فإن بغت إحداهما

   

صفحة :   

فإن بغت إحداهما:

قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾([1]).

وإن تطبيق هذه الآية الشريفة على الحروب التي قامت ضد أمير المؤمنين «عليه السلام» من قبل البغاة عليه. وعلى الحرب التي يشنها النظام الحاكم في العراق على الجمهورية الإسلامية، يواجه بعض المصاعب والعقبات..

ويمكن تلخيصها ضمن النقاط التالية:

1ـ إنها ظاهرة في أن البغي يحصل بعد محاولة الصلح، ولا يوجد بغي من أول الأمر، والذي كان أولاً هو الاقتتال بين الأفراد، المسلمين، اقتتال لم يعلم وجهه، ولعله بسبب فتنة لا يعرف وجه الحق فيها، أو سوء تفاهم ناشئ من عدم التعقل والتثبت، يستتبع تعصبات قبلية وجاهلية عامة..

ولعل هذا هو السر في إرجاع الضمير أولاً إلى الطائفتين بصيغة الجمع: «اقتتلوا» ثم بعد محاولة الصلح، وصيرورة الأفراد فريقين متمايزين، ينساق أحد الفريقين وراء عصبيته، ويتخذ أفراده موقفاً موحداً باغياً ضد الفريق الآخر مع علمه بخطأه في موقفه وإصراره عليه([2]). فصح حينئذٍ ارجاع الضمير في «بينهما» بصيغة التثنية.

وهذا المعنى.. لا ينطبق على الخارجين على أمير المؤمنين «عليه السلام»، لأنهم كانوا عارفين بالحق والحقيقة من أول الأمر، وقد عرفهم أمير المؤمنين ذلك، واحتج عليهم قبل وقوع الحرب بما لا يزيد عليه، وإذن.. فهم قبل دخول المعركة لم يكونوا في فتنة عمياء، ولا كان ثمة سوء تفاهم أو عصبية. ولا كان لديهم تأويل مظنون أو محتمل، بل كانوا محض معاندين للحق ولصاحبه.. فكان لابد من المبادرة لقتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله سبحانه من أول الأمر.

وهكذا الحال بالنسبة للنظام الحاكم في العراق، فإنه ظالم ومتعد وباغ، من أول الأمر، فلا يمكن أن يكون مصداقاً للآية، بل لابد من المبادرة لقتاله لردعه عن غيه.

وكما أن أمير المؤمنين «عليه السلام» قد كان أمام خيارين، لا ثالث لهما، وهما: القتال، أو الكفر بما أنزل على محمد «صلى الله عليه وآله»، كما صرح به «عليه السلام»([3])، كذلك الحال بالنسبة للمسلمين اليوم فإنهم أمام خيارين، إما قتال النظام العراقي، أو الكفر بما أنزل على محمد «صلى الله عليه وآله»، من حيث عدم الرضا ولا العمل بالأحكام الإلهية التي جاء بها «صلى الله عليه وآله»([4]).

2ـ إن الآية تقول: إن البغي ليس على الإمام العادل، وإنما البغي يكون من إحدى الطائفتين على الطائفة الأخرى. فبسبب إصرارهما على عدم الخضوع لأمر الله سبحانه تصبح باغية ومتعدية، وهذا المعنى يجعل الآية تأبى الانطباق على الخارجين على أمير المؤمنين «عليه السلام»، لأنهم بغاة على الإمام «عليه السلام» مباشرة، لا على بعضهم البعض..

كما أنها لا تنطبق على الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية أيضاً، لأن النظام الحاكم في العراق قد شن حرابً على حاكم عادل، تماماً كما حارب أولئك أمير المؤمنين «عليه السلام».

3ـ إن الآية قد فرضت كلا الطائفتين متصفة بالإيمان، فضلاً عن الإسلام، قبل حدوث أي قتال فسواء قلنا بخروج الباغية عن الإيمان بعد بغيها كما هو الصحيح لأنه يكون من قبيل قولنا: أيها المؤمنين، من كفر منكم فاقتلوه([5]).. أو لم نقل..

فإن الحرب الفعلية التي يشنها النظام العراقي على الجمهورية الإسلامية خارجة عن مضمون الآية، لأن الذي شن الحرب على الجمهورية الإسلامية، هو حزب شيطاني، قد تخلى عن الإسلام، وارتضى قول عفلق المسيحي ـ ديناً وطريقة.. فهو ليس من المؤمنين من أول الأمر، أي حتى قبل بدئه الحرب، فلا يمكن أن يكون الطائفة الأخرى، التي تعرضت لها الآية.

أضف إلى ذلك: أنه وهو يتولى أعداء الله، بصورة قوية، وصريحة وفاضحة، وقد نصب نفسه منفذاً لأوامرهم، ومخططاتهم ضد الإسلام والمسلمين ـ فإنه قد أصبح من أبرز مصاديق قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾([6]).

وبالنسبة لمحاربي أمير المؤمنين والبغاة عليه، فقد تقدم الكلام عنه فلا نعيد..

4ـ أما بالنسبة للصلح في الآية، فليس المقصود به: مجرد المتاركة للقتال، وإلقاء السلاح، وإنما هو الرجوع إلى حكم الله سبحانه، وقبول كل التبعات المترتبة على البغي والعدوان، حيث لابد وأن يكون صلحاً قائماً على العدل والقسط.. كما أنه لابد وأن يكون بعد الفيئة لأمر الله سبحانه..

والنظام الحاكم في العراق لم يفئ لأمر الله سبحانه، ولا زال يتآمر، ويخطط، ويسرّ ويعلن، ويعمل بكل ما لديه من قوة وحول على تدمير الإسلام، والمسلمين، ويحاول هو وأسياده المستكبرون التملص والتخلص من حكم الله سبحانه، وإبقاء حالة التعدي، وللظلم، وتضييع الحقوق، والدماء ـ يريد إبقاء هذه الحالة ـ على ما هي عليه، مع أن الصلح لابد من أن يكون قائماً على العدل، ومن العدل معاقبة الجاني، والقاتل. وفضح المعتدي، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها الشرعيين.

وقد أكد الله سبحانه لزوم مراعاة هذا العدل في الصلح بجملتين أخريين، هما قوله تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا﴾ أي أعطوا كل ذي حق حقه([7]). ثم قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾([8]) أي يحب العادلين لأجل عدالتهم.

وقد يقال: إن هذا كله، إنما يتم، إذا أخذنا بنظر الاعتبار مورد نزول الآية، وقلنا: إنها بصدد حكاية ما جرى، وإصدار الحكم له أو عليه.. وأما إذا تجاوزنا ذلك، فإن بالإمكان القول: «إن الآية تشمل بإطلاقها صورة البغي على الإمام العادل أيضاً، إذ يصدق عليه، وعلى مناوئيه: أنهما طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، وقد أمر الله المؤمنين بالإصلاح بينهما، ثم قتال الباغية منهما.

ولكننا نقول:

أولاً: إن هذا لا يصح، وذلك لأن الآية قد فرضت إمكانية البغي من كلا الطائفتين ومن الواضح: أن البغي لا يتصور من الإمام العادل، فلا يبقى لسياق الآية معنى.

وثانياً: إنه يجب على الناس إطاعة الحاكم العادل، والانتهاء إلى أمره، فلا معنى لنشوء سوء تفاهم بينهما، بل يكون كل قتال بغياً عليه من أول حدوثه.. فلا مجال لدعوى شمول الآية لهذا المورد..

كانت تلك.. هي بعض المصاعب التي يمكن أن يقال: إنها تعترض طريق شمول الآية الكريمة للخارجين على أمير المؤمنين «عليه السلام» في الماضي، والخارجين على الجمهورية الإسلامية اليوم..

ولكن من الواضح: أن ذلك كله لا يبرر القول بخروج حروب أمير المؤمنين «عليه السلام» عن حكم الآية.. وذلك لأن الآية الشريفة قد جاءت لتقرر قاعدة كلية في قتال البغاة، ولكنها اكتفت بالإشارة إلى أدنى ما يتحقق به البغي والذي قد يخفى أمره على البعض، ليعلم حكم ما عداه بالأولوية القطعية، وبمفهوم الموافقة، فهي من قبيل قوله تعالى: بالنسبة للوالدين ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾([9])، الذي يعلم منه حكم ضربهما وشتمهما.

فالآية قد قررت: أن البغي يتحقق، حتى ولو كان ذلك بواسطة عدم إطاعتهم الأمر بالكف عن بعضهم البعض، والرجوع عما هم فيه، إلى أمر الله سبحانه.. فإن هذا الأمر كاف في تحقق البغي، ووجوب قتالهم، حتى يقتلوا: أو يفيئوا إلى أمر الله سبحانه..

فكيف إذا خرجوا على نفس الإمام العدل، المنصوب من قبل الله سبحانه، عموماً، أو خصوصاً، فحاربوه، وهو الذي أمرهم الله تعالى بطاعته، والانتهاء إلى أمره؟!.. فإن جرمهم يكون أعظم، ووجوب قتالهم يكون أكد.

وعليه، فيكون انطباق الآية على الناكثين واضح، ولاسيما بعد أن يقيم عليهم أمير المؤمنين «عليه السلام» الحجة، ويقطع لهم كل عذر، ويبطل كل قول، ثم يصرون على حربه، وعلى عدم قبول أمر الله سبحانه لهم بطاعته، والانتهاء إلى أمره، الأمر الذي يجعلهم بحكم المشركين والكفار، الذين يتمردون على حكم الله ورسوله، ويدفعون أمرهما:

ولكنهم بالنسبة لذراريهم ونسائهم فإنهم يعاملون معاملة المسلمين، لإقامتهم على ظاهر الإسلام..

كما أن الأمر قد تحقق البغي بالنسبة للقاسطين والمارقين يكون أوضح، وأجلى، حسبما تقدم بيانه..

ولكن الأمر بالنسبة للحزب الحاكم في العراق يختلف تماماً، حسبما تقدم بيانه، فإنه لا يلتزم حتى بظاهر الإسلام، ولا يقيم على شرائعه، مع إنكاره الكثير منه أيضاً، بعد أن ابتغى غير الإسلام ديناً، ولم يدخل في دين سماوي آخر لتلحقه أحكام أهله وعاد ليشن على الإسلام في الداخل والخارج حرباً مدمرة لكل قيمه، ورموزه، ويحاول القضاء على هذا الدين، واستئصال شأفة كل من يعتقدون به، ويدعون إليه.. فلم يبق إلا أن يعامل معاملة المشركين، الذين لا يعتقدون بدين، ولا يرجعون إلى شيعة..

إلا أننا مع ذلك.. ولأن معظم الناس الذين يحكمهم هذا الحزب بالحديد والنار، هم من المسلمين، المقهورين، والمضطهدين، الذين استطاع تضليل كثير منهم بإعلامه الحاقد والمسموم. وبعد أن استأصل الصفوة المؤمنة منهم ها هو يزج بالبقية الباقية في أتون هذه الحرب، ليكونوا وقودها وضحاياها..

نعم ـ من أجل ذلك ـ لابد وأن نتعرض لحكم البغاة ومقابلتهم بالمثل، كما تعرضنا لذلك بالنسبة للمشركين، ومن عدا هذين الصنفين ـ كالروم مثلاً ـ فإن حكمهم حكم المشركين من هذه الجهة، كما ستأتي الرواية المصرحة بذلك..

فإلى ما يلي من مطالب.


 

([1]) الآيتان 9 و 10 من سورة الحجرات.

([2]) راجع: تفسير الرازي شرح الآية المباركة، ففيه بعض الإشارات إلى ما ذكرنا أيضاً.

([3]) الجمل ص19 وصفين للمنقري ص474 وجواهر الكلام ج21 ص325 عن مستدرك الوسائل ج2.

([4]) بعد أن كتبت ما تقدم، رأيت: أن البعض قد اعتبر الآية ليست ناظرة إلى البغاة بالمعنى الإصطلاحي، بل البغي فيها بمعنى التعدي بين المؤمنين بعضهم على بعض، راجع: كنز العرفان ج1 ص386 و 387 ورياض المسائل ج1 ص482.

ثم رأيت ابن البراج في المهذب (مطبوع ضمن الينابيع الفقهية)، كتاب الجهاد ص106 بعد ذكره لآية الحجرات، يقول: «..فقد دل ما أوردناه ـ من القرآن والخبر ـ على أن الله سبحانه فرض قتال أهل البغي. وقد ذكرنا في باب من يجب جهاده، من المراد بأهل البغي، وقسمتهم، فإذا اقتتلت طائفتان بالكلام، او ما يجري مجراه، ولم يشهروا سلاحاً أصلح بينهما بما يدعو إلى الألفة، وما يعم النفع به، وإن بغت إحداهما على الأخرى، وشهرت الظالمة السلاح على المظلومة، وجب قتال الطائفة الباغية، حتى تفيء إلى أمر الله سبحانه، ووجب على المؤمنين إذا دعاهم الإمام إلى ذلك، واستعان بهم معاونته، ومساعدته، والخروج معه إلى حربهم، ولم يجز لأحد التأخر عنه في ذلك ولا فرق في وجوب قتال الباغية، بين أن تكون باغية على طائفة من المؤمنين، وبين أن تكون بغت على الإمام، إما في خلع طاعته، أو في منعه مما يجب له التصرف فيه من إقامة حد أو غيره ـ أو ما جرى مجرى ذلك..».

([5]) راجع: مسالك الإفهام لجواد الكاظمي ج2 ص364 وراجع: جواهر الكلام ج21 ص323 والمبسوط للشيخ ج7 ص262.

([6]) الآية 51 من سورة المائدة.

([7]) راجع: مسالك الأفهام لجواد الكاظمي ج2 ص364 وراجع: منتهى المطلب ج2 ص983 وراجع ص983 وجواهر الكلام ج21 ص323 و 324 و 347 وراجع تذكرة الفقهاء ج1 ص455 والمبسوط ج7 ص262 ودعائم الإسلام ج1 ص397.

([8]) الآية 9 من سورة الحجرات.

([9]) الآية 23 من سورة الإسراء.

 
   
 
 

موقع الميزان