صفحة :   

خلاف الأولى:

وربما نجد: أن بعضهم قد اختار في توجيه قضية آدم «عليه السلام» التعبير الذي يقول: إن ذلك كان من قبيل ترك الأولى؛ فقد قال العلامة الطباطبائي (رحمه الله):

«ابتلاء آدم «عليه السلام» كان قبل تشريع الشرايع، فكان المتوجه إليه إرشادياً. وما ابتلى به من المخالفة كان من قبيل: ترك الأولى»([1]).

وقال أيضاً عن التعبير القرآني الذي يوحي بصدور المعصية من آدم «عليه السلام»:

«إنما هي معصية أمر إرشادي، لا مولوي. 

والأنبياء «عليهم السلام» معصومون من المعصية والمخالفة في أمر يرجع إلى الدين الذي يوحى إليهم فلا يخطئون، ومن جهة حفظه فلا ينسون ولا يحرفون، ومن جهة إلقائه إلى الناس وتبليغه قولاً، فلا يقولون إلا الحق الذي أوحي إليهم، وفعلاً فلا يخالف فعلهم قولهم، ولا يقترفون معصية صغيرة ولا كبيرة، لأن في الفعل تبليغاً كالقول.

وأما المعصية بمعنى مخالفة الأمر الإرشادي الذي لا داعي فيه إلا إحراز المأمور خيراً أو منفعة من خيرات حياته ومنافعها بانتخاب الطريق الأصلح، كما يأمر وينهي المشير الناصح نصحاً؛ فإطاعته ومعصيته خارجتان من مجرى أدلة العصمة. وهو ظاهر.

وليكن هذا معنى قول القائل: إن الأنبياء «عليهم السلام» على عصمتهم يجوز لهم ترك الأولى. ومنه أكل آدم «عليه السلام» من الشجرة»([2]).

ونقول:

أولاً: علينا أن نحمل كلامهم على أن مقصودهم هو الترك المستند إلى المقدمات الصحيحة، التي تناسب عصمة النبي أو الوصي، وحكمته، وعقله، وتدبيره، بحيث يكون تركه للأولى من أجل أنه رأى في مرحلة الظاهر هذا الترك هو الأولى. وليس المقصود أنه عرف أنه الأولى، ثم تركه..

فإذا ظهر أن الواقع كان مخالفاً للظاهر، فإن ذلك لا يضر، لأنه تكليفه هو العمل بما ثبت له في مرحلة الظاهر..

والسبب في ذلك هو: أن تركه للأولى، إذا كان من أجل أنه لم يدرك أولويته، وكان عدم إدراكه لذلك يمثل نقصاناً في مستوى وعيه، وفهمه، وحكمته، أي أنه لا يدرك ما هو أولى وراجح، ولا يدرك أيضاً: أن عليه أن يأخذ بالراجح، ويلتزم به.

فمن المعلوم: أن ذلك لا يصح في حق الأنبياء والأئمة، كيف! وهم أعقل البشر، وأصحهم إدراكاً، وأحكمهم حكمة، وأصفاهم نفساً، وأعدلهم سجية، فلا يمكن أن يكونوا عاجزين عن إدراك ما يعقله ويدركه سائر الناس، خصوصاً فيما هو من قبيل إدراك جهات الحسن والقبح، وله علاقة بالتدبير الصحيح، ومن وظائف العقل الكامل، ومقتضيات الحكمة الرشيدة.

كما أن من الواضح: أن إدراك لزوم الأخذ بالراجح إنما يتأكد لدى العقلاء الحكماء، الذين لا ينطلقون في مواقفهم من هوى، ولا تدفعهم وتتحكم فيهم الغريزة العمياء، ولا تسيّرهم العصبيات أو العواطف..

وليس لنا أن نفرض: أنهم «عليهم السلام» يدركون ذلك كله، ويلتفتون إليه.. ولكنهم يميلون إلى الأخذ بالمرجوح، وترك ما هو راجح وأولى من دون أي سبب، سوى الاستهتار بالراجح. فإن ذلك معناه وجود خلل في درجة الحكمة، وفي التدبير الصحيح لديهم.

كما أنه يعني: أن ثمة خللاً أكيداً في توازن الشخصية النبوية والإمامية التي يفترض أن تكون في أعدل الأحوال.

ولا يكون ذلك بأقل من الاستخارة التي وردت مشروعيتها على لسان النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة الطاهرين «عليهم السلام» وأمرونا ـ ولو من غير إلزام ـ بالعمل بمقتضاها. فإن حقيقتها مشاورة الباري، وهو علام الغيوب في أمر ما.

فهي إشارة نصح وإرشاد وتوجيه إلى أن في العمل، أو في تركه خيراً وفائدة وصلاحاً.

والمعصومون «عليهم السلام» أولى الناس بالعمل بما فيه الخير والصلاح والأخذ بالأولى والأرجح، وهم الأسوة والقدوة لنا، أفتراهم يأمروننا بالعمل وفق الاستخارة التي هي نصح وإرشاد، وتوجيه للراجح، ثم يخالفون هم قضاء عقولهم في ذلك، ويختارون المرجوح؟!!.

وعلى جميع الفروض والتقادير، فإن إنساناً كهذا لن يكون هو الأصلح لمقام الأسوة والقدوة والهداية للناس إلى الرشد، وإلى الأصلح والأتم والأنفع لهم..

ولن يكون هو ذلك المربي الصالح، ولا الحافظ الناجح.. بل سيكون في سائر الناس من هو أولى منه بذلك، إذا كان بعيداً عن أمثال هذه الهنات، والتزم جانب الحذر، والمراعاة لما تقوده إليه حكمته، ويهديه إليه عقله، ويرشده إليه تدبيره..

وذلك كله يحتم علينا أن نقول: إنه حين يختار المعصوم المرجوح، فلا بد أن يراه على أنه هو الراجح، رؤية لا تخل بعصمته، ولا بحكمته، ولا بعقله، ولا بتدبيره، ولا بتوازن الشخصية لديه..

ولو بأن يقال: إن مرجوحيته إنما هي في مقام الواقع وراجحيته إنما هي في مقام الظاهر، والتكليف متوجه إليه بما هو في مرحلة الظاهر، وبحسب ما تؤدي إليه الأدلة، والحجج المجعولة، والتي يجب عليه الالتزام بها..

أما مرحلة الواقع فلا تكليف فيها حتى لو علم به من طرق أخرى، إذ أنه ممنوع عن متابعة علمه الواصل إليه منها..

وقضية آدم «عليه السلام» هي من هذا القبيل، كما سنرى. فيكون خلافه للأولى بحسب الواقع ونفس الأمر، إنما هو لصالح ما هو أولى منه في مرحلة الظاهر، بسبب ما استجد من عناوين مرجحة له إلى درجة التعيين والإلزام..

ولولا ذلك، فإن ارتكاب النبي آدم «عليه السلام» لخلاف الأولى يفقده الأهلية لمقام النبوة، ويجعله أهلاً للعقاب والعتاب، فإن مخالفة الأولى لا تقبل من الإنسان العادي، فكيف بنبي يعرف من اسم الله الأعظم خمسة وعشرين حرفاً، وهم يقولون: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وإذا جاز على الناس العاديين فعل مخالفة الأولى، فذلك لقصورهم أو لتقصيرهم، وإنما يعفو الله عنهم، ولا يعاتبهم، تفضلاً منه وتكرماً..

وصدور ذلك من الأنبياء، أصعب وأشد، فإن ذلك ينقص من مقامهم، حتى لو لم يعاقبهم الله ولم يعاتبهم، لأن العفو التفضلي لا يعني بقاء المعفو عنه على درجة الأهلية، ولا يرى الناس من يرتكب ذلك أهلاً لمثل هذه المقامات العظيمة البالغة الحساسية، بل هو يسقط محله من نفوسهم وقلوبهم..

ولو كان ما صدر من النبي آدم «عليه السلام» خلاف الأولى، لما حصل بسبب ما فعله على التكريم الإلهي والتعظيم، وعلى الجوائز والمقامات، والعوائد والهبات..

ولتوضيح ما نرمي إليه نعود فنقول:

إنه حين خالف النبي آدم «عليه السلام» الأولى، فإن كان يدرك أولويته، ثم تركه، فهناك خلل في مستوى وعيه، أو في حكمته، أو من حيث تسلط هواه عليه، أو عدم توازن في شخصيته..

وإن كان لم يدرك الرجحان، الذي من شأنه أن يدركه عامة الناس، ومع كون المورد أيضاً من موارد إدراكات العقول (كالحسن والقبح العقليين)، فهذا إنسان لا يليق بمقام النبوة، بسبب ضعف إدراكه، أو لوجود خلل عقلي لديه..

وموضوع إطاعة الأوامر هو مما يدرك الناس جميعاً وجوبه، استناداً إلى قانون الملكية والمملوكية، والمولوية والعبودية..

فإذا انتفى الأمران السابقان تعين الأمر الثالث، وهو أن يكون النبي آدم «عليه السلام» عالماً بما هو راجح في الواقع، ولكن رأى أنه قد عرضت له عناوين جعلته مرجوحاً في مرحلة الظاهر، أو العكس..

فالنبي آدم «عليه السلام» قد ترك الأولى في الواقع وعمل بالأولى، في مرحلة الظاهر.. فالصدق مثلاً أمر حسن في الواقع، لكن إذا كان يوجب قتل نبي، فإنه يصبح قبيحاً (في مرحلة الظاهر)..

ثانياً: إن لنا تحفظاً على ما ذكره العلامة الطباطبائي «رحمه الله» من حيث أن كلامه يوحي بأن عصمة الأنبياء تختص في أمور الدين من جهة تبليغها..

مع أن عصمتهم «عليهم السلام» لا تختص بهذه الناحية، بل هم معصومون في كل شيء من أمور الدين والدنيا، في التبليغ وفي غيره، وفي القول والفعل، والحفظ، وغير ذلك..


 

([1]) تفسير الميزان ج14 ص227.

([2]) المصدر السابق ج14 ص222.

 
   
 
 

موقع الميزان