هذا ويروي طيفور، وأبو حيان التوحيدي هذه الرواية
الغريبة، فيقول:
لما قتل عثمان خرجت عائشة والناس مجتمعون، وعلي فيهم
(؟!)، فقالت: «أقتل أمير المؤمنين عثمان»؟!
قالوا:
نعم.
قالت:
«أما والله لقد كنتم إلى تسديد الحق وتأكيده أحوج منكم
إلى ما نهضتم إليه من طاعة من خالف عليه، ولكن كلما زادكم الله صحة في
دينه، ازددتم تثاقلاً عن نصرته طمعاً في دنياكم.
أما والله لهدم النعمة أيسر من بنيانها، وما الزيادة
إليكم بالشكر بأسرع من زوال النعمة عنكم بالكفر. أما لئن كان فني أكله،
واخترم أجله، إنه لصهر رسول الله «صلى الله عليه وآله» وسلم مرتين، وما
علمنا (خلقاً) تزوج ابنتي نبي غيره، ولو غير أيديكم قرعت صفاته لوجد
عند تلظي الحرب متجرداً، ولسيوف النصر متقلداً، ولكنها فتنة فدحت بأيدي
الظلمة.
أما والله لقد حاط الإسلام وأكده، وعضد الدين وأيده،
ولقد هدم الله به صياصي أهل الشرك، ووقم (أذل) أركان الكفر.
لله المصيبة به ما أفجعها، والفجيعة به ما أوجعها، صدع
والله مقتله صفاة الدين، وثلمت مصيبته ذروة الإسلام، تباً لقاتله،
أعاذنا الله وإياكم من التلبس بدمه، والرضا بقتله»([1]).
أضاف طيفور قوله:
«وعلي جالس في القوم، فلما قضت كلامها قام وهو يقول:
أرسل الله على قتلته شهاباً ثاقباً، وعذاباً واصباً»([2]).
ونقول:
لا ريب في عدم صحة هذا الكلام فـ:
أولاً:
لم تكن عائشة في المدينة حين قتل عثمان، لأنها خرجت
منها قبل قتله، ولم تعد إليها إلا بعد حرب الجمل.
ثانياً:
إنها لم تر علياً ولم يرها علي «عليه السلام» منذ ما
قبل قتل عثمان، وإلى وقعة الجمل بالذات، ولم تخطب في جمع فيهم علي
«عليه السلام».
ثالثاً:
لا معنى لقولها: كنتم إلى تسديد الحق وتأكيده أحوج منكم
إلى ما نهضتم إليه من طاعة من خالف عليه.. فإنها هي نفسها كانت من أشد
من خالف على عثمان، وأمرت بقتله، وقولها: اقتلوا نعثلاً فقد كفر قد
سارت به الركبان.
فهل كانت ترضى منهم بمعصيتها فيما تأمرهم به؟!
رابعاً:
ما ذكرته الرواية، من أن عثمان صهر رسول الله «صلى الله
عليه وآله» على ابنتيه مرتين لا يصح، فقد أثبتنا في العديد من كتبنا
المؤلفة لمعالجة هذا الموضوع: أنه لم يكن لرسول الله «صلى الله عليه
وآله» بنت لصلبه غير الزهراء «عليها السلام».. ولا أقل من أن الأدلة
تسوق الباحث إلى الشك القوي في ذلك..
على أن تزويج إنسان شخصاً ابنته لا يعني أن لذلك الشخص
فضيلة يمتاز بها على غيره، إلا إذا كان الله تعالى قد أمر بهذا
التزويج، ليدل به على الكرامة والفضيلة، وفيما عدا ذلك نقول:
إن للتزويج أسباباً مختلفة.. فكيف إذا كان التزويج
الثاني قد جاء بعد قتل الصهر للبنت التي تزوجها أولاً، كما تؤكد عليه
بعض الروايات هنا؟!
خامساً:
إنها قد اعتبرت قتلة عثمان ظلمة، وأن ما جرى له كان
فتنة. فلماذا شاركت هي في الفتنة، وأعانت الظلمة حين أمرتهم بقتله؟!
سادساً:
إذا كانت توبتها وتوبة طلحة والزبير نافعة، في دفع
العقوبة عنهم على ظلمهم على حد تعبيرها، فلماذا لا تنفع التوبة سائر من
شارك في قتله كمشاركة طلحة فيه. ولِم لَم تمنع من عقوبتهم؟! أما علي
«عليه السلام» فإن نفس هذه الرواية المزعومة تبين: أنه «عليه السلام»
يدين قتلة عثمان، ويدعو عليهم بأن يرسل الله عليهم شهاباً ثاقباً،
وعذاباً واصباً..
كما أنه
«عليه السلام»
قد حاول دفع القتل عن عثمان، لكن عثمان لم يرضى بالوفاء بتعهداته،
فلماذا تشن عائشة هذه الحرب عليه؟!
ولكننا نريد أن نفترض ـ ولو محالاً
ـ:
أنه شارك في قتله كما شارك طلحة، وعائشة والزبير،
فلماذا أرضتهم توبتهم التي ادعوها لأنفسهم.. ولم يرضهم هذا الموقف من
علي «عليه السلام»، رغم أنه برئ مما يتهمونه به؟!
سابعاً:
إن ما ذكرته عن عثمان، من أن الله تعالى قد هدم به
صياصي أهل الشرك، ووقم (أذل) أركان الكفر، لم نعرف له وجهاً، فإن عثمان
لم يفعل شيئاً من ذلك، لا في زمن النبي «صلى الله عليه وآله»، ولا
بعده، إلى أن قتل.
والذي نظنه:
هو أنهم أرادوا بمخترعاتهم هذه إصابة عدة عصافير بحجر
واحد، ومن ذلك:
1 ـ
إظهار جرأة عائشة، وبلاغتها، إلى حد أنها تخطب بحضور
سيد الفصحاء وإمام البلغاء علي بن أبي طالب..
2 ـ
الحصول على موافقة علي «عليه السلام» على أمور يراد
التسويق لها، وإشاعتها، وإظهار أنها حقيقة لا مراء فيها. باعتبار أنه
«عليه السلام» قد سمعها، ولم يعترض عليها.
3 ـ
إنها تريد الإيحاء: بأن الذين قتلوا عثمان لم يفعلوا
ذلك بقرار من عند أنفسهم، بل كانوا مدفوعين من غيرهم، كما يدل عليه
قولها: «ما نهضتم إليه من طاعة من خالف عليه».
4 ـ
إشاعة: أن عثمان قد تزوج ابنتي الرسول «صلى الله عليه
وآله» ـ لا ربيبتيه ـ وتأكيد ذلك: بإمضاء علي «عليه السلام» له بسكوته
عنه.. وذلك يشير إلى فضل عثمان وعظمته، بل وأرجحيته على علي «عليه
السلام» حيث لم ينل هذه الفضيلة أحد من خلق الله سواه.
5 ـ
إعطاء الحق لعثمان، وإدانة مناوئيه وقاتليه، وتبرئته
مما ينسب إليه.
6 ـ
التأكيد على براءتها من التحريض على قتل عثمان..
والتخفيف من حد النقد الموجه إليها في حربها لعلي «عليه السلام».
قال المفيد «رحمه الله»:
لما تم أمر البيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب
«عليه السلام»، واتفق على طاعته كافة بني هاشم، ووجوه المهاجرين
والأنصار والتابعين بإحسان.
وأيس طلحة والزبير مما كانا يرجوانه بقتل عثمان من بيعة
الناس لأحدهما بالإمامة.
وتحققت عائشة بنت أبي بكر تمام الأمر لأمير المؤمنين
«عليه السلام» وإجماع الناس عليه، وعدولهم عن طلحة والزبير، وعلمت: أنه
لا مقام لهما بالمدينة بعد خيبتهما مما أمَّلاه من الأمر، وعرف عمال
عثمان: أن أمير المؤمنين «عليه السلام» لا يقرهم على ولاياتهم، وأنهم
إن ثبتوا في أماكنهم أو صاروا إليه طالبهم بالخروج مما في أيديهم من
أموال الله تعالى، وحذروا من عقابه على خوضهم في خيانة المسلمين،
وتكبرهم على المؤمنين، واستخفافهم بحقوق المتقين، واجتبائهم الفجرة
الفاسقين، عمل كل فريق منهم على التحرز منه، واحتال في الكيد له،
واجتهد في تفريق الناس عنه.
فسار القوم من كل مكان إلى مكة استعاذةً بها، وسكنوا
إليها لمكان عائشة بها، وطمعوا في تمام كيدهم لأمير المؤمنين «عليه
السلام» بالتحيز إليها، والتمويه على الناس بها.
وكانت عائشة تعلم:
أن كثيراً من الناس يميل لها لكونها زوجة رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، وأنها من أمهات المسلمين، وابنة أبي بكر المعظم
عند الجمهور، وأنها كانت أيضاً مقربة من عمر، وأن كل عدو لعلي بن أبي
طالب «عليه السلام» يلتجئ إليها، متى أظهرت عدم قبولها بالبيعة له،
ودعت إلى حربه، وافساد أمره، ولأنهم لا يزالون يمنون أنفسهم بالأموال
والإمتيازات وبالخلافة ما بقي الأمر خارج يد علي وبني علي «عليهم
السلام».
فلما تواترت الأخبار عليها ـ وهي بمكة ـ في تحيزها عن
عثمان لقتل([3])
المسلمين له، قبل أن تعرف ما كان من أمر المسلمين بعده، عمل([4])
على التوجه إلى المدينة، راجيةً بتمام الأمر بعد عثمان لطلحة والزبير
زوج أختها.
فلما سارت ببعض الطريق لقيت الناعي بعثمان، فاستبشرت
بنعيه له، وما كان من أمر الناس في اجتماعهم على قتله.
ثم استخبرت عن الحال بعده، فأخبرت أن البيعة تمت لأمير
المؤمنين بعده، وأن المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان وكافة أهل
الإيمان اجتمعوا على تقديمه والرضا به، فساءها ذلك وأحزنها وأظهرت
الندم على ما كان منها في التأليب على عثمان، والكراهة لتمام الأمر
لعلي بن أبي طالب «عليه السلام».
فأسرعت راجعة إلى مكة، فابتدأت بالحجر، فتسترت فيه.
ونادى مناديها باجتماع الناس إليها، فلما اجتمعوا تكلمت من وراء الستر
تدعو إلى نصرة عثمان، وتنعاه إلى الناس وتبكيه، وتشهد أنه قتل مظلوماً.
وجاءها عبد الله بن [عامر] الحضرمي عامل عثمان على مكة
فقال: قرت عينك! قتل عثمان، وبلغت ما أردت من أمره.
فقالت:
سبحان الله! أنا طلبت قتله؟! إنما كنت عاتبة عليه من
شيء أرضاني فيه؛ قَتَل عثمان والله مَنْ عثمان خير منه وأرضى عند الله
وعند المسلمين، والله ما زال قاتله ـ تعني أمير المؤمنين «عليه السلام»
ـ مؤخراً منذ بعث محمد «صلى الله عليه وآله»، وبعد أن توفي يَعْدِلُ
الناس عنه إلى الخيرة من أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله»، ولا يرونه
أهلاً للأمور. ولكنه رجل يحب الإمرة، والله لا نجتمع عليه ولا على أحد
من ولده إلى يوم القيامة.
ثم قالت:
معاشر المسلمين إن عثمان قتل مظلوماً! ولقد قتله من
إصبع عثمان خير منه.
وجعلت تحرض الناس على خلاف أمير المؤمنين «عليه
السلام»، وتحثهم على نقض عهده.
ولحق إلى مكة جماعة من منافقي قريش، وصار إليها عمال
عثمان الذين هربوا من أمير المؤمنين «عليه السلام». ولحق بها عبد الله
بن عمر بن الخطاب، وعبيد الله أخوه، ومروان بن الحكم بن أبي العاص،
وأولاد عثمان وعبيده وخاصته من بني أمية.
وانحازوا إليها، وجعلوها الملجأ لهم فيما دبروه من كيد
أمير المؤمنين «عليه السلام».
وجعل يأتيها كل من تحيز عن أمير المؤمنين «عليه السلام»
حسداً له ومقتاً وشنآناً له، أو خوفاً من استيفاء الحقوق عليه، أو
لإثارة فتنة، أو إدغال في الملة، وهي على ملتها وسنتها، تنعي إليهم
عثمان، وتبرأ من قاتله، وتشهد له بالعدل والإحسان، وتخبر أنه قتل
مظلوماً، وتحث الناس على فراق أمير المؤمنين «عليه السلام»، والإجتماع
على خلعه([5]).
ونقول:
لاحظ الأمور التالية:
لا ندري كيف نفهم قول عائشة هنا
منكرة أمرها بقتل عثمان:
«سبحان الله! أنا طلبت قتله»؟! مع أن قولها: اقتلوا
نعثلاً فقد كفر.. أشهر من «قفا نبك». وقد سارت به الركبان. ويعرفه
الخاص والعام، والقاصي والداني، حتى قال لها الشاعر:
فـمـنـك البـداء ومنـك
الـغـير ومـنـك الـريـاح ومـنـك الـمـطر
وأنـت أمـرت بـقـتـل الإمـــام وقـلــت لــنـا: إنـه قـــد
كــفـر
كما أنها استبشرت بقتله وتوجهت نحو المدينة، فلما علمت
بالبيعة لعلي: قالت ليت هذه أطبقت على هذه أو نحو ذلك. ثم جاءها عبد
الله بن عامر يهنئها بقتل عثمان.. إلى غير ذلك مما يجده المتتبع
لمواقفها من عثمان. فهل نسيت أم المؤمنين ذلك كله بهذه السرعة؟! وكيف؟!
ولماذا؟! وأين قوة حافظتها المزعومة، حيث يزعمون أنها حفظت آلاف
الروايات.
ومهما افترضنا من مبررات، فإنها لا يمكن أن تبرر
تعريضها نفسها لهذه الفضيحة الهائلة لو لم يكن هناك هدف ترجو الحصول
عليه يفوق كل السلبيات التي يمكن تصورها من خلال قراءة تناقضات
تصرفاتها. ونقف على مدى هجنتها وغرابتها، وبعدها عن المنطق السوي.
وقد ذكر الشيخ المفيد «رحمه الله»:
أن عمال عثمان خافوا من علي «عليه السلام» من عدة جهات
هي:
1 ـ
أن يطالبهم بأموال الله التي احتجنوها في ولاياتهم.
وحتى لو اكتفى علي «عليه السلام» باسترجاع ما انتهب، إلا أن هذا
المقدار أيضاً لم يكن بإمكانهم قبوله، لأسباب عديدة منها: أن شرههم
البالغ يمنعهم من التخلي عن تلك الأموال، وإن كانوا قد سرقوها من أموال
الله، أو من أموال الناس. وسيكون إخراجها من أيديهم بمثابة إخراج
أرواحهم من أجسادهم.. وهذا هو منطق الذين يكون كل همهم هو الدنيا وما
فيها.
كما أن استرجاع هذه الأموال يؤكد للناس خيانتهم، وعدم
التزامهم بشرع الله، وبالأخلاقية الإنسانية في أدنى مستوياتها..
والأهم من ذلك:
أن هذا الإجراء يعد سابقة يؤسس لنهج لا يمكنهم تحمله،
ولا الصبر عليه، لأنه يمنعهم من الاستفادة من أهم خصوصياتهم التي تبرر
لهم أعمالهم الصالحة والطالحة، بما في ذلك: خياناتهم للمسلمين في أموال
بيت المال، وغير ذلك مما نشير إليه فيما يلي.
2 ـ
أن يحاسبهم على خوضهم في خيانة المسلمين. ولا ينتهي هذا
الحساب على النحو الذي ينتهي به الاستيلاء على مال الله تعالى.. لأن
طبيعة هذه المخالفة تختلف عما سواها لما تضمنه من تعريض الدين والأمة
أعظم الأخطار.. فلا بد من مواجهتها بالعقاب الرادع لهم، والذي يعطي
العبرة لغيرهم..
3 ـ
أن يحسم الأمر معهم في أمر أخلاقي، وهو تكبرهم على
المؤمنين، لأن التكبر حين يصبح في دائرة التداول العملي، فإنه يمثل
عدواناً على الكرامات، وتضييعاً للحقوق. فلا يمكن السماح باستمراره..
بل لا بد من لجمه، وإسقاطه، وأخذ حق الناس منهم، بحسب طبيعة ممارساتهم
تجاه ضحاياهم..
واللافت هنا:
أن تكبرهم
إنما كان على أهل الإيمان، وقد جاء على عكس ما وصف الله تعالى به
المؤمنين، حين قال:
﴿أَذِلَّةٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾([6]).
فهم ليس فقط يتعززون على المؤمنين، بل يتجاوزون ذلك إلى التكبر عليهم..
4 ـ
إن هؤلاء يستخفون بحقوق المتقين. وهذه مخالفة أخرى لا
مجال للسكوت عليها، فإن الاستخفاف بالحقوق جريمة في حد ذاته، فكيف إذا
كان هذا الاستخفاف يأتي من قبل الحاكم، الذي يفترض أن يحفظ الحق لأهله،
وأن يبادر لمنع وقمع أي تجاوز وتعد عليه وعليهم؟! وكيف إذا كان يستخف
بحقوق أهل الإيمان، وخصوصاً المتقين منهم، فإن الاستخفاف بحقوق هؤلاء
يكون أشنع وأقبح، وخصوصاً ممن يستمد قوته ونفوذه، ويدعي أن الذي خوله
موقعه هو خليفة يدعي أنه امتداد لحكومة إمام المتقين، وسيد المرسلين؟!
5 ـ
ويزيد الأمر خطورة، وشناعة وقباحة: أن هذا الذي يدعي أنه قد جاء ليحقق
أهداف الأنبياء، يؤكد في الناس نهجهم، ويشيع فيهم العمل بشرع الله، لا
يكتفي بالاستخفاف بحقوق المتقين، وبغير ذلك مما تقدم، وإنما يتجاوزه
إلى اجتباء الفاسقين ليكونوا أعوانه، وبطانته، والمشيرين عليه.
إننا نرى:
أن عائشة تكون في أشد الحالات تناقضاً حين تتحدث عن علي
«عليه السلام»، أو تريد أن تتخذ موقفاً تجاهه.. إن كلماتها عنه،
ومواقفها منه تذهب في اتجاهين متناقضين.
فهي تارة:
تحاربه «عليه السلام»، وتسعى في قتله، وتعتبر عثمان، بل
إصبعاً منه خيراً من علي «عليه السلام»، وتصرح أيضاً: بأن عثمان خير
منه وأرضى عند الله وعند المسلمين.
ثم تقول:
إنه ليس أهلاً للأمور، وإنه يحب الإمرة، بل هي «لا تقدر
على أن تذكره بخير»([7]).
أو كما يقول معمر:
«لا تطيب نفساً له بخير»([8]).
وحين استشهد «عليه السلام» أظهرت شماتة، وتمثلت بشعر
بعض الناس، وسجدت شكراً لله، وغير ذلك([9]).
وأخرى:
تروي لنا عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» فضائل علي
«عليه السلام»، وأنه لا أحد أحب إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» من
علي([10]).
وفي نص آخر زادت قولها:
«إن كان ما علمته صواماً قواماً»([11]).
وتقول عنه:
علي أعلم الناس بالسنة([12]).
إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه.. فما هذه التاقضات
الفاضحة؟! وبماذا ستجيب ربها يوم القيامة؟!
وذكرت عائشة:
أن عثمان خير وأرضى عند الله، وعند المسلمين.
ولست أدري كيف أستطيع أن أفهم قولها هذا؟! فقد رضي الله
تعالى علياً «عليه السلام» ولياً وإماماً للناس بعد رسول الله «صلى
الله عليه وآله» وبايعه المسلمون، بتدبير ورعاية منه «صلى الله عليه
وآله»..
وبعد خمس وعشرين سنة عاد الناس إليه، وأجمعوا عليه،
وأجبروه على قبول البيعة منهم بعد أن قتلوا عثمان الذي هيأ عمر له
الأمور، ومنعوا من دفنه في مقابر المسلمين. حتى دفن في مقابر اليهود،
بعد خمسة أيام من إلقائه في مواضع لا يحسن ذكرها!
فهذا يبين حال الناس الذين كانوا يرون أن علياً «عليه
السلام» كهفهم ومفزعهم في المهمات والملمات منذ استشهاد رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، ويبين حال عثمان عند الناس..
ثم كان لعثمان أعمال اقتضت أن يتخذ منها الرسول الأعظم
«صلى الله عليه وآله» موقفاً يعرف به الناس ما لعثمان عند الله تعالى
أيضاً. فكان موقفه منه في بعضها هو منعه من حضور دفن زوجته، بسبب ما
فعله بها، وفي بعضها تعجب «صلى الله عليه وآله» من طول غيبته بعد فراره
من ساحة الجهاد في أحد.. وقال له: لقد ذهبت بها عريضة..
كما أنه «صلى الله عليه وآله» قد انتصر لعمار حين تهدده
عثمان وأسمعه ما يكره.. إلى غير ذلك مما لا نرى حاجة لتعداده..
ولم نجد لعلي عند الله ورسوله إلا التكريم والتعظيم،
والإشادة بمناقبه وفضائله، والتنويه بجهاده وتضحياته، وعلمه إلخ..
فكيف صار عثمان الذي كان هذا حاله عند الله وعند رسوله،
أرضى عند الله من أمير المؤمنين «عليه السلام»؟! بل أكثر من ذلك، فقد
نزلت عدة آيات تدين عثمان. منها قوله تعالى:
﴿يَمُنُّونَ
عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ
بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾([13]).
ومنها قوله تعالى:
﴿عَبَسَ
وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾([14]).
ومنها الآيات التي تدين الفارين من الزحف، وهو منهم.
علي
مؤخر منذ بعث النبي
’:
وذكرت عائشة:
أن علياً «عليه السلام» كان مؤخراً منذ بعث محمد «صلى
الله عليه وآله»، وبعد أن توفي، يعدل الناس عنه إلى الخيرة من أصحاب
النبي «صلى الله عليه وآله»، ولا يرونه أهلاً للأمور.
ونلاحظ على هذا الكلام:
أولاً:
لم نعرف المراد من تأخير علي «عليه السلام» منذ بعث «صلى الله عليه
وآله»، فإنه لم يزل الأمير في كل زحف على أعيان الصحابة وكبارهم، ولم
يؤمر عليه أحداً منذ بعث، وكان هو المقدم على جميع بني هاشم في حديث
انذار العشيرة، وكانت البيعة له دون سواه في يوم الغدير. وهو المبلغ
لآيات سورة براءة إلى مشركي مكة.. وهو الذي آخاه رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، وهو الأمير في كل غزوة وسرية، وهو الذاب عن رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، والفادي
له بنفسه، وهو باب مدينة علمه، وكان منه بمنزلة هارون من موسى. وقد سد
الأبواب الشارعة في المسجد إلا بابه إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه..
ثانياً:
إن كان المقصود بتأخيرهم لعلي «عليه السلام» بعد وفاة رسول الله «صلى
الله عليه وآله» هو ما جرى في السقيفة من اغتصاب حقه بالخلافة، وتأخيره
عنها بالقهر والعدوان، غير آبهين بكل ما قاله الرسول «صلى الله عليه
وآله» في حقه، ناكثين لبيعتهم له «عليه السلام» يوم الغدير، فذلك لا
يضره، بل هو يدين غيره ما دام أن الله ورسوله قدماه على جميع الخلق..
بل إن ذلك يدل على تقديم الله ورسوله له «عليه السلام»،
وتأخير مناوئيه الذين وصفتهم عائشة بالخيرة من الصحابة!!
ثالثاً:
ليس ثمة ما يدل على أن تأخير الصحابة لعلي «عليه السلام» كان لأجل أنهم
لا يرونه أهلاً للأمور. بل ظاهر فعلهم، وصريح بعض ما صدر منهم وعنهم
يبين: أن السبب هو حب الإستيثار عليه بما أرادوا أن يجعلوه من أسباب
الحصول على الدنيا وزخرفها..
ويكفي في بيان هذا الهدف قولهم حول صلاة أبي بكر التي
عزله النبي «صلى الله عليه وآله» عنها في مرض موته: كيف لا نرضى
لدنيانا ما رضيه رسول الله صلى الله عليه لديننا؟!
على أن المهم:
هو أن يراه الله ورسوله أهلاً للأمور، لا أن يراه هذا
الصحابي أو ذاك، خصوصاً إذا كان من مناوئيه، ولا قيمة لرؤية ولا لرأي
أي كان من الناس إذا خالف قول وأمر وتدبير الله ورسوله في حقه «عليه
السلام»..
علي
يحب الإمرة:
وعلى قاعدة:
رمتني بدائها وانسلت، جاء قول عائشة عن علي «عليه
السلام»: «ولكنه رجل يحب الإمرة». فإن الذي قاتل على الإمرة ليغتصبها،
ويأخذها من صاحبها الشرعي بغير حق هو الذي يحب الإمرة، وكيف يكون علي
«عليه السلام» محباً للإمرة، وقد بقي الناس خمسة أيام يلاحقونه ويصرون
عليه بقبول البيعة منهم، وهو يرفض ذلك؟!
كما أنه هو الذي يقول للناس في ذي
قار، وهو يخصف نعله:
«والله لهي
أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً»([15]).
وكيف يحب الإمرة، وقد كان بإمكانه يوم السقيفة أن
يقاتلهم، وأن يقتل من شاء منهم، لعدوانهم الظاهر على حقه، ولتجاوزهم كل
الخطوط الحمراء في ذلك، ولكنه سكت عنهم حفظاً لدين الله، ورفقاً
بعباده.
وقد حاولت عائشة أن تنبئ عن الغيب، وفقاً لما تتمناه،
فخابت تنبؤاتها، وظهر أنها مجرد أوهام وأحلام، لا صلة لها برسول الله
«صلى الله عليه وآله»، وإن حاولت أن توهم الناس بوجود هذه الصلة،
لدفعهم إلى التعلق بها والكون إلى جانبها لتفوز بنصرتهم لها، ولإضعاف
ارتباطهم بعلي «عليه السلام»..
فأخبرت أن الأمة لا تجتمع عليه ولا على أحد من ولده..
مع أن الأمة كلها أجمعت على بيعته، حتى طلحة والزبير، باستثناء بعض
الطلقاء، وأبنائهم، ومنهم: عمال عثمان، كمعاوية، ويعلى بن منية، ممن
يخافون من الحساب والعقاب على خياناتهم وعلى ما احتجنوه من الأموال،
وارتكبوه في حق الدين من الجرائم والعظائم. وقد تلاقى هذا الإجماع على
بيعته مع ما قرر الله ورسوله، وتجلى بالبيعة الشاملة له «عليه السلام»
يوم الغدير..
ثم أجمعت الأمة على إمامة الإمام الحسن الزكي «عليه
السلام»، الذي حكم الله ورسوله بإمامته للبشرية.
على أنه لا حاجة إلى إجماع أحد بعد أن قرر الله ورسوله
إمامته «عليه السلام»، وإمامة باقي الأئمة الإثني عشر «عليهم السلام».
بل كان المطلوب هو الطاعة والإنقياد، ثم عقوبة كل من تخلف، إن لم يمكن
ذلك في الدنيا ففي الآخرة بسبب هتكهم لحرمة الذات الإلهية، وتمردهم على
ما قرره رسوله.. وما ألحقوه بالأمة من أضرار مباشرة، أو غير مباشرة وما
تسببوا به من خلافات فيها، وما فوتوه عليها من منافع..
([1])
الإمتاع والمؤانسة ج3 ص199 و 200 وبلاغات النساء لطيفور ص20 و
21 و (ط مكتبة بصيرتي ـ قم) ص11 وشرح إحقاق الحق (الملحقات)
ج32 ص442.
([2])
بلاغات النساء (ط دار النهضة الحديثة سنة 1972م) ص21 و (ط
مكتبة بصيرتي ـ قم) ص11.
([5])
كتاب الجمل للشيخ المفيد ص226 ـ 228 و (ط مكتبة الداوري ـ قم ـ
إيران) ص119 ـ 121 وأشار المعلق في الهامش إلى المصادر
التالية: الإمامة والسياسة ج1 ص52 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص180
وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص448 ـ 450 والفتوح لابن أعثم ج1 ص434
والشافي ج4 ص357 ـ 358 وتلخيص الشافي ج4 ص159 والكامل في
التاريخ ج3 ص206 ـ 208 والبداية والنهاية ج7 ص229 ـ 230.
([6])
الآية 54 من سورة المائدة.
([7])
راجع: قاموس الرجال ج12 ص299 وفي هامشه عن: أنساب الأشراف ج1
ص544 وراجع: المسترشد للطبري ص126 ومناقب أهل البيت للشيرواني
ص472 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص28 وتاريخ الأمم والملوك
ج2 ص433 وعمدة القاري ج5 ص192 وفتح الباري ج2 ص131 وخلاصة
عبقات الأنوار ج3 ص287 والغدير ج9 ص324 و 392 وشرح إحقاق الحق
(الملحقات) ج32 ص415 وأعيان الشيعة ج1 ص293 .
([8])
عمدة القاري ج5 ص192 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص287 وفتح الباري
ج2 ص131 والمراجعات ص319 والغدير ج9 ص324 و 325 و 392 ومسند
أحمد ج6 ص34 228 والمصنف للصنعاني ج5 ص430 والطبقات الكبرى
لابن سعد ج2 ص232 وسبل الهدى والرشاد ج11 ص175 والمسترشد
للطبري هامش ص126 وقاموس الرجال ج12 ص299 وشرح إحقاق الحق
(الملحقات) ج31 ص45.
([9])
مقاتل الطالبيين ص55 و (ط المكتبة الحيدرية) ص26 والجمل للشيخ
المفيد (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص84 والجمل لابن شدقم ص26
والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص40 وتاريخ الأمم والملوك ج5 ص150
و (ط مؤسسة الأعلمي) ج4 ص115 وبحار الأنوار ج32 ص340 وكتاب
الأربعين للشيرازي ص624 ومناقب أهل البيت للشيرواني ص471
والمراجعات للسيد شرف الدين ص318 ونهج السعادة ج8 ص508 وشيخ
المضيرة أبو هريرة ص172 والكامل في التاريخ ج3 ص394 ومستدرك
سفينة البحار ج7 ص512 وقاموس الرجال للتستري ج12 ص261 وجواهر
المطالب لابن الدمشقي ج2 ص104 والشافي في الامامة ج4 ص355 وعن
حياة الحيوان للدميري ج1 ص68.
([10])
راجع: المستدرك للحاكم ج3 ص154 والعقد الفريد ج4 ص123 وخصائص
أمير المؤمنين علي «عليه السلام» للنسائي ص127 والسنن الكبرى
للنسائي ج5 ص139 و 140 حديث 8496 و 8497 والرياض النضرة ج3
ص104 والأمالي للشيخ الطوسي ص249 وذخائر العقبى ص35 وبحار
الأنوار ج37= = ص40 ومناقب أهل البيت للشيرواني ص145 و 146 و
151 وخلاصة عبقات الأنوار ج1 ص302 وموسوعة أحاديث أهل البيت
للنجفي ج1 ص190 وسنن الترمذي ج5 ص362 وخصائص أمير المؤمنين
«عليه السلام» للنسائي ص109 ونظم درر السمطين ص177 وتاريخ
مدينة دمشق ج42 ص262 و 263 وأسد الغابة ج5 ص522 وسير أعلام
النبلاء ج2 ص125 ولسان الميزان ج5 ص154 والجوهرة في نسب الإمام
علي وآله ص17 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص44 و 635 والبداية
والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص390 وفضائل أمير
المؤمنين لابن عقدة ص27 ومطالب السؤول ص35 وجواهر المطالب لابن
الدمشقي ج1 ص54 وينابيع المودة ج2 ص39 و 55 عن مشكاة المصابيح
ج3 ص1735 حديث 6146.
([11])
الجامع الصحيح للترمذي ج5 ص658 والمستدرك للحاكم ج3 ص157
ومناقب أهل البيت للشيرواني ص233 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج4
ص1897 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج10 ص169 وج25 ص125 عن
الجوهرة (ط دمشق) ص17.
([12])
الإستيعاب (هامش الإصابة) ج3 ص40 والمناقب للخوارزمي ص91
والصواعق المحرقة ص127 وتاريخ الخلفاء ص160 والرياض النضرة ج3
ص141 وشرح الأخبار ج2 ص310 و 561 وذخائر العقبى ص78 وكتاب= =
الأربعين للشيرازي ص442 وبحار الأنوار ج40 ص179 وفتح الملك
العلى لابن الصديق المغربي ص73 والتاريخ الكبير للبخاري ج2
ص255 وج3 ص228 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص408 والجوهرة في نسب
الإمام علي وآله ص72 والوافي بالوفيات للصفدي ج21 ص179 وكشف
الغمة ج1 ص115 والعدد القوية ص249 وكشف اليقين ص57 وينابيع
المودة ج2 ص170 وبناء المقالة الفاطمية لابن طاووس ص203 و 221
وغاية المرام ج5 ص200 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص31 وج31
ص463 و 464 عن محاضرة الأوئل (ط الأستانة) ص62 وعن مختصر تاريخ
دمشق (ط دار الفكر) ج18 ص26 وعن علي إمام المتقين لعبد الرحمن
الشرقاوي (ط مكتبة غريب الفجالة) ج1 ص98.
([13])
الآية 17 من سورة الحجرات.
([14])
الآيتان 1 و 2 من سورة عبس.
([15])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص80 الخطبة رقم33 وبحار الأنوار
ج32 ص76 و 113 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص93
والإرشاد للمفيد ج1 ص247 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص370 وشرح مئة
كلمة لأمير المؤمنين لابن ميثم البحراني ص228 والجمل لابن شدقم
ص112 ونهج السعادة ج1 ص249 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص185.
|