الأمر الثالث: ما لا يمكن حفظ المثل فيه

   

صفحة :   

الأمر الثالث: ما لا يمكن حفظ المثل فيه:

وبعد.. فإننا نجد: أنهم حينما قرروا دلالة الآيات السابقة على مبدأ المقابلة بالمثل، قد استثنوا من ذلك المحرمات التي لا يجوز ارتكابها مطلقاً مما هو حرام بذاته، فلو أن العدو ارتكب جريمة هتك الأعراض، أو إسقاء الخمر، أو سب الأنبياء أو الأوصياء، أو التجرؤ على الساحة الإلهية، والعياذ بالله سبحانه، لم تجز المقابلة بالمثل في هذه الموارد وأمثالها.

ونشير على سبيل المثال: إلى أنهم قد ذكروا في تفسير آية: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص، جواز المقابلة بالمثل، حتى من غير إذن الحاكم، ثم استثنوا «ما كان جرحاً لا يجزي فيه القصاص، أو ضرباً لا يمكن حفظ المثل فيه، أو فحشاً لا يجوز القول والتلفظ به، مما يقولون بعدم جوازه مطلقاً، مثل الرمي بالزنا وغيره»([1]). ويرفعه حينئذٍ إلى الحاكم ليقتص منه بالتعزير، ونحوه([2]).

وقال الحسن: «.. ولا يجوز للرجل إذا قيل له يا زاني، أن يقابل له بمثل ذلك من أنواع الشتم..» ([3]).

وقال القرطبي: «وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد «صلى الله عليه وآله»، والجنايات ونحوها، لم تنسخ، وجاز لمن تعدي عليه، في مالٍ، أو جرح: أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه، إذا خفي([4]) له ذلك. وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شيء. قاله الشافعي، وغيره. وهي رواية في مذهب مالك»([5]).

وقال في موضع آخر، في تفسير الآية: «فمن قتل بشيء، قتل به، وهو قول الجمهور، ما لم يقتله بفسق، كاللوطية، وإسقاء الخمر، فيقتل بالسيف..

إلى أن قال: وقال ابن الماجشون: إن من قتل بالنار، أو بالسم، لا يقتل به، لقول النبي «صلى الله عليه وآله»: لا يعذب بالنار إلى الله، والسم نار باطنة، وذهب الجمهور إلى أن يقتل بذلك..»([6]).

ثم ذكر: أن النهي عن المثلة، إنما هو في صورة عدم ممارسة القاتل نفسه لها، فمن قطع يداً، أو رجلاً، أو فقأ عيناً، قصد التعذيب، فعل به ذلك، واستشهد لذلك برواية اليهودي، الذي رض رأس جارية، فماتت، فأمر «صلى الله عليه وآله» ففعل به ذلك([7]).

وقال القرطبي أيضاً: «وهذا نص صريح صحيح، وهو مقتضى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾([8]).

وقوله: ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾([9])..»([10]).

وقال أيضاً: «إن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلاً: يا كافر، جاز لك أن تقول له أنت الكافر. وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب، يا شاهد زور. ولو قلت له: يا زان، كنت كاذباً، وأثمت بالكذب الخ..» ([11]).

و «إذا قال: أخزاه الله، أو لعنه الله، أن يقول له مثله، ولا يقابل القذف بقذف، ولا الكذب بكذب»([12]).

وقال ابن القيم: «.. فإن كان الفعل محرماً لحق الله، كاللواط، وتجريعه الخمر، لم يفعل به اتفاقاً..» ([13]).

وقال: «المسألة الثالثة: الجناية على العرض، فإن كان حراماً في نفسه، كالكذب عليه، وقذفه، وسب والديه، فليس له أن يفعل كما فعل به اتفاقاً..» ([14]).

كما أن بعضاً آخر قد استثنى المقابلة بالأمور غير المشروعة، فراجع([15]).

بل لقد ادعى الجصاص: «اتفاق الجميع على أنه لو أوجره خمراً حتى مات، لم يجز له أن يوجره خمراً، وقتل بالسيف»([16]).

وهكذا الحال فيما لا يمكن استيفاء المثل فيه، لعدم معلومية ذلك، فيسقط فيه القصاص، وينتقل إلى الدية وقد ذكرت أحكام ذلك في أبواب الديات..


 

([1]) زبدة البيان ص310 وراجع: مسالك الأفهام ج2 ص325.

([2]) مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام ج2 ص325 وراجع: أقصى البيان ج1 ص423.

([3]) مجمع البيان ج3 ص131.

([4]) خفي: أي ظهر، فهو من الأضداد.

([5]) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص355 وراجع: فتح القدير ج1 ص192.

([6]) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص356.

([7]) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص259، والرواية تقدمت مصادرها.

([8]) الآية 126 من سورة النحل.

([9]) الآية 194 من سورة البقرة.

([10]) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص259 وراجع: نيل الأوطار ج7 ص164.

([11]) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص360.

([12]) الجامع لأحكام القرآن ج16 ص40 عن ابن نجيح.

([13]) أعلام الموقعين ج1 ص327 وراجع: تبيين الحقائق ج6 ص106.

([14]) أعلام الموقعين ج1 ص329.

([15]) مجمع الأنهر ج2 ص489.

([16]) أحكام القرآن للجصاص ج1 ص 163.

 
   
 
 

موقع الميزان