الخلاصة الأخيرة

   

صفحة : 47  

الخلاصة الأخيرة:

وبعد كل ما تقدّم:

نقول: إنّه إذا كان السيد الشريف«رضوان الله تعالى عليه»، يتحاشى حتى عن إيراد الكلمات النابية حتى وهو في مقام الهجاء في شعره..

وإذا كان يترسم طريق العفة والشرف والكرامة، ولا يجيز لنفسه أن يصدر منه شيء ممّا تعاطاه الشعراء، حتى أهل النبل والكرامة منهم.

وإذا كان يربأ بنفسه عن وصف الخمرة، ومجالس اللهو والغناء ـ إذا كان كذلك ـ فإنّنا لا نستطيع أن نتصوره مشاركاً في تلك المجالس، أو ممعناً في تناول النبيذ، الذي يعتقد حرمته تديناً، وهو الرجل الورع الزاهد، والنزيه الجليل، الشريف النفس عالي الهمة. لا سيما وهو يعلم: أنّ هذه المجالس وتلكم الأحوال، لا تخلو من صدور شيء مما يتنافى مع الشرف، والكرامة، والسؤدد..

وهكذا.. فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين لقبول قول بعض الباحثين: إنّه رحمه الله:

«لم يجالس الخلعاء والظرفاء.. الذين يستخفّون بالنواميس في أيام شبيبته..»([1]).

ويقول: «..ولم يكن حتى في إبان شبيبته يسامر الظرفاء، الذين يغازلون ويتغزلون..»([2]).

ويقول: «..ونحن لتلك العزّة، وتلك المروءة والأنفة، نذعن لآخر نظرة، أنّه لم يقترف مأثماً..»([3]).

ثالثاً: قال الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو([4]):

«..وكان الرضيّ شديد النكير على من يشرب النبيذ. وقد نفى خبراً جاء في (مختصر الكرخي) مفاده: أنّ عبد الرحمن بن أبي ليلى شرب نبيذاً عند عليّ بن أبي طالب (رض)».

وقال في التعقيب عليه:

«..ولأنّ المعلوم الظاهر، والمنقول المتداول: أنّ أمير المؤمنين، والأخيار من ولده «عليهم السلام»، لم يزنّوا قط بمثل هذه الفعلة، ولا عرفوا بهذه الخلة»([5]).

فكيف يخرج نفسه عن زمرة هؤلاء الأخيار؟ وقد التزم الرضيّ هذا الخلق الصارم منذ شبيبته، وأعلنه في أوائل ما قال من الشعر الخ..

ثمّ يذكر نماذج من شعره الدال على ذلك..

ورابعاً: يقول المعتزلي الحنفي، وغيره:

«حدثني فخار بن معد الموسوي، قال: رأى المفيد في منامه، كأنّ فاطمة بنت النبي دخلت إليه، وهو في مسجد بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين «عليهما السلام» صغيرين فسلمتهما إليه، وقالت: علمهما الفقه، فانتبه متعجباً.

فلمّا تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة دخلت إلى المسجد، فاطمة بنت الناصر، وحولها جواريها، وبين يديها ابناها: محمد وعليّ، الرضيّ والمرتضى، صغيرين، فقام إليها وسلّم.

فقالت: أيها الشيخ، هذان ولداي قد أحضرتهما إليك؛ لتعلمهما الفقه.

فبكى المفيد، وقصّ عليها المنام، وتولّى تعليمهما، وفتح الله عليهما من العلوم، ما اشتهر في الآفاق»([6]).

إلا أنّ لنا على هذه الرواية ملاحظة، وهي:

أنها تذكر:

ألف ـ أنّ الرضيين «رحمهما الله تعالى»، كانا حين جاءت بهما أمهما إلى الشيخ المفيد صبيين صغيرين..

ب ـ أنّ أم الرضيين «رحمهما الله تعالى»، قد خاطبت المفيد «رحمه الله»، بقولها: «أيها الشيخ»، مع أنّ المفيد قد توفي سنة 413 هـ ق. عن سبعة وسبعين عاماً، وقد كانت ولادة المرتضى «رحمه الله تعالى» في سنة 355 هـ ، وولادة الرضيّ «رحمه الله» كانت في سنة 359هـ .

ومعنى ذلك: أنّ عمره «رحمه الله تعالى» حين ولادتهما كان 20 أو23 عاماً فلو أنّها أتت بهما إليه، وعمرهما عشر سنوات، أو ثلاث عشرة سنة لكان عمر المفيد آنئذٍ ما بين الثلاثين والخمس وثلاثين عاماً.

ومعنى ذلك: أنّه «رحمه الله» قد كان في عنفوان شبابه، فلا يصحّ منها مخاطبته بـ «أيها الشيخ»!!. 

إلا أنّ الحقيقة هي: أنّ ما تقدّم لا يضرّ في صحة مخاطبتها له بذلك؛ إذ إنّ المراد بـ «الشيخ» هو شيخ التعليم. وأيضاً، فقد لقّب المفيد بالشيخ المفيد، وهو في عنفوان شبابه، فيمكن أن تكون قد جرت في مخاطبتها له على مقتضى هذا اللقب الذي عرف به..

هذا إن لم نقل: إنّ هذه الكلمة مقحمة من قبل الناقلين، اجتهاداً منهم..


 

([1]) حقائق التأويل، المقدمة، للشيخ عبد الحسين الحلّي، ص50.

([2]) المصدر السابق، ص107.

([3]) المصدر السابق، ص50.

([4]) ديوان الشريف الرضيّ، مقدمة الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، ص32.

([5]) حقائق التأويل، ص347/348.

([6]) شرح النهج للمعتزلي الحنفي، ج1 ص41 وأعيان الشيعة، ج9 ص216 وقاموس الرجال، ج8 ص147، ورجال أبي علي ص292، ترجمة المفيد، ورجال السيد بحر العلوم ج3 ص134/135، والغدير ج4 ص184 عن المعتزلي، وعن صاحب الدرجات الرفيعة.

 
   
 
 

موقع الميزان