الحرمة المطلقة، وغير المطلقة:
أما نحن فنعود لنذكر: بأن من الأمور ما تكون حرمته
مطلقة، وفي كل حال، وهو مبغوض في حالي الاختيار والاضطرار، ولا ترتفع
حرمته، بعروض العناوين الثانوية، ولا يؤثر في رفع المؤاخذة عليه إكراه
أو غيره.. وذلك من قبيل هدم الإسلام، ومحو آثار الدين، وكذا إسقاء
الخمر قصاصاً، أو الزنا بنساء البغاة، مقابلة بالمثل لهم..
ومنها: ما يكون مبغوضاً في ذاته وحقيقته، ولا ترتفع
المبغوضية له بالإكراه عليه ولا بالاضطرار إليه، وإن كان يرتفع العقاب
على ارتكابه، بسبب ذلك، وذلك من قبيل شرب الخمر، وأكل الميتة وسب
الأنبياء، والجرأة على الساحة الإلهية، ونحو ذلك.
ومنها: ما لا يكون حراماً مطلقاً في حال الاختيار، بل
له حكمان في هذا الحال بالذات، وذلك كقتل المؤمن، فإنه تارة يكون
حراماً ومبغوضاً بذاته، وذلك في صورة الظلم والتعدي، وأخرى لا يكون
حراماً ولا مبغوضاً بل قد يجب ذلك في صورة القصاص، والإفساد في الأرض،
وغير ذلك.
ومنها ما يكون فيه مقتضى الحرمة، وقد يزاحمه مقتضى آخر،
فيصبح واجباً مثلاً، وذلك كالكذب والخديعة، وقد يكون فيه مقتضى الوجوب
فيزاحمه مقتضى آخر، فيصبح حراماً كالصدق..
ومنها ما لا يكون محكوماً بحكم أصلاً، بل هو عرضة
لتقلبات العناوين الطارئة عليه والتي تكون محكومة بهذا الحكم أو ذاك
كشرب الماء ونحوه.
وبعدما تقدم نقول:
إن ما كان مبغوضاً في ذاته كهتك الأعراض، وشرب الخمر
وسب الأنبياء، والجرأة على الساحة الإلهية وكذا ما كان مبغوضاً مطلقاً
ـ كهدم الإسلام وغير ذلك مما تقدم.. نعم.. إن ما كان كذلك لا يجوز
ارتكابه، ولا المقابلة بالمثل فيه، لاسيما إذا لاحظنا: أنها أمور لا
تقدم ولا تؤخر في أمور الحرب، وتسجيل النصر، ولا يترتب عليها في الغالب
إلا مفاسدها، والتشفي، والتنفيس عن الحقد الأعمى لا أكثر..
وحتى لو فرض: أن لها بعض الأثر في ناحية من النواحي،
فإن مفاسدها وشرورها تكون أطمّ وأعظم، كما هو ظاهر للعيان.
وقد أشير إلى هذا القسم في الحديث الذي رواه الطبرسي
رحمه الله عن أبي جعفر عليه الصلاة والسلام، من جواز الانتصار من
الظالم بما يجوز الانتصار به في الدين([1]).
وواضح: أن هتك الاعراض، وسب الأنبياء ونحوه، هو مما لا
يجوز الانتصار به في الدين..
وعن علي «عليه السلام»، حين مشى إليه أصحابه، فقالوا:
يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب،
وقريش على الموالي، والعجم واستمل من تخاف خلافه من الناس، وفراره.
وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال.
فقال لهم: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟! لا والله لا
أفعل ذلك ما طلعت الشمس الخ..
([2]).
أما ما كان بعنوانه الأولى، ليس حراماً ولا مبغوضاً
مطلقاً، وإنما في حال دون حال، وكذا ما كان مما قد تتزاحم فيه
المقتضيات، وذلك مثل الكذب والخديعة، ونحوهما، فإنها.. وإن كان فيها ما
يقتضي الحرمة، لكن قد يعارض ذلك ما يقتضي خلافها، كما لو توقف على
الكذب، نجاة جماعة من المؤمنين، من خطر محقق، من بعض الطواغيت، أو صلح
فيما بين المؤمنين، أو دفع عدو، أو غير ذلك، فلا يبقى الكذب ـ والحالة
هذه على صفة الحرمة، بل يصبح حلالاً، بل واجباً في كثير من الأحيان..
وكذا يقال بالنسبة إلى الخديعة وأمثالها..
وليس هذا من قبيل التعنون بالعنوان الثانوي، كالاضطرار
إلى شرب الخمر، للمداواة، مع بقاء الخمر على صفة المبغوضية في ذاتها
وبعنوانها الأولي..
وإنما هو حكم أولي، زاحم مقتضاه مقتضى الحرمة..
وقد لا يكون في الفعل مقتضى لا للوجوب، ولا للحرمة،
وإنما يكون الحكم متعلقاً بعناوين أخرى، فإذا انطبقت على هذا الفعل
يلحقه حكمها، وذلك كضرب اليتيم ظلماً، أو للتأديب، بل أن الكذب في
الحرب والخديعة ونحوهما مما من شأنه أن يكون له دور إيجابي، في مجال
التحرك باتجاه الهدف الأقصى، وتسجيل النصر الحاسم، أو دفع الأخطار
المحدقة بالمسلمين، وحتى بالإسلام في كثير من الأحيان ـ إن ذلك ـ لابد
وأن يكون واجباً وضرورياً، انطلاقاً من وجوب دفع الخطر عن المسلمين،
وضرورة حفظ الإسلام..
وهكذا يقال أيضاً بالنسبة لقتل النفس، فإنه ليس من قسم
الحرام المطلق أيضاً، وإنما الحرام منه، هو خصوص قتل النفس المحترمة،
وحيث لم ترتكب جريمة تقتضي المقابلة بالمثل ولأجل ذلك: يقتل القاتل،
كما أن من يحارب الله ورسوله، لا تبقى له تلك الحرمة.
بل وحتى قتل النفس المحترمة من المؤمنين، حين يتترس بهم
العدو المحارب، أو كانوا في حوزته، ولم يكن التحرز من إيصال الأذى
إليهم، فإنه يجوز مواصلة ضرب العدو ولا يمسك عنه لأجلهم، لاسيما إذا
توقف النصر، أو دفع العدو على ذلك.
وسيأتي مزيد من التوضيح لهذا الأمر إن شاء الله تعالى..
([1])
راجع: مجمع البيان ج3 ص131 وعنه في تفسير البرهان ج1 ص425 وفي
نور الثقلين ج1 ص470 وفي تفسير الميزان ج5 ص124.
([2])
راجع: شرح النهج للمعتزلي ج2 ص203 و 197 والإمامة والسياسة ج1
ص153 والبحار ج31 ص133 و 134 والأمالي للمفيد ص175 و 196
والغارات ج1 ص75 والكافي ج4 ص31 وتحف العقول ص162. ونهج
البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص10 والوسائل ج11 ص81 و 82 وبهج
الصباغة ج12 ص196 والأمالي للشيخ الطوسي ج1 ص197 و 198.
|