صفحة :35   

المناقشة المعقولة:

وإنّما نريد أن نشير إلى ما يلي:

أولاً: إنّ الشريف الرضيّ «رضوان الله تعالى عليه»، كان منزهاً عن مثل هذه الأعمال لأنّه كان ورعاً، متديناً، ملتزماً بالدين وقوانينه، حيث يقولون عنه:

إنّه: «كان صاحب ورع وعفة، وعـدل في الأقضية، وهيبة في النفوس»([1]).

وأنّ: «أمره في العلم والفضل، والأدب، والورع، وعفة النفس، وعلو الهمّة، والجلالة، أشهر من أن يذكر»([2]).

وأنّه كان: «عالي الهمة متديناً، إلا أنّه كان على مذهب القوم، إماماً للشيعة، هو، وأبوه، وأخوه..»([3]).

وأنّه: «الشاعر، العالم، الزاهد»([4]).

و ـ «إنّ المتتبع لحياة الرضيّ، لا يستطيع أن يجد مغمزاً في دينه، فلم يؤثر عنه: أنّه انتهك حرمة من الحرم، أو أخذ فيما كان يأخذ فيه الناس في ذلك العهد، من متاع الدنيا، حيث يتجاوزون ما أحلّه الله إلى ما حرّمه»([5]).

وأنّه كان: «.. فاضلاً، عالماً، ورعاً، عظيم الشأن»([6]).

وأنّ: «فيه ورع، وعفة، وتقشف»([7]).

ويقول عنه ابن الجوزي: «..كان عالماً، فاضلاً، وشاعراً مترسلاً، عفيفاً، عالي الهمة، متديناً»([8]).

ويقول المعتزلي الحنفي: «كان عفيفاً، شريف النفس، عالي الهمّة، ملتزماً بالدين وقوانينه»([9]).

وأخيراً.. فقد قال عنه الخونساري: «كان في غاية الزهد والورع صاحب حالات ومقالات وكشف وكرامات..»([10]).

ثمّ ذكر قصة جرت بينه وبين أخيه السيد المرتضى «رحمه الله تعالى»، ملخصها:

أنّه اقتدى يوماً بأخيه المرتضى في بعض صلواته؛ فلمّا دخل في الركوع قطع الإقتداء به، وقصد الإنفراد، فسئل عن سبب ذلك؛ فقال: إنّه لمّا دخل في الركوع رأى أخاه الإمام يفكر في مسألة من مسائل الحيض، وقلبه متوجه إليها، وهو يغوص في بحر من الدم.

وفي نص آخر: أنّه قال لأخيه، بعدما فرغ من الصلاة: لا أقتدي بك بعد هذا اليوم أبداً..

فسأله عن سبب ذلك فأخبره؛ فصدقه المرتضى وأنصف، والتفت إلى أنّه أرسل ذهنه أثناء تلك الصلاة في مسألة من مسائل الحيض، كانت سألته عنها بعض النسوة، في أثناء مجيئه إلى الصلاة..»([11]).

ولكن الدكتور الحلو، يقول عن هذه الحادثة ما يلي:

«وهذا خيال مجنح لفّقه حوله من ظنّ: أنّه لا قدر للرجال إلا إذا سيقت في سيرتهم الكرامات، ولو كانت على هذا النحو المقزز، من ذكر الدماء، والصراخ، والعويل»([12]).

ولكننا نقول: إنّ ما ذكره لا يبرر إنكاره لهذه الحادثة من أساسها؛ فإنّ إضافة بعض الكلمات غير المناسبة من قبل الراوي، لا تبرر هذا الحكم القاسي على أصل الرواية..

هذا بالإضافة: إلى أنّ حالة الكشف والاطلاع على الأمور الخفيّة، ليست من الأمور المستهجنة، وقد ذكرت الكتب التي تتحدث عن أهل الذكر، والزهد، والتقوى، والعبادة، الشيء الكثير ممّا يدخل في هذا المجال، بحيث يقطع الإنسان بصدور بعضه فعلاً..

كما أنّه قد سبق منه نفسه قبول النص الذي يقول: إنّ أم الشريفين هي التي سلمتهما للشيخ المفيد، ليتولى تعليمهما، رغم أنّه هو نفسه لم يقبل بعض الفقرات التي وردت في تلك الرواية.

ولسوف نشير إليها: في أواخر هذا البحث إن شاء الله تعالى..

ثانياً: إننا إذا رجعنا إلى شعر الشريف الرضيّ؛ فإنّنا نجد الدلائل العديدة، التي تجعل قبول رواية الحصري، أمراً صعباً، وحتى مرفوضاً وفق المعايير العلميّة، المقبولة..

فنحن نشير في هذا المجال إلى الأمور التالية:

ألف ـ قال الشيخ عبد الحسين الحلي:

«إنّنا نعتقد أنّه لم يجالس الخلعاء والظرفاء، الذين يستخفون بالنواميس في أيام شبيبته. وأنّه لذلك لم يصرف شيئاً من شعره في فنون المهازل والمجون؛ فإنّ هذا يدلّنا على أنّه لم يعمل ما يعتذر عنه، ولا يصانع أحداً ستراً على نفسه، ولذا نجده، وهو بمرصد من أعدائه، لا يحفل أن يجاهر بمثل قوله:

عـف الـسـرائــر لـم تلط بريبـة
يـومـاً عـلى معـالقـي وسجـوفي

وقوله:

أنا المرء لا عرضي قريب من العدا
ولا فـيّ للبـاغي عـليَّ مقــال»(
[13])

ب ـ إنّنا نجده «رحمه الله» يقول عن نفسه:

وإنـّي لمــأمون عــلى كـــل خـلوة
أمين الهوى، والقلب، والعين والفم
وغـيري إلى الفحشــاء إن عرضت
له أشدّ من الذؤبان عـدواً على  الدم

ج ـ وحين يخبر عن نفسه «رحمه الله»، بأنّه قد طلّق الدنيا، حيث يقول:

مــا لي إلى الدنيا الغرورة حــاجة
فليخز ســاحــر كيدهــا النفاث
سكناتهــا محـذورة وعـهودهـــا
منقـوضة، وحـبــالهــا  أنكـــاث
طلقتهـــا ألفـــاً لا حسم داءهـا
وطـــلاق من عزم الطـلاق ثلاث

نجد مهيار الديلمي، يؤكد على صحة هذا الطلاق، وواقعيته فيقول في مرثيته له:

أبـكيـــك للدنيـا التي طـلقتهـا
وقـــد اصطفتك شبابها وعرامها
ورميت غــاربها بفضلة معرض

زهداً،  وقد ألقت إليك زمامها

 

وفي نص آخر:

ورمـيـت غاربها بفتلة حبلها..
الخ....

د ـ وقد قالوا عن شعر الشريف الرضيّ «رضوان الله تعالى عليه» الشيء الكثير، وهذه بعض النماذج التي لابدّ من ملاحظتها في هذا المجال..

1 ـ «ليس له شعر في الهجاء، يشبه هجاء الشعراء، الذين كانوا يهجون بقبيح القول، والألفاظ الفاحشة..

فالشريف إن وجد في شعره ما يشبه الهجاء؛ فهو بألفاظ نقيّة الخ..»([14]).

2 ـ «ولم يكن يخرج من فم هذا الرجل النبيل حقيقة كلمة واحدة من الكلمات القبيحة، التي يتلفظ بها العامّة، التي نجد مثلها عند إبراهيم الصابيّ، صاحب ديوان الرسائل، وعند الوزير المهلّبي، وعند الوزير ابن عبّاد..

وإذا كان غيره من الشعراء قد استباحوا لأنفسهم في الذّم كل قبيح؛ فإنّنا لا نجد للشريف الرضيّ في باب الهجاء، أقوى من ذمّه لمغن، بارد، قبيح الوجه:

تغفـى بمنظره العيـون إذا  بـدا
وتقـيء عـند عنــائـه الأسماع
أشهى إلينا من عنـائك مسمعاً
زجل الضراغم بينهن قـراع»
(
[15])

ونحن نلاحظ هنا: أنّه حتى في هذا المورد، قد نزع إلى التغنيّ بما تهفو إليه نفسه، ويشدّه إليه طموحه ووجده، ألا وهو معالي الأمور وعظائمها، وجلائل المرامي وكرائمها، ممّا لا ينال إلا بركوب الأهوال، ومقارعة الضراغم والأبطال، كما صرّح به في شعره الآنف الذكر..

3 ـ وفيما يرتبط بغزل الشريف الرضيّ «رضوان الله تعالى عليه»، نجدهم يقولون:

«لم يزل زلّة واحدة، ولم ينحرف به الطريق عن العفّة، والشرف، والخلق الرفيع في هذا الباب»([16]).

يقولون أيضاً: «..والذي نقرؤه من مجموعتي أخلاقه، وشعره: ترفّعه عن نوع من الغزل، يستعمله الخلعاء، أو ما يشبه العبث والمجون. وهذا النوع، قد لا تطاوعه شاعريته عليه لو أراده، وهو الذي يخل بمقامه وشرفه..»([17]).

وأما فيما يرتبط بوصفه للخمرة، ومجالس الغناء، وما أشبه ذلك؛ فيرى المحققون: أنّنا «إذا تحققنا أنّ الشريف، لم يشرب، ولم يسمع، ولم يجالس أرباب اللهو، والمهازل، ولم يتخذ الندمان ولم يستعمل الملاهي؛ فإنّنا نعذره في الأوصاف، سيّما ما يكون منها مقترحاً عليه، لأنّها تقع في زمنها لأسباب مجهولة، لا يصح الحكم عليها بشيء.

والوصف بمجرده، لا يقدح بصاحبه، وإن أظهر بمظهر الحاضر المشاهد..»([18]).

وكذلك هم يقولون: «ولا يليق أن نمدح الشريف الرضيّ بأنّ شعره خال من المجون، الذي كان شائعاً في ذلك العصر؛ فهو أجلّ قدراً، وأرفع شأناً من أن نمدحه بذلك..

كما أنّ شعره خال من وصف الخمرة، وإن وصفها كثير من الشعراء الذين لا يتعاطونها. لكن الشريف لم يصفها إلا بسؤال من سأله ذلك، على لسان بعض الناس؛ فوصفها بعدّة أبيات لم يصفها بغيرها..»([19]).

وقالوا أيضاً: «لم ير في شعر الرضيّ وصف الخمر، وحين وصفها بقوله:

راح يحـــــول شــعـــاعهـا
بـيـن الـضــمائــر والـعـقـول

ذكر في مقدمتها: أنّه سئل القول في ذلك.

وكذلك حين ذكر الخمر مقدمة لقصيدته في الغزل، ووصف الروض، وكانت من أول قوله؛ فقال:

إسـقـنـي فــالـيـوم نشـــوان
والــربــى صـــــاد وريّــان

ذكر في مقدمتها أيضاً: أنّه قالها على لسان بعض الناس، مما يشعر بتحرجه من ذلك..»([20]).

وأخيراً..

فإنّنا حين نسمع الشريف الرضيّ «رحمه الله» يقول:

واعرض عن كأس النديم كأنّها
وميض غمام غـائر المزن خلـب

وقوله:

وقــور فلا الألحـان تأسر عزمتي
ولا تمكر الصهباء بي حين أشرب

فإنّنا نعرف: أنّ ذلك ما هو إلا استرسال شاعر، لا يمكن أن يريد به معناه الحقيقي المطابقي أبداً.. وإنّما يريد به التأكيد على لازم المعنى ليس إلا..

ثمّ هو يتبع ذلك بقوله:

ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها
ولا أنطق العوراء والقلب مغضب

 

 

([1]) الغدير، ج4 ص204 عن الرفاعي في صحاح الأخبار، ص61.

([2]) الكنى والألقاب، ج2 ص272 وسفينة البحار، ج1 ص526.

([3]) النجوم الزاهرة، ج4 ص240.

([4]) غاية الاختصار، ص77.

([5]) ديوان الشريف الرضيّ، مقدمة الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، ص31.

([6]) جامع الرواة، ج2 ص99 ورجال أبي علي، ص271 ورجال المامقاني ج1 ص109.

([7]) عمدة الطالب، ص207 وأمل الآمل، ج2 ص262 ورياض العلماء، ج5 ص81 والدرجات الرفيعة، ص467 وتأسيس الشيعة لفنون الإسلام، ص339 ومستدرك الوسائل، ج3 ص510، الخاتمة، وروضات الجنات، ص547 والغدير، ج4 ص22.

([8]) المنتظم، ج7 ص279 وعنه في الغدير، ج4 ص203 وفي رجال السيد بحر العلوم، ج3 ص132.

([9]) شرح النهج ج1 ص33 وعنه في قاموس الرجال، ج8 ص146 /147 والغدير، ج4 ص203 ومقدمة حقائق التأويل لعبد الحسين الحلي، ص49.

([10]) روضات الجنات، ص550.

([11]) روضات الجنات، ص550 ولآلئ الأخبار، ج4 ص38/39.

([12]) ديوان الشريف الرضيّ، مقدمة الدكتور الحلو، ص31.

([13]) مقدمة حقائق التأويل، ص50/51.

([14]) أعيان الشيعة، ج9 ص220.

([15]) الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجريّ، ج1 ص505 و506.

([16]) أعيان الشيعة، ج9 ص223.

([17]) حقائق التأويل، المقدمة للشيخ عبد الحسين الحلّي، ص106.

([18]) المصدر السابق، ص53.

([19]) أعيان الشيعة، ج9 ص217.

([20]) ديوان الشريف الرضيّ، مقدمة الدكتور الحلو، ص32.

 
   
 
 

موقع الميزان