الفصل الخامس
الرجعة..
والبداء..
886 ـ ضرورة تأويل أحاديث الرجعة.
887 ـ لا ضرورة للرجعة بمعناها
المعروف.
لقد حاول البعض إنكار الرجعة بمعناها الدقيق، باعتبار
عدم وجود مبررات كافية لها... فهو يقول:
«ويحدّثنا الشيخ المفيد في كتابه في (أوائل المقالات)،
عن اختلاف علماء الإمامية في تفسير معنى الرجعة التي اتفقوا عليها من
ناحية المبدأ، فقد كان جماعة من الشيعة يؤولون الأخبار الواردة في
الرجعة على طريق الإستفاضة إلى رجوع الدولة ورجوع الأمر والنهي إلى
الأئمة «عليهم السلام» وإلى شيعتهم وأخذهم بمجاري الأمور دون رجوع
أعيان الأشخاص كما نقل ذلك السيد المرتضى عن جماعة من الشيعة تأوّلوا
الرجعة بذلك.
وإذا كان محققو الشيعة قد رفضوا هذا التأويل لعدم
لزوم محال عقلي في هذا الموضوع، فإننا نتصور أن هؤلاء القوم لم ينطلقوا
في تأويلهم من الإستحالة العقلية لأن الرجعة ليست أشد صعوبة من البعث
ولكنهم انطلقوا من الفكرة التي تثير التساؤل حول ضرورة ذلك فإذا كان
المقصود الإنتصاف للمظلومين من الظالمين وغلبة المحقين على المبطلين،
فإن ذلك حاصل في يوم القيامة، وإذا كانت القضية هي إظهار الحق على
الباطل، وبسط العدل في الكون فإن وجود الدولة المهديّة الشاملة كفيل
بذلك، وإذا كانت المسألة تحقيق الأمنيات في دولة الحق للمؤمنين وشفاء
غيظهم من معاصريهم من المبطلين فيما يمكن أن تحققه الرجعة من حصول
الأماني وشفاء الغيظ، فإن يوم القيامة يحقق ذلك بأعظم مما يحدث من خلال
الرجعة لأنه يتصل بالمصير الأبدي في النعيم والشقاء.
إن المسألة ليست مرتبطة بالإمكان والإستحالة، بل هي
مرتبطة بالمبررات العملية الواقعية في ضرورة ذلك، مما يجعل التأويل
أكثر قربا للالتزام بالأحاديث من إبقائها على ظاهرها، لا سيّما عند
مواجهة التحدّيات الفكريّة في هذه المسألة التي لا تمثل ـ في طبيعتها ـ
أصلا من أصول العقيدة»([1]).
مع أن عدم التمكن من فهم مبررات الرجعة، وعدم قدرة
البعض على مواجهة التحديات المعاصرة، لا يخوّله تأويل الأحاديث التي قد
تصل إلى مائتين وعشرين حديثا، بالإضافة إلى أدلة وشواهد عديدة أخرى..
وقد تحدّثنا عن هذا الأمر في كتابنا: (مأساة الزهراء
«عليها السلام») ج1 ص103 ـ 106 فراجع.
888 ـ أدلة الرجعة لم يأت بها القرآن.
889 ـ أدلة الرجعة ليست قطعية.
890 ـ أدلة الرجعة هي الأحاديث المتواترة.
891 ـ أدلة المعاد قطعية لأنها من القرآن.
وسئل البعض:
السؤال: هل تؤمنون بما يقوله الشهيد مطهري من أن أدلة
الرجعة ليست كأدلة المعاد قطعية؟!
فأجاب:
«صحيح ذلك، لأن أدلة المعاد جاء بها القرآن، وهي مما
تسالم عليه المسلمون. أما الرجعة فقد دلت عليها الأحاديث وهي متواترة،
وإن اختلفت»([2]).
ونقول:
1 ـ إذا كانت أدلة المعاد قرآنية، فأدلة الرجعة أيضاً
كذلك، فإن هناك آيات كثيرة تدل على الرجعة.. وتتحدث عنها.
وقد ذكرها العلماء في كتبهم التي تتحدث عن هذا الموضوع،
حتى إن الحر العاملي ـ «رحمه الله» ـ قد أورد في كتابه: (الإيقاظ من
الهجعة بالبرهان على الرجعة) أربعاً وستين آية قرآنية تدل على هذه
القضية، وأن الأئمة المعصومين قد فسروها بها..
ومن هذه الآيات قوله تعالى ﴿وَيَوْمَ
نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا
فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾..
وهي ظاهرة الدلالة على هذا الأمر، وقد فسرتها الرواية عن الأئمة «عليهم
السلام» بذلك أيضاً.
وأما تفسير هذا البعض لهذه الآية بقوله:
«وذلك هو يوم القيامة الذي يحشر الله فيه الناس كلهم
المؤمنين منهم والمكذبين بآيات الله»([3]).
فلا مجال لقبوله، لأن كلامه هذا يناقض تصريح الآية بأن
الحشر هو لفوج ممن يكذب، وليس لكل من يكذب ولا يكون ذلك إلا في الرجعة
قبل يوم القيامة..
2 ـ إن أحاديث الرجعة تعد بالمئات، وقد ذكر العالم
الجليل السيد عبد الله شبر: أنها قريب من مائتي حديث صريح رواها نيف
وأربعون من الثقات العظام، والعلماء الأعلام في أزيد من خمسين من
مؤلفاتهم، كالكليني، والصدوق، والطوسي، والمرتضى، والكشي، والنجاشي،
والعياشي، والقمي، وسليم، والمفيد, والكراجكي والنعماني..
إلى أن قال:
«وإذا لم يكن هذا متواتراً، ففي أي شيء دعوى التواتر،
مع ما روته كافة الشيعة خلفاً عن سلف، وظني أن من يشك في أمثالها فهو
شاك في أئمة الدين، ولا يمكنه إظهار ذلك من بين المؤمنين.
فيحتال في تخريب الملة القويمة، بإلقاء ما يتسارع إليه
عقول المستضعفين، من استبعادات المتفلسفين، وتشكيكات الملحدين، يريدون
ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون..»([4]).
3 ـ وقول هذا البعض: صحيح ذلك لأن أدلة المعاد جاء بها
القرآن، وهي مما تسالم عليه المسلمون.
يظهر منه: أن أدلة الرجعة ليست قطعية.. مع أن آيات
القرآن قد دلت عليها..
كما أن الحديث المتواتر باعترافه قد دلّ عليها أيضاً،
فهل يكون ما دل عليه الحديث المتواتر ليس قطعياً؟!
إنه لأمر عجيب وغريب، فإن المتواتر يفيد القطع واليقين
بلا ريب، وهذا هو الفرق بين المتواتر، وبين غيره..
4 ـ إن البديهيات تختلف وتتفاوت، فالبديهيات الدينية،
قد تكون عقلية كوجود الله وتوحيده وصفاته.. وقد تكون سمعية وهي التي
جاء النص الصريح والقطعي فيها بحيث إن أي مراجع لذلك الدليل بعيدا عن
الهوى والعصبية سيكون مضطراً للإنقياد للحق، والإنصياع له، كما أن
البديهي قد يكون بديهياً عند فئة من الناس ولا يكون بديهياً عند فئة
أخرى، فهناك بديهيات لدى الفقهاء، وبديهيات لدى علماء الكلام. وبديهيات
لدى أهل الحديث وعلوم القرآن.. وهكذا، وهناك بديهيات في كل علم كعلم
الفلسفة والنحو والطب وما إلى ذلك. فإذا لم تكن مسألة الرجة من
البديهيات العقلية، فلا يدل ذلك على أنها ليست من بديهيات الدين.
فإذا اختلف علماء الكلام مع علماء الفقه في أمر فقهي،
فلا يعني ذلك أن الأمر ليس من البديهيات.
وكذلك لو اختلف الناس العاديون أو الفقهاء مع علماء
الحديث أو الكلام في أمر يختص بالحديث أو بالإعتقادات، فإن ذلك لا يخرج
البديهي عن بداهته.
إذن.. ليس كل ما اختلف فيه المسلمون يكون ظنياً، فإن
الإختلاف في البديهي لأجل الشبهة لا يجعل البديهي نظرياً وإلا، لكان من
ينكر وجود الله ليس منكراً للبديهي.. وذلك ظاهر وما عليه إلا أن يرجع
إلى كتاب المنطق للشيخ محمد رضا المظفر ج1 ص 22 و 23، ليعرف صحة هذا
الأمر..
892 ـ إغلاق ملف البداء من عقائد الشيعة.
893 ـ الإشكال في البداء تعبيري.
894 ـ لنسقط عقائدنا تلافيا للحملات
الظالمة.
ثم إن ذلك البعض يدعو إلى إخراج عقيدة البداء من عقائد
الشيعة، تفاديا للحملات الظالمة، ويعتبر أن الخلاف في هذا الموضوع
تعبيري لا معنوي، فهو يقول:
«ولعل أفضل طريقة شيعية للتعبير عن معنى البداء لدى
الشيعة ما ذكره الشيخ المفيد في أوائل المقالات بقوله:
«أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في
النسخ وأمثاله من الإفقار بعد الإغناء والإمراض بعد الإعفاء والإماتة
بعد الإحياء وما يذهب إليه أهل العدل خاصّة من الزيادة في الآجال
والأرزاق والنقصان منها بالأعمال. فأما إطلاق لفظ البداء فإنما صرت
إليه بالسمع الوارد عن الوسائل بين العبد وبين الله عزّ وجلّ، ولو لم
يرد به سمع أعلم صحّته ما استجزت إطلاقه كما انه لو لم يرد علىّ سمع
بان الله تعالى يغضب ويرضى ويحب ويعجب لما أطلقت ذلك عليه سبحانه.
ولكنه لما جاء السمع به صرت إليه على المعاني التي لا تأباها العقول،
وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب، وإنما خالفهم من خالفهم في
اللفظ دون ما سواه وقد أوضحت من كلمتي في إطلاقه بما يقصر معه الكلام
وهذا مذهب الإمامية بأسرها، وكل من فارقها في المذهب ينكره على ما وصفت
من الإسم دون المعنى ولا يرضاه.
وإنني أرى أنه لا بد من إغلاق ملف الحديث وعدم
إدخاله في تفاصيل عقيدة الإمامية، لأن الإشكال فيه تعبيري لا معنوي،
وقد كانت هناك تعبيرات صادرة عن الأئمة «عليهم السلام» في مواجهة بعض
الأفكار المطروحة في زمانهم ضد اليهود، أو لحالات معينة ظرفية، ليكون
الحديث عنها مقتصرا على مواقع الجدل في تفسير أحاديث الأئمة «عليهم
السلام» التي وردت فيها هذه الكلمة مقارنة بالأحاديث التي وردت فيها
الإشارة إلى المعنى الظاهر منها لتتفادى من خلال إبعاد عنوان البداء عن
خط العقيدة ـ كما هو الصحيح ـ مواجهة الحملات الظالمة التي يشنها البعض
على الشيعة، وليستنبطوا من بعض الكلمات أن الشيعة يبررون بالبداء ما
يصدر عن الأئمة «عليهم السلام» أو منهم بطريقة معينة، ثم يصدر منهم أو
من الأئمة بطريقة أخرى مخالفة لها تماما، كما يتحدثون ـ بنفس الأسلوب ـ
عن عقيدة الشيعة في التقية، لأن الإصرار على الكلمات الموحية في ظاهرها
بغير ما نعتقده، هو إصرار على أمر لا ضرورة فيه بل قد يكون فيه ضرر
كبير على العقيدة والمذهب، ونحن نعرف أن الكلمات قد تموت في زمن
المستقبل بعد أن كانت حية في الزمان الماضي، لأن الظروف التي اقتضت
استعمالها في هذا المعنى أو ذاك حقيقة أو مجازاً، تغيرت وتبدلت مما
يعني تغيّر وسائل التعبير عن المعاني في حركة التطور في التعبير»([5]).
ونقول:
هل كل عقيدة تشن الحملات الظالمة علينا من أجلها يلزم
أن نتخلى عنها؟! وماذا سيبقى من هذه العقائد والشعائر في نهاية الأمر؟!
وماذا لو كان البعض يشن حملات ظالمة على الإسلام نفسه فهل نتخلى عنه
أيضاً؟!
على أنه تحسن الإشارة إلى أن هذا البعض قد ذكر أن الشيخ
المفيد قد أشار إلى الفرق الجوهري بين عقيدة الشيعة في البداء وعقيدة
غيرهم، حيث قال أهل العدل خاصة بالزيادة في الآجال والأرزاق، والنقصان
منها بالأعمال([6]).
هذا وقد روي عن الإمام الصادق والباقر «عليهما السلام»:
«ما عبد الله تعالى بشيء مثل البداء»([7]).
([1])
مجلة الفكر الجديد ص13 (مقالة مع الشيخ المفيد في تصحيح
الإعتقاد) ومجلة المعارج، المجلد السادس السنة الثامنة ص328 و
329.
([3])
من وحي القرآن (الطبعة الثانية ـ دار الملاك) ج17 ص281.
([5])
المعارج المجلد السادس، السنة الثامنة العدد 28 ـ 31 ص352 و
353 ومجلة الفكر الجديد، (مقالة مع المفيد في تصحيح الإعتقاد)
ص37 و 38.
([6])
راجع: مع المفيد في تصحيح الإعتقاد ص37.
([7])
سفينة البحار ج1 ص61.
|