الفصل الأول
قواعد ومناهج..
بـدايـة:
قبل الشروع في استعراض مقولات هذا البعض على مختلف
الصُعد الدينية، والفقهية، والأصولية، والعقائدية، والتفسيرية، وغيرها،
أحببت أن أعطي القارئ الكريم لمحة عن الطريقة الفكرية والمنهج
الإستنباطي الذي ارتضاه هذا البعض لنفسه، ليكون لديه هو الآخر صورة عن
هذا المنهج، فإن ذلك سيساعده على فهم كثير من الأمور التي سترد عليه في
أقسام الكتاب المختلفة، إذ لا ريب أن أولى الأولويات في سياق الهدف
الذي ننشده من وراء الكتاب هو إحاطة القارئ الكريم بضوابط البحث وقواعد
الإستدلال التي يعتمدها البعض ليسهل عليه بعد ذلك، وفي كل مورد مورد،
تطبيق ما عرفه من قواعده وضوابطه ـ إن صح تسميتها ضوابط ـ وليتضح له:
أن الأمر ليس مجرد فلتة لسان هنا، أو زلة هناك، بل إن هناك منهجاً
كاملاً مضطرب الأركان مختل الركائز، قد نسج من شذوذ في بعض سماته، ومن
شبهات في بعضها الآخر، ومن أباطيل وتزييفات في عمدة ملامحه حتى غدا
مخلوقاً عجيباً لا تجد له نظيراً في فكر مفكر أو منهج مذهب من المذاهب،
لا يراد به إلا خدمة غرض معيّن يعلمه الله تعالى، ونحن بفضل الله
نعلمه، فعسى القارئ الكريم أن يعلمه أيضاً، فإلى ملامح هذا المنهج في
العناوين التالية:
إننا فيما يرتبط بالمنهج الإستدلالي لذلك البعض، نكتفي
بذكر النقاط التالية:
5 ـ
العمل بالقياس عند الحاجة ولو في مسألة واحدة.
6 ـ
النهي عن القياس لأجل عدم الحاجة إليه.
«إنه لا مانع عند البعض من العمل بالقياس وغيره من
الطرق الظنية في أي مورد لا يجد في الكتاب وفي الحديث، ما يفيد في
إنتاج الحكم الشرعي. على اعتبار أن نهي الأئمة عن العمل بالقياس إنما
هو بسبب عدم الحاجة إليه. فإذا احتاج الناس إليه ولو في مسألة واحدة
فلا مانع من العمل به»([1]).
وقد صرّح بذلك في كتابه تأملات في آفاق الإمام
الكاظم «عليه السلام»، كما سنرى.. مع أن ما ورد عن أئمة أهل البيت
«عليهم السلام» من النهي الصحيح والصريح عن القياس لا مجال للنقاش فيه،
وهو معروف من مذهب الشيعة الإمامية..
ونختار بعض ما كتبه ذلك البعض حول موضوع القياس، فهو
يقول:
«جاء في الحديث عن الإمام موسى الكاظم «عليه السلام» ما
رواه المفيد بسنده عن الحسن بن فضال، عن أبي الفراء، عن سماعة، عن
العبد الصالح:
سألته، فقلت: إن أناساً من أصحابنا قد لقوا أباك وجدّك
وسمعوا منهما الحديث، فربما كان شيء يبتلى به بعض أصحابنا وليس عندهم
في ذلك شيء يفتيه، وعندهم ما يشبهه، يسعهم أن يأخذوا بالقياس؟!
فقال: لا، إنما هلك من كان قبلكم بالقياس.
فقلت له: لم لا يقبل ذلك؟!
فقال: لأنه ليس من شيء إلَّا جاء في الكتاب والسنة.
إن هذا الحديث يوحي: بأن رفض القياس كان بسبب عدم
الحاجة إليه لشمولية الكتاب والسنة لكل ما يحتاجه الناس من الأحكام
الشرعية في شؤون الحياة العامة والخاصة بحيث يمكنهم أن يجدوا فيها
المعالجة الخاصة للقضايا الجزئية، والمعالجة العامّة للقواعد الكليّة
المنفتحة على أكثر من موقع.. فيكون الرجوع إلى القياس رجوعاً إلى ما لا
ضرورة له، بالإضافة إلى أنه لا يملك أساساً للحجيّة، لأنه يعتمد على
الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، لا سيّما أن علل التشريع قد لا تكون
واضحة وضوحاً كلّياً بالمستوى الذي يستطيع الإنسان أن يدرك معه أساس
التشريع في هذا المورد بشكل قطعي، ليستنتج من ذلك حكم المورد الآخر
الذي يشابهه، فقد يدرك الإنسان جانباً من المدرك، ويغفل عن الكلية التي
تزن الأمور بميزان دقيق، حيث يختلف في الموضوع حسب الإنطباعات الذاتية
في فهمهم لأسرار الحكم والموضوع معاً».
إلى أن قال:
«وقد ورد في بعض الروايات: أن الإمام موسى الكاظم سأل
أبا يوسف عندما سأله عن الفرق بين التظليل للمحرم في الركوب وفي
النزول، فقال له: ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة؟!
قال: لا.
قال: فتقضي الصوم؟!
قال: نعم.
قال: ولم؟!
قال: هكذا جاء.
فقال أبو الحسن: وهكذا جاء هذا.
وهذا الذي أراد أهل البيت أن يؤكدوه، وهو أن دين
الله لا يصاب بالعقول، لأن العقول تدرك بعض الأمور، ولكنها قد تغفل عن
إدراك البعض الآخر مما يوحي بأن الحكم الشرعي لم يستكمل ملاكه بشكل
دقيق وهذا ما نلاحظه في اختلاف الحكم في بعض الموارد المتشابهة في أكثر
من وجه كما في الصلاة والصوم اللذين تجمعهما الناحية العبادية، ولكن
حكمهما في القضاء مختلف، وهكذا أمر الله في كتابه بالطلاق وأكد فيه
شاهدين ولم يرض بهما إلّا عدلين، وأمر في كتابه بالتزويج وأهمله بلا
شهود.
وربما نستفيد من الحديث الأول الذي يؤكد عدم الحاجة إلى
القياس لوفاء الكتاب والسنة بجميع الأحكام: أن الأمر لو لم يكن كذلك
بحيث كانت هناك حاجة ملحة إلى معرفة الحكم الشرعي لبعض الأمور ولم يكن
لدينا طريق إلى معرفته من الكتاب أو السنة، فإن من الممكن أن نلجأ إلى
القياس أو نحوه من الطرق الظنية في حال الإنسداد انطلاقاً من أن
الإعتماد على الطرق الظنية العقلائية أو الشرعية كان مرتكزاً على
الحاجة إليها لإدارة الشؤون العامة للناس بحيث لولاها لاختل نظام
حياتهم، لأن العلم وحده لا يكفي في ذلك، ولكننا قد لا نحتاج إلى ذلك،
لأن في القواعد العامة كفاية، ولأن في توسعة الإستظهار بإلغاء الخصوصية
التي تجمد الحكم في مورد خاص من جهة الفهم العرفي الذي لا يجد للخصوصية
أساساً في الحكم ونحو ذلك»([2]).
ويقول أيضاً:
«إننا نتصور أنه لا بد لنا من أن ندرس هذه الأمور دراسة
أكثر دقّة وأكثر حركية باعتبار أننا نستطيع في حال استنطاق الحكم
الشرعي الوارد في هذا المورد ـ نستطيع ـ أن نصل إلى اطمئنان في كثير من
الحالات من خلال دراستنا لعمق الموضوع الذي نحيط به من جميع جهاته
مقارناً بموضوع آخر مشابه له في جميع الحالات مما يجعل احتمال
اختلافهما في الحكم احتمالاً ضعيفاً بحيث لا تكون المسألة ظنية بالمعنى
المصطلح عليه للظن، بل قد تكون المسألة تقترب من الإطمئنان إن لم تكن
اطمئناناً، إن المشكلة هي أن الدراسة الأصولية والفقهية تؤطر ذهنية
الإنسان في هذه الدائرة الضيقة. ومن هنا ينشأ الإنسان وفي قلبه وحشة من
أن يمد الحكم الثابت لموضع إلى أمثاله، لأن ما أسميه لغة القياس التي
تألفها الذهنية الشيعية تجعل كل شيء قياساً عندهم حتى ولو كان الإحتمال
احتمالاً بعيداً جدّا، لأنهم إذا لم يستطيعوا أن يشيروا إلى خصوصية
الإحتمال في مضمونه، فإنهم يطلقون الإحتمال في المطلق ويقولون: إن الله
اعلم بالخصوصيات ونحن لا طريق لنا إلى معرفتها بحيث يغلقون الباب على
أي استيحاء واستلهام للملاك الشرعي.
حتى إننا نجد بعض الأصوليين عندما يتحدثون عن مورد من
الموارد التي كانت متعلقة بالأمر الذي يكشف عن وجود ملاك ملزم في
الموضوع، فإننا نراهم أنهم إذا حدث هناك أي عنوان يسقط الأمر؛ إمّا من
جهة عدم القدرة، أو من أي جانب من الجوانب، أو من جهة التزاحم بأمر آخر
أهم مثلاً، بحيث يصبح الموضوع من دون أمر، فإنهم يقولون: إنه لا يمكننا
أن نتقرب، إذا كان المورد مما يتقرب به إلى الله بالملاك عينه، لأننا
لا نحرز وجود الملاك إلا من خلال الأمر، فإذا سقط الأمر ولو من خلال
أشياء أخرى طارئة خارجية عن ذات الموضوع، فإننا لا نحرز الملاك، ولذلك
فنحن لا نستطيع أن نعتبر هذا الموضوع واجداً للملاك الشرعي بحيث نرتب
عليه آثار أي موضوع وارد من ملاكه، فيما هي من آثار الملاك.
ما نتصوره:
أن علينا أن نعيد دراسة الأحاديث التي وردت في رفض القياس عن أئمة أهل
البيت «عليهم السلام»، لأن الواضح: أن بعض القضايا التي رفض فيها نقل
الحكم من موضوع إلى موضوع آخر كانت منطلقة من أن السائل اعتقد الملاك
في جانب مقاس بينما كان الملاك شيئاً آخر لا يسمح بهذا القياس، لأنه لا
يحقق عناصر القياس كما نلاحظ في رواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله
الصادق «عليه السلام» قال: «قلت له: ما تقول في رجل قطع إصبعاً من
أصابع المرأة؟!
قلت: كم فيها؟!
قال: عشر من الإبل.
قلت: قطع اثنتين.
قال: عشرون.
قلت: قطع ثلاثاً.
قال: ثلاثون.
قلت: قطع أربعاً.
قال: عشرون.
قلت: سبحان الله، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون،
ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ
ممن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان؟!
فقال: مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول الله «صلى الله
عليه وآله» إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت
إلى النصف.
يا أبان إنك أخذتني بالقياس. والسنّة إذا قيست محق
الدين».
«إذاً تنطلق المسألة من جانب آخر، لا من جانب العدد
بالمقام، وإنما من جانب طبيعة مشاركة المرأة في العقل الديتي (أي
الدية) التي تتحملها العاقلة، فالقضية لها جانب آخر هو تصور الملاك في
جانب ولكن هناك ملاك آخر في جانب آخر، ربما نجد بعض الحالات التي لا
مجال فيها حتى للقياس، كما في قضية قضاء الصوم بالنسبة إلى ذات العادة
وعدم قضاء الصلاة وهكذا.. إنني أتصور أن ثمّة مسلّمات درج عليها
الأصوليون والفقهاء في الحكم الشامل بالنسبة إلى القياس.
ويمكننا أن نعيد النظر فيها، فلعلنا نكتشف شيئاً
جديداً. وفي هذا الإطار، لا بد من الإلفات إلى أحد محفزات العمل
بالقياس عند بعض المذاهب، وهو انطلاقه من ضرورة معرفة الأحكام مع قلة
الأحاديث الصحيحة، فلجأ هذا البعض إلى القياس لملء الفراغ كما حصل مع
الإمام أبي حنيفة الذي كان أول من نظّر للقياس وعمل به، إذ لم يصح عنده
من أحاديث النبي «صلى الله عليه وآله» إلّا ثمانية عشر حديثاً حسب ما
أذكر.
بمعنى أنه لا يملك أي مصدر لاستنباط الحكم الشرعي، وهذا
ما نعبر عنه بانسداد باب العلم والعلمي، ومن الطبيعي أنه إذا انسد باب
العلم بالأحكام أو باب الحجج الخاصة، أي ما يعبر عنه بالعلمي، فإننا لا
بد أن نرجع إلى حجية الظن على بعض المباني، كمبنى الكاشفية، بمعنى أن
العقل يحكم بذلك عند فقدان كل الوسائل لمعرفة الحكم الشرعي مع وجود علم
إجمالي بوجود حكم شرعي لم يسقط. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يجعل
الله حجة ويكون الظن حجة، وعند ذلك يكون القياس أقرب الحجج من هذا
الموضوع.
ومن خلال هذا نفهم:
أن مسألة رفض القياس لدى أئمة أهل البيت «عليهم السلام» قد يكون
منطلقاً من أن هناك أحاديث في السنة الشريفة واردة بشكل واسع جداً لا
يحتاج فيه إلى القياس، لأن باب العلم مفتوح من جميع الجهات مثلاً، سواء
أكان من خلال القواعد العامة أم من خلال النصوص الخاصة»([3]).
ونعتقد:
أن فساد القياس في مذهب أهل البيت «عليهم السلام» أشهر من أن يحتاج إلى
بيان أو إقامه برهان..
7 ـ
سيرة العقلاء تشرع للإنسان المسلم أحكامه.
8 ـ
بناء العقلاء يشرع للمسلم أحكامه.
ويقول البعض:
«لا نتحدث عن منهج جديد، فالمنهج هو المنهج، وهو
الإنطلاق من كتاب الله، وسنة نبيه «صلى الله عليه وآله»، وما استوحى
الفقهاء والأصوليون منهما في عملية تقعيد الفقه أو ما انفتح فيه
الفقهاء على بناء العقلاء وسيرة العقلاء، باعتبارهما المصدرين اللذين
لا يشرعان للمسلم أحكامه فحسب، ولكنهما قد يطلان على جانب من جوانب
السنة التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره»([4]).
ونقول:
ظاهر العبارة:
أن بناء العقلاء وسيرتهم لهما مهمتان:
الأولى: أنهما يشرعان للمسلم أحكامه.
والثانية: أنهما قد يطلان على قول المعصوم وفعله
وتقريره.
فهو إذن، يرى لبناء ولسيرة العقلاء حق التشريع،
استقلالاً، تارة، وبإمضاء المعصوم أخرى، بقرينة قوله الأخير: قد يطلان
على جانب.. الخ.
ولكننا نلاحظ:
أنه قد أسهب في باقي كلامه الذي لم ننقله في الحديث عن
الشق الثاني، وربّما أمكنه بذلك أن يدّعي أن هذه كانت زلة لسان، لا
تعبيراً صادقاً عمّا في الجنان؟!
9 ـ
ربط الناس بالعقل أغنى عن النبوّة.
ويقول البعض في جواب على سؤال:
لماذا تتغير النبوّات، ولماذا اختتمت بالإسلام بالمعنى
المصطلح؟!
الجواب:
«انطلقت النبوات من خلال حاجات الناس إلى خطوطها
ومفرداتها العامّة، ثمّ تطورت حاجات الناس، فانطلقت نبوّات جديدة حتى
كان الإسلام الذي ربط الناس بالعقل، وبالخطوط العامّة ليستطيعوا من
خلاله أن يطوّروا حياتهم بحيث لا حاجة بعد ذلك إلى نبوّة جديدة»([5]).
10 ـ
النصوص المتوافقة مع ذهنيات المجتمعات القديمة هي سبب الخطأ.
ونجده يصف النصوص الإسلامية التي كان الفقهاء يتحركون
في دائرتها: بأنها متوافقة مع الذهنية الإجتماعية التي كانت سائدة في
العصور السابقة.. ويعتبر ذلك: هو السبب في عدم كون المعرفة على هذه
الدرجة من الصحة، فهو يقول معللاً سبب حصول المعرفة الأصح بالنسبة
للنظرة الإسلامية حول المرأة:
«ربما يعود ذلك إلى الآفاق الجديدة التي فتحت في
العالم، الأمر الذي جعل العلماء يفكرون في الجانب الآخر من الصورة، وقد
كانوا مستغرقين في الجانب الوحيد الذي عاشوه في دائرة مجتمعهم وفي
دائرة النصوص المتوافقة مع الذهنية الإجتماعية السائدة»([6]).
11 ـ
الحكم الشرعي يتغير تبعاً لتغير الاجتهاد.
يقول البعض:
«..إنه يعني الرأي المستمدّ من القواعد الشرعية في
فهم النصوص الدينية في الكتاب والسنة.. فيما يفهمه المجتهد منها، وفيما
يستوحيه مما ينسجم مع أجواء النص وإيحاءاته، فلا يمكن له أن يعطي رأياً
في مقابل النص، أو يضع حكماً لم يرد به نص، ولم تفرضه قاعدة فقهية
مستمدة من الكتاب والسنة.. حتى العقل الذي اعتبره بعض المجتهدين دليلاً
من أدلة الأحكام.. لا بد له أن يتحرك في نطاق الأفكار القطعية التي لا
يقترب إليها الشك فيما يستفيده من ملاكات الأحكام.. فلا مكان للحكم
العقلي الظني في ذلك من قريب ومن بعيد..
إن الاجتهاد الإسلامي.. هو اجتهاد في فهم الإسلام..
وليس اجتهاداً ذاتياً يستمد أفكاره من حركة الواقع.. ولا مانع من أن
يتغير الحكم الشرعي تبعاً لتغيّر الإجتهاد.. ولكن تغير الاجتهاد لا
يخضع للتغييرات الحاصلة من الخارج، بل من خلال اكتشاف خطأ في الإجتهاد
السابق.. على أساس خلل في فهم النص أو تطبيقه.. أو في قاعدة شرعية
هنا.. ربما لا يكون لها مجال في هذا المورد أو ذاك، لأن قاعدة شرعية
أخرى.. هي الأولى في هذا الموضع.. أو ذاك.. وعلى ضوء ذلك.. يبقى
الإجتهاد متحركاً، في نطاق حدود علمية معينة تحفظه عن الإنحراف وتصونه
عن الزلل.. وتحركه في اتجاه الاكتشاف الأمين للحكم الشرعي الذي أنزله
الله في كتابه، أو أوحى به إلى نبيه.. فلا مجال لتطوير الإسلام من خلال
الإجتهاد.. بل كل ما هناك.. أن نجتهد في دراسة مدى انسجام خطوات تطور
الإسلام في التشريع، أو ابتعادها عنه.. لنحدد موقفنا من ذلك على هذا
الأساس.. لأن حكم الله هو القاعدة للحياة، وليست القضية بالعكس»([7]).
إن نظرية التصويب في الإجتهاد التي يقول بها جمهور
علماء السنة مرفوضة عند الشيعة، ويرونها نظرية باطلة من الأساس.
والمُراجع لكلمات القائلين بالتصويب الباطل يجدهم
فريقين:
أحدهما يقول:
إنه ليس في الواقعة حكم أصلاً، بل الله ينشئ الحكم وفق اجتهاد المجتهد
وظنه، فيتعدّد الحق بتعدد المجتهدين.
الثاني يرى:
أن كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق مع واحد، وهو الذي وافق اجتهاده الحكم
الواقعي الذي جعله الله، فلله سبحانه وتعالى حكم واقعي، لكن إذا أدى ظن
المجتهد إلى حكم مخالف له فإن الله سبحانه تعالى ينشئ حكماً على وفق
ظنه واجتهاده، فيصير المجتهد بذلك مصيباً، وإن كان قد أخطأ الحكم
الواقعي.
ومن تصريحاتهم الدالة على ما يذهبون إليه من التصويب:
1 ـ
قول الشهاب الهيثمي في شرح الهمزية على قول البوصيري عن الصحابة: «كلهم
في أحكامه ذوو اجتهاد ـ أي صواب ـ وكلهم أكفاء».
2 ـ
وعن العنبري في أشهر الروايتين عنه: «إنما أصوب كل مجتهد في الذين
يجمعهم الله، وأما الكفرة فلا يصوبون»([8]).
3 ـ
وقال الشوكاني: «ذهب جمع جمّ إلى أن كل قول من أقوال المجتهدين فيها،
(أي في المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها) حق، وأن كل واحد منهم
مصيب، وحكاه الماوردي والروياني عن الأكثرين، قال الماوردي: «وهو قول
أبي الحسن الأشعري والمعتزلة».
إلى أن قال:
وقال جماعة منهم أبو يوسف: إن كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق مع واحد،
وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي مثله.
إلى أن قال:
فمن قال: كل مجتهد يصيب، وجعل الحق متعدداً بتعدد المجتهدين فقد أخطأ»([9]).
4 ـ
وقال حول حجية الإجماع: «فغاية ما يلزم من ذلك: أن يكون ما أجمعوا عليه
حقاً، ولا يلزم من كون الشيء حقاً وجوب اتباعه؛ كما قالوا: إن كل مجتهد
مصيب، ولا يجب على المجتهد الآخر اتباعه في ذلك الاجتهاد بخصوصه»([10]).
5 ـ
وقال الأسنوي حول الإجتهاد في الواقعة التي لا نص عليها: «فيها قولان:
أحدهما:
أنه ليس لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم معين بل حكم الله تعالى فيها
تابع لظن المجتهد. وهؤلاء القائلون: بأن كل مجتهد مصيب، وهم الأشعري،
والقاضي وجمهور المتكلمين الأشاعرة والمعتزلة إلخ..»([11]).
ونقل عن الأئمة الأربعة ـ ومنهم الشافعي ـ التخطئة
والتصويب فراجع([12]).
وحين يقول هذا البعض:
لا مانع من أن يتغير الحكم الشرعي تبعاً لتغيُّر الاجتهاد، مع تصريحه
بوجود حكم واقعي أخطأه من أخطأه وأصابه من أصابه، فإن كلامه يحتمل
أمرين:
أحدهما:
أن يكون قد قال بمقولة الفريق الثاني من المصوِّبة، من غير الإمامية.
وهي أن كل مجتهد مصيب لكن الحق مع واحد.
الثاني:
أن يكون مراده من الحكم الشرعي الذي يتبدل بتبدل الاجتهاد هو الحكم
الشرعي الظاهري كما تقول به الإمامية، لكن إطلاق عبارته، وما عرفناه
عنه من جنوحه إلى الأخذ بآراء غير الإمامية، مثل: عمله بالقياس،
وبأخبار العامة، وبالاستحسان، وبالمصالح المرسلة، وغير ذلك من مناهج
غير الشيعة الإمامية، كما اتضح في هذا القسم.
نعم ـ إن ذلك كله ـ يجعلنا غير قادرين على تأويل كلامه
بما يوافق ما عليه الشيعة الإمامية، أو فريق منهم، لأن كلام أي شخص
إنما يلتمس له التأويل، أو يحمل على خصوص أحد المعاني حينما يكون قد
عرف عن ذلك الشخص أنه يلتزم نهج أسلافه في آرائه، وفي مناهجه ومقولاته،
حيث يكون ذلك قرينة عقلية ومنطقية على إرادته هذا المعنى بخصوصه، أما
حين يظهر في موارد كثيرة ومتنوعة في مجالاتها وخصوصياتها جنوحه إلى
مقولات الآخرين، فإن هذا يصلح لأن يكون قرينة على تحديد المعنى المراد
من كلامه هذا، وهو الأمر الذي دعانا إلى أن نضع بين يدي القارئ الكريم
هذا النص الذي يومئ إلى مقولة التصويب، ويظن انطباقه عليها.
12 ـ
كل التراث الفقهي والكلامي والفلسفي فكر بشري.
تقدّم:
أن البعض يعتبر:
أن كل ما جاءنا من تراث فقهي، وكلامي، وفلسفي، وكل
الفكر الإسلامي ـ باستثناء البديهيات ـ هو فكر بشري وليس فكراً إلهيّاً
على حدّ تعبيره..([13]).
فإذا كانت النظرة هي هذه، فإن من الطبيعي أن يكون
التعامل في مجال الإستدلال الفقهي منسجماً مع هذه النظرة، وأن تصبح
أدوات الإستنباط والإستنتاج تحمل معالم هذا التوجه، وسمات هذا الفهم
للقضية برمّتها.
13 ـ
لا توجد حقيقة فقهية مطلقة.
14 ـ
لا توجد حقيقة كلامية مطلقة.
15 ـ
كل جهد بشري هو نسبي.
يقول البعض:
«..بعد وفاة الرسول «صلى الله عليه وآله»، الذي نعتبر
أن فهمه للدين ليس بشرياً. وفي ظل غياب المعصوم أيضاً، فنحن نعتقد: أن
الاجتهاد في الدين سواء في فهم النص، أو في استيحائه، أو في تقييد
القاعدة هو أمر ممكن للمتأخرين أن يناقشوا القدماء فيه، كما كان
القدماء يناقشون بعضهم بعضاً.
ليس هناك حقيقة فقهية مطلقة. وليس هناك حقيقة كلامية
مطلقة. فكل جهد بشري هو نسبي في النهاية».
ونسجل هنا ما يلي:
1 ـ إن
كلام هذا البعض معناه: أن ثمة مجالاً للتغيير والتبديل في الاعتقادات..
فنعتقد مثلاً: أن الله تعالى في جهة، وأن له مكاناً مثلاً.. وبالإمكان
الاستغناء عن كثير من العقائد، فتقل مفرداتها يوماً، وتزيد في يوم آخر،
حسب تكثر الآراء والاجتهادات. وربما ينجر هذا الأمر إلى الإمامة، فيكون
الأئمة خمسة عشر أو تسعة، بدلاً من اثني عشر.. ويمكن أن يكون الإمام
معصوماً اليوم، فاقداً للعصمة غداً.. وما إلى ذلك.
فإن ذلك كله وسواه من مفردات علم الكلام ليس حقيقة
مطلقة.. وإنما هو من الأمور النسبية التي تختلف وتتفاوت حسب الاجتهادات
في العصور المختلفة، من مجتهد لآخر..
وكل ذلك داخل في مفردات الحقيقة التي هي نسبية عنده.
وهذا أمر في غاية الخطورة على الدين، وعلى العقيدة..
ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك.
2 ـ
وكذلك الحال بالنسبة لمقولته الأخرى حول: أنه ليس هناك
حقيقة فقهية مطلقة. فهل يمكن أن يأتي يوم تصير فيه صلاة الصبح ركعة
واحدة، وصلاة الظهر ركعتين، أو نصلي فيه يوم الجمعة فقط وتسقط الصلاة
في سائر الأيام؟!
أو يحل فيه اللواط والسحاق؛ باعتبارهما مثل استمناء
الرجل والمرأة على حد تعبير هذا البعض؟!
أو يحل فيه شرب الخمر، إذا لم يصل إلى حد الإسكار، أو
يحل فيه مصافحة الرجل للمرأة حيث لا تكون هناك ريبة؟! وغير ذلك..
3 ـ
وهل يمكن أن يأتي يوم تسقط فيه القواعد والأصول عن
الصلاحية، فنستبدل فيه قاعدة بقاعدة، ونعتمد على القياس، وعلى
الاستحسان، وعلى الرأي؟!
إن ذلك ليس ببعيد، فها نحن نرى هذا الأمر يظهر بكل وضوح
في كتب وتصريحات هذا البعض. بل أصبحنا نشاهد آثاره في مختلف ما يصدّره
من آراء، توصف بأنها فتاوي!!
4 ـ
ما معنى إطلاق التعميم: بأن كل جهد بشري هو نسبي في
النهاية. فهل إذا قام البشر بعَدِّ أوراق كتاب (وهي مائة) يكون ذلك
نسبياً بحيث تكون مائة عند شخص وتسعين عند آخر، باعتبار أن عدّها جهد
بشري؟!
وهل يصح أن يقال:
إن القول بوحدة الخالق أمر نسبي، فقد يقول مجتهد: إنه
واحد، ويقول الآخر: إنه أكثر من واحد؟!
وحيث يبذل جهد لإثبات نبوة النبي، فهل تكون هذه النبوة
نسبية، وكيف؟!
وهل استنباط حرمة الكذب وكذلك حرمة الزنا يجعل هذه
الحرمة نسبية؟! وكيف؟! وكذلك الحال بالنسبة لاستنباط حرمة الخيانة..
وحرمة الظلم، وحرمة المخدرات؟! وما إلى ذلك..
16 ـ
المشكلة: أن الكثير من الفقهاء يقولون: لا دليل يدلنا على مقاصد
الشريعة.
17 ـ
المسألة ترتبط بالمصداق الذي يحقق المفهوم، والثبوت.
18 ـ
ربما أضعنا بسبب ذلك الكثير من مقاصد الشريعة في كثير من الفتاوي..
19 ـ
ضياع المقاصد هي فتاوي يكون الحكم الشرعي فيها جسداً بلا روح.
20 ـ
حفظ المقاصد يحتاج إلى دقة في الاجتهاد.
سئل البعض:
ما المقصود بمقاصد الشريعة؟! وهل إغفالها كشرط للإجتهاد
أدى إلى ما يسمى بالحيل الشرعية؟!
وهل هي أساساً شرط للاجتهاد؟!
فأجاب:
«المقاصد (كذا) الشريعة تمثل منطلقات الشرع في أحكامه،
أو ما يسمى بعلل التشريع أو ملاكاته. وهو ما يريد الله سبحانه وتعالى
للإنسان أن يحققه من أهداف في حياته، من خلال التزامه بهذا الحكم
الشرعي أو ذاك.
كما نلاحظ مثلاً: أن الله تبارك وتعالى يحدثنا عن
الصلاة بقوله: ﴿إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾([14]).
فالنهي عن الفحشاء والمنكر هو من مقاصد تشريع الصلاة، ولذا ورد في
الحديث الشريف: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله
إلا بعداً».
كما أن مقصد الصوم هو التقوى: ﴿كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾([15]).
وهكذا، فمقاصد الشريعة هي الأهداف التي تستهدفها
الشريعة، من خلال التشريع. ولكن المشكلة في البحث الفقهي الاجتهادي هي
أن الكثير من الفقهاء يقولون: بأنه ليست عندنا أدلة حاسمة قاطعة تدلنا
على مقاصد الشريعة بشكل صريح، على نحو يمكننا من تحديد علاقة المقاصد
بالتشريع كعلاقة العلة بالمعلول، ولكننا نظن ذلك ﴿إِنَّ
الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾([16]).
ولذلك فعلينا أن نأخذ بالشريعة حتى لو لم تحقق ما نظن
أنه المقاصد؛ لأن ما نظن أنه كذلك قد لا يكون هو المقصد الحقيقي.
وهذا يعني:
أن المسألة ترتبط بالمصداق التي يحقق المفهوم والثبوت، فلا طريق لنا
إلى إثبات مقاصد الشريعة على أنها بمثابة العلل والأسباب للشريعة.
وهذه هي المشكلة في هذا المجال. ولذلك ربما أضعنا
الكثير من مقاصد الشريعة في كثير من الفتاوي التي يشعر الإنسان معها
بأن الحكم الشرعي يمثل جسداً بلا روح.
ومن الطبيعي أن هذه الأمور تحتاج إلى دقة في
الاجتهاد..»([17]).
ونقول:
إن لنا على كلامه العديد من الملاحظات:
1 ـ
إننا نجد في كلام هذا البعض ما يلي:
ألف:
إنه قد اعتبر قول الكثير من الفقهاء، بأن لا دليل يدلنا
على مقاصد الشريعة بشكل صريح، بحيث تكون تلك المقاصد هي علة التشريع ـ
اعتبره ـ هو المشكلة التي يواجهها..
ب:
إنه يقول: «إن هذه المشكلة هي السبب ربما في إضاعة
الكثير من مقاصد الشريعة، في كثير من الفتاوي..».
ج:
إن الفتاوي التي ضيّعت فيها مقاصد الشريعة يشعر الإنسان
فيها: أن الحكم الشرعي يمثل جسداً بلا روح.
د:
إن هذه الأمور، تحتاج إلى دقّة في الاجتهاد.
2 ـ إن
الأحاديث التي ذكرت بعض العلل للأحكام، على نحوين:
أحدهما:
ما ثبت أنه علة للحكم بصورة قطعية، استناداً إلى تصريح المعصوم بذلك..
أو لأن العلة قد جعلت عنواناً لموضوع الحكم أحياناً.. كالإسكار الذي هو
علة لتحريم الخمر. فإن قوله «عليه السلام»: «كل مسكر حرام»، يظهر بجلاء
أن الإسكار الذي علل به تحريم الخمر علة حقيقية لهذا التحريم، ولذلك
دار حكم التحريم مدارها وجوداً وعدماً، حيث جعل المسكر موضوعاً للحكم
بالحرمة، وذلك ظاهر.
الثاني:
ما جاء على سبيل بيان فائدة مهمة من فوائد التشريع،
التي يريد الشارع صونها وحفظها، فظهر في لسان الدليل بصورة التعليل
للحكم، وإن لم يكن علة تامة للتشريع، وذلك مثل عدم اختلاط المياه في ما
يرتبط بالعدّة، فليس ذلك هو علة للتشريع، وإنما هو من حكمه وفوائده
المهمة، ولذلك تجب العدّة حتى في صورة استئصال الرحم، أو في صورة الوطء
في الدبر..
وكما أن الشارع قد استعمل أسلوب التعليل في كلا
الموردين ليظهر أهمية تلك الفوائد عنده واهتمامه بحفظها وصونها، لم
يمكن الإطمئنان في مقام الاستظهار والاستدلال إلى أن ما يذكر في صورة
بيان السبب ـ هل هو علة حقيقية؟! أم هو من لوازم العلة، ومن الفوائد
المهمة التي يريد الشارع أن يحفظها ويصونها؟!
3 ـ
وقد أدرك الفقهاء، من خلال ذلك: أنه حين يكون المقصود
هو إعطاء الضابطة، وبيان علل التشريع الواقعية التي يدور الحكم مدارها
وجوداً وعدماً، فإن الشارع ملتزم بإزاحة العلة في بيان مقاصده، ولن
يترك الأمر بدون استقصاء البيان الكافي والشافي.
وقد ظهر من خلال ممارسة الأدلة: أن ما أراد الشارع بيان
علله الواقعية قليل جداً، بل هو أقل القليل..
4 ـ
إن الصلاة وإن كانت قد شرّعت من أجل أن تنهى عن
الفحشاء، والمنكر.. وقد اعتبر البعض هذا النهي لها من مقاصد الشريعة.
ولكن من الواضح: أن ذلك ليس هو علة التشريع بحيث يدور
مدارها وجوداً وعدماً.. ولأجل ذلك لا يحكمون ببطلان صلاة لم تنهَ
صاحبها عن الفحشاء والمنكر.. ولا يوجبون عليه إعادتها ولا قضاءها.
وكذلك الصوم، فإنهم لا يحكمون ببطلانه إن لم يحقق
التقوى ولا يوجبون إعادته ولا قضاءه..
ويلاحظ هنا ما في التعبير بكلمة
«لعلّ»
في قوله
تعالى: ﴿
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
حيث دل على رجاء حصول ذلك.. مما يشير إلى أن ذلك هو فائدة متوخّاة من
التشريع، وإن لم تكن هي تمام عناصر علته..
ومهما يكن من أمر، فقد قلنا: إنه لو كانت هذه الفائدة
وتلك من المقاصد، وكانت هي التي تمنح مراعاتها توسعاً في الفتوى أو
تقييداً في الأحكام.. لوجب أن يكون لها تأثير في البطلان والصحة، أو في
الإعادة والقضاء، أو في تحمل أعباء معينة من أي نوع فرضت.. مع أن الأمر
ليس كذلك، مما يدل على أنها ليست من المقاصد التي توجب توسعاً في
الفتوى، أو تقييداً في الأحكام.
5 ـ وبعد..
فإن هناك مقاصد ـ كما في التقوى في الصوم، ونهي الصلاة
عن الفحشاء والمنكر ـ تهدف إلى سوق الإنسان نحو مراتب ومقامات في
الكمال قد تتجاوز ما يسعى إليه الكثيرون من الناس الذين رضوا بأن
يخرجوا أنفسهم من منطقة الخطر، ولا يريدون أكثر من ذلك..
6 ـ
وأخيراً.. نقول:
ربما يؤدي ما يسعى إليه البعض من فتح باب الأخذ بمقاصد
الشريعة، واعتبارها من آليات التشريع.. إلى الوقوع في فخ خطير، وذلك
بسبب شيوع العمل بالإستحسان، وبالرأي، وبغير ذلك من ظنون لا قيمة لها
في الشرع الحنيف. ويكون الغطاء لذلك هو ادّعاء إدراك مقاصد الشريعة،
والعمل على نيلها، وسوق الناس إليها..
ولن يجدي نفعاً إطلاق شعارات برّاقة ورنانة، بأن هذه
الأمور تحتاج إلى دقة في الاجتهاد، أو ما إلى ذلك.
كما لا يفيد التباكي على مقاصد الشريعة، حين تصبح
الفتاوى فاقدة لها..
ولن يجدي أيضاً وصف الحكم الشرعي: بأنه يمثل جسداً بلا
روح.
إن التربية الروحية هي التي تهيئ الإنسان الذي يتصدى
لامتثال الحكم الشرعي، لأن ينفخ فيه الروح من خلال إقباله على الله
فيه.. وليس بإعطاء الحرية للناس من خلال شعار حفظ مقاصد الشريعة،
ليعبثوا بالشريعة حسب آرائهم واستحساناتهم.
21 ـ
ما أخذ من القرآن والسنة والقياس شريعة.
22 ـ
اجتهاد الرأي شريعة.
23 ـ
الاستحسان شريعة.
24 ـ
المصالح المرسلة شريعة.
25 ـ
سدّ الذرائع شريعة.
يقول البعض:
«الشريعة هي: كل حكم أخذ من القرآن الكريم، أو من
أحاديث النبي، أو أهل بيته «صلوات الله تعالى عليه وعليهم»، أو ما ثبت
عند المذاهب الإسلامية جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام من
الأصول والقواعد الفقهية. ويصطلح عليه بالسنة، ويقابل ذلك مصطلح
البدعة»([18]).
1 ـ
إن هذا النص قد أوضح بما لا مجال معه للشك: أن هذا
البعض مصر على العمل بالقياس، وأضرابه، كالاستحسان، والمصالح المرسلة..
وغير ذلك..
فإن هذه الأمور هي مما ثبت عند المذاهب الإسلامية جواز
الاعتماد عليه في استنباط الأحكام..
2 ـ إن الملاحظ هو:
أن هذا البعض، قد أثبت هذا النص في الطبعة الأولى،
ولكنه حذفه من الطبعة الثانية. ولم ينبه على خطئه فيه، مع تصريحه
بالتزامه بكل أفكاره منذ الثمانينات.. أو أنها باقية على ما هي عليه لم
تتغير ولم تتبدل.
وأما سبب حذفه لهذه العبارة، فلعله إحساسه بتداعيات هذا
التصريح، من خلال ردّات الفعل التي لمسها لدى أهل العلم.. حيث اعتبروا
ذلك من جملة الأدلة الدامغة على سعيه لاقتحام المسلمات في مذهب أهل
البيت «عليهم السلام»، وجرّ الناس إلى ما عليه أهل المذاهب الأخرى.
3 ـ
وظهر من ملاحظة جملة من مقولاته الكثيرة جداً، والتي
تعدّ بالمئات والألوف: أنه حين قال: أسعى لاقتحام المسلمات، إنما كان
يعني بذلك مسلمات مذهب التشيع ـ مذهب أهل البيت «عليهم السلام».. دون
سواها..
4 ـ
إن هذا البعض مهما حاول أن يعتذر عن مقولته السابقة،
وحتى حين حذفها من الطبعة الثانية.. فإنه قد أثبت من خلال تصريحاته
الأخرى، كتصريحه الذي أورده في كتاب تأملات في آفاق الإمام الكاظم
«عليه السلام»: أنه ملتزم بهذا الأمر. لا يبغي له بدلاً، ولا عنه
حولاً.
فحذفه للعبارة المذكورة من الطبعة الثانية، لا يدل على
أن رأيه قد تبدل في هذا الأمر، إذ إنه لم يصرح بذلك ولا أشار إلى خطأ
هذه الفكرة. لا من قريب ولا من بعيد مما يشير إلى أن هذا الحذف كان
مصلحياً لا عن قناعة بفساد رأي.
ويدل على ذلك ما سنقوله تحت الرقم التالي.
5 ـ
إنه حين واجه الاعتراضات من هنا وهناك قد حاول التخلص
من تبعات هذا التصريح، فأطلق تأويلاً عجيباً وغريباً لكلامه هذا.. حين
ادَّعى:
«أنه لا يقصد في كلامه هذا الشريعة الحقة، بل ما يطلق
عليه أنه الشريعة.. وإن كان قد يقع الخطأ والصواب، كما هو الحال في
اجتهادات المجتهدين حين تختلف فيما بينها..»([19]).
ومن الواضح: أنه توجيه لا يصح، لأمور عديدة:
فأولاً:
تقدم: أن عمله في مجال الفقه يظهر: أنه ملتزم بالقياس، وبغيره، وإن كان
لا يسمي الأمور بأسمائها الحقيقية..
ثانياً:
إنه حين يقدّم كتابه المشتمل على المسائل الفقهية لمقلّديه.. إنما
يحدثهم عن أمور تعنيهم، وتفيدهم في مجال عملهم.. ولا يتحدث لهم عما
تقوله سائر المذاهب..
ولو فرضنا وجود مبرر لذكر قول مذهب ما، فإنه لا مبرر
لاستخدام مصطلحات خاصة لا يخاطب بها إلا أهل الاستنباط. وليس دائماً
أيضاً، وإنما في خصوص حالات معينة تفرض التعميم لآراء سائر المذاهب..
ثالثاً:
إن سياق كلام هذا البعض في كتابه ذاك الذي ضمّنه هذا النص يتجه نحو
الحديث عن الشريعة الحقة، التي يكون المكلف معذوراً في اتباعها،
والالتزام بالأحكام الشرعية الواردة فيها، والتي استنبطها مجتهدوها..
ويُفْرَضُ على مقلديهم ـ من خلال تعاليمها ـ الرجوع فيها إليهم، وأخذها
منهم.
وفي كلامه قرائن كثيرة على ذلك. فإن أول عبارة قالها في
ذلك الكتاب هي: «إن الشريعة المطهرة قد بينت أحكام أفعال المسلم،
وجعلتها موزعة على خمسة أحكام، هي الواجب والحرام..
إلى أن قال: وهذا المبحث هو المتكفل بتحديد السبل التي
بها يتعرف على ما كلفه الله تعالى به، وسنه له، وتفصيله كما يلي إلخ..».
ثم بدأ بالحديث عن الشريعة، وعن الأحكام الخمسة..
فكلامه صريح في أنه يتحدث عن الشريعة الحقة التي حاول
أيضاً تحديد السبل إليها، ليتعرف المكلف على ما كلفه الله به وسنَّه
له. ولا يتحدث عن المذاهب التي يعتقد المكلّف ببطلانها.. ولا عن السبل
التي تعتمدها تلك المذاهب..
ورابعاً:
إن مصطلح الشريعة الحقة إنما يعني ما يجب العمل به على المكلف ـ من
خلال إلزام الشريعة به ـ حتى إذا أصاب الواقع فإنه يتنجّز في حقه، وإذا
أخطأه يكون معذوراً فيه، على أساس تعذير الشريعة نفسها له..
فالأمر بالنسبة إلى المكلف هو أن الشريعة قد ألزمته
بالأخذ بقول المجتهد.. فقول المجتهد هو الشريعة العملية بالنسبة إليه،
وهو حجة في حقه.. مع علمه بأن المجتهد قد يخطئ الحكم الواقعي الإلهي..
وأما المذاهب الأخرى فيراها من الباطل، ولا يصح مخاطبته
بها، في ذات الوقت التي يُدْعى فيها إلى التقليد..
([1])
تأملات في آفاق الإمام الكاظم ص40 ـ 44 ولا سيما ص43.
([2])
تأملات في آفاق الإمام الكاظم ص40 ـ 44. ويلاحظ: ان هذا البعض
ينسب هنا كتاب الإختصاص المتضمن للمصائب التي جرت على الزهراء
للشيخ المفيد رحمه الله تعالى الذي ينسب إليه إنكار ذلك أو على
الأقل عدم ذكره لهذا الأمر في مؤلفاته..
([3])
مجلة المنطلق عدد111 ص76 ـ 79.
([4])
مجلة المرشد عدد 3 ـ 4 ص244.
([5])
نشرة فكر وثقافة العدد 22 بتاريخ 23 ـ 11 ـ 1996.
([7])
من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج9 ص212 و 213.
([11])
نهاية السؤل ج4 ص560 وراجع ص558 وراجع: الأحكام للآمدي ج4
([13])
راجع: حوارات في الفكر والسياسة والإجتماع ص480.
([14])
الآية 45 من سورة العنكبوت.
([15])
الآية 183 من سورة البقرة.
([16])
الآية 28 من سورة النجم.
([17])
فكر وثقافة عدد 177 ص3 بتاريخ 29 /3 /1421 هـ.ق.
([18])
فقه الشريعة ج1 ص7 الطبعة الأولى سنة 1420 هـ.
([19])
فكر وثقافة عدد 167 صادر في 17/1/1421 هـ.
|