صفحة :   

تعهدات حول مستقبل النبي آدم في الجنة:

وحين أسكن الله سبحانه آدم «عليه السلام» الجنة، قال له: ﴿إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾..

ولتوضيح ما يرتبط بهذا الأمر، نقول:

أ ـ إن هذه الأمور الأربعة هي أدنى ما يحتاج إليه الإنسان في استمرار حياته وبقائها.

ب ـ إن هذه الأمور التي أشار الله تعالى إليها ليست هي من الأمور العارضة، أو فقل: الطارئة في حياة الإنسان، بحيث يمكن الاستغناء عنها في حين من الدهر. بل الحاجة إليها لا تتوقف. كما أن طبيعة وجودها تفرض دوام التعرض لتحصيلها، وإستمرار الطلب لها، والتعاطي معها، ولا يكفي لإنجازها بذل الجهد مرة واحدة ـ مثلاً ـ ثم ينتهي الأمر..

فإذا حصلت هذه الأمور للنبي آدم «عليه السلام»، كفاه ذلك، ولا يحتاج في استمرار حياته كإنسان إلى سواها..

غير أن من الواضح: أن هذا ليس هو نهاية طموح النبي آدم «عليه السلام»، وليس هو رمز سعادته، وسر وصوله إلى الجنة؟!

كما أن حصول النبي آدم على هذه الأمور الأساسية، قد جعل إبليس عاجزاً عن إطماعه «عليه السلام» بمثل هذه الأمور الأساسية والحساسة..

كما لا يمكن أن يغري النبي آدم بما يرتبط بلذة الجنس، فقد انسد باب التوسل بها لإغوائه، لوجود زوجته حواء معه.. وكذلك سائر الملذات التي في الجنة..

ولذلك فإنه حين عرض إبليس على النبي آدم الأكل من الشجرة لم يذكر له شيئاً عن مثل هذه الأمور لحمله على ذلك، بل اتجه إلى ما هو أسمى من ذلك، وجعله هو الخيار أمام النبي آدم «عليه السلام»..

ج ـ إنه تعالى حين أسكن آدم «عليه السلام» في الجنة قد أعطاه ما ينسجم مع طموحاته، ويتلاءم مع طبيعة ما يفكر فيه. حيث طمأنه إلى أنه سيرتاح من عناء التفكير، والعمل من أجل الحصول على ما يسد به الرمق، ويروي من الظمأ، ويستر العورة، ويقي من الحر والبرد، كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾، أي تدخل في وقت الضحى، وهو الوقت الذي يبدأ الإنسان فيه بالتضايق من الحر..

فإذا حصل على هذه الأمور الأربعة، فإنه سوف يعيش حياته من دون تنغيص أو ألم، ولا يحتاج إلى رسم الخطط وبذل الجهود للحصول عليها، كما أنه لا يحتاج إلى الحفظ، والحمل، والتصنيع، والإعداد، وغير ذلك. ولا يهمه بعد ذلك أن يحصل على خزائن الطعام، ولا على أطقم الألبسة، أو الأشربة المختلفة، أو القصور، فإن ذلك كله لا يزيد في الشبع، ولا في الستر، ولا في اعتدال الحرارة، ولا في الري..

ولكن تلك الزيادات، إن طلبت فإنما تطلب لأمر آخر.. لا تأثير له في حفظ الحياة، واستمرارها..

على أن من الواضح: أن هذا التعهد الإلهي معناه: أن الله تعالى إذا كان لا يرضى بأن يتعرض النبي آدم لأي ضيق أو أذى، فلا يرضى أن يبتليه بما هو أشد، كالأمراض الصعبة ولا السهلة مثلاً، ولا يرضى له بأن يعيش ذليلاً، أو مهاناً مثلاً..

كما أن هذا التعهد لا يعني أنه يحرمه من أنهار العسل المصفى، أو القصور، أو البساتين، أو غير ذلك. فقد يعطيه ذلك أيضاً..

ولعل السبب في أنه تعالى اقتصر على هذه الأمور، ولم يذكر لآدم «عليه السلام» أزيد منها، هو أن تلك الزوائد لا تمثل طموحاً له، فهو لا يفكر في اقتناء الأموال، واختراق الجبال، وإنشاء الجسور، وبناء القصور، واختراع الآلات التي تمكنه من التغلب على الموانع، وتمنحه الفرصة، وتسهل له الوصول إلى مراداته. فضلاً عن أن يفكر في المناصب، أو أن يسعى إلى امتلاك اسباب القوة والهيمنة والسلطان.. وما إلى ذلك.

إن ذلك كله زيادات لا يفكر فيها آدم «عليه السلام»، بل هو يرفضها، لأنه يريد أن يفرغ نفسه لطاعة الله الذي ملأ قلبه، وأخذ حبه عليه سمعه وبصره، وملك مشاعره.. ولا يريد أن يشغله عنه شيء، حتى ولو مثل التفكير بلقمة عيش يتقوى بها جسده، أو شربة ماء تحفظ حياته، فضلاً عما هو ابعد من ذلك.

د ـ ثم إن هذا العطاء الإلهي لآدم «عليه السلام» في الجنة، يشير إلى الرعاية والكرامة الإلهية التامة، والمحبة الحقيقية منه تعالى له. فإنه إذا كان بصدد حفظه حتى ولو من أن يتضايق من حرارة الشمس في وقت الضحى، حيث تبدأ حرارتها بالتأثير، فهل يرضى له بمعانات حرها وهي في أوج توقدها؟!، وهل يرضى بأن يواجه ما هو أشد وأقسى، وأعظم وأدهى؟!. مثل الآلام والأمراض، أو أن يواجه أذى أعدائه وكيدهم.. أو يعاني من الجهد والضنا في تحصيل مراداته، والوصول إلى غاياته؟!

وذلك كله يشير إلى أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا الخ.. قد جاء على طريقة ﴿وَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍ، الدال على المنع مما هو أشد كالإهانة، والضرب، ونحو ذلك.

 
   
 
 

موقع الميزان