الفصل الثالث
بعض
الحديث عن العصمة
بـدايـة:
لقد أصبحت مقولات هذا البعض حول عصمة الأنبياء
ومقاماتهم كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار.. وهي على درجة
كبيرة من الكثرة والتنوع، بحيث يصعب جداً الجمع بين أطرافها.. وقد
ذكرنا شطراً كبيراً مما يبين موقفه من هذا الأمر بصورة جلية وواضحة،
وبقي الكثير الكثير مما لم نذكره مما لا يمكن استقصاؤه.
وكما كان رأينا في فصول الكتاب سوف نفعل هنا، بأن نقدم
للقارئ الكريم طائفة من مقولاته حول هذه الموضوعات فنذكر منها ما يلي:
851 ـ يمكن أن يخطيء النبي في تبليغ
آية ثم يصحح بعد ذلك.
852 ـ يمكن أن ينسى النبي آية ثم يصحح.
853 ـ النزوات الشخصية تدفع النبي إلى
الفعل.
854 ـ لابد من أدلة أخرى على العصمة،
ولا يكفي الموجود.
855 ـ آدم انحرف عن الخط الرسالي، أو
الإصلاحي، أو التقوائي، ثم تراجع لمصلحة المبدأ.
856 ـ فعل آدم لا تعبير ولا دلالة عن
الفكرة بخلاف القول.
لقد قرر العلامة الطباطبائي «رحمه الله»: العصمة عن
الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة استنادا إلى قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ
اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ﴾([1]).
فناقشه البعض بقوله:
«ونلاحظ على ذلك: أن ما ذكره لا يلازم ما ذكره من
العصمة عن الخطأ في التبليغ، فإن هداية الناس إلى حق الإعتقاد، وحق
العمل، كما أن الحديث عن «أن الله إذا أراد شيئا فإنما يريده من طريقه
الموصل إليه من غير خطأ، وإذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضل في سلوكه» لا
يقتضي إلا أن يصل الوحي إلى الناس ـ لهدايتهم ـ كاملاً غير منقوص. وهذا
ما يؤكد وصوله عن طريقه من غير خطأ.
ولا ملازمة بين ذلك، وبين العصمة، فإن من الممكن من
الناحية التجريدية أن يخطئ النبي في تبليغ آية أو ينساها في وقت معين،
ليصحح ذلك، ويصوّبه بعد ذلك، لتأخذ الآية صيغتها الكاملة الصحيحة»([2]).
«وإذا قيل: إن احتمال الخطأ والنسيان إذا كان وارداً في
الحالة الأولى، فهو موجود في الحالة الثانية، مما يؤدي إلى فقدان
الأساس الذي يحصل من خلاله الإيمان بواقع الآية في الوحي المنزل، فلا
يصير الإنسان إلى يقين بذلك!!
فإن الجواب هو:
من الممكن تقديم القرائن القطعية في الحالة الثانية
التي تؤدي إلى اليقين، تماما كما قيل في مسألة سهو النبي ـ في رأي
الشيخ الصدوق ـ على أساس بعض الروايات التي أوضح النبي فيها القضية من
دون لبس، بالطريقة التي اقتنع فيها الناس بأن المسألة كانت سهوا ـ كأي
سهو آخر مما يحدث للناس ـ لو صحت الرواية.
إن قضية الغرض الإلهي في وصول الوحي إلى الناس، لا
يستلزم إلا الوصول في نهاية المطاف من غير خطأ، ولكن لا مانع من حدوث
بعض الحالات التي يقع فيها الخطأ، لا ليستمر، بل لينقلب إلى صواب تؤكده
القرائن القطعية التي توحي بالحقيقة في وجدان الإنسان.
ويتابع العلامة الطباطبائي حديثه في العصمة ليشمل ـ في
استيفاء هذه الآية مع آية ثانية ـ العصمة عن المعصية في العمل فيقول:
يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضاً بأن
الفعل دال كالقول عند العقلاء، فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه
حسنا جائزا كما لو قال: إن الفعل الفلاني حسن جائز، فلو تحققت معصية من
النبي وهو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضا منه، فإن فعله يناقض حينئذ
قوله، فيكون حينئذ مبلغا لكلا المتناقضين، وليس تبليغ المتناقضين
بتبليغ للحق، فإن المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما
مبطلا للآخر، فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إلا مع عصمته عن
المعصية وصونه عن المخالفة كما لا يخفى.
ونلاحظ على ذلك: أن ما ذكره من دلالة الفعل على نهج
دلالة القول صحيح ـ من ناحية المبدأ ـ وذلك في الحالة العادية الطبيعية
للتعبير الإنساني بواسطة النقل، ولكن قد ينطلق الفعل من الإنسان على
أساس الواقع العملي الذي قد يتحرك فيه من خلال أوضاعه الشخصية الخاضعة
لبعض النزوات الطارئة بفعل الضغوط الداخلية أو الخارجية الحسية
والمعنوية، فيتراجع عنها لمصلحة المبدأ الذي كان قد بينه للناس من موقع
الوحي أو نحوه، تماما كما هي الحالة الجارية في سلوك المصلحين
والرساليين ـ حتى الأتقياء منهم ـ في انحراف خطواتهم العملية عن الخط
الرسالي أو الإصلاحي أو التقوائي بشكل طارئ، لا يتحول إلى إصرار، على
هدى ما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾([3]).
أو على ما حدثنا الله به عن آدم «عليه السلام» في
معصيته، ولو كان ذلك على طريقة عصيان الأمر الإرشادي، ثم توبته بعد
ذلك، فإن مثل هذا لا يوحي بالتناقض، لأن الفعل لم يتحرك في أجواء
الدلالة التعبيرية عن الفكرة التي عبر عنها القول، لأن مقامه ليس هذا
المقام.
وفي هذه الحال ليست هناك طريقة عقلائية في موضوع
الدلالة.
إننا نتصور أن هذا الأسلوب الإستدلالي في تقرير العصمة
في القول والفعل لا يملك القوة في الإستدلال من خلال المناقشات
المذكورة وغيرها، فلا بد من اللجوء إلى أدلة أخرى قد يكتشف الإنسان
فيها أن النبوة حدث غير عادي في معنى الرسالة، لأنها حركة إلهية في
هداية البشرية إلى الله، وتغيير الحياة على صورة أخلاق الله، مما يفرض
إنسانا يعيش الرسالة في عمقه الروحي، وتأمله الفكري، وأخلاقيته العظيمة
في صدقه مع ربه ونفسه، ومع الناس، وأمانته في ماله ودينه، ومسؤوليته،
وإنسانيته، بحيث تكون الرسالة التي يحملها منسجمة مع الروح التي يتجسد
فيها، لتكون الرسالة جسدا يتحرك، ويكون الجسد رسالة تنفتح على الله،
وعلى الإنسان والحياة في اتجاه التغيير.
إن هذا الدور التغييري، الذي يستهدف تغيير الإنسان
بالكلمة والقدوة، بحاجة إلى الإنسان الصدمة الذي يصدم الواقع الفاسد
بكل قوة، الأمر الذي ينفتح فيه اللطف الإلهي على إعطاء المزيد من القوة
الروحية، والأخلاقية، والفكرية والعصمة العملية لهذا الإنسان، سواء
أكان ذلك بالطريقة التي يبقى فيها عنصر الاختيار له لسلوك الإتجاه
المضاد، أم كان بطريقة أخرى، لا يبقى فيها له ذلك العنصر، لأن القضية
هي حاجة البشرية إليه، أما قضية الثواب وعلاقتها بالاختيار، فهي مسألة
لا تعقيد فيها، لأنها في جميع الأحوال.. الخ»([4]).
ونقول:
إن الحديث عن جبرية العصمة سيأتي في وقفتنا مع هذا
البعض في الفقرة التالية، ولكننا نكتفي هنا بما يلي:
1 ـ إن هذا البعض يحاول إسقاط الأدلة القاطعة التي
ساقها العلامة السيد الطباطبائي من أجل أن يمهد السبيل لطرح ما زعمه من
العصمة الإجبارية التي تفقد جهد، وجهاد المعصوم أية قيمة..
وفي النص السابق رأيناه يحاول ادعاء أن النبي قد يخطيء
أولاً، ثم يُصار إلى تصحيح الخطأ بعد ذلك.
2 ـ وحين واجه إشكال إمكانية تكرر الخطأ، حاول التخلص
منه بدعوى أن القرائن القطعية هي التي تحسم الأمر..
ونقول له:
أولاً:
إذا كانت القرائن القطعية هي التي تحسم الأمر في المرة
الثانية، فلماذا لا تحسمه في المرة الأولى..
ثانياً:
من الذي قال له:
«إن القرائن القطعية قد حسمت ذلك في المرة الثانية،
فلماذا لا يتكرر الخطأ فيها، وفي التي بعدها.. وهكذا إلى التي
تليها..».
هذا، عدا عن أنه يحتمل في كل مقطع أن يخطئ وأن يصيب.
فأي دليل عيّن له المرة الثانية لحسم الأمر بالقرينة
القطعية فيها دون سواها..
ومن الذي حصر هذا النسيان وذلك الخطأ في هذا الوقت
المعين دون سواه، ولماذا جاء النسيان فيه، وجاء التذكر فيما عداه..
3 ـ إن استدلاله بحديث سهو النبي غير مقبول فإن الرواية
حاولت إثبات الإسهاء الإلهي المتعمد للنبي «صلى الله عليه وآله» لكي لا
يغلو الناس فيه، ويعبدوه.
فلا يصح قوله..
«إن النبي قد أوضح للناس أن القضية قد كانت سهواً كأي
سهو آخر مما يحدث للناس».
4 ـ إن ثمة نقاشات كثيرة حول صحة هذه الرواية، وهو نفسه
قد أشار إلى ذلك حين قال: «لو صحت الرواية» فاستعمل «لو» الدالة على
الإمتناع.
5 ـ إن استدلاله بهذه الرواية ليس إلا مصادرة على
المطلوب، وبما هو محل النزاع..
6 ـ إذا كانت المسألة عقائدية عقلية، فكيف يستدل عليها
بالأخبار، فضلاً عن الإستدلال بخبر واحد فيه الكثير من العلل
والأسقام..
على أنه هو نفسه يشترط في الخبر أن يكون متواتراً
وقطعياً أو مفيداً للإطمئنان.. إذا كان يتحدث عن العقائد والتاريخ
وغيرها.. فأين اليقين هنا، وأين الإطمئنان الحاصلان من خلال الكثرة
والتواتر؟!
7 ـ إذا كانت هداية الناس إلى حق الإعتقاد، وحق العمل
تقتضي وصول الوحي في نهاية المطاف كاملا غير منقوص، كما يقول.. فأي
معنى لاحتمال الخطأ والنسيان، في وقت معين، ما دام ثمة تعهد إلهي
بالإيصال الصحيح والكامل..
8 ـ وإذا جاز الخطأ في مورد، فإنه يجوز في موارد، وقد
يأخذ الخطأ مجراه، إلى جانب الصواب. كلٌ في دائرته.. ويكون الوصول
التام قد تحقق، لأن الصواب قد أبلغ، وإن لم يستطع الناس التمييز بينه
وبين ما هو خطأ. فكيف جزم هذا البعض:
«أن الوصول بهذه الطريقة سوف يرفع اشتباهات بعض
الناس..».
9 ـ وكيف يطمئن الناس إلى صدق، وصحة ما يلقيه اليهم
النبي «صلى الله عليه وآله»، وهم يحتملون أنه قد يكون واقعا في الخطأ
في هذا الإبلاغ.. ألا يفترض أن يستمر شكهم على لائحة الإنتظار إلى آخر
حياة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليطمئنوا عند ذلك فقط إلى عدم
ورود تصحيح على ما كان قد بلّغه لهم..
نعم.. ولا بد أن ينتظروا هذا التصحيح المحتمل إلى آخر
حياته «صلى الله عليه وآله» في كل كبيرة، وصغيرة، ومن الألف إلى
الياء..
ويكون موت النبي «صلى الله عليه وآله» هو الدليل على
صحة ما تلقوه، وعلى عدم وقوع الخطأ منه بعد المرة الأخيرة.
10 ـ ويبقى هنا سؤال: ما هو مصير الذين ماتوا في زمن
النبي «صلى الله عليه وآله»، وهم غير مطمئنين لشيء مما جاءهم به؟!
11 ـ وهل يصح مع ذلك كله: أن يأمر الله الناس بطاعة
الرسول: ﴿أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾([5]).
وأن يقول لهم: ﴿وَمَا
آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾([6])،
وهل يصح قوله تعالى لهم:
﴿وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾؟!([7]).
إلا أن يكون الله سبحانه هو الذي يخطط لإيقاع الناس في الخطأ!!
فهل يصح إطلاق هذا القول؟!
11 ـ ولا ندري أخيراً كيف أن فعل النبي لم يتحرك في
الأجواء التعبيرية عن الفكرة التي عبر عنها القول.. مع أن قول الرسول
وفعله وتقريره حجة، وشرع ودين.. وإذا جاز في الفعل ذلك، فلماذا لم يجز
في القول أيضاً؟!
857 ـ لا مشكلة في العصمة الإجبارية.
858 ـ الثواب للعباد في كل شيئ إنما هو
بالتفضل لا بالإستحقاق.
859 ـ الإستدلال على العصمة بحاجة إلى
تطوير في مواجهة التحديات.
860 ـ الإصلاح في العالم قد تتولاه
قيادات غير معصومة.
861 ـ الإستدلال العقلي على العصمة في
غير التبليغ ضعيف.
ويقول البعض:
«ونلاحظ: أن الشيخ المفيد لم يشرح كيفية بقاء الاختيار
مع وجوب العصمة من خلال ما يفعله الله بعبد من عبيده، فتكون النتيجة،
أنه لا يؤثر معه معصية له، لأن هذا الأمر الثابت في تكوين الإنسان إما
أن يكون مؤثراً في ذات الإنسان بحيث يعصمه من الخطأ في الفكر، والعمل،
فلا يكون الخطأ مقدورا له، وإما أن يكون مؤثراً فيه بحيث تبقى له
القدرة على الخطأ، فيكون الخطأ جائزاً له في ذاته، وتكون العصمة خاضعة
للعوامل الأخرى بالإضافة إليه من سلب، أو إيجاب.
إن هذا الأسلوب في الحديث عن اختيارية العصمة مع
الالتزام بأنها ناشئة من فعل الله التكويني بنبيه أو وليه لا يمثل إلا
مفهوما ينطلق من الجمع في الدليل بين وجوب العصمة، ولزوم الاختيار، لا
من دراسة دقيقة لنوعية الصورة الواقعية للجمع بين الأمرين.
إننا نتساءل ما هو المانع من اختيار الله بعض عباده
ليكونوا معصومين باعتبار حاجة الناس إليهم في ذلك، وما هي المشكلة في
ذلك انطلاقا من مصلحة عباده، وإذا كان هناك إشكال من ناحية استحقاقهم
الثواب على أعمالهم إذا لم تكن اختيارية لهم، فإن الجواب عليه: هو أن
الثواب إذا كان بالتفضل في جعل الحق للإنسان به على الطاعة لا
بالإستحقاق الذاتي، فلماذا لا يكون التفضل بشكل مباشر إذ لا قبح في
الثواب على ما لا يكون بالاختيار بل القبح في العقاب على غير المقدور؟!
ثم.. إننا نلاحظ في أسلوب الإحتجاج للعصمة في كتب
المتكلمين، أنه بحاجة إلى الكثير من التطوير في مواجهة علامات
الإستفهام الكبيرة التي تثيرها التحديات المضادة لا سيما فيما يتصل
بالالتزام العقلي الذي يفرض العصمة في غير حالات التبليغ، فإن الواقع
الإصلاحي والتغييري في العالم قد يحصل من خلال قيادات غير معصومة
بطريقة، وبأخرى مما يشكل نقطة ضعف على الإستدلال للفكرة، مما يفرض
الإتجاه بالإستدلال نحو أساليب أخرى تتصل بالتعمق في طبيعة النبوة أو
الإمامة كموقعين رساليين قياديين يختلفان عن أي موقع قيادي آخر،
بالمستوى الذي تختلف فيه أوضاعها عن أي وضع آخر، بالإضافة إلى عناصر
أخرى قد تحتاج الفكرة من خلال المناقشات الجديدة، لأن هذه المسألة لم
تعد تتحرك في الدوائر الإسلامية المذهبية التي تفرض مسألة العصمة بشكل
كلي لتضعها في نطاق التبليغ في دائرة النبوة »([8]).
ونقول:
إن الحديث عن جبرية العصمة، وجعل الثواب بالتفضل
للبشرية كلها وفي كل شيء، ونفي أن يكون للإستحقاق أي دور فيه، استناداً
إلى القول بأن الثواب على غير المقدور غير قبيح، بل القبح إنما هو في
العقاب على غير المقدور..
إن هذا الحديث غير مقبو ل، ولا معقول.. وذلك لما يلي:
1 ـ إن قبح العقاب على غير المقدور، وعدم قبح الثواب
عليه، لا ينتج أن يكون الثواب للعباد كلهم وفي كل شيء بالتفضل لا
بالإستحقاق، بل تحتاج المثوبة بالتفضل إلى شرط آخر، وهو أن لايلزم من
سلب القدرة محذور آخر، مثل:
الترجيح بلا مرجح، وهو غير وارد في حق الله تعالى.
أو الخروج عن دائرة العدل.
أو أن يصبح أشقى الأشقياء كفرعون ـ إذا فعل حسنة واحدة
ـ أفضل من أعظم الأنبياء كنبينا محمد «صلى الله عليه وآله».
أو أن يكون على خلاف القاعدة التي رسمها، والسنة التي
أجراها الله سبحانه في عباده، حيث جعل المثوبة والعقوبة بالإستحقاق
بصورة عامة.
وهذه اللوازم كلها، وكذلك ثمة لوازم أخرى فاسدة سوف
تكون موجودة هنا إذا كان ثواب العباد كلهم في كل شيء بالتفضل لا
بالإستحقاق.. وسيتضح ذلك في النقاط التالية:
2 ـ انه إذا كان الله يجبر الأنبياء على أمور ثم يثيبهم
عليها تفضلاً منه مع أنهم لا اختيار لهم فيها، ولا يفعل ذلك بغيرهم من
الناس، ولا يتفضل عليهم فيما لا اختيار لهم فيه، بل يطلب منهم بذل جهود
جبارة ومقاومة الإغراءات القوية، لكي يثيبهم، فهل هذا من العدل؟!
وهل يصح نسبته إلى الله تعالى؟!
3 ـ لماذا رجح هؤلاء على غيرهم فقرر عصمتهم التكوينية
الجبرية، وأن يثيبهم على الأمر غير المقدور لهم، وجعلهم أنبياء وأئمة،
ولم يختر غيرهم لذلك، ولم يعصم غيرهم، ولم يثبهم على مثل ذلك؟! فهل هذا
إلا من قبيل الترجيح بلا مرجح؟!
4 ـ قد ذكرنا في كتاب مأساة الزهراء([9]):
أن جبرية العصمة تعني أن يكون أشقى الأشقياء ـ ابن ملجم، أو فرعون
مثلاً ـ إذا عمل حسنة واحدة في حياته، مهما كانت تلك الحسنة صغيرة، أو
امتنع عن سيئة واحدة، أفضل من خاتم الأنبياء محمد «صلى الله عليه
وآله»، لأنه إنما فعل ذلك باختياره، وبمجاهدة نفسه، وغرائزه، وشهواته،
وأهوائه..
5 ـ إن هذا الرجل يتحدث كثيراً عن أوضاع سلبية في
الفكر، وفي الممارسة للأنبياء، وعن نسيانهم، في الأمور الحياتية
الصغيرة، وعن سهوهم في الأمور الحياتية، وعن أن العصمة لا تمنع من
الخطأ في تقدير الأمور، وعن نقاط الضعف في حياتهم العملية، وعن أمور
كثيرة، وتفاصيل متنوعة لممارسات زعم أنها صدرت، أو يحتمل أن تكون قد
صدرت من الأنبياء «عليهم السلام» بعضها يصل إلى حد الشرك بالله سبحانه،
وقتل نفوس بريئة، وارتكاب جرائم دينية..
نعم.. إن هذا الرجل يتحدث عن ذلك كله وسواه، مما ذكرنا
بعضه في مواضع مضت من هذا الكتاب.
ثم يقول لنا:
إن العصمة إجبارية.. فهل عجز الله عن إجبار وليه، أو
نبيه على ما يريد؟! وكيف يمكن أن نلائم بين جبرية العصمة، وبين صدور
الأخطاء الصغيرة، أو الكبيرة، المقصودة، وغير المقصودة هنا، وهناك؟!
أو احتمال الشرك، واحتمال وقوع جرائم دينية منهم؟!
6 ـ هل استثنى الله سبحانه أنبياءه، و أولياءه من
قاعدة: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين»؟! وأين الدليل على هذا
التخصيص، والاستثناء إلا عجز هذا البعض عن حل بعض الإشكالات السطحية،
ومواجهة الشبهات التي يثيرها الآخرون، فما كان منه إلا الإنصياع لها،
والقبول بها ثم تلمس المبررات لها بمثل هذه التعليلات الضعيفة.
7 ـ إن هذا البعض قد فرق أيضاً حسبما هو معروف بين
الطاعات والمعاصي ولا ندري ما هو المبرر للتفريق بين الطاعات، فلا جبر
فيها و بين المعاصي، ففيها الجبر.. وهذا هو نفس قول الأشاعرة([10]).
فإن من الواضح: أن ترك الطاعة هو الآخر يكون من
المعاصي، فالنبي إذن لا يقدر على هذا الترك، فما معنى كونه مختاراً في
فعل أمر لا يقدر على تركه؟!
8 ـ إن مقولة البلخي التي التزم هذا البعض بها من أن
الثواب للبشر جميعاً وفي كل شيء إنما هو بالتفضل قد رفضها علماؤنا
الأبرار «رضوان الله عليهم».. والتزموا بأن الثواب إنما هو بالإستحقاق
لا بالتفضل، إذ لا يجوز في حكم العقل أن يعطي العاصي ويمنع المطيع، ولو
أن المثوبة كانت من باب التفضل لجاز ذلك، وقد ذكرنا الدليل على ذلك،
وذكرنا الرد على مقولة البلخي في كتابنا: مأساة الزهراء([11])
فراجع.
([1])
الآية 213 من سورة البقرة.
([2])
من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج4 ص153.
([3])
الآية 201 من سورة الأعراف.
([4])
من وحي القرآن (الطبعة الثانية ـ دار الملاك) ج4 ص154 و 155.
([5])
الآية 54 من سورة النور.
([6])
الآية 7 من سورة الحشر.
([7])
الآية 3 من سورة النجم.
([8])
المعارج: ص376 و 377.
([9])
مأساة الزهراء ج1 ص 60 ـ 64.
([10])
راجع: اللوامع الإلهية ص169.
([11])
مأساة الزهراء ج1 ص63 و 64.
|