الأمر الثاني: المماثلة في القصاص

   

صفحة :   

الأمر الثاني: المماثلة في القصاص:

لقد ذكر غير واحد من المفسرين والفقهاء انطلاقاً من دلالة الآيات المتقدمة على مبدأ المقابلة بالمثل، أنها تكون دالة بصورة طبيعية وتلقائية على رعاية المماثلة في القصاص، فيقتل القاتل، بمثل ما قتل به، من حجر، أو حصى، أو خنق، أو شبهه. قال ابن الطلاع: وهو قول مالك([1]) ونسبوه أيضاً إلى الشافعي، وهو أحد قولي أحمد([2])..

1ـ وقد استُدِلّ على ذلك بآية سورة الشورى: وجزاء سيئة سيئة مثلها، كما ذكره الطوسي، وغيره([3]).

2ـ واستدل الشافعي بآية سورة الحج: ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به، ثم بغي عليه، لينصرنه الله «استدّل الشافعي بها في وجوب رعاية المماثلة في القصاص، فقال: من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه»([4]) وبه قال مالك([5]).

3ـ كما أن القرطبي وغيره قد ذكروا ذلك بالنسبة للآية التي في سورة النحل، وإن عاقبتم، فعاقبوا بمثل ما عوقبتهم به([6]).

قال القرطبي: «في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب»([7])..

4ـ كما ان القرطبي، قد ذكر ما يقرب من ذلك أيضاً بالنسبة لآية سورة البقرة: الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم الخ.. ونقل ذلك عن الشافعي، وغيره، وهي رواية مذهب مالك([8]).

بل لقد نسب ذلك إلى الجمهور أيضاً، وقال: «اتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله، وفقأ عينه قصد التعذيب، فعل به ذلك كما فعل النبي «صلى الله عليه وآله»: بقتله الرعاء»([9]).

وليراجع ما جاء عن مجاهدي السدي في آية سورة الشورى([10]).

ولكن لابد لنا من الإشارة هنا إلى أن ما ذكره القرطبي بالنسبة لقتل النبي «صلى الله عليه وآله» للرعاء ليس بصحيح، والصحيح منه: أنه «صلى الله عليه وآله» عاقبتهم بما يعاقب به المحارب لله ولرسوله، من قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أما بالنسبة لسمل الأعين وغيره ما يذكرونه فلا يصح، راجع كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ج4 ص302 و 303.

كما أن ما روي من أنه «صلى الله عليه وآله» قد أمر بأن يلدَّ جميع من كانوا عنده في البيت عقوبة لهم، حينما لدّه عمه العباس أو غيره لا يصح، وقد تكلمنا بشيء من التفصيل حول هذا الموضوع في الجزء الأول من كتابنا: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام فليراجعه من أراد..

ولربما يمكن الاستدلال بما روي عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وآله، قال: يقتل القاتل، ويصبر الصابر»([11]).

لكن فتوى أهل البيت «عليهم السلام» هي: أنه لا يقتل بمثل ما قتل به، بل يستفاد منه بالحديد، أي بالسيف([12]).

ونسب ابن الطلاع ذلك إلى أهل العراق([13]).

وذكر المعلق عليه، أنه يقصد بذلك أبا حنيفة وأصحابه، وهو أحد قولي أحمد([14]). ونسب الزرقاني، وغيره الخلاف في هذا إلى الكوفيين([15])، ونسبه العيني، إلى إبراهيم، وعامر الشعبي، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة وأصحابه([16]) ونسبه الجصاص إلى أبي حنيفة، وزفر، ومحمد، وأبي يوسف([17]).

وتدل على ذلك بعض الروايات أيضاً([18]).

لكن في المسالك: بعد اعترافه بأن الأصحاب على ما سمعت، احتمل جواز قتله بالكال حينئذٍ، لعموم الأمر بالعقوبة المماثلة([19]).

وقال النجفي: «ولم نجد خلافاً في ذلك، إلا ما يحكي عن أبي علي، من جواز قتله بمثل ما قتل مطلقاً في رواية. وإن وثق بأنه لا يتعدى في أخرى. وربما يحكى عن ابن أبي عقيل أيضاً. وعن الجامع: أنه يقتص بالعصا ممن ضرب بها، كل ذلك للآية([20]). والنبوي: من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه([21]). وفي آخر: أن يهودياً رضخ رأس جارية بالحجارة، فأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» فرضخ رأسه بالحجارة([22]).

نعم في المختلف، بعد الاستدلال له بالآية: وهو وجه قريب. وفي المسالك: لا بأس به. وعن مجمع البرهان: الظاهر الجواز، إن لم يكن إجماع، والظاهر عدمه، كما يفهم من شرح الشرايع، مع أنه قال في الروضة: هو المتجه، لولا الإجماع على خلافه الخ..» ([23]).

ولكن من الواضح: أننا سواء قلنا بلزوم رعاية المماثلة في القصاص، أو لم نقل، فقد قدمنا في الآيات السابقة، وسيأتي في الروايات أيضاً: أنه لا إشكال في ذلك بالنسبة إلى الحرب، وإن للحرب أحكامها وخصوصياتها، التي ربما تختلف فيها عن غيرها جزئياً. وكشاهد على ذلك نشير إلى أنه لو أعطي الأمان لمشرك، فإنه لا يقتل، وإن علم أنه قتل بعض المسلمين، حينما كانت الحرب قائمة، ولكن لو لم يعط أماناً، وأسر، كان لهم أن يقتلوه، ولو لم يقتل أحداً..

ولنا أن نضيف إلى ذلك أيضاً: أن نفس القصاص هو التزام بمبدأ الرد، والعقاب بالمثل، فيكون قتل بقتل، وتعد بتعد، ولا يجب رعاية جميع الخصوصيات، لتحقيق المماثلة بالدقة، فإن القتل بالسيف يعتبر مقابل القتل الصادر منه أولاً عرفاً ولو كان بغير السيف..

هذا عدا عن أن رعاية الخصوصيات لربما يؤدي إلى التعدي إلى أكثر مما يجب، لأجل التشفي أحياناً، ولغير ذلك أحياناً أخرى.

نعم لو تضمن القتل تعذيباً، فإنه يكون قد اعتدى بامرين، بالقتل، وبالتعذيب. فلابد من المقابلة بالمثل لهما معاً..


 

([1]) أقضية رسول الله ص115 وراجع: أحكام القرآن للجصاص ج1 ص160.

([2]) راجع: أعلام الموقعين ج1 ص327 وهامش كتاب: أقضية رسول الله ص115 وراجع: قول الشافعي في مجمع الأنهر ج2 ص488 و 489 وأحكام القرآن للجصاص ج1 ص160 وعن مالك، والشافعي في عمدة القاري ج24 ص39 ونسبه إلى أحمد، وأبي ثور، وإسحاق، وابن المنذر.

([3]) التبيان ج9 ص167 وهامش كتاب: أقضية رسول الله ص115.

([4]) غرائب القرآن للنيسابوري (بهامش جامع البيان) ج17 ص115 وراجع: أعلام الموقعين ج1 ص155 وهامش كتاب: أقضية رسول الله ص115 عن التلخيص الحبير ج4 ص19 وراجع بداية المجتهد ج2 ص400.

([5]) راجع: بداية المجتهد ج2 ص400.

([6]) راجع: نصب الراية ج4 ص343 وإرشاد الساري ج10 ص48 وهامش كتاب: أقضية رسول الله ص115 وشرح الموطأ للزرقاني ج5 ص174 وأحكام القرآن للجصاص ج1 ص160.

([7]) الجامع لأحكام القرآن ج10 ص202.

([8]) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص355 وراجع: فتح القدير ج1 ص192 ونصب الراية ج4 ص343 عن الروض الآنف. وراجع: البحر الزخار ج6 ص234 وإرشاد الساري ج10 ص48 وشرح الموطأ للزرقاني ج5 ص174 وراجع: أحكام القرآن للجصاص ج1 ص160.

([9]) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص356.

([10]) راجع: التفسير الكبير ج27 ص181 والتبيان ج9 ص167 وجامع البيان ج25 ص24 ولباب التأويل للخازن ج4 ص98 و 99.

([11]) نيل الأوطار ج7 ص165 عن البيهقي، والدارقطني، وصححه ابن القطان. وسنن الدارقطين ج3 ص140. والنهاية لابن الأثير ج3 ص8 وغريب الحديث ج1 ص254.

([12]) راجع: نيل الأوطار ج7 ص165 والجواهر ج42 ص296.

([13]) أقضية رسول الله «صلى الله عليه وآله» ص115.

([14]) هامش كتاب أقضية رسول الله «صلى الله عليه وآله» ص155.

([15]) إرشاد الساري ج10 ص48 وشرح الموطأ للزرقاني ج5 ص174.

([16]) عمدة القاري ج24 ص39.

([17]) أحكام القرآن للجصاص ج1 ص160.

([18]) راجع: سنن ابن ماجة ج2 ص889 وكشف الأستار عن زوائد البزار ج2 ص205 ومجمع الزوائد ج6 ص291 عنه، وعن الطبراني، وأعلام الموقعين ج1 ص327 وإرشاد الساري ج10 ص48 وسنن البيهقي ج8 ص62و63 ونصب الراية ج4 ص342 و 341 وسنن الدارقطني ج3 ص87 و 88 ومجمع الأنهر ج2 ص488 وراجع: منحة المعبود ج1 ص293 ومسند الطيالسي ص108 وشرح الموطأ للزرقاني ج5 ص174 والبحر الرائق ج8 ص338 وعمدة القاري ج24 ص39 وشرح الأزهار ج4 ص402 وتبيين الحقائق ج6 ص106 وكتاب الأصل ج4 ص453 وفي هامشه عن بعض من تقدم، وعن: ابن عدي في الكامل، وعن مصنف ابن أبي شيبة، وعن شرح معاني الآثار ج2 ص105.

([19]) الجواهر ج42 ص296.

([20]) راجع: الآية 194 من سورة البقرة.

([21]) ستأتي مصادر هذا الحديث، إن شاء الله تعالى.

([22]) راجع: سنن البيهقي ج8 ص42و62 عن البخاري ومسلم، والجامع لأحكام القرآن ج2 ص259 وأعلام الموقعين ج1 ص327 وسنن الدارمي ج2 ص190 وسنن النسائي ج7 ص100 و 101 والمصنف لعبد الرزاق ج10 ص103 وسنن أبي داود ج4 ص180 وسنن ابن ماجة ج2 ص889 ونصب الراية ج4 ص343 والبحر الزخار ج6 ص236 وجواهر الأخبار والآثار (بهامش البحر الزخار) ج6 ص236 وأقضية رسول الله «صلى الله عليه وآله» ص114 ونيل الأوطار ج7 ص160 وبداية المجتهد ج2 ص400 وصحيح البخاري ج2 ص82 و 39 و 40 وصحيح مسلم ج4 ص104 وراجع: مسند أحمد. وراجع: منحة المعبود ج1 ص293 ومسند الطيالسي ص267 وشرح الموطأ للزرقاني ج5 ص174 وتبيين الحقائق ج6 ص106 وشرح الأزهار ج4 ص402 وأحكام القرآن للجصاص ج1 ص162 وج2 ص232.

([23]) جواهر الكلام ج42 ص297 و 298.

 
   
 
 

موقع الميزان