بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الشيخ فرحان المالكي، السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
بالنسبة لإجابتكم على سؤالنا عن الذي كانت الزهراء
«عليها السلام» تعتقد إمامته، وهل أنها حين لم تر إمامة أبي بكر ماتت
ميتة جاهلية أم لا..
نقول:
إن لنا على إجابتكم عدة ملاحظات نأمل أن يتسع لها
صدركم. وهي التالية:
1 ـ
إنه ليس لجنابكم أو لأحد غيركم أن يدعي:
أن هذا الشخص، أو تلك الفئة تنطلق في مواقفها أو في فهمها للأمور من
ضيق المذهبية، الذي لوّحتم بالاتهام به في نهاية إجابتكم، وهي الصفة
الطاغية على كثير من أجوبتكم، التي قرأناها في هذه المحاورة.
ومعرفة كون الداعي هو الضيق المذهبي أو غيره يحتاج إلى
علم الغيب.
لذا فإن على هذا الشخص أن ينظر في أدلة هؤلاء وأولئك
ليناقشها، فإما أن يقبلها، أو أن يردها بالدليل والبرهان.. وإلا فإن
الآخرين أيضاً قد يجيزون لأنفسهم أن يقولوا عنه: إنه هو الآخر يتظاهر
بالاعتدال، ليخدع الناس بالكلمات المعسولة، وليمرر ما يمكنه تمريره على
حين غفلة من الناس البسطاء والسذج.. إنه يتهم الآخرين بالضيق المذهبي
على سبيل الإسقاط على الطرف الآخر.. أي أنه هو الذي يعاني من هذا الأمر
الذي يسقطه على الآخرين بالتذاكي عليهم، وإظهار خلاف الواقع لهم..
إننا نحب أن نبتعد في البحث معك عن هذه الأجواء، لنعيش
أجواء البحث العلمي الموضوعي والمنصف..
2 ـ
من أين عرفت أن الإغضاب بتأويل، أو لغضب عارض «على حد تعبيرك» يختلف عن
الإغضاب بغضاً ومعاداة، من حيث إن هذا يوجب إغضاب الله ورسوله دون ذاك.
فإن قول رسول الله «صلى الله عليه وآله»: يرضيها ما
يرضيني، ويغضبها ما يغضبني، أو يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، قد ورد
مطلقاً غير مقيد بشيء مما ذكرتم.
فهل هذا الذي ذكرتموه إلا تخرص ورجم بالغيب، واقتراح
وتبرع يخالف ظاهر كلام الرسول، الدال على أن كل إغضاب لها هو إغضاب له،
بل هو إغضاب لله تعالى؟!..
3 ـ
إننا لم نسأل عن حكم من يقول:
إن الزهراء «عليها السلام» ماتت ميتة جاهلية، وهل هو
مسلم أو لا؟
ولم نسأل عن حكم من يرى بطلان إمامة أبي بكر، هل هو
مسلم أم لا؟
لتقول لنا:
إن من رأى بطلان إمامة أبي بكر أو موت الزهراء ميتة جاهلية يبقى
مسلماً..
4 ـ
قد ذكرت في إجابتك: أنك لا تقول: ببطلان إمامة أبي بكر، ولا بموت
الزهراء ميتة جاهلية..
مع أن سؤالنا هو عن إمام الزهراء من هو؟
فإنها لم ترض بإمامة أبي بكر قطعاً، فإما أن تكون قد
ماتت بلا إمام، فتكون مصداقاً لقول الرسول «صلى الله عليه وآله» في
ذلك. وتكون قد ماتت ميتة جاهلية. أو أن إمامها كان غير أبي بكر، وليس
هو إلا علي «عليه السلام»، وقد سلَّمَت له بذلك، ووافَقَت على إمامته،
وأصابها ما أصابها في هذا السبيل.
فإن كانت إمامة أبي بكر قد انعقدت قبل ذلك وجب عليكم
الحكم بوجوب قتل علي والزهراء، وإن لم تكن قد انعقدت فمتى تم انعقادها
يا ترى؟
وهل غضب الزهراء «عليها السلام» على بيعة أبي بكر
وسخطها لها، ومحاربتها لها يسقطها عن الشرعية، لأنها تصير بيعة، وإمامة
مغضبة لله وللرسول؟!، لأنها أغضبت من يغضب الله ورسوله لغضبها..
ولقد أوردنا لك هذا التوضيح لسؤالنا، لأننا أدركنا: أن
الأمر يحتاج إلى ذلك ونعود فنقول:
لقد ماتت الزهراء «عليها السلام» مهاجرة لأبي بكر،
وأوصت أن تدفن ليلاً حتى لا يحضر هو ولا عمر جنازتها.
وهي إنما غضبت في سياق الاعتراض على تصديه لأمر
الإمامة، من جهة، ولاغتصاب فدك من جهة أخرى.
وقد أوضحت أنها تتهمه في أمر فدك بأحد أمرين:
أولهما:
أنه لم يعرف معاني القرآن، وأنه قد خالف آياته..
ثانيهما:
أنه يتعمد ذلك.
وكلا الأمرين مضر جداً في أهليته للإمامة باعتقادها.
فكيف يمكن حل هذه المعضلة؟!.. لنخرج بنتيجة: أن الزهراء لم تمت ميتة
جاهلية من جهة، وأن أبا بكر قد انعقدت إمامته بطريقة سليمة وقويمة من
جهة أخرى..
وأحب أن يكون الجواب دقيقاً، وفي صلب الموضوع مورد
البحث.
5 ـ
قد ذكرت في إجابتك:
أن إغضاب النبي «صلى الله عليه وآله» باجتهاد ليس
كفراً..
وهو أمر عجيب وغريب، أفلا يدخل الإغضاب في الأذى الذي
هو مدلول قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ
عَذَاباً مُهِيناً﴾([1]).
إن هذه الآية ظاهرة الدلالة على أن أذى النبي يوجب
اللعنة في الدنيا والآخرة، والعذاب المهين. وإغضاب النبي أليس أذى
له؟!..
وهذه الآية لم تفرق بين الأذى عن اجتهاد وتأويل وحسن
نية، وبين الأذى عن غير اجتهاد.
وهل الاجتهاد والتأويل سائغ فيما يغضب الله ورسوله؟!.
وحين يشعر المؤذي بغضب الله ورسوله، ألا يفترض فيه أن
يتراجع، وينقاد ويستسلم.. لما يريده الله ورسوله منه، لتزول اللعنة
عنه؟! أم يبقى مصراً على اجتهاده وتأويله؟!..
فهل تراجع أبو بكر عن اجتهاده، لكي لا يؤذي الله ورسوله
بأذى فاطمة؟ أم بقي مصراً عليه؟!.. واستمر هذا الغضب وهذا الأذى إلى
حين الموت، حتى أوصت أن تدفن ليلاً ولا يحضر من آذاها جنازتها؟!.
وهل هذا التفريق بين أنواع الأذى إلا من قبيل التبرع،
والاقتراح، والاجتهاد، في مقابل ظهور النص وإطلاقه وعمومه؟!.
وإذا لم يكن تبرعاً واقتراحاً، فنحن نطالب بالشاهد
الدلالي عليه..
6 ـ
لقد قلت في إجابتك: إن الخوارج كفروا علياً، ولم يكفروا بذلك..
وهذا أعجب وأغرب، لأنه يستبطن الرد على الرسول «صلى
الله عليه وآله»، الذي حكم على الخوارج بأنهم يمرقون من الدين مروق
السهم من الرمية، وأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم.
وهو حديث لا ينكره مسلم. ولا مجال للتأويل فيه، إلا إذا
كانت تأويلات باردة، وتوجيهات سقيمة وفاسدة، ليس لها شاهد، ولا يقوم
بها برهان.
هذا بالإضافة إلى ما ورد من أن من كفّر مسلماً فإنه
يكفر هو بذلك. وعلي «عليه السلام» كان صفوة الإسلام.
وقد طهره الله تعالى بنص كتابه الكريم.
وقد ثبت عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»: أن سباب
المسلم فسوق وقتاله كفر. فما بالك بقتال علي؟! وما ظنك بمن يخرج على
إمام زمانه ويقاتله، كما هو حال الخوارج؟!..
7 ـ
وإذا قيل: إن الخوارج قد قاتلوا بتأويل واجتهاد، فهم معذورون في ذلك،
وإن أخطأوا في اجتهادهم..
فإنه يقال:
أولاً:
من أين ثبت لكم اجتهاد هؤلاء القوم الذين وصفهم رسول الله «صلى الله
عليه وآله» بما ذكرناه آنفاً؟!
فإن قوله «صلى الله عليه وآله» فيهم يدل على أنهم ليس
لهم أي قدم في هذا الدين، فكيف يدعى الاجتهاد لهم؟!
وما هي شروط الاجتهاد المفروض؟!
وهل هذه الشروط متوفرة فيهم؟!
وكيف ثبت لكم توفر تلك الشروط فيهم، وبلوغهم مرتبة
الاجتهاد؟!
ثانياً:
إذا كانت دعوى التأويل والاجتهاد تبرِّئ من ادعيت له، فإن ذلك سيجر إلى
تبرئة عبد الرحمن بن ملجم في قتله علياً، وتبرئة يزيد، بل تبرئة عمر بن
سعد، والشمر، وحرملة في قتلهم الحسين «عليه السلام» وأطفاله.. وتبرئة
قتلة عثمان من الصحابة والتابعين، وتبرئة قاتل عمار بن ياسر.. بل تبرئة
أبي لؤلؤة قاتل عمر أيضاً.. حيث إن دعوى مجوسيته ليس لها شاهد، ولا
تثبت بدليل قاطع.
ثالثاً:
إن فتح باب التأويل. وإعذار المتأولين يفتح الباب أمام مقولات لا يمكن
الالتزام بها، إذ ما الفرق بين دعوى التأويل في قتل الإمام أو في
تكفيره، وبين ادعاء التأويل في آيات القرآن، بحيث يفسح بذلك المجال
لادعاء نبوة بعد نبينا «صلى الله عليه وآله».. كقول بعض أهل الضلال: إن
آية: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾
يقصد بها إحاطة النبي «صلى الله عليه وآله» بالأنبياء، وعلومهم، كإحاطة
الخاتم بالإصبع. وبذلك أمكنهم أن يضللوا الناس بادعاء النبوة لهذا
ولذاك، كما نشاهده عبر التاريخ..
وإذا ارتكب بعضهم جريمة قتل الوصي والإمام بناء على
التأويل والاجتهاد، أو ادعى النبوة بناء على ذلك، فاللازم أن لا يقتل،
لأنه مجتهد مأجور، قد حرم من أجر واحد، ونال أجراً على اجتهاده ذاك
الذي انتهى بضلال الناس، أو بقتل مؤمن، أو طفل في كربلاء، أو إمام
كالإمام علي في مسجد الكوفة.
بل لماذا لا تعم هذه العصا السحرية حتى الاجتهاد في
الألوهية، وما يؤدي إلى الزندقة والإلحاد؟!!
8 ـ
قد ذكرتم في إجابتكم أن من قال: إن الزهراء ماتت ميتة جاهلية يبقى
مسلماً.
ونقول:
كيف يبقى من يقول ذلك مسلماً، وهو يكذب بذلك نص القرآن
الكريم في آية التطهير؟!.
إلا أن يقال:
إن الميتة الجاهلية ليست رجساً!! ولا نظن أن مسلماً يجرؤ على هذا
القول.
كما أن من يقول بذلك يكذب قول الرسول حول أن إغضابها
وإيذاءها أذى لله ولرسوله.. فإن الذي يموت ميتة جاهلية لا يمكن أن يكون
إغضابه بهذه المثابة.. بل لا بد من إغضابه، إذا كان إرجاعه إلى الصواب
وإلى حظيرة الإسلام يحتاج إلى ذلك..
9 ـ
لقد ظهر من جوابكم على السؤال: أنكم تحاولون التشبث ببعض التعميمات،
والإحالة على مبهمات، فقلتم: إنه ليس كل من خرج على الإمام مات ميتة
جاهلية. على أساس أن قول النبي مقيد، وليس بمطلق. ولم تستطيعوا أن
تفصحوا عن هذا الذي أوجب التقييد، إلا بإطلاق القول على سبيل الفتوى
والاجتهاد..
ثم قلتم:
إن للعلماء تأويلات عديدة لقول النبي «صلى الله عليه وآله» هذا، وأما
ظاهره فيتعارض مع أدلة أخرى.
ونقول لكم:
لا بد من طرح هذه التأويلات على بساط البحث لنرى مدى
صحتها.
ولا بد أيضاً من عرض الأدلة، للنظر في صحة دعوى
التعارض..
فإن مجرد دعوى التأويل لا تكفي، خصوصاً إذا كانت على
سبيل التبرع والاقتراح، فإن ذلك لا يوجب تقييد النص..
ومجرد دعوى التعارض لا تقبل.. ولا يلتفت إلى إطلاق
عبارات عامة ورنانة، إذ ما هو الربط بين أحاديث الوعيد وأحاديث الرجاء،
وبين حديث الميتة الجاهلية؟.
10 ـ
نأمل أن يتسع صدركم لملاحظاتنا هذه.. فإنها إذا ظهر فيها بعض القسوة
فإنما هي قسوة الصراحة في القول.. والإخلاص للحق..
نقول هذا رغم أن في أجوبتكم الكثيرة التي رأيناها
«على صفحة
الميزان»
الكثير من الهنات، وعليها العديد من المؤاخذات التي نرغب في مناقشتها
معكم، لكن ذلك يتوقف على مدى تجاوبكم معنا في هذا الحوار الذي بدأناه
معكم حول الزهراء «عليها السلام».. وذلك من حيث سلامة التعاطي، والتزام
الصراحة، واعتماد الطريقة العلمية الدقيقة والعميقة في الاستدلال،
والابتعاد عن التعميمات الغائمة، والتأويلات البعيدة. على أننا نكبر
فيكم هذه الروح المنفتحة، والأمر راجع إليكم ومتوقف عليكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
|