صفحة :   

العصيان ليس هو التمرد:

ثم إنه قد اتضح أيضاً: أن معنى العصيان في قوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ.. ليس هو التمرد على الله، وكسر هيبته، وهتك حجاب عزته.. بل معناه عدم موافقة العمل المأتي به لظاهر كلامه سبحانه الذي جاء على شكل أمر أو نهي.

وبعبارة أخرى: مرة يلاحظ في الأمر حال الآمر وموقعه، وحرمته، وهيبته، وسيادته، ومولويته، فيكون للاستسلام، والعبودية، والسيادة، والموقعية، الدور في الانبعاث، والتحرك لامتثال الأمر، فيقال: لمن لم يتحرك للامتثال: «عصى»، بمعنى تمرد على مولاه، وكسر هيبته، وذلك مثل الأوامر التعبدية، التي لا يعرف المكلف الوجه، ولا المصلحة فيها..

ومرة يكون الانبعاث ناشئاً عن الشعور بأمرين، هما: لزوم حفظ السيادة وإدراك وجود مصلحة في المطلوب..

ومرة لا يكون لحال الآمر أثر في الأمر، فلا يكون سيداً ولا مولى، بل يكون صديقاً، ومخالفة أمره لا توجب كسر مولويته، ولا هتك حرمته، بل هو يستجيب لأمره من موقع اللياقة والمجاملة..

ومرة رابعة يكون إدراك وجود المصلحة هو الداعي والمحرك، كأمر الطبيب للمريض، فالداعي للطاعة هو الإحساس بجدوى المأمور به في الشفاء، وهذا الداعي هو معنى داخل في مضمون متعلق الطلب..

وكذا لو أعطيت السائل الطالب، فإن الإعطاء ليس لأجل امتثال أمره، ولا لحفظ مولويته وسيادته، بل لأن العاطفة تحركت في قلبك..

وإذا قال الببغاء: إفعل. فإن قوله لا يوجب أي تحريك..

فاختلاف الدواعي يوجب الاختلاف في العنوان الذي ينشأ عن المبادرة والامتناع، ولأجل ذلك فإن كلمة: «عَصَى»، يختلف معناها باختلاف هذه الحالات..

فمعصية الله غير معصية الطبيب والصديق، والسائل وغير ذلك. فمعصية الله في أوامره التعبدية معناه كسر هيبته، وهتك حرمته، والجرأة عليه، والتمرد على مولويته. أما معصيته في أوامره الإرشادية، أو الواردة في مقام التخيير، أو لأجل رفع الحظر، وكذلك معصية السائل، والطبيب، والصديق، فلا توجب ذلك..

فمثلاً، لو وصف لك طبيب دواء، لكن طبيباً آخر، قال لك: هذا الدواء يشفيك في شهر، وأنا أصف لك دواء يشفيك في ثلاثة أيام، ولكن بشرط أن تتحمل بعض المضاعفات التي تنشأ عنه، فأخذك بالدواء الذي وصفه الطبيب الثاني، لا يعني أنك عصيت الطبيب الأول، ولا يعني أنك هتكت حرمته، وخرقت هيبته، وليس هذا من العصيان القبيح، لأنك قصدت الحصول على الشفاء مع الأول، ومع الثاني، فأنت فعلت حسناً معهما معاً، ولم تسئ إلى أي منهما.. لكن الأول أراد أن يجنبك المضاعفات الصحية، وأنت اخترت تحملها، وأخذ الدواء الثاني..

فإذا ظهر أن الطبيب الثاني قد أخطأ، أو أنه كذب عليك، فإنه هو الذي يلام. ولا تلام أنت، ولا الطبيب الأول، رغم معصيتك لأمره، مع شدة احترامك وحبك له..

ويصح للطبيب الأول أن يقول لك: لقد عصيتني، فوقعت فيما وقعت فيه، لكنها ليست معصية بمعنى التمرد عليه، وهتك الحرمة.. كما قلنا.

ولأجل ذلك يبادر الطبيب الأول مرة أخرى إلى معالجة السلبيات التي لحقت بك، من موقع المحبة، واللطف، والعطف..

وعلى حد تعبير العلامة الطباطبائي «رحمه الله»:

إن استعمال عصى في خصوص الأوامر المولوية إنما هو طريقة الشرع، وإلا فإن الإستعمال اللغوي لا يقتصر على ذلك، بل يراد به مطلق عدم الانفعال بالأمر والنهي، سواء أكان الأمر والنهي مولويين، أو إرشاديين، حيث لا يكون ثمة عنوان السيادة ملحوظاً في نشوء الأمر والنهي.. سواء أكان هناك سيادة بالفعل، كالإرشادات الإلهية التي تهدف إلى إلفات الناس إلى بعض المنافع أو المضار في بعض الموارد، أو لم تكن هناك سيادة ومولوية وعبودية، كما في أوامر ونواهي الأطباء([1]).


 

([1]) راجع : تفسير الميزان ج1 ص 137 و 138.

 
   
 
 

موقع الميزان