وقد قال المفيد فيه : خبر صحيح يشهد به إجماع أهل الآثار . وقال في الافصاح : انه خبر متواتر . وقد رواه علماء المذاهب الاسلامية الكبرى ، كافة : الشيعة الامامية ، والزيدية ، وأهل السنة : وأمر اسناده مفروغ عنه ، فلذلك لم يطول الشيخ في البحث عنه ، وإنما تعرض لمعناه ومدلوله .
فذكر أولا : أن القران يشهد لمعناه في ايات صريحة : منها قوله تعالى :
" يوم ندعوا كل اناس بإمامهم . . . " .
وقوله تعالى :
" فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " .
ومدلول الحديث : أن عدم معرفة الانسان إمام زمانه يؤدى إلى أن يموت ميتة جاهلية ، على غير ملة الاسلام ، " فالجهل بالامام يخرج صاحبه عن الاسلام " كما يقول المفيد في الافصاح ( ص 28 ) .
إذن ، لابد من وجود إمام في كل عصر وزمان ، ولابد للمسلم أن يعرف صاحب عصره ، وإمام زمانه ، وإلا مات ميتة الكفر والضلالة الجاهلية .
والشيعة الامامية يعتقدون بامام العصر وصاحب الزمان عندهم وأنه هو محمد بن الحسن العسكري
، وأنه المهدي المنتظر خروجه في اخر الزمان ، وأنه غاب بعد فترة من ولادته ، وهم يعتقدون بغيبته .
وقد اعترض بعض المخالفين على هذا الاعتقاد بأنه يتعارض ومنطوق الحديث ، وتصور أن غيبة الامام تنافي معرفغنا به ، لان وجوده تستلزم العلم بمكانه ، والاتصال به والاستفادة منه . فقدم اعتراضات عديدة :
1 - فاعترض على الغيبة بأنه : إذا كان الخبر صحيحا ، فكيف يصح قول الشيعة في امام هذا الزمان أنه غائب ، مستتر عن الجميع ، لا يتصل به أحد ، ولا يعلم مكانه ومستقره ؟
وأجاب الشيخ المفيد عن هذا ، بأن مدلول الخبر هو " لزوم وجود الامام و لزوم معرفة المسلم به " ولم يتضمن " وجوب ظهوره وعدم غبيته " فالاعتقاد بالغيبة لا ينافي مدلول الخبر ، وتوضيح ذلك : أن الوجرد والمعرفة لا تستلزم ما ذكر في الاعتراض من الاتصال والعلم بالمكان ، فإن معرفة الامر لا تتوقف على مشاهدته والحضور عنده فقط ، لما هو المحسوس من معرفتنا لامور كثيرة لم نرها ولم نحضرها ، كالامور والحوادث الماضية التي عرفناها وحصل عندنا العلم بها ، وكذا
نعرف أشياء وأمورا تقع في المستقبل من دون أن نتصل بها كيوم القيامة والحشر والنشر . ثم إن المصلحة قد تتعلق بمجرد معرفة الشئ أو الشخص ، ولا تتعلق بمشاهدته ومعرفة مكانه أو الاتصال به .
2 - واعترض على الغيبة بأنه : ما هي المصلحة في مجرد معرفة الامام مع عدم الاتصال به ؟
وأجاب الشيخ المفيد بأن نفس معرفتنا بوجوده وإمامته وعصمته و فضله وكماله ، تنفعنا بأن نكتسب بها الثواب والاجر ، لامتثالنا لامر الله بذلك ، ونستدفع بذلك العقاب الذي توعدنا عليه بجهله ثم إن انتظارنا لظهوره عبادة نثاب عليها ، ندفع بها عن أنفسنا العقاب . ثم إنا نؤدي بهذه العقيدة واجبا إلهيا فرضه الله علينا .
3 - ثم فرض المخالف سؤالا حاصله : إذا كان الامام غائبا ومكانه مجهولا فماذا يصنع المكلف وعلى ماذا يعتمد المبتلى بالحوادث الواقعة ، إذا لم يعرف أحكامها ؟ ! وإلى من يرجع المتخاصمون ؟ ! وإنما المرجع في هذه الامور إلى الامام ، وهو المنصوب لها !
وأجاب الشيخ المفيد :
أولا : أن هذا السؤال لاربط له بموضوع البحث عن حديث " من مات . . . " بل هو سؤال جديد ، وبحث مستأنف . فأشار بهذا إلى مخالفة المعترض في تقديم هذا السؤال لقواعد البحث والمناظرة حيث أدخل سؤالا أجنبيا ضمن البحث ، وقبل الفراغ عنه ! ومع ذلك ، فقد أجاب الشيخ عن هذا السؤال بكل أدب وصبر .
وثانيا : إن واجبات الامام - المنصوب لا جلها - كثيرة : منها : الفصل بين المتنازعين .
ومنها : بيان الاحكام الشرعية للمكلفين وامور اخرى - من مصالح الدين والدنيا . لكن الامام إنما يجب عليه القيام بهذه الامور كلها بشرط التمكن والقدرة على إنفاذ كلمته ، وبشرط الاختيار . ولا يجب على الامام شئ لا يستطيعه ، ولا يجب عليه الايثار مع الاضطرار .
وثالثا : إن الامام إدا كان في ظروف التقية والاضطرار ، فليس ذلك من فعل الله تعالى ، ولا من فعل الامام نفسه ، ولا من فعل المؤمنين من شيعته . بل ذلك من فعل الظالمين ، من أعدائه الغاصبين للخلافة والحكم على المسلمين الذين أباحوا دمه ، ونفوا نسبه ، وأنكروا حقه ، وغير ذلك من التصرفات التي أدت إلى وعدم ظهوره .
فالنتائج المؤسفة المترتبة على الغيبة من تضييع الاحكام ، وتعطل الحدود ، وتأخر المصالح ، وعروض المفاسد ، كل تلك الاضرار تقع مسؤليتها على عاتق أولئك الاعداء الظالمين . والامام ، والمؤمنون ، بريئون عن ذلك كله ، فلا يحاسبون به !
وأما المبتلى بالحوادث الواقعة : فيجب عليه الرجوع إلى العلماء من فقهاء الشيعة ، ليعلم من طريقهم احكام الشريعة المستودعة عندهم . ومع عدم المرجع للاحكام ، أو عدم النص في مقام الحكم المبتلى به ، فالمرجع في ذلك هو حكم العقل ،ببيان أنه لو كان حكم شرعي سمعي - في المقام - لتعبدنا الله به ، بابلاغه ، وإظهاره ، فعدم الدليل عليه ، دليل على عدم حكم شرعي خاص في مورده ، بل المرجع هو حكم العقل .
وهكذا المتخاصمون : يرجعون إلى الاحكام الواردة عن الشارع من خلال الرجوع إلى فقهاء الشيعة ، ومع عدم النص فالمرجع إلى احكام العقول المقبولة عند الاعراف .
والحادث الذي لا يعلم بالسمع إباحته من حظره ؟ فإنه على " أصل الاباحة " . وقد ذكر مثل الاعتراض ، ونفس الجواب فيما أورده الشيخ الصدوق في مقدمة ( إكمال الدين ) ( ص 81 ) .
4 - واعترض أخيرا : بأن الامة إذا كان بإمكانها الاعتماد في العمل بالدين على ما ذكر من النصوص ، والاجتهاد ، واحكام العقول ، ثم الاصول ، فهي - إذن - مستغنية عن الامام ، وليست بحاجة إليه ! فلماذا الالتزام بوجوده في الغيبة ؟
وأجاب الشيخ المفيد عن ذلك :
بأن الحاجة إلى الامام مستمرة ولو كان غائبا ، فعدم الحضور ، وعدم الاتصال به لا يوجب الاستغناء عن وجوده ، كما أن عدم حضور الدواء عند المريض لا يؤدي إلى استغناء المريض عنه ، ومع عدم حصول الدليل لا يستغني المتحير عنه ، بل هو بحاجة إليه وان كان مفقودا له .
ثم لو التزم بالاستغناء عند الغيبة ، للزم عدم الحاجة إلى الانبياء عند غيباتهم ، كغيبة النبي
وسلم في شعب أبي طالب ثلاث سنين ، وفي الغارعدة أيام ، وغيبة موسى النبي
في الميقات ، وغيبة يونس في بطن الحوت . وهذا مما لا يلتزم به مسلم ، بل و لا أي شخص ملي يعتقد برسالة سماوية .
وقد ذكر هذا الاعتراض في ( إكمال الدين ) أيضا ( ص 81 ) لكن جواب الشيخ المفيد هو الجواب الوافي .
وقد ذكر الشيخ في الجواب عن الاعتراض الثالث نكتة مهمة ، وهي : أن الخصوم يلتزمون - كافة - بالاجتهاد في الا حكام ، ويلجأون إلى الاجتهاد ، من بعد زمان رسول الله
وسلم مباشرة ( أي بعد سنة ( 11 ) هجرية ) .
وأما نحن فنلتزم بالاجتهاد بعد عصر ظهور الائمة
و بالتحديد بعد الغيبة الصغرى ( سنة ( 329 ) هجرية ) . فحالنا في عصر الغيبة ، هي عين حالهم ؟ فما وجه اعتراضهم علينا في مسألة الاحكام .
ونحن ، وإن اضطررنا - لمكان الغيبة - إلى اللجوء إلى الاجتهاد - بهذا الشكل - لكنا مع ذلك ملتزمون بوجود إمام لعصرنا ، نعرفه بالشخص والاسم والصفة ، فنحن ممتثلون لما ورد في الخبر المذكور ، بعيدون عن الجاهلية وميتتها .
واما الخصوم - فمهما كانت معالجتهم لفروع الشريعة - فما هو موقفهم من مدلول هذا الحديث المجمع عليه سندا ، والواضح دلالة ؟ وبمن ياتمون في دينهم ، ومن هو " الامام " عليهم في عصرهم وزمانهم ؟ ! وإذا كانوا لا يعرفون " إماما " فالحديث عين ، بأية ميتة يموتون ؟