وبما أن النسيان للميثاق مرتبط بالكلمات التي أنقذت آدم
«عليه السلام» من محنته كما سنرى. ولكي لا يخلو مقامنا هذا ولو من
إشارة موجزة إلى هذا الأمر،
فإننا
نضع أمام القارىء الأمور التالية:
ألف ـ
إن هناك روايات تحدثت عن عالم الذر، وأخذ الميثاق على الخلق، وهي كثيرة،
فلتراجع في مظانها([1]).
ب ـ
إن في بعض هذه الروايات عن أبي عبد الله «عليه السلام»: أن الله أخذ
على العباد ميثاقهم، وهم أظلة قبل الميلاد. وثمة روايات أخرى تشير
أيضاً
إلى عالم
الظلال، فراجع([2]).
قال العلامة الطباطبائي «رحمه الله»:
إن المراد به
ـ
كما هو ظاهر الرواية
ـ
وصف هذا العالم، الذي هو بوجه عين العالم الدنيوي، وله أحكام غير أحكام
الدنيا بوجه، وعينها بوجه([3]).
ج ـ
إن ثمة روايات تحدثت عن أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد قال لعلي
«عليه السلام»:
«أنت
الذي احتج الله بك في ابتداء الخلق، حيث أقامهم أشباحاً، فقال لهم:
ألست بربكم؟
قالوا:
بلى.
قال:
ومحمد رسولي؟
قالوا:
بلى.
قال:
وعلي أمير المؤمنين؟
فأبى الخلق جميعاً إلا استكباراً عن ولايتك إلا نفر
قليل، وهم أقل القليل، وهم أصحاب اليمين»([4]).
وعن جابر بن يزيد، قال: قال لي أبو جعفر:
«يا
جابر، إن الله أول ما خلق خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين، فكانوا
أشباح نور بين يدي الله.
قلت:
وما الأشباح؟
قال:
ظل النور. أبدان نورية بلا أرواح إلخ»([5]).
د ـ
قد دلت بعض تلك الروايات الصحيحة سنداً أيضاً على أن الناس ينسون ما
أخذه الله عليهم.
فقد روى القمي عن ابن ابي عمير، عن ابن مسكان، عن
الإمام الصادق في قوله:
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ
بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾..([6]).
قلت:
معاينة كان هذا؟!
قال:
نعم، فثبتت المعرفة، ونسوا الموقف، وسيذكرونه الخ..»([7]).
هـ ـ
إن ثمة روايات كثيرة، قال العلامة المجلسي (قده) إنها معتبرة، وأنها
قريبة من التواتر،
قد دلت على تقدم خلق الأرواح على الأجساد([8]).
وقال رحمه الله:
«وما
ذكروه من الأدلة على حدوث الأرواح عند خلق الأبدان مدخولة، لا يمكن رد
تلك الروايات لأجلها»([9]).
وعن أبي جعفر الثاني:
«خلق
الله محمداً وعلياً، وفاطمة،
فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم
عليها»([10]).
و ـ
قوله في هذا الحديث الأخير:
«وأشهدهم خلقها»
يجعل قول المفيد (قده):
«إنه
حين رأى آدم «عليه السلام»
«الأشباح النورية»
لم يكونوا في تلك الحال صوراً مجيبة، ولا أرواحاً ناطقة، ولكنها كانت
على مثل صورهم في البشرية»([11]).
يجعل
قوله هذا
من قبيل الاجتهاد في مقابل النص، ولعله لم يطلع على هذا الحديث
وأمثاله.
فالظاهر:
أن خلقهم «عليهم السلام» أشباحاً نورية بلا أرواح، قد
كان في مرحلة ونشأة هي
أسبق
من النشأة التي أشير إليها في حديث خلقهم، ثم خلق الأشياء التي أشهدهم
خلقها.
ز ـ
إن الإشكال الذي سجلوه على صحة خلق الأرواح قبل الأجساد، وهو أنه لو صح
ذلك للزم أن يتذكروا الأحوال السابقة، وهذا غير حاصل..
إن هذا الإشكال وغيره قد رفضه العلامة المجلسي (رحمه
الله)، حيث قال:
«قيام
الأرواح بأنفسها، أو تعلقها بالأجساد المثالية، ثم تعلقها بالأجساد
العنصرية مما لا دليل على امتناعه.
وأما عدم تذكر الأحوال السابقة، فلعله لتقلبها في
الأطوار المختلفة»..
إلى أن قال:
«مع
أن الإنسان لا يتذكر كثيراً من أحوال الطفولية والولادة»([12]).
وقد ذكرنا في موضع آخر:
أن الأجساد العنصرية تمثل حجاباً يمنع من التواصل مع حقائق الأشياء،
وتتضاءل درجة الإحساس بالأشياء بعد حلول الروح في الجسد، لأن ذلك إنما
يتم عبر وسائط وأدوات، لا تملك قدرات عالية في هذا الإتجاه، ولذلك نجد
أنه بعد انفصال الروح عن هذا الجسد، وكذلك بالتصرف الإلهي بتلك الحجب
يترقى الإنسان في إحساسه بالأمور وإدراكه لها، قال تعالى:
﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ
غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾..([13])
وقد ذكرنا ذلك في كتاب
«تفسير سورة هل أتى»
فراجع..
وعلى كل حال،
فإن مما يدل على ذلك أيضاً:
الحديث الصحيح المتقدم، حول آية إشهاد الخلق على أنفسهم حيث قال فيه:
فثبتت المعرفة، ونسوا الموقف وسيذكرونه.
([1])
راجع: تفسير الميزان ج9 ص225 وما بعدها وما قبلها، وراجع:
البحار ج64 وغيره.
([2])
البحار ج65 ص206 وراجع: ج58 ص139و140، وراجع: ج64 ص98 و99، عن
بصائر الدرجات ص80 وعن علل الشرائع ج2 ص80. وراجع: الكافي ج2
ص10 وتفسير الميزان ج9 ص326.
([3])
تفسير الميزان ج9 ص326.
([4])
البحار ج64ص127 وفي هامشه عن بشارة المصطفى ص144.
([5])
الكافي ج1 ص442 والبحار ج58 ص142..
([6])
الآية 172 من سورة الأعراف.
([7])
تفسير الميزان ج9 ص325 وراجع أيضاً ص330 عن المحاسن..
([8])
راجع في هذا الحديث الشريف: بحار الأنوار ج58 ص143 و144 و41
و80 و102 و136 و139 و137 و138 وج47 ص357 وج5 ص266 و261 وج11
ص172 وج8 ص308 وج42 ص196 وج26 ص320 وج4 ص222 وج65 ص205،
وفي
هوامش الصفحات السابقة عن المصادر التالية: رجال الكشي ص249،
والمسائل السروية وعن الكافي ج1 ص437 وعن معاني الأخبار ص108
و37 وعن بصائر الدرجات ص78 و88 و89 و24 و356 و354 بعدة أسانيد،
وعن الإختصاص ص354 وعن مناقب آل أبي طالب ج2 ص357.
([9])
بحار الأنوار ج58 ص141.
([10])
الكافي ج1 ص441 والبحار ج15 ص19.
([11])
البحار ج5 ص262 عن المفيد رحمه الله تعالى.
([12])
البحار ج58 ص144 في مناقشته لما قاله المفيد رحمه الله تعالى
في أجوبة المسائل السروية.
([13])
الآية
22 من سورة ق.
|