صفحة : 128  

وجاء الرد على المالكي كما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله..

تعليقاً على إجابتك على سؤال فهد الهاوي.. أقول:

إن قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى﴾. لا يدل على أنه «صلى الله عليه وآله» كان ضالاً قبل النبوة ضلالاً نسبياً ولا غير نسبي.

بل هو يدل على حصول الهداية بمجرد وجدانه له ضالاً، ومن دون فصل كما دلت عليه الفاء التي هي للتعقيب بلا فصل.. تماماً.

كما دل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾. على أن الإيواء كان بمجرد حصول اليتم لأجل الفاء أيضاً.

وإفاضة النعم عليه قد كانت بمجرد وجدان الحاجة فيه أيضاً. ووجدان الله لها لا ينفصل عن حالة حدوثها..

وإذا كان الله سبحانه قد وفق زيد بن عمرو بن نفيل لتجنب ما يؤكل على النصب، فلا يمكن أن يحجب هذا التوفيق عن نبيه «صلى الله عليه وآله»..

ولزيادة التوضيح حول تفسير قوله تعالى:

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾([1]).

نذكر ما يلي:

أولاً: بالنسبة لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾.

نقول:

إن ظاهر هذه الآية المباركة:

1 ـ إن الله تعالى قد وجد نبيه «صلى الله عليه وآله» يتيماً.

2 ـ إنه بمجرد أن وجده كذلك آواه.

ونحن نتحدث عن هذين الأمرين هنا، فنقول:

أما بالنسبة لوجدان الله تعالى للنبي «صلى الله عليه وآله» يتيماً، فإننا نقول:

إن من الواضح: أن وجدان الله سبحانه لأمر، يختلف عن وجداننا نحن له.. فإن الوجدان بالنسبة إلينا إنما يكون بعد الفقدان. حيث يكون الشيء غائباً عنا، ثم نجده..

وأما بالنسبة لإيواء الله تعالى له بمجرد أن وجده يتيماً، فإنه تعالى لا يغيب عنه شيء، بل كل شيء حاضر عنده منذ أن أوجده. فلا فصل بين وجود الشيء، وبين وجدان الله تعالى له..

وبعبارة أخرى: إن التقدم تارة يكون من قبيل تقدم الصباح على المساء، أو تقدم ولادة الوالد على ولادة ولده..

وتارة يكون من قبيل تقدم حركة اليد على حركة المفتاح حينما يدار في قفل الباب. فإن التفريق بين الحركتين في هذه الصورة، إنما هو في الذهن. وليس زمانياً..

وتقدم وجود الشيء على وجدان الله تعالى له هو من هذا القبيل، فإن الله تعالى حين أمات عبد الله والد الرسول، قد وجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» يتيماً. ولم يغب عنه في أي ظرف أو حال.

فلا يوجد أي فصل زماني بين هذين الأمرين.

فهو على حد قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾([2]).

وقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾([3]).

أي ليتجسد ذلك على صفحة الوجود، ليكون وجوده العيني عين وجوده العلمي.. وإن اختلفا من حيث التحليل العقلي، فيما يرتبط بالإدراك والتعقل بالنسبة لنا.

وكذلك الحال في الإيواء في الآية الشريفة: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾. فإنه قد جاء مصاحباً لوجدان الله تعالى له يتيماً. فلم يتركه سبحانه، مدة ثم آواه..

وذلك لأنه تعالى قد عبر هنا بالفاء الدالة على التعقيب بلا فصل، فقال: ﴿فَآوَى﴾. ولم يأت بكلمة «ثم» الدالة على التعقيب مع المهلة.. فلم يقل «ثم» (آوَى).

ثانياً: بالنسبة لقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾.

نقول:

المراد بالعائل: الفقير ذو العيلة من غير جدة.. في إشارة إلى تنوع الحاجات، وإلى عظم المسؤوليات الملقاة على عاتقه «صلى الله عليه وآله» سواء فيما يرتبط بنفسه، أو فيما يرتبط بالآخرين. وخصوصاً مسؤوليات هداية البشر منذ خلق الله آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام..

وقد ذكرت هذه الآية المباركة: أن الله تعالى قد وجد نبيه عائلاً محتاجاً إلى النعم والألطاف، والعون. سواء في ذلك ما يرجع لنفسه أو لغيره.

(إن الذي يرجع لنفسه يرجع لغيره أيضا بنحو وبآخر.. فإنه «صلى الله عليه وآله» أسوة وقدوة، ومثل أعلى، ثم هو ملجأ ووسيلة إلى الله.. احتاج الأنبياء إليه، وتوسلوا به منذ آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام.. فلا بد أن تتجلى كمالاته ومزاياه منذئذٍ..)، من خلاله.. فأفاض عليه منها ما يليق بمقامه الأسمى والأقدس. وما يناسب حاجته، وموقعه، ومسؤولياته في جميع مراحل وجوده، حتى حينما كان نوراً معلقاً بالعرش.

ولسنا بحاجة إلى إعادة التذكير بأنه تعالى قد وجده، واطلع على حاجاته وعلى فقره وعلى كونه عائلاً، بمجرد حدوثها، ولم يغب عنه ذلك لحظة واحدة.

ثم أفاض تعالى نعمه عليه بمجرد وجدانه كذلك، ومن دون أي فصل زماني، أو مهلة، وذلك من خلال التعبير بالفاء الدالة على التعقيب بلا فصل في قوله: ﴿فَأَغْنَى﴾، ولم يأت بـ (ثم) الدالة على التعقيب مع المهلة، فلم يقل: (ثم) ﴿أَغْنَى﴾..

ثالثاً: بالنسبة لقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى﴾.

 نقول:

إن ما ذكرناه فيما سبق يوضح المراد بقوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى﴾. فإنه تعالى بمجرد أن خلق نبيه روحاً أولاً، ثم روحاً وجسداً تالياً قد وجده في جميع مراحل وجوده محتاجاً إلى أنواع الهدايات، فأفاضها عليه مباشرة، ومنذ اللحظة الأولى، وبلا مهلة، كما دل عليه التعبير بالفاء في قوله: ﴿فَهَدَى﴾ حيث لم يقل: (ثم) ﴿هَدَى﴾..

فأعطاه الهداية التكوينية، بمجرد ظهور حاجته إلى هذه الهداية..

وأعطاه أيضاً هداية الفطرة..

وأعطاه هداية العقل..

وأعطاه هداية التشريع والإلهام والوحي..

ويتجلى أثر هذه الهدايات في موقع الحاجة في نطاق سعيه الدائب، وتطلبه المستمر للوصول إلى مواضع القرب، والحصول على مواقع الزلفى..

فإذا كان الله تعالى يجد حاجة نبيه إلى الهداية من دون حاجة إلى الزمان، لأنه لا يمكن أن يغيب عنه تعالى شيء.. ثم هو يفيض الهدايات عليه مباشرة أيضاً وبلا فصل ولا مهلة. فذلك يعني أن الله سبحانه قد منحه هداية لم يسبقها ضلال، ولو للحظة واحدة.

ويكون هذا الترتيب البياني بين الضلال والهدى، لا يستبطن التدرج في الوجود الخارجي، بمعنى أن يتجسد ضلال، ثم تأتي الهداية فتزيله..

بل هو ترتيب قد جاء في دائرة تمكين الناس من إدراك معنى الهدايات، والنعم، والتفضلات الإلهية على النبي الأقدس «صلى الله عليه وآله»..

أي أنه ترتيب نشأ عن السعي إلى التجزئة بين المدركات، وتلمُّس الحدود القائمة فيما بينها، بالاستناد إلى التحليل العقلي، بهدف تيسير إدراك الحقائق بصورة أعمق وأتم.


 

([1]) سورة الضحى 7/9.

([2]) سورة الكهف: 12.

([3]) سورة محمد: 31.

 
   
 
 

موقع الميزان