وقد نهى الله النبي آدم عن الحسد، ولكن لا شك في أن هذا
النهي منصرف إلى المراتب القبيحة منه، وهي تمني زوال النعمة عن
الآخرين، ولم يخطر في باله إلا أن التمني لمقام تلك الأنوار هو أمر
سائغ، بل واجب، لأنه يعبر عن حبه لله تعالى، وسعيه في رضاه، ولم يتمن
زوال صفة الأوحدية والتفرد عنهم([1])،
ولعله لم يلتفت إلى أن صفة الأوحدية هذه ثابتة لهم «عليهم السلام» من
الأساس، ولعل هذا هو مراد الإمام الرضا «عليه السلام» حين قال:
«إن آدم لم يأكل، ولم يقرب نفس
الشجرة، وإنما أكل من جنسها»..
فلما بذل المحاولة تبين له الأمر على حقيقته، وحصلت له
الآثار التكوينية، التي لا مجال للتخلص منها، فهو كما لو شرب إنسان
دواء مسهِّلاً، وهو لا يعلم، فإنه لا بد أن يترك أثره عليه، وجهله
بحقيقته لا يجعله في مأمن من حصول ذلك الأثر.
فالنهي الإلهي نهي عن تحمل المشقات والمتاعب، التي كان
الله يعلم أنها ستنتهي به إلى هذه النتيجة، وهو نهي إرفاقي، ناشئ عن
العلم بأمور خافية على النبي آدم، وعن العلم الواقعي بعدم تمكن النبي
آدم من الوصول إلى ما يطمح إليه..
ولكن مبادرة النبي آدم وسعيه يكشف عن خلوص جوهره، وصفاء
عنصره، وعن حسنه الفاعلي، وإن لم يستطع في مقام الفعل أن يحقق ما
ينويه، وأن يصل إلى ما يطمح إليه..
وقد قلنا:
إن النبي آدم كان عارفاً بالله، شاكاً في مقولة إبليس، رغم وجود مؤيدات
لصحة ما يدَّعيه، وهو ما يشاهده النبي آدم من ارتباط لتلك الشجرة
المنهي عنها بتلك الأنوار العالية ومن كون المنهي عنه شخص شجرة بعينها،
بحسب دلالة اسم الإشارة، وبما يشير إليه وجود مثيلات لها، إذ لو لم يكن
المقصود هو شخص المشار إليه، فلماذا كانت الإشارة الحسية، مع وجود
نظائر لتلك الشجرة هناك؟!..
وحين أكل من الشجرة، فإن خطاب الله سبحانه له «عليه
السلام»، قد جاء وفق علمه تعالى بالواقع..
فالنبي آدم مخالف لصورة النهي، ويسمى هذا عصياناً، وهو
أيضاً قد فعل خلاف الرشد الذي هو مقابل
«الغي»،
(أي ما لا يوصله إلى مطلوبه بحسب علمه تعالى)، وهذا ما يصحح خطابه
بقوله: ﴿وَعَصَى
آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾..
ويصحح قوله:
﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ
الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾..
وهذا الخطاب منه تعالى، خطاب محبة وحنان، ورأفة، ورحمة،
وليس خطاب انتقاص، وغضب وإبعاد، لأن الله يعلم حقيقة نوايا النبي آدم،
وأن ما جرى له إنما هو أمر تكويني لا خيار له فيه، وليس نتيجة غضب، ولا
هو عقوبة إلهية..
ولذلك اصطفاه الله، واجتباه، وتاب عليه، وهداه..
وقد اعترف النبي آدم بأنه قد حمَّل نفسه ما لا تطيق،
﴿قَالاَ رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾..
وعرف أن ما أراد أن يصل إليه هو مما يشبه الحسد، أو هو من جنسه، وإن لم
يكن حسداً قبيحاً، ولكنه وإن لم يكن آثماً بارتكابه، بسبب عدم القصد
له، لعدم علمه بأسرار الواقع، وبحقائق تلك الأنوار، وبمقاماتها
الأوحدية، ولكن لا ضير في أن يذكِّره الله تعالى بأن نهيه له عن الأكل
من الشجرة كان سببه هو هذه الأمور التي انكشفت للنبي آدم بعد هذه
المتاعب والمصائب..
ولعل ما ورد في الرواية الأخرى من التعبير بالحرص، قد
أوضح المقصود، وهو أن النبي آدم «عليه السلام» قد دفعه حرصه على الوصول
إلى ذلك المقام العظيم، إلى بذل محاولات للوصول إليه، رغم أنه لم يكن
يملك الاستعداد الكافي له من حيث ملكاته، وإمكاناته. ولم يكن يريد أن
تزول أية نعمة عن غيره، وإن كان لازم سعيه هذا ـ لو نجح ـ زوال تفردهم
واختصاصهم «عليهم السلام» بها..
فقوله تعالى: ﴿وَلاَ
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾..
يريد به: أنكما لن تصلا إليها، وسوف تفشلان في محاولاتكما، لأنكما
لستما في مستوى أولئك الصفوة، وهم النبي وأهل بيته، وسينكشف ضعفكما
وقصوركما..
فالحسد الذي تحدثت عنه الروايات ليس رذيلة، بل هو فضيلة
للنبي آدم «عليه السلام»، لأنه يعبر عن مدى حرصه على منازل الكرامة
الإلهية، ولم يكن «عليه السلام» يقصد إزالة غيره عن ذلك المقام. وإن
كان وصوله إليه يزيل صفة الانحصار بهم، وهي ميزة وكرامة لهم..
فالنبي آدم «عليه السلام» قاصد لمقام الرضا الإلهي، لا
لأجل الحلول في مقام وموقع الغضب الإلهي، وقد نال النبي آدم بحرصه هذا
وبتضحياته تلك، مقام الإجتباء الإلهي..
([1])
وهذا
هو المقصود بقوله «عليه السلام»: «وإياكما أن تنظرا إليهم بعين
الحسد، وتمنيا (أي ان تتمنيا) منزلتهم عندي»، فإن المراد الذي
فهماه، بحسب الظاهر: هو النهي عم التمني المؤدي إلى زوالهم
«عليهم السلام» عن منزلتهم، وحلولهما هما في تلك المنزلة. ولكن
حين لا يكون الأمر كذلك، فإن التمني للوصول إلى ما وصلوا إليه
يصير عين الكمال، وغاية في الحسن..
|