 و (ط دار الفكر سنة 1401هـ) ج5 ص157 و 200 وعمدة القاري ج18 ص109 و 251 وتغليق التعليق لابن حجر ج4 ص179والبحار ج39 ص29 ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج2 ص38 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص192 وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج1 ص234.

([4]) لعل عفو الله كان لأجل التأليف والتقوية في مقابل العدو، ولم يكن هذا الأمر قائماً بالنسبة لعفوهم عن عثمان بعد ذلك. وأيضاً لعله أحدث بعد ذلك ما استحق به العقوبة من غير عفو.. ولأن العفو عن عثمان في أحد يبقى مشكوكاً فيه، لأنه مشروط بالتوبة، ولا يمكن التأكد من حصولها من عثمان، الذي استمر فراره ثلاثة أيام.

([5]) الإحتجاج للطبرسي ج1 ص135 وشجرة طوبى للحائري ج2 ص380 ومجمع النورين ص129 وشرح الأخبار ج3 ص35 ودلائل الإمامة ص114 والبحار ج29 ص224 و 236 والسقيفة وفدك للجوهري ص142 وأعيان الشيعة ج1 ص316 والدر النظيم لابن حاتم العاملي ص470 وكشف الغمة للإربلي ج2 ص111.

([6]) الآية 5 من سورة الأحزاب.

([7]) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج2 ص202 وج4 ص43 و44 وصححه على شرط الشيخين، وتلخيص المستدرك للذهبي، مطبوع مع المستدرك، وقال: إنه حديث منكر، وذخائر العقبى ص158 والذرية الطاهرة النبوية للدولابي = = ص72. وراجع: فتح الباري ج7 ص82 و85.

وأخرجه بدون الذيل أو معه في المصادر التالية: الآحاد والمثاني للضحاك ج5 ص372 و373 والتاريخ الصغير للبخاري ج1 ص33 وتاريخ مدينة دمشق ج3 ص148 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص122 والبداية والنهاية ج3 ص400 والسيرة النبوية لابن كثير ج5 ص518 والسيرة الحلبية ج2 ص453 ومجمع الزوائد ج9 ص212 و213 وقال: رواه الطبراني في الكبير وفي الأوسط بعضه. ورواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، وحياة الصحابة ج1 ص379 عن المجمع، وتاريخ الخميس ج1 ص274 ومختصر تاريخ دمشق ج2 ص267 ومشكل الآثار ج1 ص45.

 
   
 
 

موقع الميزان