الإرادة بماذا تعلقت؟!:
ويظهر من كلام العلماء الأبرار «رضوان الله عليهم»: أن
الإرادة الإلهية المعبر عنها بقوله تعالى:
﴿إِنَّمَا
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ..﴾
قد تعلقت أولاً وبالذات بإذهاب
الرجس، وبالتطهير([1]).
ولكننا نقول:
إن الظاهر هو أنها قد تعلقت أولاً وبالذات بأمر آخر،
وهو نفس الأوامر والزواجر التي توجهت إلى زوجات النبي «صلى الله عليه
وآله».
بيان ذلك:
أنه تعالى قال:
﴿إِنَّمَا
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ﴾.
ولم يقل: إنما يريد الله أن يذهب، أو إذهاب الرجس عنكم.
ولو أنه قال يريد أن يذهب الرجس عنكم لكانت الإرادة
متعلقة بنفس الإذهاب؛ وذلك معناه أن الرجس موجود فيهم ويريد الله
إزالته عنهم وحاشاهم «صلوات الله عليهم»، بل الصحيح هو أن الرجس ليس
فيهم بل هو في غيرهم ويريد الله إزالته عن الغير حفاظاً وإكراماً لـ«أهل
البيت»
«عليهم السلام».
بيان ذلك:
أن كلمة «إنما»
تفيد حصر المقصود والغاية من الأمر والنهي لنساء النبي «صلى الله عليه
وآله» في حفظ «أهل البيت»
وتطهيرهم.
واللام في «ليذهب»
هي لام كي، وهي تفيد التعليل، أي أن ما بعدها يكون علة لما قبلها،
كقولك: «جئت لأكرمك»؛
فمدخول اللام، وهو الإكرام، علة لما قبلها وهو المجيء.
فما ذكره البعض من أن متعلق الإرادة هو نفس إذهاب
الرجس، ليس على ما يرام لا من حيث التركيب ولا من حيث المعنى حسبما
أوضحناه. بل متعلق الإرادة شيء آخر، ويكون الإذهاب علة لتعلق الإرادة
به.
وذلك الشيء الذي تعلقت به الإرادة هنا هو نفس التكاليف،
والأوامر والنواهي الصادرة لزوجات الرسول «صلى الله عليه وآله»؛ فإن
الله سبحانه قد أراد منهن ذلك لأجل إذهاب الرجس.
وبتعبير آخر: إذهاب الرجس عن «أهل
البيت»
علة لإرادة الله سبحانه من زوجات النبي «صلى الله عليه وآله» ـ
بالإرادة التشريعية ـ أن يفعلن كذا، أو يتركن كذا.
فلا دلالة في الآية على أن النساء من «أهل
البيت»،
بل فيها دلالة على العكس إذ لو كانت النساء داخلات في مدلول الآية لكان
المناسب أن يقول: إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس لأن نساءه قد صدر
منهن أشياء هي من الرجس ومنها حرب الجمل بقيادة بعض نسائه «صلى الله
عليه وآله».. أضف إلى ذلك أن لا رجس على الرسول «صلى الله عليه وآله»
ليريد الله إزالته عنه
ويتضح ذلك بملاحظة النظائر التي استعملت فيها لام كي،
بدلاً من كلمة «أن»
في القرآن الكريم، وغيره.
فلاحظ: قوله تعالى في ذيل آية الوضوء والتيمم:
﴿مَا
يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾([2]).
أي أن أمره تعالى لكم بالتيمم بدلاً عن الوضوء، إنما هو
لأجل أن يطهركم.
فالتطهير لهم علة لإرادة هذا الأمر منهم بالإرادة
التشريعية.
وفي مورد آخر، بعد أن ذكر الله تعالى بعض التشريعات
والأحكام قال:
﴿يُرِيدُ
اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ﴾([3]).
وقال تعالى في موضع آخر:
﴿بَلْ
يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾([4]).
وفي مورد آخر يقول تعالى:
﴿فَلاَ
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾([5]).
ومما يزيد الأمر وضوحاً:
أننا نجد آيتين قد تعرضتا لأمر واحد، ولكن إحداهما قد جاءت «بأن»
والأخرى «بلام كي»، التي تقدر بعدها أن.
فبعد أن ذكر الله سبحانه قول اليهود والنصارى في عزير،
والمسيح، قال: ﴿اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا
إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَيَأْبَى اللهُ إِلاَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ﴾([6]).
وقال تعالى في مورد آخر:
﴿وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى
الإِسْلاَمِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾([7]).
والسبب في اختلاف التعبير أنهم في المورد الأول (أي في
سورة التوبة) قد تعلقت إرادتهم مباشرة في إطفاء نور الله، فاستعمل الله
كلمة «أن»،
وقال: يريدون أن يطفئوا.
أما في هذا المورد الأخير فقد تعلقت إرادتهم بالافتراء
على الله، لأجل أن يطفئوا، فالإطفاء كان داعياً لهم، وعلة وسبباً لتعلق
إرادتهم بالافتراء والكذب، فاستعمل «اللام»
فقال: «يريدون ليطفئوا».
ثم رأيت أن الراغب الأصفهاني قد أشار إلى ذلك أيضاً،
فقال: «يريدون أن يطفئوا نور الله، يريدون ليطفئوا نور الله.
والفرق بين الموضعين: أن في قوله:
«يريدون أن يطفئوا»، يقصدون إطفاء نور الله. وفي قوله: «ليطفئوا»
يقصدون أمراً يتوصلون به إلى إطفاء نور الله»([8]).
والأمر في آية التطهير كذلك أيضاً كما أوضحناه.
([1])
ستأتي المصادر لذلك إن شاء الله تعالى حيث الحديث حول انحصار
آية التطهير بأهل الكساء.
([2])
الآية 6 من سورة المائدة.
([3])
الآية 26 من سورة النساء.
([4])
الآية 5 من سورة القيامة.
([5])
الآية 55 من سورة التوبة.
([6])
الآيتان 31 و 32 من سورة التوبة.
([7])
الآيتان 7 و 8 من سورة الصف.
([8])
المفردات للراغب ص305.
|