الجمع بين الصلاتين
كنت يوماً في مخيم الرشيدية (1) في رأس العين مع بعض الإخوان من أهل فلسطين، فقال لي رجلٌ منهم: لقد رأيت حال الشيعة وسبرت أخلاقهم وعاداتهم فوجدتهم متمسكين بالدين الإسلامي كل التمسك، ولم أجد ما يعابون به سوى شيء واحد.
فقلت: وما هذا الشيء الذي تعيبهم به؟
[الشيعة تجمع في صلاتها]:
قال:إنّهم يجمعون بين الصلاتين.
قلت: وهل من حرج عليهم في ذلك، بعدما صرحوا بأنّ النبي
جمع وفرّق.
قال: إنّ النبي
إنمّا جمع في السفر.
قلت له: قد صحّ عندكم ورويتم في كتبكم أن النبي
: «صلّى الظهر ثمانياً والعشاء سبعاً، من غير خوف ولا سفر ولا مطر ولا حرب ولا عذر من الأَعذار»(2).
وقيل لابن عمر: «لماذا فعل رسول الله
ذلك؟ فقال: لئلا يُضَيِّق على أمته»(3).
فإذا كانت الشيعة تفعل ما فعله رسول الله فلا يجوز عيبهم والتشنيع عليهم، فإنّكم بذلك تعيبون رسول الله
وتشنعون عليه.
[أيهما أفضل الجمع، أم التفريق؟!]:
قال:الحقّ معكم، وإني أستغفر الله مما فرط، ولكن أيّهما أفضل: الجمع أم التفريق؟
قلت: لا أدري.
قال: يجب أن تدري.
قلت: هذا لا يخصني، ولا يجب عليَّ معرفته، فإنّ الشارع هو الله، والله لا يسأل عما يفعل، والمبلغ عنه رسول الله
، ورسول الله أعرف بما جاء به، ومثلي يجب عليه التسليم فقط.
[الإفتراء على أحد علماء الشيعة]:
قال: فإنّي سألت أحد مشايخ الشيعة عن ذلك، وقال لي: إن التفريق أفضل، وأدلك عليه إذا شئت، هو الشيخ حسن شمس الدين من حنويه.
قلت: إنّ الشيخ هو أجل قدراً من أن يعطيك الجواب هكذا على مثل هذا السؤال.
قال: بلى والله لقد سألته وأجابني هكذا.
قلت: لعلك لم تفهم معنى كلامه.
قال: بلى والله لقد فهمت، وهو ما قلته لك.
قلت: كلا ليس الأَمر كذلك، وإني أستطيع أن أعرّفك ما قاله الشيخ لك.
قال:وما الذي تظنّه قال؛ حيث لم تصدق قولي؟.
قلت: إنّي لم أكذّبك، وإنمّا قلت: إنّك لم تفهم معنى كلامه، وعلى كل حال إن صحّ أنه أجابك، فإنّه يقول لك: حيث ثبت أن رسول الله
فعل الأَمرين علمنا بتساوي الفضلين، لأنّه لا يعقل أن رسول الله
ترك الأَفضل وعمل ماهو دونه في الرتبة، لأنّه
ما عرض عليه أمران إلّا واختار أشدهما عليه ليزداد أجره بزيادة المشقة، ونحن الآن مخيرون بين الجمع والتفريق، ورسول الله
فعل الأَمرين، فهما في الفضل سواء، فلا حرج علينا في أي الفعلين التزمنا.
ثم قلت له: لنفرض جدلاً أن رسول الله
لم يجمع بين الصلاتين إلّا لعذر كالمطر والسفر والحرب وغيرهما من الأَعذار.
فتهلل وجهه، وقال: والأَمر كذلك.
قلت له: فقد صحّ أنه جمع، والجمع كان لعذر.
فقال: نعم.
قلت: إن كان العذر يبيح الجمع بين الصلاتين، فما المانع من الجمع بين الصلوات الخمس، فيصليها كلها دفعة واحدة في وقت واحد.
قال: إنّ الصلاة لا تجوز قبل دخول الوقت، ولو أدّاها المكلّف قبل وقتها لم يسقط الوجوب بعد دخوله، وكذا لا يجوز تأخيرها عن وقتها مع الإختيار.
قلت:إنّ الجمع بين صلاتين يقتضي إمّا تأخير أولاهن عن وقتها، أو تقديم الثانية عليه، وعلى أي الوجهين فإنّ إحدى الصلاتين وقعت في غير وقتها، لأَن وقتيهما متغايران بزعمك.
قال:إنّ الجمع بين الظهر والعصر فيه شيء من التسامح، وذلك لقرب الوقتين بعضهما من البعض.
قلت: هذا التسامح هل كان من الرسول
خاصة أم عن أمر الله تعالى، فإن زعمت أنّه من الرسول كذبك الله عزّ وجلّ لأنّه وصف الرسول
بأنّه ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى﴾(4) وإن قلت: إنّه من الله، دلّ على اتحاد الوقتين، قل ما شئت فإنّ الحق معنا.
قال(5):ومشروعيّة الجمع إن كانت لقرب الوقتين بعضهما من بعض فلِمَ لم يجمع بين العصر والمغرب، فإنّ القرب بين وقتهما كالقرب بين وقتي الظهر والعصر، وكالقرب بين وقتي المغرب والعشاء، بل يجب على هذا القياس أن تجمع بين الأربع صلوات في وقت واحد؟!
قال: لقد أشكل عليَّ الأَمر، وليس في وسعي الجواب.
[المخالف يعجز عن الجواب]:
قلت: تزعمون أن الجمع بين الصلاتين كان لعذر، فلا يخلو الأمر أن يكون صلّى إحدى الصلاتين في غير وقتها، ولم يسقط وجوبها عند دخول الوقت، فتركها عمداً، فتشهد عليه بقلة الدين ووضع الشيء في غير محله، فتكون قد كفرت، وأنت تدعي الإسلام، وإمّا أن يكون الوقت مشتركاً كما تزعم الشيعة، فيكون
صلّى الصلاتين في وقتهما، وهو ما عليه الشيعة، والسلام.
[المخالف يعترف بالحق]:
قال الرجل: أشهد أن الحق معكم، وأن من نازعكم واعترضكم متعد مبطل.
[توضيح.. وزيادة بيان]:
قلت: أزيدك بياناً، أن المصلحة الإِنسانية تقتضي الجمع أكثر من التفريق، وذلك أن الناس ليس كلهم مترفاً حتى أنّه يفرغ نفسه لمراعاة الأوقات، بل غالب الناس أهل كدٍّ وأصحاب أعمال، ولا يمكن للعامل أن يوقت لكل صلاة وقتاً، لأنّ صاحب العمل لا يسره التعطيل ونقص الشغل، كذلك لا تساعده الظروف، ولعله ينسى الصلاة في بعض الأوقات، حيث يغلب عليه التعب، أو لا يمكّنه صاحب العمل من التفرغ لكل صلاة، فإذا جمع بين الصلاتين سلم من كل هذه المحذورات.
قال: صدقت، هذا صحيح.
قلت: وانظر في قوله تعالى: ﴿أَقِم الصلاةَ لِدُلوكِ الشمسِ إلى غَسق الليلِ وقُرآن الفجرِ إنَّ قرآنَ الفجرِ كانَ مشهوداً﴾(6)، أتراه ذكر غير ثلاثة أوقات؟، وانظر في قوله عقيب هذا بلا فصل: ﴿وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّد بهِ نَافِلَةً لَكَ﴾(7)، ألم تكن صلاة الليل واجبة لو لم يقل: ﴿نَافِلَةً لَكَ﴾(8)؟.
[المخالف يخطئ في الحساب]:
قال:بلى والله، ولكن لو جمعت الآية الأَولى إلى قوله تعالى: ﴿أَقِم الصلاةَ طَرَفَي النهارِ وَزُلَفاً من اللّيل﴾(9)، لكان المجموع خمس صلوات.
فقلت: لَشَدّ(10) ما غلطت، بل كان المجموع ستة(11)، لاَنّ الاُولى دلّت على ثلاثة أوقات، ودلّت الثانية على ثلاثة أوقات أيضاً.
قال: إنّ قوله: ﴿إلى غَسق الليلِ﴾(12)، ﴿وَزُلَفاً مِن اللّيل﴾(13) يدلان على وقت واحد.
قلت:أوَما علمت أن من أوّل الفجر إلى ركود الشمس في دائرة نصف النهار يسمى صباحاً، ومن الدلوك وهو زوال الشمس عن دائرة نصف النهار إلى الغروب يسمى مساءً، وأن المراد بطرفي النهار الصباح والمساء، فكما دلّ الغسق والزلفى من الليل على وقت واحد كذلك يدلّ الفجر والطرف الأوّل من النهار على وقت واحد، ويدلّ الدلوك والطرف الثاني على وقت واحد.
فسكت الرجل ولم يحر جواباً.
[التحقيق لمعرفة الحقيقة]:
وفي اليوم الثاني ذهبت إلى حنويه وأخبرت الشيخ حسن بما حصل، وطالبته بما أجاب به الرجل.
فقال: لم يكن الأَمر هكذا، وإنمّا صلّى الرجل معنا صلاة المغرب، وبعد الفراغ؛ قال: أراك جمعت بين الصلاتين؟
فقلت له: جوابك يأتي بعد الآن.
ثم لم يمض نصف ساعة وإذا جميع الحضور غلب عليهم النوم، فقلت له: هذا جواب سؤالك..
أترى هؤلاء لو لم يصلوا العشاء مع صلاة المغرب ألَم يكن سيفوت الكثير منهم الصلاة؟
ولو نبَّههم أحد هل يحصل منهم التوجه إلى الصلاة والإِقبال عليها كما يجب؟
فقال لي: صدقت.
والحمدلله ربّ العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) مخيم الرشيدية لللاجئين الفلسطينين يقع في لبنان جنوب مدينة صور الساحلية في الجنوب اللبناني على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وقد أنشئ عام 1948، وتبلغ مساحته 248.4 دونما وأرضه مستأجرة من قبل الأونروا..
(2) راجع: صحيح البخاري ج 1 ص 137 وصحيح مسلم ج 2 ص 152 والسنن الكبرى للبيهقي ج 3 ص 167 وعمدة القاري للعيني ج 5 ص 30 وج 7 ص 236 وتحفة الأحوذي للمباركفوري ج 1 ص 479 وعون المعبود للعظيم آبادي ج 4 ص 57 ومسند أبي داود الطيالسي لسليمان بن داود الطيالسي ص 341 والسنن الكبرى للنسائي ج 1 ص 157 والمعجم الكبير للطبراني ج 12 ص 137 وإرواء الغليل لمحمد ناصر الألباني ج 3 ص 38 وفقه السنة للشيخ سيد سابق ج 1 ص 292.
(3) القائل هو ابن عباس، راجع: صحيح مسلم: ج1 ص 490 ح50 و51 و53 و54، (باب الجمع بين الصلاتين) والمصادر السابقة..
(4) الآية 3 من سورة النجم.
(5) هكذا في المطبوع، ولعلها: (قلت) بدل (قال) وربما كان السؤال منه قدس سره.
(6) الآية 78 من سورة الإسراء.
(7) الآية 79 من سورة الإسراء.
(8) بمعنى: أنه قوله ﴿نَافِلَةً لَّكَ﴾ هو الذي أفهمنا أنها واجبه على خصوص النبي
، ولو لم يقل هذه الكلمة لفُهم أنها واجبة على جميع الناس لا على خصوص رسول الله
.. قال الزمخشري في كشّافه ج 2 ص 462: (﴿نَافِلَةً لَّكَ﴾ عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس، وضع نافلة موضع تهجداً؛ لأن التهجد عبادة زائدة فكأن التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد. والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة فريضة عليك خاصة دون غيرك، لأنه تطوع لهم). وراجع: بحار الأنوار ج 84 ص 121
(9) الآية 114 من سورة هود.
(10) هذا يشبه ما روي من أن هشام بن عبد الملك قال لزيد بن علي
: «ما فعل أخوك البقرة؟ ـ يعنى الباقر
ـ فقال زيد: لَشَدّ ما خالفت رسول الله
سماه الباقر، وسميته أنت البقرة لتخالفنه يوم القيامة يدخل هو الجنة وتدخل أنت النار». أي: لقد كثر مخالفته لرسول الله ’..
والمراد هنا: أن خطأك أصبح شديد الوضوح، (راجع: عمدة الطالب لابن عنبة ص 194 وبحار الأنوار ج 46 ص 296 ومواقف الشيعة للأحمدي الميانجي ج 3 ص 137 وسر السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري ص 33 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ص 286 وتاريخ الكوفة للسيد البراقي ص 381 وإعلام الورى بأعلام الهدى للشيخ الطبرسي ج 1 ص 494).
(11) هكذا في المطبوع، والصحيح: (ستاً).
(12) الآية 78 من سورة الإسراء.
(13) الآية 114 من سورة هود.
ملاحظة: هذه المناظرة للعلامة السيد مصطفى مرتضى العاملي قدس سره من موجودة في كتاب الحقيبة مناظرات ومحاورات.